00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الشعراء من أول السورة ـ آية 68 من ( ص 331 ـ 390 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الحادي عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[331]

 

سُورَةُ الشُّعَرَاء

مكيَّة وَعَدَدُ آياتِهَا مئتان وسبع وعشرون آية

[333]

 «سورة الشعراء»

محتوى سورة الشعراء:

المعروف بين المفسّرين أنّ جميع آيات هذه السورة المائتين وسبع وعشرين نزلت في مكّة عدا الآيات الأربع الأخيرة.(1)

إيقاع آيات هذه السورة يتناغم أيضاً مع إيقاعات السور المكية الأُخرى، ونعلم أنّ السور المكية التي أنزلت في بداية دعوة الإسلام، تستند على بيان الأُصول الإعتقادية: التوحيد والمعاد، ودعوة أنبياء الله، وأهمية القرآن.

وتدور جميع موضوعات سورة الشعراء حول هذه المسائل تقريباً.

و يمكن تلخيص محتوى هذه السورة في عدة أقسام:

القسم الأوّل: مطلع هذه السورة الذي يتكون من الحروف المقطعة، ثمّ يتحدث في عظمة القرآن، وتسلية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مواجهة إصرار وحماقة المشركين، والإشارة إلى بعض دلائل التوحيد، وصفات الله تبارك وتعالى.

القسم الثّاني: يحكي جوانب من قصص سبعة أنبياء عظام ومواجهاتهم مع أقوامهم، وفي مكابرات وحماقات أُولئك حيال هؤلاء الأنبياء، حيث فصّل الحديث أكثر في بعض منها، كما في قصة موسى وفرعون، واختصره في بعض آخر منها، كما في قصّة إبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب.

_____________________________
 
1 ـ تفسير «مجمع البيان» وتفسير «الفخر الرازي» وتفسير «القرطبي» وتفسير «التبيان»، واستثنى في تفسير «روح المعاني» خمس آيات. لكن بعض المفسّرين مثل العلاّمة الطباطبائي في «الميزان» لم يقبل استثناء هذه الآيات. وسوف يكون لنا بحث أكثر إن شاء الله في ذيل هذه الآيات.

[334]

في هذا القسم بخاصّة، أشير إلى منطق المشركين. الضعيف الممزوج بالتعصب في كل عصر وزمان في مواجهة أنبياء الله، والذي يشبه كثيراً منطق مشركي عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان هذا سبباً في تسلية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين الأوائل:، ليعلموا تاريخ هذا الصنف من الناس ومنطقهم، حتى لا يتأثروا ويتراخوا، وحتى لا يفسحوا للضعف والفتور ليجد طريقاً إلى أنفسهم.

وفيه بشكل خاص أيضاً، تركيز على العذاب العظيم والإبتلاءات المروعة التي حلّت بهذه الأمم، والذي هو بذاته تهديد مؤثر لأعداء النّبي في تلك الشرائط.

القسم الثّالث: وتغلب عليه جنبه الإستنتاج من القسمين الأوليين، يتناول الحديث حول النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعظمة القرآن، وتكذيب المشركين، والأوامر الصادرة إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يتعلق بطريقة الدعوة، وكيفية التعامل مع المؤمنين، ويختم السورة بالبشرى للمؤمنين الصالحين، وبالتهديد الشديد للظالمين.

وبالمناسبة، فإنّ اسم هذه السورة أخذ من مجموعة الآيات الأخيرة التي تتحدّث حول الشعراء غير المؤمنين.

وهناك نكتة جديرة بالإِهتمام أيضاً، وهي أن هذه السورة تعتبر من أكبر السور بعد سورة البقرة من حيث عدد الآيات، وإن كانت ليست كذلك من حيث عدد الكلمات، بل هي أقصر من كثير من السور.

 

فضيلة سورة الشعراء:

ورد في الحديث الشريف عن رسول الاسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان أهمية تلاوة هذه السورة أنّه قال:

«من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل من صدّق بنوح وكذب به، وهود وشعيب وصالح وابراهيم، وبعدد كل من كذب بعيسى وصدق بمحمّد».

[335]

ولا يخفى أن كلّ هذا الأجر والثواب ليس على التلاوة بدون التفكر والعمل بها، بل ان القرائن المتعدد في روايات فضائل السور تحكي عن أن المراد من التلاوة هي ما كانت مقدمة للتفكر، ثمّ العزم والعمل، وقد أشرتا الى ذلك سابقاً.

وممّا يؤيد هذا المعنى التعبير الوارد في نفس الحديث اعلاه، لأنّ استحقاق الحسنات بعدد المصدّقين والمكذبين للانبياء من أجل أن يكون الشخص في صف المصدّقين ويتجنّب منهج المكذبين.

 

* * *

[336]

 الآيات

 طـسـم(1) تِلْكَ ءَايـتُ الْكِتَـبِ المُبِينِ(2) لَعَلَّكَ بَـخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ(3) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ ءَايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَـقُهُمْ لَهَا خَـضِعِينَ(4) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْر مِّنَ الرَّحْمَـنِ مُحْدَث إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ(5) فَقَدْ كَذَّبوُاْ فَسَيأْتِيهِمْ أَنبَـؤُاْ مَا كَانوُاْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ(6)

 التّفسير

إنهم يُعرضون عن كل جديد!

مرّةً أُخرى نواجه في بداية هذه السورة مثلا آخر من الحروف المقطعة وهو: (طَسَمَ).

وكان لنا في تفسير هذه الحروف المقطعة بحوث مُسهَبة ومستقلّة في مستهل سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة الأعراف! فلا نرى حاجةً إلى التكرار والإعادة!

إلاّ أنّ ما ينبغي أن نضيفه هنا هو ما ورد من روايات متعددة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو

[337]

بعض أصحابه في تفسير «طسم» ويدلّ جميعُها على أنّ هذه الحروف علامات «مختصرة» عن أسماء الله تعالى، أو أسماء القرآن، أو الأمكنة المقدسة، أو بعض أشجار الجنّة!...

وهذه الرّوايات تؤيد التّفسير الذي نقلناه في مستهلّ سورة الأعراف في هذا الصدد، كما أنّها في الوقت ذاته لا تنافي ما قلناه في مستهل سورة البقرة من أن المراد من هذه الحروف بيان أعجاز القرآن وعظمته، حيث أن هذا الكلام العظيم مؤلف من حروف بسيطة وصغيرة!

والآية التالية تبيّن عظمة القرآن بهذا النحو: (تلك آيات الكتاب المبين).

وبالطبع فإنّ «تلك» في لغة العرب اسم إشارة للبعيد، ويشار بها للمؤنث «المفرد» و«الجمع»; كما قد يشار بها لجمع التكسير.(1)

وكما بيّنا آنفاً فقد يعبّر في لغة العرب عن عظمة الشيء ـ وإن كان قريباً ـ باسم الإشارة (للبعيد) فكان الموضوع لأهميّتهِ وارتفاع «وعلوّ» مرتبته بعيد عنّا، ومكانه في السماوات العُلى!

وممّا ينبغي الإلتفات إليه وملاحظته أنّ هذه الآية بنصّها وردت في بداية سورة يوسف وسورة القصص ـ أيضاً ـ دون زيادة أو نقصان. كما أنّها وردت بعد الحروف المقطعة في مستهلّ السور آنفة الذكر، وهي تدل على ارتباط هذه الحروف بعظمة القرآن.

ووصفُ القرآن بـ «المبين» المشتق من «البيان»، هو إشارة إلى كونه جليّاً بيّناً عظيماً معجزاً ـ فكلّما أمعن الإنسان النظر في محتواه تعرّف على إعجازه أكثر فأكثر... ثمّ بعد هذا فإنّ القرآن يبيّن الحق ويميزه عن الباطل، ويوضّح سبيل السعادة والنصر والنجاة من الضلال!

_____________________________
 
1 ـ كقوله تعالى (وتلك الأيّام نداولها بين الناس).

[338]

والآية التالية تُسرّي عن قلب النّبي وتثبته فتقول: (لعلك باخعٌ نفسَك أن  لا يكونوا مؤمنين).

كلمة «باخع» مشتقّة من (البَخْع) (على وزن الدَّمع)! ومعناه إهلاك النفس من شدة الغمّ... وهذا التعبير يدلّ على مدى تحرّق قلب النّبي وشفقته لأُمته، وأداء رسالته، وما كان عليه من إصرار في خِطته، وتجلّد في مواجهة شدته ومحنته، لأنّه يرى القلوب المتعطشة الظامئة في جوار النبع القرآني الزلال، ولكنّها لا تزال على ظمئها ولا ترتوي من معينه العذب، فكان يتحرق لذلك!

كان قلقاً ـ وباخعاً نفسه ـ أن يرى الإنسان الذي منحه الله العقل واللبّ يسير في الطريق المظالم، بالرغم من كل هذا الضياء، ويهوي في الوادي السحيق ليكون من الهالكين!

أجل، كان جميع الأنبياء على هذه الشاكلة من الإشفاق على أُممهم ولا سيما الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي ورد في شأنه هذا التعبير القرآني أكثر من مرّة...

قال بعض المفسّرين: إن سبب نزول الآية الأنفة الذكر هو أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يدعو أهل مكّة إلى توحيد الله باستمرار، إلاّ أنّهم لم يؤمنوا. فأسف النّبي وتأثر تأثراً بالغاً حتى بدت أماراته في وجهه، فنزلت الآية آنفة الذكر لتسرّي عن قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).(1)

ولبيان أنّ الله على كل شيء قدير حتى أنّه يستطيع أن يسوقهم إلى الإيمان به سوقاً ويضطرّهم إلى ذلك، فإنّ الآية التالية تقول: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين).

وهي إشارة إلى أن الله قادر على إنزال معجزة مذهلة ـ من السماء ـ أو أن يرسل عليهم عذاباً شديداً فيذعنوا له، يطأطئوا برؤوسهم خضوعاً له، يستسلموا

_____________________________
 
1 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 8 ذيل الآية محل البحث.

]339]

الأمره وحكمه، إلاّ أن الإيمان بإكراه لا قيمة له. فالمهم أن يخضعوا للحق عن إرادة ووعي وإدراك وتفكر.

ومن الواضح أنّ المراد بخضوع الأعناق خضوع أصحابها... فاللغة العربية تذكر الرقبة أو العنق كناية عن الإنسان لأنّها جزء مهمٌّ منه، ويقال مثلا كناية عن البغاة القساة: غلاظ الرقاب، وعن المضطهدين والضعفاء: الرقاب الذليلة!

وبالطبع فهناك احتمالات أُخرَ لتفسير «أعناقهم» من جملتها أنّ الأعناق تعني الرؤساء، كما أن من التفاسير أن الأعناق تعني طوائف من الناس. وجميع هذه الإحتمالات ضعيفة.

ثمّ يتحدث القرآن عن مواقف المشركين والكفار من آيات القرآن فيقول: (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلاّ كانوا عنه معرضين).

والتعبير بـ «ذكر» هو إشارة إلى أن القرآن موقظ ومنبّه، وهذا الأمر متحقّق في جميع آياته وسوره! إلاّ أن هذه الجماعة معرضة عن ذكره وتنبيهه، فهي تفرّ عن كل ذلك!...

والتعبير بـ «الرحمن» إشارة إلى أن نزول هذه الآيات من قبل الله إنّما هو من رحمته العامّة، إذ تدعو جميع الناس دون استثناء إلى السعادة والكمال!

كما أن هذا التعبير ـ أيضاً ـ ربّما كان لتحريك الإحساس بالشكر لله، فهذا الذكر من الله الذي عمّت نعمه وجودكم من القرن إلى القدم، فكيف يمكن الإعراض عن ولي النعمة؟! وإذا كان سبحانه لا يتعجل بإنزال العذاب عليكم، فذلك من رحمته أيضاً...

والتعبير بـ «محدث» ـ أي جديد ـ إشارة إلى أن آيات القرآن تنزل واحدةً تلو الأُخرى، وكلُّ منها ذو محتوى جديد، ولكن ما جدوى ذلك، فهم مع كل هذه الحقائق الجديدة ـ معرضون... فكأنّهم اتّفقوا على خرافات السلف وتعلّقوا بها ـ فهم لا يرضون أن يودّعوا ضلالهم وجهلهم وخرافاتهم!! فأساساً مهما كان

[340]

الجديد موجباً للهداية، فإنّ الجهلة والمتعصبين يخالفون الحق ولا يذعنون له...

ونقرأ في سورة «المؤمنون» الآية 68 منه إذ تقول: (أفلم يدبّروا القول أم جاءهم مالم يأتِ آباءهم الأولين) فبذريعة مالم يأت آباءهم تجدهم متعصبين مخالفين!

ثمّ يضيف القرآن: أنّ هؤلاء لا يقفون عند حدود الإعراض، بل يتجاوزون إلى مرحلة التكذيب، بل إلى أشدّ منه ليصلوا إلى الإستهزاء به، فيقول: (فقد كذّبوا فسيأتيهم أنباؤا ما كانوا به يستهزئون).

«الأنباء»: جمع «انبأ»، أي الخبر المهمّ، والمراد من هذه الكلمة ما سيصيبهم من العقاب الشديد الدنيوي والأخروي. على أنّ بعض المفسّرين كالشيخ الطوسي في «التبيان»، قال بأن هذا العقاب منحصر العقاب الآخرة. إلاّ أن أغلب المفسّرين يعتقدون بشموله لعقاب الدارين، وهو ـ في الواقع ـ كذلك!... لأنّ الآية مُطْلَقَةٌ.

وبغض النظر عن كل ذلك فإنّ للكفر والإِنكار انعكاسات واسعة وشاملة في جميع حياة الإنسان... فكيف يمكن السكوت عنها!

والتحقيق في هذه الآية والآية السابقة يكشف أن الإنسان حين ينحرف عن الجادة المستقيمة فإنّه يفصل نفسه عن الحق ـ بشكل مستمر ـ .

ففي المرحلة الأُولى يعرض عن الحق ويصرف بوجهه عنه... ثمّ بالتدريج يبلغ مرحلة الإنكار والتكذيب.. ثمّ يتجاوز هذه المرحلة إلى السخرية والإستهزاء... ونتيجةً لذلك ينال عقاب الله وجزاءه «وقد ورد نظير هذا التعبير في الآيتين 4 و 5 من سورة الأنعام».

* * *

 

ملاحظتان

1 ـ ورد في بعض خُطب أمير المؤمنين «في نهج البلاغة» المعروفة بالخطبة

[341]

القاصعة إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أن الله أرسل الأنبياء على شاكلة يستطيع معها أن يؤمن الناس بدعوتهم إلى الله دون إكراه، بحيث لو لم يكونوا كذلك لكان الإيمان إجبارياً، إذ يقول: «ولوْ أراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ومعادن العقيان ومغارس الجنان وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرضين لفعل... ولو فعل لسقط البلاءُ وبطل الجزاء...»(1).

وورد في كتاب الكافي ذيل الآية محل البحث «لو أنزل الله من السماء آية فظلّت أعناقهم لها خاضعين. ولو فعل لسقط البلوى عن الناس أجمعين».(2)

وممّا يسترعي النظر أنه ورد في بعض الكتب المعروفة كالإرشاد للشيخ المفيد، وروضة الكافي، وكمال الدين للشيخ الصدوق، وتفسير القمي، أن الإمام الصادق(عليه السلام) قال في تفسير الآية: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية...) قال: «تخضع رقابهم ـ يعني بني أمية ـ وهي الصيحة في السماء باسم صاحب  الأمر ـ صلوات الله عليه ـ».(3)

وواضح أنّ المراد من هذه الرّوايات هو بيان مصداق من هذا المفهوم الواسع للآية، إذ ستخضع أخيراً جميع الحكومات الباغية والمتجبرة والظالمة التي تواصل السير على منهج حكومة بني أمية، وذلك عندما يظهر المصلح المهدي(عليه السلام) إمامُ الحكومة العالمية، فتستسلم إذعاناً لقدرته وحماية الله له وتنحني له إجلالا.

2 ـ أحد البحوث التي كثر الكلام فيها والتعليق عليها في القرون الأُولى ـ أو الصدر الأوّل ـ للإسلام هو البحث أو الكلام عن كون كلام الله قديماً أو حادثاً؟! وقد انجرّ هذا الكلام إلى كتب التّفسير أيضاً، وقد استدل جماعة من المفسّرين بالتعبير الوارد في الآية آنفاً «محدث» على كون القرآن حادثاً.

_____________________________
 
1 ـ راجع نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، رقم 192 «تواضع الأنبياء».
2 ـ الكافي حسب نقل تفسير نور الثقلين ذيل الآية محل البحث.
3 ـ تفسير الميزان، ونور الثقلين ذيل الآيات محل البحث.

[342]

إلاّ أنّه ـ كما أشرنا من قبل أيضاً ـ فإنّ أساس هذا البحث لا يمكن أن يكون منطقيّاً بأيِّ وجه، ويبدو أنّ ذوي السلطة أو أولي الأمر في ذلك الزمان من بني أمية وبني العباس، كان لهم الأثر الكبير في هذه البحوث المضلة ليحرفوا أفكار المسلمين عن المسائل المهمّة والجديّة، وليشغلوا علماء المسلمين بهذه المسائل حفاظاً على حكومتهم وسلطتهم.

لأنّه إذا كان المراد من كلام الله هو محتوى القرآن، فهو من الأزل في علم الله والله خبير بكل ما فيه، وإذا كان المراد منه نزول الوحي وكلمات القرآن وحروفه، فذلك حادث قطعاً ولا خلاف فيه.

فبناء على ذلك فالقرآن تارة هو قديم بذلك النحو، وأُخرى هو حادث قطعاً بهذه الصورة، فعلى المجتمع الإسلامي أن يكون فطناً ولا سيما العلماء، فلا يُبتلوا بالبحوث المضلة الإنحرافية المبتدعة من قِبَلِ الجبابرة وأعداء الإسلام.

 

* * *

[343]

 

 

الآيات

 

أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الاَْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْج كَرِيم(7) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنينَ(8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(9)

 

التّفسير

الزوجية في النباتات:

كان الكلام في الآيات المتقدمة عن إعراض الكفار عن الآيات التشريعية (أي القرآن المجيد)، أمّا في الآيات محل البحث فالكلام عن الآيات التكوينية ودلائل الله في خلقِه وما أوجده سبحانه، فالكفار لم يَصمّوا آذانهم ويوصدوا أبواب قلوبهم بوجه أحاديث النّبي وكلماته فحسب، بل كانوا يحرمون أعينهم رؤية دلائل الحق المنتشرة حولهم.

فتقول الآية الأُولى من هذه الآيات: (أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم).(1)

_____________________________
 
1 ـ يتعدي الفعل «يرى»
عادة إلى المفعول بدون حرف الجر (إلى) وقد تتعدى إلى المفعولين، وإنّما تعدت هنا بحرف الجر (إلى) لأنّ المراد منها النظر العميق الدقيق لا الرؤية السطحية...

[344]

والتعبير بـ «زوج» في شأن النباتات يستحق الدقّة... فبالرغم من أنّ أغلب المفسّرين قالوا بأن الزوج يعني النوع أو الصنف، وأن الأزواج معناها الأصناف والانواع، إلاّ أنّه ما يمنع أن نفسر معنى الزوج بما يتبادر إلى الذهن من المعنى المعروف وهو الإشارة إلى الزوجيّة في النباتات؟!

كان الناس فيما مضى يدركون أن بعض النباتات لها جنسان (ذكر وأُنثى) وكانوا يستعينون بتلقيح النباتات لتثمر ... وكانت هذه المسألة معروفة وواضحة تماماً في النخيل...

إلاّ أنّ العالم السويدي والخبير بعلم النبات «لينه» وُفّق لأول مرّة في أواسط القرن الثامن عشر الميلادي لاكتشاف هذه الحقيقة، وهي أن الزوجية في عالم النباتات قانون عام تقريباً، والنباتات كسائر الحيوانات تحمل عن طريق تلقيح الذكر لأنثاه ثمّ تقذف بالثمار...

غير أنّ القرآن المجيد أشارَ إلى هذه الظاهرة «الزوجية في النبات» في آيات مختلفة مراراً قبل هذا العالم السويدي بقرون، كما هي الحال في الآيات محل البحث. وفي الآية الرّابعة من سورة الرعد، والآية العاشرة من سورة لقمان، والآية السابعة من سورة ق. وهذه الإشارة بنفسها إحدى معاجز القرآن العلمية!

وكلمة «كريم» في الأصل تعني كل شيء قيّم وثمين، فقد تستعمل في الإنسان، وقد تستعمل في النبات، وقد تستعمل في الكتاب [أي الرسالة المعهودة بين المتراسلين] أيضاً... كما هي الحال في شأن حديث ملكة سبأ عن كتاب سليمان إليها إذا قالت: (إنّي أُلقي إليّ كتاب كريم).(1)

والمراد من (كم أنبتنا فيها من كلّ زوج كريم) هو النباتات المهمّة ذوات الفائدة، وطبعاً ما من نبات إلاّ وله فائدة أو فوائد جمّة، ومع تقدم العلم تتجلى هذه

_____________________________
 
1 ـ النمل، 29.

[345]

الحقيقة يوماً بعد يوم.

وتأتي الآية التالية لتقول مؤكّدةً بصراحة: (إنّ في ذلك لآية).

أجل إن الإلتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أن هذا التراب الذي لا قيمة له ظاهراً، بما فيه من تركيب معين هو مبدأ ظهور أنواع الأزهار الجميلة، والأشجار المثمرة الظليلة، والفواكه ذات الألوان الزاهية، وما فيها من خواص مختلفة. وهو ـ أي التراب ـ يبيّن منتهى قدرة الله، إلاّ أن أُولئك الذين طُبع على قلوبهم في غفلة وجهل إلى درجة يرون معها آيات الله بأعينهم، ومع ذلك يجحدونها ويكفرون بها، ويترسخ في قلوبهم العناد والجدل!

لذلك فإنّ الآية هذه تعقّبُ قائلة: (وما كان أكثرهم مؤمنين).

أي إنّ عدم الإيمان لدى أُولئك أمسى كالصفة الراسخة فيهم، فلا عجب أن  لا ينتفعوا من هذه الآيات، لأنّ قابليّة المحل من شرائط التأثير الأصيلة أيضاً كما نقرأ قوله تعالى: (هُدى للمتقين).(1)

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يرد الخطاب في تعبير يدلُّ على التهديد والترهيب والتشويق والترغيب، فيقول سبحانه: (وإن ربّك لهو العزيز الرحيم)...

«العزيز» معناه المقتدر الذي لا يغلب ولا يُقهر، فهو قادر على إظهار الآيات العظمى، كما أنه قادر على إهلاك المكذبين وتدميرهم.. إلاّ أنّه مع كل ذلك رحيم، ورحمته وسعت كل شيء، ويكفي الرجوع بإخلاص إليه في لحظة قصيرة! لتشمل رحمته من أناب إليه وتاب، فيعفو عنه بلطفه ورحمته!

ولعل تقديم كلمة «العزيز» على «الرحيم» لأنّه لو تقدمت كلمة الرحيم على العزيز لأشعرت الإحساس بالضعف، إلاّ أنّه قدم سبحانه الوصف بالعزيز ليُعلم أنّه وهو في منتهى قدرته ذو رحمة واسعة!

* * *

_____________________________
 
1 ـ البقرة، الآية 2.

[346]

 

 

الآيات

 

وَإذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ(10) قَومَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ(11) قَالَ رَبِّ إِنِّى أَخَافَ أَن يُكَذِّبُونِ (12)وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى فَأَرْسِلْ إِلَى هَـروُنَ (13)وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ فَأَخافُ أَن يَقْتُلُونِ(14) قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِأَيَتِنَآ إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ(15)

 

التّفسير

بداية رسالة موسى:

قلنا إنّ في هذه السورة بياناً لقصص سبعة من الأنبياء الكرام العظام، ليكون درس اعتبار لعامّة المسلمين، ولا سيما المسلمين الأوائل في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ...

فأوّل قصّة تتناولها هذه السورة هي قصة موسى(عليه السلام)، وتشرح جوانب مختلفة من حياته ومواجهته لفرعون واتباعه حتى هلاكهم بالغرق في النيل!

وقد جاء الكلام عن بني إسرائيل وموسى وفرعون وقومه حتى الآن في سور شتى «كالبقرة والمائدة والأعراف ويونس والإسراء وطه» كما ورد الكلام في هذا الشأن أيضاً في بعض السور التالية!...

[347]

وهذه البحوث وإن تكررت ـ بحسب الظاهر ـ إلاّ أن الإمعان أو التدقيق فيها يكشف عن أن كلّ بحث منها يتناول جانباً خاصّاً من هذه القصّة ذات المحتوى الغزير، ويعوّل على هدف معين!...

مثلا.. حين نزلت الآيات ـ محل البحث ـ كان المسلمون قلّةً ضعافاً وكان أعداؤهم كثرةً أولي قوّة وبأس شديد، بحيث لا يمكن الموازنة بين الفرقتين، فكان ينبغي أن يبيّن الله قصص الأُمم السابقة المشابهة لحال هؤلاء، ليعلم المسلمون أن هذه القوّة التي يمتلكها الأعداء وهذا الضعف الظاهري الذي يكتنف المسلمين لن يؤدي أيٌّ منهما بنفسه إلى اندحار المسلمين، ولتزداد معنويات المسلمين وتثّبت استقامتهم ومقاومتهم...

وممّا يلفتُ النظر تكرار عبارة: (و ما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربّك لهو العزيز الرحيم) بعد تمام الحديث عن كل نبي... وهو التعبير ذاته الوارد في بداية هذه السورة في شأن النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم).. وهذا الإتساق في التعبير شاهد حيّ على أن ذكر هذه الجوانب من قصص الأنبياء إنّما هو للظروف المتشابهة التي أكتنفت المسلمين من حيث الحالة النفسية والإجتماعية كما كان عليها الأنبياء السابقون...

فتقول الآيتان الأُوليان من الآيات محل البحث (وإذ نادى ربك موسى أن أئت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون). ويتركون ظلمهم وفسادهم وعنادهم للحق.

وينبغي الإلتفات إلى أنّ الصفة الوحيدة المذكورة عن قوم فرعون هنا هي الظلم، ومن الواضح أن الظلم له معنى جامعٌ واسع ومن مصاديقه الشرك كما تقول الآية (13) من سورة لقمان (إنّ الشرك لظلم عظيم)...

كما أنَّ استعباد بني إسرائيل واستثمارهم وما قارنهما من زجر وتعذيب من المصاديق الأُخرى أيضاً، ثمّ بعد هذا كله فإن قوم فرعون ظلموا أنفسهم بأعمالهم المخالفة، وهكذا يمكن تلخيص أهداف دعوة الأنبياء جميعهم بمبارزة الظلم

]348]

بجميع أبعاده!...

ويحكي القرآن مقالة موسى الكليم لربّ العزة وما طلبه منه من مزيد القوة والعون لحمل الرسالة العظمى، فيقول في الآية التالية: (قال ربّ إنّي أخاف أن يكذبونِ) وأخشى أن أُطرد قبل أن أكمل أداء رسالتي بما أُلاقيه من صخب وتكذيب فلا يتحقق الهدف المنشود...

وكان لموسى الحق في كلامه هذا تماماً، لأنّ فرعون وأتباعه وحاشيته كانوا مهيمنين على مصر، بحيث لم يكن لأحد أن يخالفهم ولو برأيه، وإذا أحسّوا بأدنى نغمة مخالفة لأي شخص بادروا إلى الإجهاز عليه فوراً..

وإضافة إلى ذلك فان صدري لا يتّسع لاستيعاب هذه الرسالة الالهية: (ويضيق صدري).

ثمّ بعد هذا كله فلساني قد يعجز عن بيانها: (ولا ينطلق لساني)...

فلذلك فإني أطلب أن تشدّ أزري بأخي (فأرسل إلى هارون).(1)

لنؤدي رسالتك الكبرى بأكمل وجه بتعاضدنا في مواجهة الظالمين والمستكبرين.

وبغض النظر عن كلّ ذلك فإنّ قوم فرعون يطاردونني (ولهم عليّ ذنب) كما يعتقدون لأنّي قتلت واحداً منهم ـ حين كان يتنازع مع إسرائيلي مظلوم ـ بضربة حاسمة! وأنا قلق من ذلك (فأخاف أن يقتلونِ).

وفي الحقيقة إنّ موسى(عليه السلام) كان يرى أربع مشاكل كبرى في طريقه، فكان يطلب من الله حلّها لأداء رسالته وهذه المشاكل هي...

مشكلة التكذيب.

مشكلة ضيق الصدر.

_____________________________
 
1 ـ في هذه الجملة حذفٌ وتقديره: فأرسل جبرئيل إلى هارون.

[349]

مشكلة عدم الفصاحة الكافية.

و مشكلة القصاص!

ويتّضح ضمناً أنّ موسى لم يكن خائفاً على نفسه، بل كان خوفه أن لا يصل إلى الهدف والمقصد للأسباب آنفة الذكر، لذلك فقد كان يطلب من الله سبحانه مزيد القوّة لهذه المواجهة!...

طلبات موسى(عليه السلام) من الله في هذا الصدد خير شاهد على هذه الحقيقة، إذ طلب أن يشرح صدره وحلّ عقدة لسانه وأن يرسل إلى هارون للمعاضدة في التبليغ كما جاء ذلك في سورة طه بصورة أكثر تفصيلا إذ قال: (ربّ اشرح لي صدري ويسِّرلي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري واشركه في أمري كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً).

فاستجاب الله طلب موسى ودعوة الصادقة و(قال كلاّ) فلن يستطيعوا قتلك، أو كلاّ لن يضيق صدرك وينعقد لسانك، وقد أجبنا دعوتك أيضاً في شأن أخيك، فهو مأمور معك في هذه المهمّة: (فاذهبا بآياتنا) لتدعوا فرعون وقومه إلى توحيد الله.

ولا تظنّا بأنّ الله بعيد عنكم أو لا يسمع ما تقولان (إنّا معكم مستمعون)...

فإنا معكما ولن اتتركما أبداً، وسأنصركما في الحوادث الصعبة، فاذهبا مطمئني الخاطر، وامضيا في هذا السبيل بأقدام ثابتة وعزيمة راسخة!...

وهكذا فإنّ الله سبحانه أعطى لموسى الإطمئنان الكافي في جمل ثلاث وحقّق له طلبه... إذ طمأنه بقوله: (كلا) على أنّ قوم فرعون لن يقتلوه ولن يستطيعوا ذلك... ولن تحدث له مشكلة بسبب ضيق صدره أو التلكؤ في لسانهِ وبقوله: (فاذهبا بآياتنا) أرسل أخاه ليعينه على أمره. وبقوله: (إنا معكم مستمعون) وعدهما أنّهما سيكونان أبداً تحت ظل خيمته وحمايته!...

[350]

وممّا ينبغي الإلتفات إليه ورود الضمير في آخر الجملة بصيغة الجمع في قوله: (إنا معكم) ولعل ذلك إشارة إلى أن الله حاضر مع موسى وهارون ومن يواجهانهما من الطغاة والفراعنة في جميع المحاورات، ويسمع ما يدور بينهم جميعاً، فينصر موسى وأخاه هارون على أولئك الطغاة!...

وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أن كلمة «مع» دالة على النصرة والحماية فلا تشمل قوم فرعون، غير سديد، بل إن «مع» تعني حُضور الخالق الدائم في جميع الميادين والمحاورات حتى مع المذنبين، حتى مع المذنبين، وحتى مع الموجودات التي لا روح فيها، فهو في كل مكان ولا يخلو منه مكان.

والتعبير بـ «مستمعون»، أي الإصغاء المقرون بالتوجه هو تأكيد على هذه الحقيقة أيضاً.

* * *

[351]

 

 

الآيات

 

فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَـلَمِينَ(16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرءِيلَ(17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ(18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الكـفِرِينَ(19) قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّآلِّينَ(20) فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبِّى حُكْماً وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسرءِيلَ(22)

 

التّفسير

مواجهة فرعون مواجهةً منطقية وقاطعة:

انتهت في الآيات المتقدمة المرحلة الأُولى لمأمورية «موسى(عليه السلام)» وهي موضوع الوحي «والرسالة» وطلبه أسباب الوصول إلى هذا الهدف الكبير!...

وتعقيباً على المرحلة الآنفة تأتي الآيات ـ محل البحث ـ لتمثل المرحلة الثّانية، أي مواجهة موسى وهارون لفرعون، والكلام المصيري الذي جرى بينهم!

تقول الآية الأُولى من هذه الآيات مقدمةً لهذه المرحلة: (فأتيا فرعون فقولا

]352]

إنّا رسول ربّ العالمين).

وجملة (فأتيا فرعون) تكشف عن أنّهما ينبغي أن يواجها فرعون نفسه بأيّة قيمة أو أيّ ثمن كان...

والتعبير بـ «رسول» بصيغة الإفراد مع أنّهما «موسى وهارون» نبيّان مرسلان، يشير إلى وحدة دعوتهما، فكأنّهما روحان في بدن واحد لهما خِطّة واحدة وهدف واحد.(1)

وضمن دعوتكما لفرعون بأنّكما رسولا ربّ العالمين اطلبا منه أن يُرسل بني إسرائيل ويرفع يده عنهم: (أن أرسل معنا بني إسرائيل).

وبديهي أن المراد من الآية أن يرفع فرعون عن بني إسرائيل نيرْ العبوديّة والقهر والإستعباد، ليتحرروا ويأتوا مع موسى وهارون، وليس المراد هو إرسال بني إسرائيل معهما فحسب.

وهنا يلتفت فرعون فيتكلم بكلمات مدروسة وممزوجة بالخبث والشيطنة لينفي الرسالة ويقول لموسى: (ألم نربّك فينا وليداً...).

إذْ التقطناك من أمواج النيل الهادرة فإنقذناك من الهلاك، وهيّأنا لك مرضعة، وعفونا عن الحكم الصادر في قتل أبناء بني إسرائيل الذي كنت مشمولا به، فتربّيت في محيط هادىء آمن منعّماً... وبعد أن تربيت في بيتنا عشت زماناً (ولبثت فينا من عمرك سنين).

ثمّ توجه إلى موسى وذكرّه بموضوع قتل القبطي فقال: (وفعلت فعلتك التي فعلت).

_____________________________

 

1 ـ يقول الراغب في «المفردات»: «الرّسول»

من الكلمات التي تطلق على المفرد والجمع، وإن جمعت أحياناً على «الرسُل»

فمنهم من يرى أنها مصدر أيضاً ومعناها الرسالة، ونعرف أنه لا تثنية ولا جمع في المصدر. وقد ورد في لسان العرب أن الرّسول بمعنى الرسالة، إلاّ أن هذه الكلمة تحمل المعنى الوصفي حتماً، وكثيراً ما تجمع أو تثنى وقد ورد في سورة طه عن هذه القصة وقصة موسى وهارون: «إنّا رسولا ربك»!...

[353]

إشارةً إلى أنه كيف يمكنك أن تكون نبيّاً ولديك مثل هذه السابقة؟!

ثمّ بعد هذا كله: (وأنت من الكافرين)! (أي بنعمة فرعون) فلطالما جلست على مائدتنا وتناولت من زادنا فكيف تكون نبيّاً وأنت كافر بنعمتي؟!

وفي الحقيقة; كان فرعون يريد أن يجعل موسى محكوماً بهذه التهم المواجهة إليه، وبهذا المنطق الإستدراجي.

والمراد من قصّة القتل المذكورة هنا هو ما جاء في سورة القصص «الآية 15 منها» حيث جاء فيها أن موسى وجد رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوّه، فاستغاثة الذي هو من شيعته على الذي من عدوّه فوكزه موسى فقضى عليه انتصاراً لشيعته!...

وعندما سمع موسى كلمات فرعون الممزوجة بالخبث والشيطنة أجاب على إشكالات فرعون الثلاثة، إلاّ أنه قدّم الإجابة على الإشكال الثّاني نظراً لأهميته. (أو أنه أساساً لم يجد الإشكال الأوّل يستحق الإجابة، لأن تربية الشخص  لا تكون دليلا على عدم جواز هداية مربّية إن كان المربي ضالا، ليسلك سبيل الرشاد)

وعلى كل حال أجابه موسى(عليه السلام): (قال فعلتها إذاً وأنا من الضالين).

وهنا كلام طويل بن المفسّرين على المراد من كلمة «الضالين» الواردة في تعبير موسى(عليه السلام)... لأنّه كما نعلم لا مجال لأن تكون للنبيّ سابقةُ سوء حتى قبل مرحلة النبوّة.. لأنّها تزلزل موقعه في أفكار عامّة الناس، ويبقى الهدف من بعثته ناقصاً غيرِ تام، ولذلك فإنّ العصمة في الأنبياء لازمة حتى قبل زمان نبوتهم!... هذا من جهة...

ومن جهة أُخرى ينبغي أن يكون هذا الكلام جواباً مسكتاً ومضحماً لفرعون! لذلك فإن كثيراً من المفسّرين يعتقدون أن المراد من «الضال» هنا هو كونُه أخطأ في الموضوع، أي أن موسى كانت ضربته للرجل القبطي لا بقصد القتل، بل لكي

[354]

يحمي المظلوم ويدافع عنه، ولم يدر أنّه ستؤول ضربته إلى الإجهاز عليه وقتله، فبناءً على ذلك فإنّ الضالّ هنا معناه «الغافل» والمراد منه الغافل عن العاقبة التي أدّى عمله إليها.

وقال بعض المفسّرين: إنّ المراد من ذلك أنّه لم يكن أيّ خطأ في قتل القبطي الظالم لأنّه كان مستحقاً، بل إنّ موسى(عليه السلام) يريد أن يقول: إنّه لم يدر أن عاقبة عمله ستكون على هذا الوجه، وأنه لا يستطيع البقاء في مصر وعليه أن يخرج بعيداً عن وطنه، وأن يتأخر منهجه «في أداء رسالته».

ولكن الظاهر أنّ هذا لا يعدّ جواباً لفرعون، بل هو موضوع كان لموسى أن يبيّنه لأتباعه ومن حوله من محبّيه! لا أنه ردّ على إشكال فرعون!...

والتّفسير الثّالث الذي من المحتمل أن يكون مناسباً أكثر لمقام موسى(عليه السلام)ـ من جهات متعددة ـ ويتلاءم وعظمة كيانه، أن موسى(عليه السلام) استخدم التورية في تعبيره جواباً على كلام فرعون، فقال كلاماً ظاهره أنّه لم يعرف طريق الحق في ذلك الزمان ... لكنّ الله عرّفه إياه بعدئذ، ووهب له حكماً ـ فجعله من المرسلين، إلاّ أنه كان يقصد في الباطن أنه لم يدر أن عمله حينئذ سيؤدي إلى هذه النتيجة! من الجهد والعناء واضطراب البال ـ مع أَنّ أصل عمله كان حقاً ومطابقاً لقانون العدالة «أو أنه يوم كانت هذه الحادثة قد وقعت كان موسى(عليه السلام) قد ضلّ طريقه فصادف أمامه هذه القضيّة»...

ونحن نعرف أن «التورية» هي أن يقول الإنسان كلاماً باطنه حق، إلاّ أن الطرف الآخر يفهمُ من ظاهره شيئاً آخر، وهذا الأمر يقع في موارد خاصّة يُبتلى الإنسان فيها بالحرج أو الضيق، ولا يريد أن يكذب، وهو في الوقت ذاته على ظاهر كلامه...(1)

_____________________________

 

1 ـ هذا الكلام يوافق مضمون الحديث الوارد عن الإمام الرضا(عليه السلام)

في تفسير الآية، راجع كتاب عيون اخبار الرضا، ج 4، ص 48 نقلا عن «نور الثقلين».

[355]

ثمّ يضيف موسى قائلا: (ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين)!

وهناك اختلاف بين كلمات المفسّرين في المراد من «الحكم» في هذه الآية، أهو مقام النبوة، أم مقام العلم، أم سواهما؟! لكن مع ملاحظة ذيل الآية نفسها المذكور فيها مقام الرسالة بإزاء الحكم يتّضح أنّه غير الرسالة والنبوّة!

والشاهد الآخر على هذا الموضوع الآية (79) من سورة آل عمران إذ قال: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة ثمّ يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله...).

إن كلمة «الحكم» تعني في اللغة: المنع من أجل الإصلاح، هذا هو الأصل في ما وضعت له، ولذا سمّوا لجام الحيوان «حَكَمةً» على وزن (صَدَقَة) ثمّ أطلقت هذه الكلمة على ما يطابق الحكمة، ومن هنا سمي العقل والعلم حكماً أيضاً لهذا التناسب، وقد يقال: إنّه يستفاد من الآية (14) من سورة القصص أن موسى(عليه السلام) كان قد بلغ مقام الحكم والعلم قبل هذه القضية إذ تقول: (ولما بلغ أشدّه واستوى آتيناه حكماً وعلماً).

فنجيب على ذلك أن للعلم والحكمة مراحل مختلفة، فكان موسى(عليه السلام) قد بلغ مرحلة منهما من قبل، وحين بلغ مقام النبوّة أدرك المرحلة الأكمل!...

ثمّ يردّ موسى(عليه السلام) على كلام فرعون الذي يمنُّ به عليه في أنّه ربّاه وتعهده منذ طفولته وصباهُ، معترضاً عليه بلحن قاطع فيقول: (وتلك نعمة تمنُّها عليّ أن عبّدتِ بني إسرائيل).

صحيح أنّ يد الحوادث ساقتني ـ وأنا طفل رضيع ـ إلى قصرك، لأتربّى في كنفك، وكان في ذلك بيان لقدرة الله، لكن ترى كيف جئت إليك؟ ولم لا تربيتُ في أحضان والديّ وفي بيتهما؟!

ألم يكن ذلك لأنّك عبّدت بني إسرائيل وصفّدت أيديهم بنير الأسر! حتى

]356]

أمرت أن يُقتل الأطفال الذكور وتستحيا النساء للخدمة؟!

فهذا الظالم المفرط من قبلك، كان سبباً لأن تضعني اُمي في الصندوق حفاظاً عليّ، وتلقيني في أمواج النيل، وكانت مشيئة الله أن تسوق الأمواج «زورقي» الصغير حتى توصله إلى قصرك... أجل إن ظلمك الفاحش هو الذي جعلني رهين منّتك وحرمني من بيت أبي الكريم، وصيرني في قصرك الملوّث!...

وبهذا التّفسير يتّضح ارتباط جواب موسى بسؤال فرعون تماماً.

كما يحتمل في تفسير هذه الآية أنّ مراد موسى(عليه السلام) هو الإِعتراض على فرعون بأنّه لو كانت تربيتي عندك نعمةً من قبلك، فهي إزاء ظلمك لبني إسرائيل بمثابه القطرة في مقابل البحر، فأية نعمةَ لك عليّ مع ما عندك من الظلم والجور على الناس؟!

والتّفسير الثّالث لجواب موسى لفرعون، هو أنّه: لو تربيت في قصرك وتمتعت بنعمك المختلفة، فلا تنس بُناة قصرك الأوائل فهم أرقّاء من قومي، والموجدون لجميع تلك النعم هم أسراؤك من بني إسرائيل، فكيف تمنّ عليّ بجهود قومي وأتعابهم؟!

وهذه التفاسير الثلاثة لا تتنافى جميعاً، وإن كان التّفسير الأوّل من بعض الجهات أكثر وضوحاً!

ويستفاد من عبارة: «من المرسلين» ضمناً بأنّني لست الوحيد المرسل من قبل الله. فمن قبلي جاء رُسُل عدّة، وأنا واحدٌ منهم، إلاّ أن فرعون نسيَهم أو تناساهم!!

* * *

[357]

 

 

الآيات

 

قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رِبُّ العَـلَمِينَ(23) قَالَ رَبُّ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ(24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ(25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الاَْوَّلِينَ(26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لََمجْنُونٌ(27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ(28) قَالَ لَئِن اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِى لاََجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ(29)

 

التّفسير

الإتهام بالجنون والتهديد بالسجنِ:

حين واجه موسى(عليه السلام) فرعون بلهجة شديدة: وأجابه بضرس قاطع، وأفحم فرعون في ردّه، غيّر فرعون مجرى كلامه، وسأل موسى عن معنى كلامه أنّه رسول ربّ العالمين، و (قال فرعون وما ربّ العالمين)..

ومن المستبعد جدّاً أن يكون فرعون قد سأل موسى(عليه السلام) هذا السؤال لفهم الحقيقة ومعرفة الموضوع، بل يبدو أنّه سأله متجاهلا ومستهزئاً.

[358]

إلاّ أنّ موسى ـ على كل حال ـ لم يجد بُداً كسائر الباحثين الواعين اليقظين، أن يجيب على فرعون بجدّ... وحيث أن ذات الله سبحانه بعيدة عن متناول أفكار الناس، فإنّهُ أخذ يحدثه عن آيات الله في الآفاق وآثاره الحيّة إذْ (قال ربّ السماوات والأرض وما بينهما إن كنتُمْ موقنين).

فالسماوات بما فيهن من عظمة، والأرض على سعتها... والموجودات المتعددة بألوانها بحيث لا تساوي أنت وقصرك بإزائها إلاّ ذرّة في مقابل المجرّة! كلّها من خلق ربّي، فمثل هذا الخالق المدبّر لهذا العالم جدير بالعبادة، لا الموجود الضعيف التافه مثلك!...

وينبغي الإلتفات إلى أن عبدة الأوثان كانوا يعتقدون أنّ لكلّ موجود في هذا العالم ربّاً، وكانوا يعدّون العالم تركيباً من نُظُم متفرقة، إلاّ أن كلام موسى(عليه السلام) يشير إلى أن هذا النظام الواحد المتحكم على هذه المجموعة في عالم الوجود دليل على أن له ربّاً واحداً...

وجملة (إن كنتم موقنين) لعلها إشارةً إلى أنّ موسى(عليه السلام) يريد أن يفهم فرعون ومن حوله ـ ولو تلويحاً ـ أنه يعرف أن الهدف من هذا السؤال ليس إدراك الحقيقة... لأنّه لو أراد إدراك الحقيقة والبحث عنها لكان استدلاله كافياً.. فكأنّه يقول لهم: افتحوا أعينكم قليلا وتفكروا ساعة في السماوات والأرض بما فيهما من الآثار وعجائب المخلوقات... لتطلعوا على معالمها وتصححوا نظرتكم نحو الكون!

إلاّ أن فرعون لم يتيقظ من نومة الغافلين بهذا البيان المتين المحكم لهذا المعلم الكبير الرّباني السماوي... فعاد لمواصلة الإستهزاء والسخرية، واتبع طريقة المستكبرين القديمة بغرور، و (قال لمن حوله ألا تستمعون).

ومعلوم من هم الذين حول فرعون؟ فهم أشخاص من نسيجه وجماعة من أصحاب القوّة والظلم والقهر والمال.

]359]

يقول ابن عباس: كان الذين حول فرعون هناك خمسمائة نفر، وهم يعدّون من خواص قومه.(1)

وكان الهدف من كلام فرعون أن لا يترك كلام موسى المنطقي يؤثر في القلوب المظلمة لأُولئك الرهط... فعدّه كلاماً بلا محتوى وغير مفهوم.

إلاّ أن موسى(عليه السلام) عاد مرّةً أُخرى إلى كلامه المنطقي دون أي خوف ولا وهن ولا إيهام، فواصل كلامه و (قال ربّكم وربّ آبائكم الأولين).

إن موسى(عليه السلام) بدأ في المرحلة الأُولى بـ «الآيات الآفاقية»، وفي المرحلة الثّانية أشار إلى «الآيات الانفسية»، وأشار إلى أسرار الخلق في وجود الناس أنفسهم وآثار ربوبية الله في أرواح البشر وأجسامهم، ليفكر هؤلاء المغرورون على الأقلّ في أنفسهم ويحاولوا التعرّف عليها وبالتالي معرفة من خلقها.

إلاّ أن فرعون تمادى في حماقته، وتجاوز مرحلة الإستهزاء إلى اتهام موسى بالجنون، فـ (قال إنّ رسولكم الذي أُرسل إليكم لمجنون)...

وذلك ما اعتاده الجبابرة والمستكبرون على مدى التاريخ من نسبة الجنون إلى المصلحين الرّبانيين!...

وممّا يستجلب النظر أن هذا الضالَّ المغرور لم يكن مستعدّاً حتى لأنّ يقول: «إنّ رسولنا الذي أرسل إلينا»، بل قال: «إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم»، لأن التعبير برسولكم ـ أيضاً ـ له طابع الاستهزاء المقترن بالنظرة الإستعلائية... يعني: إنني أكبر من أن يدعوني رسول... وكان الهدف من اتهامه موسى بالجنون هو إحباط وإفشال منطقه القويّ المتين لئلا يترك أثراً في أفكار الحاضرين.

إلاّ أن هذه التهمة لم تؤثر في روح موسى(عليه السلام) ومعنوياته العالية، وواصل بيان آثار الله في عالم الإيجاد في الآفاق والأنفس، مبيناً خط التوحيد الأصيل فـ (قال

_____________________________

 

1 ـ راجع تفسير أبي الفتوح الرازي ذيل الآية محل البحث.

]360]

ربّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون).

فإذا كنت ـ يا فرعون ـ تحكم حكما ظاهريّاً في أرض محدودة تدعى مصر، فإنّ حكومة ربّي الواقعية تسع المشرق والمغرب وما بينهما جميعاً، وآثاره تشرق في وجوه الموجودات!... وأساساً فإنّ هذه الشمس في شروقها وغروبها وما يتحكم فيها من نظام، كل ذلك بنفسه آية له ودليل على عظمته... إلاّ أنّ العيب كامن فيكم، لأنّكم لا تعقلون، ولم تعتادوا التفكير (وينبغي الإلتفات إلى أن جملة (إن كنتم تعقلون) هي إشارة إلى أنه لو كنتم تتفكرون وتستعملون العقل في ماضي حياتكم وحاضرها لتوصلتم إلى إدراك هذه المسألة).

وفي الواقع إن موسى(عليه السلام) أجاب على اتهامهم إياه بالجنون بأسلوب بليغ بأنّه ليس مجنوناً، وأن المجنون هو من لا يرى كل هذه الآثار ودلائل وجود الخالق، والعجيب أنه مع وجود الآثار على باب الدار والجدار، فانه يوجد من لا يفكر في هذه الآثار!».

وصحيح أنّ موسى(عليه السلام) أشار بادىء الأمر إلى تدبير أمر السماوات والأرض، إلاّ أنه حيث أن السماء عالية جداً، وأن الأرض ذات أسرار غربية، فقد وضع موسى(عليه السلام) أخيراً إصبعه على نقطة لا يمكن لأحد إنكارها; ويواجهها الإِنسان كلّ يوم، وهي نظام طلوع الشمس وغروبها وما فيها من منهج دقيق... وليس لأحد من البشر أن يدعي أنّ بيده نظامها أبداً...

والتعبير بـ «ما بينهما» إشارة إلى الوحدة والإرتباط في ما بين المشرق والمغرب، وهكذا كان التعبير في شأن السماوات والأرض. (قال ربّ السماوات والأرض وما بينهما).

ويبيّن التعبير (ربُكم ورب آبائكم الأولين) أيضاً ارتباط النسل والوحدة فيه...

غير أن هذا المنطق المتين الذي لا يتزعزع غاظ فرعون بشدة، فالتجأ إلى

[361]

استعمال «حربة» يفزع إليها المستكبرون عند الإندحار، فجابه موسى و (قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين).

فأنا لا أعرف كلماتك، إنّما أعرف وجود اله ومعبود كبير وهو أنا... ومن قال بغيره فهو محكوم بالإعدام أو السجن!...

ويعتقد بعض المفسّرين أن الألف واللام في «من المسجونين» هما للعهد، وهي إشارة إلى سجن خاص من ألقي فيه يبقى سجيناً حتى تخرج جنازته.(1)

وفي الواقع كان فرعون يريد أن يسكت موسى بهذا المنطق الارهابي، لأن مواصلة موسى(عليه السلام) بمثل هذه الكلمات ستكون سبباً في إيقاظ الناس، وليس أخطر على الجبابرة من شيء كإيقاظ الناس!...

 

* * *

_____________________________

 

1 ـ راجع تفسير الميزان، والفخر الرازي، وروح المعاني ذيل الآية محل البحث.

[362]

 

 

الآيات

 

قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىْء مُّبِين(30) قَالَ فأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ(31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ(32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيضَآءُ لِلنَّـظِرِينَ(33) قَالَ لِلْمَلاءِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَـحِرٌ عَلِيمٌ(34) يُريدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ(35) قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِى الْمَدَآئِنِ حَـشِرِينَ(36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّار عَلِيم(37)

 

التّفسير

بلادكم في خطر:

رأينا في الآيات المتقدمة كيف حافظ موسى(عليه السلام) على تفوّقه ـ من حيث المنطق ـ على فرعون، وبيّن للحاضرين إلى أيّة درجة يعوّل مبدؤه على منطقه وعقله، وأن ادعاء فرعون واه وضعيف، فتارة يسخر من موسى، وتارةً يرميه بالجنون، وأخيراً يلجأ إلى التهديد بالسجن والإعدام!...

وهنا يقلب موسى(عليه السلام) صفحة جديدة، فعليه أن يسلك طريقةً أخرى يخذل

[363]

فيها فرعون ويعجزه. عليه أن يلجأ إلى القوّة أيضاً، القوّة الإلهية التي تنبع من الإعجاز، فالتفت إلى فرعون متحدّياً و (قال أو لوجئتك بشىء مبين)...

وهنا وجد فرعون نفسه في طريق مغلق مسدود... لأن موسى(عليه السلام) أشارَ إلى خطّة جديدة! ولفت انظار الحاضرين نحوه، إذ لو أراد فرعون أن لا يعتدّ بكلامه، لإعترض عليه الجميع ولقالوا: دعه ليرينا عمله المهم، فلو كان قادراً على ذلك فلنرى، ونعلم حينئذ أنّه لا يمكن الوقوف امامه، وإلاّ فستنكشف مهزلته!! وعلى كل حال ليس من اليسير تجاوز كلام موسى ببساطة...

فاضطر فرعون إلى الإستجابة لا قتراح موسى(عليه السلام) و (قال فأت به إن كنت من الصادقين).

(فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين) «بأمر الله».

ثمّ أظهر إعجازاً آخر حيث أدخل يده في جيبه (اعلى الثوب) وأخرجها فاذا هي بيضاء منيرة: (ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين).

في الحقيقة إن هاتين المعجزتين الكبيرتين، إحداهما كانت مظهر الخوف، والأُخرى مظهر الأمل، فالأُولى تناسب مقام الإنذار، والثّانية للبشارة! والأُولى تبيّن عذاب الله، والأُخرى نورٌ وآية رحمة! لأنّ المعجزة ينبغي أن تكون منسجمةً مع دعوة النّبي(عليه السلام).

«الثعبان» معناه الحية العظيمة، ويحتمل الراغب في مفرداته أن «الثعبان» من مادة (ثعب) المأخوذ معناه من جريان الماء، لأنّ حركة هذا الحيوان تشبه الأنهار المتحركة!

والتعبير بـ «المبين» لعله إشارة إلى هذه الحقيقة! وهي أنّ عصّا موسى(عليه السلام)تبدلت إلى ثعبان عظيم فعلا، ولم يكن في الأمر من إيهام أو سحر.

ولا بأس بذكر هذه اللطيفة الدقيقة هنا، وهي أنّ الآية محل البحث عبرت [عن تبدل العصا] بـ «ثعبان». أمّا الآية العاشرة من سورة النمل، والآية الحادية

[364]

والثلاثون من سورة القصص، فقد عبرت عنها بـ «جان» «ما تجنّه(1)الأرض وما يمشي عليها من الأفاعي الصغار بسرعة وقفز». أمّا الآية العشرون من سورة طه فقد عبّرت عنها بأنّها «حية» «المشتقّة من الحياة».

وهذا التفاوت أو الإختلاف في التعابير مثير للسؤال في بدو النظر، إلاّ أنّ الإختلاف أو التفاوت إنّما هو لبيان واحد من أمرين:

1 ـ لعله إشارة إلى حالات ذلك الثعبان المتباينة، ففي البداية تبدلت العصا إلى جانّ أو حية صغيرة، ثمّ بدأت تكبر حتى صارت ثعباناً مبيناً!...

2 ـ أو أنّ هذه الألفاظ الثلاثة «الثعبان، والجان، والحية» كلٌّ منها يرمز إلى بعض الخصائص الموجودة في تلك العصا المتبدلة إلى حالة جديدة! فالثعبان إشارة إلى عظمتها، والجان إشارة إلى سرعتها، والحية إشارة إلى حياتها!

غير أن فرعون اضطرب لهذا المشهد المهول وغرق في وحشة عميقة ولكي يحافظ على قدرته الشيطانية التي أحدق بها الخطر بظهور موسى(عليه السلام)، وكذلك من أجل أن يرفع من معنويات أصحابه والملأ من حوله في توجيه معاجز موسى ولفت نظرهم عنها، فقد (قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم).

ذلك الإنسان الذي كان يدعوه مجنوناً إلى لحظات آنفة، وإذا هو الآن يعبر عنه بالعليم، وهكذا هي طريقة الجبابرة وأسلوبهم، حيث تتبدل كلماتهم في مجلس واحد عدّة مرّات، ويحاولون التشبث بأي شيء للوصول إلى هدفهم.

وكان فرعون يعتقد أن اتهام موسى بالسحر ألصق به وأكثر قبولا عند السامعين، لأنّ ذلك العصر كان عصر السحر، فإذا أظهر موسى(عليه السلام) معاجزه فمن اليسير توجيهها بالسحر.

ومن أجل أن يعبّىء الملأ ويُثيرَ حفيظتهم ضد موسى(عليه السلام)، قال لهم: (يريد أن

_____________________________

 

1 ـ جنّ يجن «من الأضداد في اللغة» والضدّ في الألفاظ ما يحمل معنيين متضادين، مثل الجون يطلق على الأسود والأبيض، وجنّ بمعنى ستره وأظهره.

]365]

يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون؟).

والغريب في الأمر أن فرعون الذي قال هذا الكلام هو الذي كان يقول من قبل: (أليس لي ملكُ مصر)؟!

والآن حيث يرى عرشه متزعزعاً ينسى مالكيته المطلقة لهذه الأرض، ويعدّها ملكَ الناس، فيقول لهم: أرضكم في خطر، إن موسى يريد أن يخرجكم من أرضكم، ففكروا في حيلة!...

فرعون هذا لم يكن قبل ساعة مستعداً لأن يصغي لأحد، كان الآمر بلا منازع، أمّا الآن فهو في حرج شديد يقول لمن حوله: «ماذا تأمرون»؟! إنّها استشارة عاجزة ومن موقف الضعف فحسب!...

ويستفاد من الآية (110) من سورة الأعراف أنّ أتباع فرعون ومن حوله ائتمروا فيما بينهم وتشاوروا في الأمر، وكانوا في حالة من الإِضطراب النفسي بحيث كان كلُّ منهم يسأل الآخر قائلا: وأنت ما تقول؟ وماذا تأمرون؟!

أجل هذه سُنّةُ الجبابرة في كل عصر وزمان... فحين يسيطرون على الأوضاع يزعمون أن كل شيء لهم، ويعدون الجميع عبيدهم، ولا يفهمون شيئاً سوى منطق الإستبداد. إلاّ أنّهم حين تهتزّ عروشهم الظالمة ويرون حكوماتهم في خطر، ينزلون مؤقتاً عن استبدادهم ويلجأون إلى الناس ويتحدثون باسم الناس، فالأرض أرض الشعب، والحكومة تمثل الشعب ويحترمون آراء الشعب، ولكن حين يستقر الطوفان ويهدأ التيار، فاذا هم أصحاب الأمس و«عادت حليمة إلى عادتها القديمة».

ورأينا في عصرنا بقايا السلاطين القدامى كيف يحسبون أن الدولة ملكهم المطلق حين تُقبل الدنيا عليهم، ويأمرون من يرفض إتباعهم بالخروج عن تلك البلاد قائلين له: اذهب في أرض الله العريضة الواسعة، ففي هذا البلد لابدّ من تنفيذ ما نقول لا غير. ورأينا هذه الحالة عندما بدأت هبّت رياح الثورة الإسلامية كيف

[366]

أن الطواغيت أخذوا باحترام الشعب وتعظيمه، وحتى أنّهم أقروا بذنوبهم وطلبوا العفو، ولكن الناس الذين عرفوا سجيّتهم طوال سنين مديدة لم ينخدعوا بذلك.

وبعد المشاورة فيما بينهم التفت الملأ من قوم فرعون إليه و (قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين).(1) أي أمهلهما وابعث رسلك الى جميع المناطق والأمصار.

(يأتوك بكل سحّار عليم).

وفي الواقع أن رهط فرعون إمّا أنّهم غفلوا، وإمّا أنّهم قبلوا اتهامه لموسى واعين للأمر. فهيأوا خطةً على أنّه ساحر، ولابدّ من مواجهته بسحرة أعظم منه وأكثر مهارة!...

وقالوا: لحسن الحظّ إنّ في بلادنا العريضة سحرةً كثيرين، فلابدّ من جمع السحرة لإحباط سحر موسى(عليه السلام).

وكلمة (حاشرين) مأخوذه من مادة (الحشر) ومعناه التعبئة والسوق لميدان الحرب وأمثال ذلك، وهكذا فينبغي على المأمورين أن يعبئوا السحرة لمواجهة موسى(عليه السلام) بأيّ ثمن كان!...

* * *

_____________________________

 

1 ـ (أرجه)

مشتقّة من «الإِرجاء»،

ومعناها التأخير وعدم الإِستعجال في القضاء، والضمير في (أرجه) يعود على موسى، وأصل الكلمة كان (أرجئه) وحذفت الهمزة للتخفيف!

[367]

 

 

الآيات

 

فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَـتِ يَوْم مَّعْلُوم(38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هُلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ(39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الغـلِبِينَ (40)فَلَمَّا جآءَ السَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لاََجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغَـلِبِينَ(41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المُقَرَّبِينَ(42)

 

التّفسير

اجتماع السحرة من كلّ مكان:

في هذه الآيات يُعرض مشهداً آخر من هذه القصّة المثيرة، إذ تحرك المأمورون بحسب اقتراح أصحاب فرعون إلى مدن مصر لجمع السحرة والبحث عنهم، وكان الوعد المحدد (فجمع السحرة لميقات يوم معلوم).

وبتعبير آخر: إنّهم هيأوهم من قبل لمثل هذا اليوم، كي تجتمعوا في الوعد المقرر في «ميدان العرض»...

والمراد من «اليوم المعلوم» كما يستفاد من بعض الآيات في سورة الأعراف، أنّه بعض أعياد أهل مصر، وقد اختاره موسى(عليه السلام) للمواجهة ومنازلة السحرة... وكان هدفه أن يجد الناس فرصة أوسع للإجتماع، لأنّه كان مطمئناً بأنّه سينتصر،

[368]

وكان يريد أن يظهر آيات الله وضعف فرعون والملأ من حوله للجميع، وليشرق نور الإيمان في قلوب جماعة كثيرين!...

وطُلب من الناس الحضور في هذا المشهد: (وقيل للناس هل أنتم مجتمعون)وهذا التعبير يدلّ على أنّ المأمورين من قِبَلِ فرعون بذلوا قصارى جهودهم في هذا الصدد... وكانوا يعلمون أنّهم لو أجبروا الناس على الحضور لكان ردّ الفعل سلبيّاً، لأنّ الإنسان يكره الإجبار ويعرض عنه بالفطرة! لذلك قالوا: هل ترغبون في الحضور؟ وهل أنتم مجتمعون؟ ومن البديهي أن هذا الأسلوب جرّ الكثير إلى حضور ذلك المشهد.

وقيل للناس: إنّ الهدف من هذا الحضور والإجتماع هو أنّ السحرة اذا انتصروا فمعنى ذلك انتصار الالهة وينبغي علينا اتباعهم: (لعلنا نتّبع السحرة إن كانوا هم الغالبين) فلابدّ من تهييج الساحة للمساعدة في هزيمة عدو الالهة إلى الأبد.

وواضح أنّ وجود المتفرجين كلّما كان أكثر شدّ من أزر الطرف المبارز، وكان مدعاةً لأن يبذل أقصى جهده، كما أنه يزيد من معنوياته وعندما ينتصر الطرف المبارز يستطيع أن يثير الصخب والضجيج إلى درجةً يتوارى بها خصمه، كما أن وجود المتفرجين الموالين بإمكانه أن يضعف من روحيّة الطرف المواجه «الخصم» فلا يدعه ينتصر!

أجل إن اتباع فرعون بهذه الآمال كانوا يرغبون أن يحضر الناس، كما أنّ موسى(عليه السلام) كان يطلب ـ من الله ـ أن يحضر مثل هذا الجمع الحاشد الهائل! ليبيّن هدفه بأحسنِ وجه.

كل هذا من جهة، ومن جهة أُخرى كان السحرة يحلمون بالجائزة من قبل فرعون (فلما جاء السحرة قالوا لفرعون ءَإنّ لنا لأجراً إن كنّا نحن الغالبين)...

وكان فرعون قلقاً مضطرب البال، لأنّه في طريق مسدود، وكان مستعدّاً لأن

]369]

يمنح السحرة أقصى الإمتيازات، لذلك فقد أجابهم بالرضا و (قال نعم وإنّكم إذاً لمن المقرّبين). اي إن فرعون قال لهم: ما الذي تريدون وتبتغون؟! المال أم الجاه، فكلاهما تحت يديّ!...

وهذا التعبير يدلُّ على أن التقرب من فرعون في ذلك المحيط كان مهمّاً إلى درجة قصوى! بحيث يذكره فرعون للسحرة ويعدّه أجراً عظيماً، وفي الحقيقة لا أجر أعظم من أن يصل الإنسان إلى مقربة من القدرة المطلوبة!...

فإذا كان الضالّون يعدّون التقرب من فرعون أعظم أجر، فإنّ عباد الله  لا يرون أجراً أعظيم من التقرب الى الله تعالى حتى الجنّة بما فيها من النعيم المقيم لا تقاس بنظرة من وجهه الكريم لهم!...

ولذلك فإنّ الشهداء في سبيل الله الذين ينبغي أن ينالوا أعظم الأجر لإيثارهم الكبير، ينالون التقرب من الله بشهادة القرآن! والتعبير القرآني (عند ربّهم) شاهد بليغ على هذه الحقيقة!...

وكذلك فإنّ المؤمن السليم القلب حين يؤدي العبادة الله، يؤديها بهدف «قربة الى الله»...

 

* * *

[370]

 

 

الآيات

 

قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُم مُّلْقُونَ(43) فَأَلْقَواْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بَعَزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَـلِبُونَ(44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(45) فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَـجِدِينَ (46)قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبِّ الْعَـلَمِينَ(47) رَبِّ مُوسَى وَهَـرونَ(48) قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لاَُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُم وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خَلَـف وَلاَُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ(49) قَالوُاْ لاَضَيْرَ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (50)إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا ربُّنَا خَطَـيَنآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ(51)

 

التّفسير

نور الإيمان في قلوب السَحَرَةَ:

حين اتفق السحرة مع فرعون ووعدهم بالأجر والقرب منه، وشدّ من عزمهم، فإنّهم بدأوا بتهيئة المقدمات ووفروا خلال ماسخت لهم الفرصة عصيّهم وحبالهم، ويظهر أنّهم صيّروها جوفاء وطلوها بمادة كيميائية كالزئبق ـ مثلا ـ بحيث تتحرك

[371]

وتلمع عند شروق الشمس عليها!

وأخيراً كان اليوم الموعود والميقات المعلوم، وانثال الناس إلى ساحة العرض ليشهدوا المبارزة التاريخيّة، ففرعون وقومه من جانب، والسحرة من جانب آخر، وموسى وأخوه هارون من جانب ثالث، كلهم حضروا هناك!

وكعادة القرآن في حذف المقدمات المفهومة من خلال الآيات المذكورة، والشروع بذكر أصل الموضوع، فيتحدّث عن مواجهة موسى للسحرة حيث التفت إليهم و: (قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون).

ويستفاد من الآية (115) من سورة الأعراف، أنّ موسى(عليه السلام) قال ذلك عندما سأله السحرة: هل تلقي أنت أوّلا أم نلقي نحن أوّلا؟

وهذا الإقتراح من قبل موسى(عليه السلام) يدلّ أنّه كان مطمئناً لانتصاره، ودليلا على هدوئه وسكينته أمام ذلك الحشد الهائل من الأعداء وأتباع فرعون... كان هذا الإقتراح يُعدّ أوّل «ضربة» يدمغ بها السحرة، ويبيّن فيها أنه يتمتع بالهدوء النفسي الخاص، وأنّه مرتبط بمكان آخر ومتصل به.

وأمّا السحرة الغارقون بغرورهم، والذين بذلوا أقصى جهودهم لانتصارهم في هذا «الميدان»، فقد كانوا مستعدين ومؤمّلين لأن يغلبوا موسى(عليه السلام) (فألقوا حبالهم وعصيّهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون).(1)

أجل، لقد استندوا إلى عزّة فرعون كسائر المتملقين، وبدأوا باسمه وقدرته الواهية!

وهنا ـ كما يبيّن القرآن في مكان آخر من سورة وآياته ـ تحركت العصيُّ كأنّها الأفاعي والثعابين و (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى).(2)

وقد انتخب السحرة العصي كوسائل لسحرهم، لتتغلّب حسب تصوّرهم على

_____________________________

 

1 ـ «الحبال»

جمع «حبل»

على وزن (طبل) ومعناها واضح، والعصي جمع العصا.

2 ـ سورة طه، الآية 66.

[372]

عصى موسى، وأضافوا عليها الحبال ليثبتوا علوّهم وفضلهم عليه...

فتهللت أسارير وجوه الناس ووجه فرعون فرحاً، وأشرق الأمل في عيني فرعون وأتباعه، وسُرّوا سروراً لم يكن ليخفى على أحد، وسرت فيهم نشوة اللّذة من هذا المشهد!

إلاّ أنّ موسى(عليه السلام) لم يمهل الحاضرين ليستمر هذا المشهد ويدوم هذا الفصل المثير، فتقدم (فألقى موسى عصاه) فتحولت الى ثعبان عظيم وبدأت بالتهام وسائل وادوات السحرة بسرعة بالغة (فإذا هي تلقفُ ما يأفكون).(1)

وهنا طاف صمت مهيب على وجوه الحاضرين وغشّاهم الوجوم وفغرت الأفواه من الدهشة والعجب، وجمدت العيون، ولكن سرعان ما انفجر المشهد بصراخ المتفرجين المذعورين ففر جماعة من مكانهم وبقي آخرون يترقبون نهاية المشهد، وأفواه السحرة فاغرة من الدهشة...

و تبدّل كل شيء، وثاب السحرة إلى رشدهم بعد أن كانوا ـ إلى تلك اللحظة ـ مع فرعون غارقين في الشيطنة، ولأنّهم كانوا عارفين بقضايا السحر ودقائقه، فإنّهم تيقنوا أن عصا موسى لم تكن سحراً، بل هي معجزة إلهية كبرى (فأُلقي السحرة ساجدين).

الطريف أنّ القرآن يعبر عن خضوع السحرة بـ «أُلقي» وهذا التعبير إشارة إلى منتهى التأثير وجاذبية معجزة موسى لهم، حتى كأنّهم سقطوا على الأرض وسجدوا دون اختيارهم...

واقترن هذا العمل العبادي ـ وهو السجود ـ بالقول بلسانهم فـ (قالوا آمنا بربّ العالمين).

ولئلا يبقى مجالُ للإبهام والغموض والتردد، ولئلا يفسر فرعون ذلك تفسيراً

_____________________________

 

1 ـ (تلقف)

مشتق من (اللقف)

على زنه (السقف) ومعناه إمساك الشيء بسرعة، سواء كان ذلك باليد أم الفم، ومعلوم أن المراد هنا الإِمساك بالفم والإبتلاع، و (يأفكون)

مشتق من (الإفك)

ومعناه الكذب، وهي إشارة إلى وسائلهم الباطلة.

[373]

آخر فإنّهم قالوا: (ربّ موسى وهارون).

وهذا التعبير يدّل على أنّه وإن كان موسى(عليه السلام) متكفلاً لأمر المبارزة وإلقاء العصا ومحاججة السحرة، إلاّ أنّ أخاه هارون كان يعاضده في الأمر، وكان مستعداً لتقديم أي عون لأخيه.

وهذا التبدل والتغيّر المفاجيء العجيب في نفوس السحرة بحيث خطوا في لحظة واحدة من الظلمة المطلقة إلى النور المبين. ولم يكتفوا بذلك حتى أقحموا انفسهم في خطر القتل، وأعرضوا عن مغريات فرعون ومصالحهم المادية... كلّ ذلك لما كان عندهم من «علم» استطاعوا من خلاله أن يتركوا الباطل ويتمسكوا بالحقّ!

إنّهم لم يجوبوا باقي الطريق بخطى العقل فحسب، بل ركبوا خيول العِشْقِ، وقد سكروا من عطر أزهاره، حتى كأنّهم لم يفيقوا من سكرتهم، وسنرى أنّهم لِهذا السبب استقاموا بشجاعة أمام تهديدات فرعون الرهيبة...

نقرأُ حديثاً عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «ما من قلب إلاّ بين إصبعين من أصابع الرحمان، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه»(1) (وبديهي أن مشيئة الله في هاتين المرحلتين تتعلق باستعداد الإنسان، وهذا التوفيق أو سلب التوفيق إنّما هو لأجل قابلية القلوب المختلفة، وليس اعتباطاً).

أمّا فرعون، فحيث وجد نفسه مهزوماً معنوياً ويرى من جانب آخر أن وجوده وسلطانه في خطر، وخاصّة أنه كان يعرف أيّ تأثير عميق لإيمان السحرة في قلوب سائر الناس، ومن الممكن أن يسجد جماعة آخرون كما سجد السحرة، فقد تذرع بوسيلة جديدة وابتكار ماكر، فالتفت إلى السحرة و(قال آمنتم به قبل أن آذن لكم).(2)

_____________________________

 

1 ـ تفسير في ظلال القرآن، ج 6، ص 208 .

2 ـ جاء التعبير في هذه الآية والآية (71) من سورة طه بـ (آمنتم له)

وجاء التعبير في الآية (123) من سورة الأعراف (آمنتم به)

وكما يقول أصحاب اللغة: إن الإيمان إذا تعدى باللام فإنه يعني الخضوع، وإذا تعدى بالباء فإنه يعني التصديق!

[374]

لقد تربع على عرش الإستبداد سنين طوالا، ولم يكن يترقب من الناس أن لا يسجدوا أو يقوموا بعمل دون إذنه فحسب، بل كان ترقُّبه أن تكون قلوب الناس وأفكارهم مرهونةً به وبأمره، فليس لهم أن يفكّروا دون اذنه!! وهكذا هي سنة الجبابرة والمستكبرين!.

هذا المغرور الطائش لم يكن مستعدّاً لأن يذكر اسم الله ولا اسم موسى، بل اكتفى بالقول (آمنتم له)! والمراد من هذا التعبير هو التحقير!!

إلاّ أن فرعون لم يقنع بهذا المقدار، بل أضاف جملتين أُخريين ليُثّبت موقعه كما يتصوّر أوّلا، وليحول بين أفكار الناس اليقظين فيعيدهم غفلةً نياماً.

فإتهم السحرة أوّلا بأنّهم تواطؤوا مع موسى(عليه السلام) وتآمروا على أهل مصر جميعاً، فقال: (إنّه لكبيركم الذي علمكم السحر).

وقد اتفقتم مع موسى من قبل أن تردوا هذه الساحة، فتضلوا أهل مصر وتجرّوهم إلى الخضوع تحت سيطرة حكومتكم; وتريدون أن تطردوا أصحاب هذا البلد وتخرجوهم من ديارهم وتُحلّوا العبيد محلهم...

إلاّ أنني لا أدعكم تنتصرون في هذه المؤامرة، وسأخنق المؤامرة في مهدها (فلسوف تعلمون لأُقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ولاُصلبنكم أجمعين).

أي: لا أكتفي بإعدامكم فحسب، بل أقتلكم قتلاً بالتعذيب والزجر بين الملأ العام، وعلى جذوع النخل، (لأن قطع الأيدي والأرجل من خلاف يؤدي إلى الموت البطيء، فيذوق معه الإنسان التعذيب أكثر).

وهذه هي طريقة الجبابرة والحكّام الظلمة في كل عصر وزمان، ففي البدء يتهمون الرجال المصلحين بالتآمر ضد الناس، وبعد الإستفادة من حربة التهمة يعملون السيف في رقاب ليضعف موقع المطالبين بالحق ولا يجدوا معاضداً لهم، فيزيحوهم من طريقهم.

إلاّ أن فرعون لم يحقق هدفه هنا، لأن السحرة قبل لحظة ـ والمؤمنين في هذه

[375]

اللحظة ـ قد غمر قلوبهم الإيمان، وأضرمهم عشق الله; بحيث لم يهزّهم تهديد فرعون، فأجابوه بضرس قاطع واحبطوا خطته و (قالوا لا ضير إنا إلى ربّنا منقلبون).

فأنت بهذا العمل لا تنقص منّا شيئاً، بل توصلنا إلى معشوقنا الحقيقي والمعبود الواقعي، فيوم كانت هذا التهديدات تؤثر فينا لم نعرف أنفسنا ولم نعرف ربّنا، وكنّا، ضالين مضلين، إلاّ أنّنا عثرنا اليوم على ضالتنا (فاقض ما أنت قاض)!

ثمّ أضافوا بأنّهم واجهوا النّبي موسى(عليه السلام) من قبل بالتكذيب وأذنبوا كثيراً، ولكن مع ذلك فـ (إنا نطمع أن يغفر لنا ربّنا خطايانا أن كنا أوّل المؤمنين)...

إنّنا لا نستوحش اليوم من أي شيء، لا من تهديداتك، ولا من تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ولا من الصلب على جذوع النخل.

وإذا كنّا نخاف من شيء، فإنّما نخاف من ذنوبنا الماضية، ونرجوا أن تمحى في ظل الإيمان وبفضل الله ولُطْفهِ!

أية طاقة وقوّة هذه التي إن وُجدت في الإنسان صغرت عندها أعظم القوى، وهانت عنده أشد الأُمور، وكرمت نفسه بسخاء في موقف التضحية والإيثار؟!

إنّها قوّة الإيمان.

إنّها شعلة العشق النيرة، التي تجعل الشهادة في سبيل الله أحلى من الشهد والعسل، وتصيّر الوصال إلى المحبوب أسمى الأهداف!

هذه هي القوّة التي استعان بها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وربّى المسلمين الأوائل عليها، وأوصل أمة جهلاءَ متأخرة إلى أوج الفخر بسرعة مذهلة، فكانت الأُمة المسلمة التي اذهلت الدنيا!

إلاّ أن هذا المشهد ـ على كل حال ـ كان غالياً وصعباً على فرعون وقومه، بالرغم من أنّه طبّق تهديداته ـ طبقاً لبعض الروايات ـ فاستشهد على يديه السحرة المؤمنون ـ إلاّ أن ذلك لم يطفىء عواطف الناس تجاه موسى فحسب، بل أثارها

[376]

أكثر فأكثر!...

ففي كل مكان كانت اصداء النّبي الجديد... وفي كل حدب وصوب حديث عن أوائل الشهداء المؤمنين، وهكذا آمن جماعة بهذا النحو، حتى أن جماعة من قوم فرعون وأصحابه المقربين حتى زوجته، آمنوا بموسى ايضاً.

وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو: كيف عبر السحرة التائبون المؤمنون عن أنفسهم بأنّهم أوّل المؤمنين...

هل كان مرادهم أنّهم أوّل المؤمنين في ذلك المشهد؟!

أو كان مرادهم أنّهم أوّل المؤمنين من حماة فرعون؟!

أو أنّهم أوّل المؤمنين الذين وردوا «الشهادة».

كل هذه الأُمور محتملة، ولا تتنافى في مابينها.

وهذه التفاسير إنّما تصحّ في صورة ما لو قلنا بأنّ جماعة من بني إسرائيل أو من غيرهم آمنوا بموسى قبل ذلك، أما لو قلنا بأنّهم أمروا بعد البعثة أن يتصلوا بفرعون مباشرةً وأن يوردوا الضربة الأُولى عليه، فلا يبعد أن يكونوا أول المؤمنين،  ولا حاجة عندئذ إلى تفسير آخر.

 

* * *

[377]

 

 

الآيات

 

وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (52)فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِى الْمَدَآئِنِ حـشِرِين(53) إنَّ هَـؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ(54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ(55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـذِرُونَ (56)فَأَخْرَجْنَـهُم مِّن جَنَّـت وَعُيُون(57) وَكُنُوز وَمَقام كَريم (58)كَذَلِكَ وَأَورَثْنَـهَا بَنِى إِسْرءِيلَ(59)

 

التّفسير

مصير الفراعنة:

في الآيات المتقدمة... رأينا كيف أنّ موسى خرج منتصراً من تلك المواجهة. رغم عدم إيمان فرعون وقومه إلاّ أن هذه القضية كان لها عدة آثار مهمّة، يعدُّ كلٌ منها انتصاراً مهمّاً:

1 ـ آمن بنو إسرائيل بنبيّهم «موسى(عليه السلام)» والتفّوا حوله بقلوب موحّدة... لأنّهم بعد سنوات طوال من القهر والتعسف والجور يرون نبيّاً سماوياً في أوساطهم يضمن هدايتهم وعلى استعداد لأنّ يقود ثورتهم نحو الحرية وتحقيق النصر على فرعون..

[378]

2 ـ لقد شقّ موسى(عليه السلام) طريقة وسط أهل مصر من الأقباط وغيرهم... ومال إليه جمع منهم، أو على الأقل خافوا من مخالفته، وطافت أصداء دعوة موسى في أرجاء مصر جمعاء!

3 ـ وأهمّ من كل ذلك أنّ فرعون لم ير في نفسه القدرة ـ لا من جهة أفكار عامّة الناس، ولا من جهة الخوف على مقامة ـ على مواجهة رجل له عَصَا كهذه العصا، ولسان مؤثر كلسان موسى.

هذه الأُمور هيأت أرضية ملائمة لأن ينشر موسى(عليه السلام) دعوته بين الناس، ويتمّ الحجة عليهم!

ومرّت سنون طوال على هذا المنوال، وموسى(عليه السلام) يظهر المعاجز تلو المعاجز ـ كما أشارت إليها سورة الأعراف وبينّاها في ذيل الآيات 130 ـ 135 منها ـ إلى جانب منطقه المتين، حتى ابتلى الله أهل مصر بالقحط والجذب لسنوات لعلهم يتّقون «لمزيد الإيضاح لا بأس بمراجعة تفسير الآيات آنفة الذكر»...

ولمّا أتمّ موسى على أهل مصر الحجة البالغة، وامتازت صفوف المؤمنين من صفوف المنكرين، نزل الوحيُ على موسى أن يخرج بقومه من مصر، والآيات التالية تجسد هذا المشهد فتقول أوّلا: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي أنّكم متبعون).

وهذه خطة إلهية على موسى(عليه السلام) أن يمتثلها ويسري بقومه ليلا، وإنّ على فرعون وقومه أن يعلموا ذلك فيتبعوهم ليحدث ما يحدث بأمر الله.

والتعبير بـ «عبادي» بضمير الإفراد، مع أن الفعل (أوحينا) في الجملة ذاتها مسند إلى ضمير الجمع، إنّما هو لبيان منتهى محبة الله لعباده المؤمنين...

وفعلا امتثل موسى(عليه السلام) هذا الأمر، وعبأ بني إسرائيل بعيداً عن أعين أعدائهم، وأمرهم بالتحرك، واختار الليل خاصّة لتنفيذ أمر الله لتكون خطته نافذة.

إلاّ أن من البديهي أن حركة جماعة بهذا الشكل ليس هيناً يسيراً يمكن

[379]

إخفاؤه لزمان طويل، فما كان أسرع أن رفع جواسيس فرعون هذا الخبر إليه، وكما يحدثنا القرآن عن ذلك أن فرعون أرسل رسله وأعوانه الى المدن لجمع القوات: (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين).

بالطبع فإنّ في تلك الظروف، وصول إبلاغ فرعون إلى المدائن، وجميع مناطق مصر، يحتاج إلى زمان معتنى به لكن من الطبيعي أن يصل هذا البلاغ المدن القريبة بسرعة وتتحرك القوى المعدّة فوراً، وتؤدي مقدمة الجيش مهمّتها، وتتبعها بقية الأفواج بالتدريج...

ولتعبئة الناس ـ ضمناً ـ وتهيئة الأرضية لإثارتهم ضد موسى وقومه، أمر فرعون أن يُعلَن (إنّ هؤلاء لشرذمة قليلون).

فبناء على ذلك فنحن منتصرون عند مواجهتنا لهذه الفئة القليلة حتماً.

و «الشرذمة» في الأصل تعني القلة من الجماعة، كما تعني ما تبقى من الشيء، ويطلق على اللبوس الممزق الخلق «شراذم»، فبناءً على هذا يكون المعنى أنّ هؤلاء «أي موسى وقومه» بالإضافة إلى أنّهم قليلون فهم متفرقون، فكأن فرعون، بهذا التعبير أراد أن يجسم عدم انسجام بني إسرائيل من حيث أعداد الجيش فيهم...

ثمّ تضيف الآية الأُخرى حاكية عن لسان فرعون (وإنّهم لنا لغائظون) فمن يسقي مزارعنا غداً، ومن يبنى لنا القصور؟ ومن يخدم في البيوت والقصور غيرهم؟!

ثمّ إنّا من مؤامرتهم يجب أن نكون على حذر سواء أقاموا أم رحلوا: (وإنا لجميع حاذرون) ومستعدون جميعاً لمواجهتهم.

وقد فسّر بعضهم «حاذرون» على أنها من الحذَر، بمعنى الخوف والخشية من التآمر، وفسّر بعضهم (حاذرون) على أنها من الحذِر، بمعنى الفطنة والتهيؤ من حيث السلاح والقوّة. إلاّ أن هذين التّفسيرين لا منافاة بينهما، فربّما كان فرعون

[380]

وقومه قلقين من موسى ومستعدين لمواجهته أيضاً.

ثمّ يذكر القرآن النتيجة الإجمالية لعاقبة فرعون وقومه وزوال حكومته، وقيام حكومة بني إسرائيل، فيقول: (فأخرجناهم من جنات وعيون... وكنوز ومقام كريم).

أجل (كذلك وأورثناها بني إسرائيل).

وهناك اختلاف بين المفسّرين في المراد من كلمة (مقام كريم)، فقال بعضهم بأنّها القصور المجللة والمساكن المظللة...

وقال بعضهم بأنّها المجالس المنعقدة بالحبور والسرور والنشاط.

وقال بعضهم: المراد مقام الحكام والأمراء، الذين يجلسون على كراسيهم ومن حولهم أتباعهم وجنودهم يمتثلون أوامرهم...

وقال بعضهم: بل يعني المنابر التي كان يصعدها الخطباء «المنابر التي كانت لصالح فرعون وحكومته وجهازه فهي بمثابة أبواق إعلام له».

وبالطبع فإن المعنى الأوّل أنسب من الجميع كما يبدو، رغم أن هذه المعاني غير متباينة ومن الممكن أن تجتمع هذه المعاني جميعاً في مفهوم الآية... فالمستكبرون (فرعون وقومه) أخرجوا من قصورهم وحكومتهم وموقعهم وقدرتهم، كما أخرجوا من مجالسهم المنعقدة بالحبور والسرور.

* * *

 

ملاحظتان

1 ـ هَلْ حكمَ بنُو إسرائيلَ في مصرَ؟!

على أساس تعبير الآيات المتقدمة (كذلك وأورثناها بني اسرائيل)... فإنّ جمعاً من المفسّرين يعتقدون أن بني إسرائيل عادوا إلى مصر وسيطروا على

[381]

الحكم، ومكثوا في مصر حاكمين مدّة.(1)

وظاهر الآيات المتقدمة يناسب هذا التّفسير.

في حين أن بعض المفسّرين يعتقد أن بني إسرائيل تحركوا نحو بيت المقدس بعد هلاك فرعون وأتباعه، إلاّ أنّهم بعد مدّة مديدة رجعوا إلى مصر وشكلوا فيها حكومتهم.(2)

وتتطابق فصول التوراة الحالية المتعلقة بهذا القسم مع هذا التّفسير.

ويعتقد بعض آخر من المفسّرين أن بني إسرائيل صاروا جماعتين أو فئتين، فجماعة منهم بقيت في مصر وحكمت فيها، وتحركت جماعة منهم مع موسى نحو بيت المقدس.

وذكر احتمال آخر، وهو أن بني إسرائيل حكموا مصر بعد موسى(عليه السلام) وفي زمان النّبي سليمان بن داود، والآية (كذلك وأورثناها بني إسرائيل) ناظرة إلى هذا المعنى!

إلاّ أنّه مع ملاحظة أن موسى(عليه السلام) نبي ثائر كبير، فمن البعيد جدّاً أن يترك هذه الأرض التي تهاوت أركان حكومتها وقد اصبحت مقاليد اُمورها بيده فيذرها كلياً دون أن يخطط لها خطة ويتجه نحو فلسطين وبيت المقدس والصحاري الشاسعة، ولا سيما أن بني إسرائيل قد سكنوا مصر لسنين طوال، وتعودوا على محيطها، فبناءً على هذا لا يخرج الأمر من أحد حالين... أمّا أن نقول: إن بني إسرائيل عادوا جميعاً إلى مصر وحكموا فيها، أو أن نقول: إن قسماً منهم بقوا في مصر بأمر موسى(عليه السلام) واستولوا على العرش وحكموا في مصر!... وفي غير هاتين الحالين  لا يتجلّى مفهوم لاخراج الفراعنة منها ووراثة بني اسرائيل لها...

_____________________________

 

1 ـ راجع مجمع البيان والقرطبي: ذيل الآيات محل البحث، كما أن الألوسي فسّر هذا الموضوع في روح المعاني تفسيراً يستحق النظر!.

2 ـ روح المعاني ذيل الآيات محل البحث.

[382]

2 ـ ترتيب الآيات

يشرح القرآن فيما يأتي من الآيات كيفية غرق فرعون واتباعه، وهذا الأمر يدعو إلى التساوءل: كيف يذكر القرآن إخراج فرعون وقومه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم وإيراثه «ذلك» بني إسرائيل! ثمّ يذكر كيفية غرق فرعون وقومه؟ مع أن الترتيب الطبيعي للآيات ليس كذلك...

هذا الأمر ربّما يكون من قبيل بيان الإجمال ثمّ التفصيل، أي أن القرآن ذكر الموضوع أوّلا بصورة مجملة، ثمّ وضحه في الآيات الاُخَر!

كما يمكن أن يكون من قبيل ذكر النتيجة، ثمّ شرح المقدمات «فتدبر».

 

* * *

[383]

 

 

الآيات

 

فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ(60)فَلَمَّا تَرَءا الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـبُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61) قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ(62) فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْق كَالَّطوْدِ العَظِيمِ(63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاَْخَرِينَ(64) وَأَنجيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ(65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاَْخَرِينَ(66) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(67) وَإِنَّ رَبِّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(68)

 

التّفسير

عاقبة فرعون وأتباعه الوخيمة

في هذه الآيات يبرز المشهد الأخير من قصّة موسى وفرعون، وهو كيفية هلاك فرعون وقومه، ونجاة بني إسرائيل وانتصارهم!

وكما قرأنا في الآيات المتقدمة فإنّ فرعون أرسل المدائن حاشرين، وهيأَ مقداراً كافياً من «القوّة» والجيش، قال بعض المفسّرين: كان ما أرسله فرعون على أنّه مقدمة الجيش ستمائة ألف مقاتل، وتبعهم نفسه بألف ألف مقاتل «أي

[384]

مليون».(1)

تحركوا في جوف الليل ليدركوهم بسرعة، فبلغوهم صباحاً كما تقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: (فاتبعوهم مشرقين(2) فلمّا تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لمدركون).

فأمامنا بحر خضم متلاطم بالأمواج، ومن ورائنا بحر من الجيوش المتعطشة للدماء بتجهيزاتها الكاملة... هؤلاء الغاضبون علينا وهم الذين قتلوا أطفالنا الأبرياء سنين طوالا... وفرعون نفسه رجل دموي جبار... فعلى هذا سيحاصروننا بسرعة، ويقتلوننا جميعاً بحدّ السيوف، أو سيأسروننا ويعذبوننا، والقرائن جميعها تدل على ذلك.

وهنا مرّت لحظات عسيرة على بني إسرائيل... لحظات مُرّة لايمكن وصف مرارتها... ولعل جماعة منهم تزلزل إيمانهم وفقدوا معنوياتهم وروحياتهم.

إلاّ أنّ موسى(عليه السلام) كان مطمئناً هادىء البال، وكان يعرف أن وعد الله في هلاك فرعون وقومه ونجاة بني إسرائيل لايتخلف أبداً ولن يخلف الله وعده رسله!...

لذلك التفت إلى بني إسرائيل الفزعين بكمال الإطمئنان والثقة و (قال كلاّ إن معي ربّيْ سيهدين).

ولعلّ هذا التعبير يشير إلى وعد الله لموسى وأخيه هارون حين أمرهما بإنذار قومهما، إذ قال لهما: (إنّي معكما أسمع وأرى).(3)

إذ كان موسى يعلم أن الله معه في كل مكان، وخاصّة تعويله في كلامه على كلمة (ربّي) أي الله المالك والمربّي هذا يدل على أنّ موسى(عليه السلام) كان يدري أنّه

_____________________________

 

1 ـ كلمة مليون وأخواتها (مليار، بليون الخ) من مصطلحات العصر وهي غير عربية، وكان العرب يقولون ألف ألف.

2 ـ قال بعض المفسّرين: المراد من «مشرقين»، أن بني اسرائيل ساروا نحو الشرق، واتّباع فرعون وقومه بالإتجاه نفسه، لأنّ بيت المقدس يقع شرق مصر!

3 ـ سورة طه، الآية 46.

[385]

 لا يطوي هذا الطريق بخطاه، بل بلطف الله القادر الرحيم...

وفي هذه الحال التي قد يكون البعض سمعوا كلامه دون أن يصدقوه، وكانوا ينتظرون آخر لحظات حياتهم، صدر أمر الله كما يقول القرآن: (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر...).

تلك العصا التي هي في يوم آية إنذار، وفي يوم آخر آية رحمة ونجاة!

فامتثل موسى(عليه السلام) أمر ربه فضرب البحر، فإذا أمامه مشهد رائع عجيب، تهللت له أسارير وجوه بني إسرائيل، إذا انشقَّ البحر (فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم)!

و «انفلق» مأخوذ من «الفَلَق» ومعناه الإنشقاق و «فَرَقَ» من مادة «فرْق» على زنة «حلق» ومعناه الإنفصال!

وبتعبير آخر، كما يقول الراغب في مفرداته: أن الفرق بين (فلق) و (فرق) هو أن الأوّل يشير إلى الإنشقاق (أو الإنشطار) والثّاني يشير إلى الإنفصال، ولذا تطلق الفرقة والفِرَق على القطعة أو الجماعة التي انفصلت عن البقيّة!...

«الطود» معناه الجبل العظيم، ووصف الطود بالعظمة في الآية تأكيد آخر على معناه.

وعلى كل حال، فإنّ الله الذي ينفذ أمره في كل شيء، وبأمره تموج البحار وتتصرف الرياح وتتحرك العواصف وكل شيء في عالم الوجود من رشحات فضله وقدرته أصدر أمره الى البحر، وأمواجه، فالتحمت الأمواج وتراكمت بعضها إلى بعض، وظهرت ما بينها طُرُق سالكة، فمرّتْ كل فرقة من بني إسرائيل في إحدى الطرق!

إلاّ أنّ فرعون وأتباعه بالرغم من مشاهدتهم هذه المعجزة الكبرى الواضحة لم يذعنوا للحق، ولم ينزلوا عن مَركبِ غرورهم، فاتبعوا موسى ورهطه ليبلغوا مصيرهم المحتوم، كما يقول القرآن في هذا الشأن: (وأزلفنا ثمّ الآخرين)...

]386]

وهكذا ورد فرعون وقومه البحر أيضاً، واتبعوا عبيدهم القدماء الذين استرقّوهم بطغيانهم، وهم غافلون عن أن لحظات عمرهم تقترب من النهاية، وأن عذاب الله سينزل فيهم!

وتقول الآية التالية: (وأنجينا موسى ومن معه أجمعين).

وحين خرج آخر من كان من بني إسرائيل من البحر، ودخل آخر من كان من أتباع فرعون البحر، صدر أمر الله فعادت الأمواج إلى حالتها الأُولى فانهالت عليهم فجأةً، فهلك فرعون وقومه في البحر، وصار كل منهم كالقشّة في وسط الأمواج المتلاطمة.

ويبيّن القرآن هذه الحالة بعبارة موجزة متينة فيقول: (ثمّ أغرقنا الآخرين)...

وهكذا انتهى كل شيء في لحظة واحدة... فالأرقاء أصبحوا أحراراً، وهلك الجبابرة، وانطوت صفحة من صفحات التأريخ، وانتهت تلك الحضارة المشيدة على دماء المستضعفين، وورث الحكومة والمُلكَ المستضعفون بعدهم.

أجل (إنّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) فكأنّ في أعينهم عمىً، وفي آذانهم وقراً، وعلى قلوب أقفالا.

فحيثُ لا يؤمن فرعون وقومه مع ما رأوا من المشاهد العجيبة، فلا تعجبُ إذاً ألاّ يؤمن بك المشركون ـ يا محمد ـ ولا تحزن عليهم لعدم إيمانهم، فالتاريخ ـ يحمل بين طياته وثناياه كثيراً من هذه المشاهد!

والتعبير بـ «أكثرهم» إشارة إلى أن جماعة من قوم فرعون آمنوا بموسى والتحقوا بأصحابه، لا آسيةُ امرأة فرعون فحسب، ولا رفيق موسى المخلص المذكور في القرآن على أنه مؤمن من آل فرعون، بل آخرون أيضاً كالسحرة التائبين مثلا.

أمّا آخر آية من هذه الآيات فتشير في عبارة موجزة وذات معنى غزير إلى قدرة الله ورحمته المطلقة واللامتناهية، فتقول: (وإن ربّك لهو العزيز الرحيم).

[387]

فمن عزته أنه متى شاء أن يهلك الأمم المسرفة الباغية أصدر أمره فأهلكها، ولا يحتاج أن يرسل جنوداً من ملائكة السماء لإهلاك أُمة جبّارة... فيكفي أن يهلكها بما هو سبب حياتها، كما أهلك فرعون وقومه بالنيل الذي كان أساس حياتهم وثروتهم وقدرتهم، فإذا هو يقبرهم فيه!!

ومن رحمته أنّه لا يعجل في الأمر أبداً، بل يمهل سنين طوالا. ويرسل معاجزه إتماماً للحجة، ومن رحمته أن يخلص هؤلاء المستعبدين من قبضة الجبابرة الظالمين.

* * *

 

مسائل مهمة:

1 ـ معبر بني إسرائيل!

ورد التعبير في القرآن مراراً عن موسى أنه عبر بقومه «البحر»(1) كما جاء في بعض الآيات لفظ «اليمّ» بدلا من البحر.(2)

والآن ينبغي أن نعرف ما المراد من «البحر» و «اليم» هنا، أهو إشارة إلى النهر الكبير الواسع في مصر، النيل الذي يروي جميع أراضيها؟ أم هو إشارة إلى البحر الأحمر «المعروف ببحر القلزم في بعض المصطلحات»؟

يستفاد من التوراة الحالية ـ وكذلك من كلمات بعض المفسّرين ـ أنه إشارة إلى البحر الأحمر... إلاّ أن القرائن الموجودة والمتوفرة تدل على أنّ المراد منه هو نهر النيل، لأن «البحر» كما يقول الراغب في مفرداته يعني في اللغة الماء الكثير الواسع، واليم بهذا المعنى أيضاً. فلا مانع إذاً من إطلاق الكلمتين على نهر النيل.

وأمّا القرائن المؤيدة لهذا الرأي فهي:

_____________________________

 

1 ـ اقرأ في سورة «يونس: الآية 90 ـ وطه الآية 77 ـ والشعراء الآية 63، والآية محل البحث أيضاً.

 

2 ـ اقرأ سورة طه الآية 78 ـ والقصص الآية 40 ـ والذاريات الآية 40.

[388]

1 ـ أنّ منطقة سكن الفراعنة التي كانت مركزاً لمدن مصر العامرة كانت نقطة قريبةً من النيل حتماً... وإذا أخذنا بنظر الإعتبار معيار محلهم الفعلي «الأهرام» أوما حولها، فإنّ بني إسرائيل لابدّ لهم أن يعبروا نهر النيل ليصلوا إلى الأرض المقدسة، لأن هذه المنطقة تقع غرب النيل ولابدّ لهم من أن يتجهوا نحو الشرق للوصول إلى الأرض المقدسة! «فلاحظوا بدقة»!

2 ـ أنّ الفاصلة بين المناطق العامرة(1) من مصر والتي هي قريبة من النيل بالطبع، بعيدة عن البحر الأحمر بحيث لا يمكن أن تُطوى المسافة بينها وبين البحر بليلة أو نصف ليلة...

ويستفاد من الآيات المتقدمة بوضوح أن بني إسرائيل غادروا أرض الفراعنة ليلا، وطبيعي أن تكون المغادرة في الليل. أمّا فرعون وجيشه فقد اتبعوهم حتى بلغوهم مشرقين «عند الصباح».

3 ـ لم تكن حاجة ليعبر بنو إسرائيل البحر الأحمر حتى يصلوا الأرض المقدسة، إذ كانت هناك منطقة يابسة ضيقة قبل حفر ترعة السويس «أو ما يصطلح عليها بقناة السويس»... إلاّ أن نفترض أن البحر الأحمر كان متصلا بالبحر الأبيض المتوسط في الزمن السابق، ولم تكن هناك منطقة يابسة، وهذا الفرض غير ثابت بأيّ وجه!...

4 ـ يُعبّر القرآن عن قصة موسى بإلقائه في «اليم» «من قِبَلِ أُمه» الآية 39 من سورة طه، كما يعبر عن غرق فرعون وأتباعه بقوله: (فغشيهم من اليم ما غشيهم)الآية 78 من السورة ذاتها. وكلتا القضيتين في قصة واحدة وسورة واحدة أيضاً (طه) وكون اللفظين مطلقين ـ (اليم) في الآية السابقة و(اليم) في الآية اللاحقة ـ يُشعر بأنّهما واحد... ومع ملاحظة أن أمّ موسى لم تلق موسى في

_____________________________
 
1 ـ العامرة هنا اسم فاعل بمعنى المفعول أي المعمورة.

[389]

البحر الأحمر قطعاً، بل ألقته في النيل طبقاً لما تذكره التواريخ، فيعلم أن غرق فرعون وقومه كان في النيل «فلاحظوا بدقّة».

 

2 ـ كيفية نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون وقومه

هناك بعض المفسّرين ممن لا يميل إلى كون نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون وقومه معجزةً، بل حادثة طبيعية، كما يصرّون على ذلك، فوجّهوا ذلك كله بأسباب طبيعية،.

لذلك قالوا: إنّ هذا الموضوع يمكن تطبيقه بواسطة الجسور المتحركة المستعملة في العصر الحديث.(1)

وقال بعضهم: إنّ موسى(عليه السلام) كان مطلعاً على طرق خاصّة، وكان يمكنه العبور من البرازخ (أو الطرق الموجودة في بحر سوف) أي خليج السويس، إلى جزيرة سيناء. وانفلاق البحر ـ في الآيات محل البحث ـ إشارة إلى هذا المعنى(2)...

وقال بعضهم: من المحتمل جداً أن يكون وصول موسى وقومه البحر عند منتهى جزره، فاستطاع أن يعبر بهم من النقاط اليابسة ويجتازها بسرعة، ولكن عندما ورد فرعون وقومه البحر شرع المدّ فوراً فأُغرقوا بالنيل حينئذ وهلكوا...

ولكن الحق أن أيّاً من هذه الإحتمالات لا ينسجم وظاهر الآيات ـ إن لم نقل وصريح الآيات ـ ومع قبول معاجز الأنبياء الوارد بيانها مراراً في سور القرآن، وخاصّة معجزة عصا موسى نفسها، فلا حاجة لمثل هذه التوجيهات...

فما يمنع أن تتراكم أمواج النيل بعد ضربها من قِبَل موسى بالعصا بأمر الله الحاكم على قانون العَليّة في عالم الوجود، وتنجذب متأثرة بما فيها من سرّ غامض، لتترك طريقاً يَبساً بيّناً (يمرّ في وسط البحر) ثمّ تتلاشى هذه الجاذبيّة بعد

_____________________________
 
1 ـ أعلام القرآن، ص 622 .
2 ـ المصدر السابق.

[390]

مدة، ويعود البحر إلى حالته الطبيعية وإلى أمواجه المتلاطمة!... وليس هذا استثناءً في قانون العليّة، بل هو اعتراف بتأثير علل غير معتادة، لا نعرفها لقصور علمنا أو لقلّة معلوماتنا!

 

3 ـ الله عزيز رحيم

ينبغي ملاحظة هذه اللطيفة، إذ جاءت الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ بمثابه استنتاج لما جرى من أمر موسى وفرعون وقومهما، وانتصار جيش الحق وانهزام الباطل! إذ تصف هذه الآية «الله» سبحانه بالعزيز الرحيم... فالوصف الأوّل إشارة إلى أنّ قدرته لا تضعف ولا تُقهر، والوصف الثّاني إشارة إلى أنه يوصل رحمته لعباده جميعاً، وخاصّة بتقديم وصف (العزيز) على (الرحيم) لئلا يُتوهّم أن رحمته من منطلق الضعف، بل هو مع قدرته رحيم!...

وبالطبع فإنّ من المفسّرين مَنْ يرى أن وصفه بالعزيز إشارة إلى اندحار أعدائه، ووصفه بالرحيم إشارة إلى انتصار أوليائه، إلاّ أنه لا مانع أبداً أن يشمل الوصفان الطائفتين معاً... لأنّ الجميع ينعمون برحمته حتى المسيئون... والجميع يخافون من سطوته حتى الصالحون...

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21337926

  • التاريخ : 29/03/2024 - 07:11

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net