00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الحديد من أول السورة ـ آية 15 من ( أول الجزء 18 ـ 46) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثامن عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الأَمْثَلُ في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد الثامن عَشَر

[ 5 ]

 

سُورَة الحَديد

مدنيّة

وعَدَدُ آيَاتِها تِسع وعشرون آية

[ 7 ]

 

 

«سورة الحديد»

محتوى السورة:

نزلت هذه السورة في المدينة، وادّعى البعض الإجماع على ذلك، لذا فإنّ خصائصها هي نفس خصائص السور المدنية، فإنّها بالإضافة إلى تحكيم الضوابط العقائدية فإنّها تستعرض تعليمات عملية عديدة خصوصاً في المجالات الإجتماعية والحكومية، كما نشاهد نماذج لذلك في الآيات (10، 11، 25) من هذه السورة.

ونستطيع أن نقسّم موضوعات هذه السورة إلى سبعة أقسام:

الأوّل: الآيات الاُولى من هذه السورة لها بحث جامع ولطيف حول التوحيد وصفات الله تعالى، وتذكّر ما يقرب من عشرين صفة من الصفات الإلهية، حيث تجعل الإنسان المدرك لها في مستوى عال من المعرفة الإلهيّة.

الثاني: يتحدّث عن عظمة القرآن، هذا النور الإلهي الذي أشرق في ظلمات الشرك.

الثالث: يستعرض وضع المؤمنين والمنافقين في يوم القيامة، حيث أنّ القسم الأوّل يأخذ طريقه إلى الجنّة في ظلّ نور إيمانهم، والقسم الثاني يبقى في ظلمات الشرك والكفر، وبهذا تعكس السورة في أبحاثها الاُصول الإسلامية الثلاثة: التوحيد والنبوّة والمعاد.

الرابع: تتحدّث الآيات فيه عن الدعوى إلى الإيمان والخروج من الشرك، وعن مصير الأقوام الضالّة من الاُمم السابقة.

الخامس: جزء مهمّ من هذه السورة يتحدّث حول الإنفاق في سبيل الله،

[ 8 ]

وخصوصاً في تقوية اُسس الجهاد في سبيل الله، وأنّ مال الدنيا ليس له وزن وقيمة.

السادس: في قسم قصير من الآيات ـ إلاّ أنّه واف ومستدلّ ـ يأتي الحديث عن العدالة الإجتماعية والتي هي إحدى الأهداف الأساسية للأنبياء.

السابع: وفيه تتحدّث الآيات عن سلبية الرهبانية والإنزواء الإجتماعي وأنّ ذلك يمثّل إبتعاداً عن الخطّ الإسلامي.

ومن الطبيعي أنّ بين ثنايا هذه البحوث وردت نقاط اُخرى متناسبة شكلت في النهاية مجموعة إتّجاهات بنّاءة في مجال الإيقاظ والهداية.

وبالضمن فإنّ تسمية هذه السورة بـ (سورة الحديد) هو لما جاء في الآية 25 من السورة من ذكر كلمة الحديد.

* * *

[ 9 ]

 

فضيلة تلاوة سورة الحديد:

وردت في الروايات الإسلامية نقاط جديرة بالملاحظة حول فضيلة تلاوة سورة الحديد، وممّا لا شكّ فيه أنّ المقصود في التلاوة هي تلاوة التدبّر والتفكّر الذي يكون توأماً، مع العمل.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسوله)(1).

ونقل في حديث آخر عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه كان يتلو (المسبّحات) قبل النوم (والمسبّحات هي السور التي تبدأ بـ (سبّح لله، أو يسبّح لله. وهي خمس سور: سورة الحديد والحشر والصفّ والجمعة والتغابن) ويقول: «إنّ فيهنّ آية

______________________________

1 ـ مجمع البيان بداية سورة الحديد.

[ 10 ]

أفضل من ألف آية»(1).

وطبيعي أنّ الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعيّن هذه الآية، إلاّ أنّ بعض المفسّرين إحتمل أن تكون آخر آية في سورة الحشر، بالرغم من عدم وجود دليل واضح على هذا المعنى(2).

ونقرأ حديثاً عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: (من قرأ المسبّحات كلّها قبل أن ينام لم يمت حتّى يرى القائم، وإن مات كان في جوار رسول الله».

* * *

______________________________

1 ـ نفس المصدر إضافة إلى الدرّ المنثور ج6، ص17.

2 ـ مجمع البيان بداية سورة الحديد.

[ 11 ]

الآيات

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ (2) هُوَ الاَْوَّلُ وَالاَْخِرُ وَالظَّـهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ (3)

التّفسير

آيات للمتفكّرين:

قلنا: إنّ هذه السورة بدأت بقسم التوحيد، الذي يشتمل على عشرين صفة من صفات الله سبحانه، تلك الصفات التي بمعرفتها يصل الإنسان إلى مستوى عال من المعرفة الإنسانية بالله، وتعمّق معرفته بذاته المقدّسة، وهذه الأوصاف والتي تشير إلى جانب من صفات جلاله وجماله، كلّما تعمّق العلماء وأهل الفكر فيها توصّلوا إلى حقائق جديدة عن الذات الإلهيّة المقدّسة.

عندما سئل الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) عن التوحيد أجاب: «إنّ الله عزّوجلّ

[ 12 ]

علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل الله تعالى: ( قل هو الله أحد)، والآيات في سورة الحديد إلى قوله: ( عليم بذات الصدور) ومن رام وراء ذلك فقد هلك»(1).

يستفاد من هذا الحديث أنّ هذه الآيات تعطي للظمأى من طلاّب الحقيقة أقصى حدٍّ للمعرفة الممكنة.

وعلى كلّ حال فإنّ أوّل آية من هذه السورة بدأت بتسبيح وتنزيه الله عزّوجلّ حيث يقول سبحانه: ( سبّح لله ما في السموات والأرض).

لقد إنتهت السورة السابقة بأمر التسبيح، وإبتدأت هذه السورة المباركة بالتسبيح الإلهي أيضاً. والجدير بالملاحظة أنّ في سور المسبّحات الخمس جاءت كلمة التسبيح ثلاث مرّات بصيغة الماضي (سبّح) في سور الحديد والحشر والصفّ، وفي موردين جاءت بصيغة المضارع (يسبّح) في سور الجمعة والتغابن، وهذا الإختلاف في التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ جميع الكائنات في العالم قد سبّحت وتسبّح لذاته المقدّسة في الماضي والمستقبل.

وحقيقة «التسبيح» عبارة عن نفي كلّ عيب ونقص(2) عن الذات الإلهيّة، وشهادة جميع الكائنات في هذا العالم بطهارة ذاته من كلّ عيب، حيث أنّ النظم والحساب والحكمة والعجائب في نظام الكائنات .. هذه جميعها تذكر (الله) بلسان حالها وتسبّحه وتحمده وتنزّهه وتؤكّد أنّ لخالقها قدرة لا متناهية، وحكمة لا محدودة.

ولذا جاء في نهاية هذه الآية: ( وهو العزيز الحكيم).

كما يحتمل أن تتمتّع جميع ذرّات الوجود بنوع من الإدراك والشعور بحيث

______________________________

1 ـ اُصول الكافي طبقاً لنقل تفسير نور الثقلين، ج5، ص231.

2 ـ «التسبيح» في الأصل من مادّة (سبح) على وزن (مسح) بمعنى الحركة السريعة في الماء والهواء. والتسبيح أيضاً هو الحركة السريعة في مسير عبادة الله عزّوجلّ (الراغب في المفردات).

[ 13 ]

تسبّح وتحمد الله عزّوجلّ في عالمها الخاصّ، بالرغم من عدم معرفتنا لذلك بسبب محدودية علمنا وإطّلاعنا.

من أجل تفصيل أكثر حول حمد وتسبيح الكائنات أجمع يراجع نهاية الآية (44) من سورة الإسراء.

ويجدر الإنتباه إلى أنّ (ما) في جملة (سبّح لله ما في السماوات) لها معنى واسع بحيث تشمل كلّ موجودات العالم، أعمّ من ذوي العقول والأحياء والجمادات(1).

وبعد ذكر صفتين من صفات الذات الإلهية يعني (العزّة والحكمة) يتطرّق إلى (مالكيّته وتدبيره، وقدرته في عالم الوجود) والتي هي من مستلزمات القدرة والحكمة، حيث يقول تعالى: ( له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير).

إنّ مالكية الله عزّوجلّ لعالم الوجود ليست مالكية إعتبارية وتشريعية، إذ أنّها مالكية حقيقيّة وتكوينيّة. وهذا يعني أنّ الله سبحانه محيط بكلّ شيء، وأنّ جميع العالم في قبضته وقدرته وتحت إرادته وأوامره، لذا فقد جاء الحديث بعد هذا الكلام عن (الإحياء والإفناء) والقدرة على كلّ شيء.

إلى هنا ذُكرت في الآيتين الآنفتين ستّة أوصاف من صفاته الكريمة.

الإختلاف بين «العزّة» و «القدرة» هو أنّ العزّة أكثر دلالة على تحطيم المقابل والقدرة تعني توفير الأسباب وإيجادها. وبناءً على هذا فإنّهما يعدّان وصفين مختلفين بالرغم من أنّهما مشتركان في أصل القدرة (يرجى ملاحظة ذلك).

مسألة (الإحياء والإماتة) قد ذكرت في آيات عديدة في القرآن الكريم، وفي الواقع انّهما من الموضوعات التي لم تتوضّح أسرارهما المعقّدة لأي شخص، كما

______________________________

1 ـ بالرغم من أنّ (سبّح) فعل متعدٍّ بدون حرف جرّ حيث يقال مثلا سبّحوه إلاّ أنّه هنا قد عدي باللام، ومن المحتمل أن يكون ذلك للتأكيد.

[ 14 ]

لا يوجد شخص يعلم ـ بوضوح ـ حقيقة الحياة ولا حقيقة الموت، إلاّ أنّ الذي نعلمه عنهما هو آثارهما. والعجيب أنّ الحياة أقرب شيء لنا ولكنّنا لا نعرف أي شيء عن حقيقتها وأسرارها.

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا أنّ جملة (يحيي ويميت) جاءت بصورة فعل مضارع ممّا يدلّل على إستمرار مسألة الحياة والموت على طول الأزمنة، وإطلاق هذين المعنيين لا يشمل حياة وموت الإنسان في هذا العالم فقط، بل يشمل كلّ حياة وممات بدءاً من الملائكة وإنتهاءاً بكلّ موجود حيّ من الحيوانات والنباتات المختلفة، كما أنّها لا تقتصر على الحياة الدنيا فقط، بل تشمل حياة البرزخ والقيامة أيضاً.

نعم، إنّ الموت والحياة بكلّ أشكالها بيد القدرة الإلهية المتعالية.

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى ذكر خمس صفات اُخرى حيث يقول: ( هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن وهو بكلّ شيء عليم).

الوصف هنا بـ ( الأوّل والآخر) تعبير رائع عن أزليّته وأبديّته تعالى، لأنّنا نعلم أنّه وجود لا متناهي وأنّه (واجب الوجود) أي أنّ وجوده من نفس ذاته، وليس خارجاً عنه حتّى تكون له بداية ونهاية، وبناءً على هذا فإنّه كان من الأزل وسيبقى إلى الأبد.

إنّه بداية عالم الوجود، وهو الذي سيبقى بعد فناء العالم أيضاً.

وبناءً على هذا فإنّ التعبير بـ ( الأوّل والآخر) ليس له زمان خاصّ أبداً، وليس فيه إشارة إلى مدّة زمنية معيّنة.

والوصف بـ ( الظاهر والباطن) هو تعبير آخر عن الإحاطة الوجودية ـ أي وجود الله ـ بالنسبة لجميع الموجودات، أي أنّه أظهر من كلّ شيء لأنّ آثاره شملت جميع مخلوقاته في كلّ مكان، وهو خفيّ أكثر من كلّ شيء أيضاً لأنّ كنه ذاته لم يتّضح لأحد.

[ 15 ]

ولقد عبّر بعض المفسّرين عن ذلك بأنّه: الأوّل بلا إبتداء، والآخر بلا إنتهاء، والظاهر بلا إقتراب، والباطن بلا إحتجاب.

وعبّر البعض الآخر عنه تعبيراً رائعاً آخر: الأوّل ببرّه، والآخر بعفوه، والظاهر بإحسانه وتوفيقه إذا أطعته، والباطن بستره إذا عصيته.

وبإختصار فإنّه محيط بكلّ شيء، وإنّه (بداية ونهاية، وظاهر وباطن) عالم الوجود.

وفسّر بعض المفسّرين (الظاهر) هنا بمعنى «الغالب» (من الظهور بمعنى الغلبة) ونلاحظ في بعض خطب نهج البلاغة قرينة على هذا المعنى حيث يقول (عليه السلام) حول خلق الأرض: «هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته»(1).

ولا مانع من جمع هذين التّفسيرين.

وعلى كلّ حال فإنّ أحد نتائج هذه الصفات المتقدّمة هو ما جاء في نهاية الآية الكريمة: ( وهو بكلّ شيء عليم) إذ أنّ من كان في البداية ويبقى في النهاية، وموجود في ظاهر وباطن العالم .. سيكون عالماً بكلّ شيء قطعاً.

* * *

بحث

جمع الأضداد في صفات الله:

من الواضح أنّ الكثير من الصفات لا يمكن جمعها فينا نحن البشر، وكذا الأمر بالنسبة للموجودات الاُخرى. فمثلا: من كان في أوّل الصفّ لا يمكن أن يكون في نفس الوقت في آخره، وكذلك إذا كنت ظاهراً فليس بالمقدور أن تكون

______________________________

1 ـ نهج البلاغة، خطبة 186.

[ 16 ]

في نفس الوقت باطناً والعكس صحيح أيضاً. والسبب في ذلك هو محدودية وجودنا، فالوجود المحدود لا يستطيع أن يكون غير ذلك، إلاّ أنّ الحديث عندما يكون عن صفات الله فسيتغيّر الأمر، حيث يمكن الجمع في هذه الحالة بين الظاهر والباطن، وبين البداية والنهاية، وذلك لطبيعة صفات الذات الإلهيّة المقدّسة اللا متناهية، ولذلك فلا عجب هنا.

وقد وردت أحاديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) فيها توضيحات رائعة تساعد على تفسير هذه الآيات ذات المحتوى العميق، ومن جملتها ما ورد في صحيح مسلم عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «اللهمّ أنت الأوّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء»(1).

ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «ليس لأوّليّته إبتداء، ولا لأزليّته إنقضاء، هو الأوّل لم يزل، والباقي بلا أجل .. الظاهر لا يقال ممّ؟ والباطن لا يقال فيم؟»(2).

ويقول الإمام المجتبى (عليه السلام) في خطبة له: «الحمد لله الذي لم يكن فيه أوّل معلوم، ولا آخر متناه ... فلا تدرك العقول وأوهامها، ولا الفِكَرُ وخطراتها. ولا الألباب وأذهانها صفته، فتقول متى ولا بدع ممّا؟ ولا ظاهر على ما؟ ولا باطن فيما؟»(3).

* * *

______________________________

1 ـ تفسير القرطبي، ج9، ص6406.

2 ـ نهج البلاغة، خطبة 163.

3 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص236.

[ 17 ]

الآيات

هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الاَْرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرٌ(4) لَّهُ مُلْكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الاُْمُورُ (5) يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)

التّفسير

على عرش القدرة دائماً:

تحدّثت الآيات السابقة عن إحدى عشرة صفة للذات الإلهيّة المقدّسة، وتبيّن الآيات أعلاه أوصافاً اُخرى حيث اُشير في الآية الاُولى مورد البحث إلى خمسة أوصاف اُخرى من صفات جلاله وجماله.

ويبدأ الحديث عن مسألة الخلقة حيث يقول سبحانه: ( هو الذي خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام).

[ 18 ]

لقد ذكرت مسألة الخلقة في (ستّة أيّام) سبع مرّات في القرآن الكريم، المرّة الاُولى في الآية 54 من سورة الأعراف، والأخيرة هي هذه الآية مورد البحث (الحديد ـ الآية4).

وكما قلنا سابقاً فإنّ المقصود من (اليوم) في هذه الآيات ليس المعنى المتعارف (لليوم)، بل المقصود هو (الزمان) سواء كان هذا الزمان قصيراً أو طويلا حتّى لو بلغ ملايين السنين، وهذا التعبير يستعمل أيضاً في لغة العرب واللغات المختلفة، كما يقال مثلا: اليوم يحكم فلان، وغداً سيكون لغيره، بمعنى الدورة الزمنية.

وقد بيّنا هذا المعنى مع شرح وأمثلة في نهاية الآية 54 من سورة الأعراف.

وطبيعي أنّه لا يوجد أي مانع لله عزّوجلّ من خلق جميع العالم في لحظة واحدة، ولكن في هذه الحالة سوف لا تتجلّى عظمة الله وقدرته وعلمه بشكل جيّد، وبعكس عظمة وقدرة وعلم الله بصورة أقل، ذلك خلق هذه العوالم خلال ملياردات السنين وفي أزمنة وحالات مختلفة ووفقاً لبرامج منظّمة ومحسوبة سيدلل أكثر على قدرته وحكمته، بالإضافة إلى أنّ التدرّج في الخلق سيكون نموذجاً للسير التكاملي للإنسان، وعدم السرعة والإستعجال في الوصول إلى الأهداف المختلفة.

ثمّ تتطرّق الآيات إلى مسألة الحكومة وتدبير العالم حيث يقول سبحانه: ( ثمّ استوى على العرش).

إنّ زمام حكومة وتدبير العالم كانت دائماً بيده ولا زالت، وبدون شكّ فإنّ الله تعالى ليس جسماً، ولذا فليس معنى «العرش» هنا هو عرش السلطة، والتعبير كناية لطيفة عن الحاكمية المطلقة لله سبحانه ونفوذ تدبيره في عالم الوجود.

«عرش» في اللغة بمعنى الشيء المسقوف، وتطلق أحياناً للسقف نفسه، ويعني أيضاً التخوت العالية (عرش السلاطين).

[ 19 ]

وتستعمل هذه اللفظة كناية عن القدرة أيضاً كما يقال في اللغة العربية: (فلان ثلَّ عرشه)(1).

وعلى كلّ حال ـ وخلافاً لما يتصوّره البعض ممّن أعمى الله بصيرتهم أنّه سبحانه وتعالى قد خلق العالم وتركه وشأنه ـ فإنّ زمام تدبير العالم وتسيير حكومته في كفّ قدرته، وإرتباط أنظمة العالم، بل كلّ فرد من أفراد الوجود بذاته المقدّسة، بحيث إذا أعرض لحظة واحدة عن الكائنات وقطع فيضه عنهم فإنّ الوجود سينتهي.

والتوجّه إلى هذه الحقيقة يعطي للإنسان إدراكاً وبصيرة، وهي أنّ الله تعالى في كلّ مكان ومع كلّ شيء، وهو يرى ويسمع ويراقب ويدير الوجود بحكمته ولطفه.

ثمّ يستعرض نوعاً آخر من علمه اللا متناهي بقوله تعالى: ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها).

وبالرغم من أنّ جميع هذه الاُمور التي ذكرت في الآيات السابقة قد جمعت في تعبير ( وهو بكلّ شيء عليم) إلاّ أنّ توضيح هذه الاُمور يعطي للإنسان توجّهاً أكثر في مجال سعة علم الله.

نعم، إنّ جميع ما ينفذ في الأرض يعلم به الله، سواء قطرات المطر والسيول.

ومن بذور النبات التي تنتشر في الأرض بمساعدة الهواء والحشرات.

ومن جذور الأشجار التي تنفذ ـ بحثاً عن الماء والغذاء ـ إلى أعماق الأرض.

ومن أنواع المعادن والذخائر التي كانت يوماً على سطح الأرض ثمّ دفنت فيها.

من أجساد الموتى وأنواع الحشرات ... نعم انّه يعلم بكلّ ذلك.

______________________________

1 ـ لقد ذكرنا توضيحات أكثر حول حقيقة العرش في نهاية الآية (54) من سورة الأعراف، وفي نهاية الآية (255) من سورة البقرة.

[ 20 ]

ثمّ انّه يعلم بالنباتات التي تخرج من الأرض.

وبالعيون التي تفور من أعماق التراب والصخور.

وبالمعادن والكنوز التي تظهر.

وبالبشر الذين ظهروا ثمّ ماتوا.

وبالبراكين التي تخرج من أعماقها.

وبالحشرات التي تخرج من بيوتها وجحورها.

وبالغازات التي تتصاعد منها.

وبأمواج الجاذبية التي تصدر منها الجاذبية .. الله تعالى يعلم بذلك جزءاً جزءاً وذرّة ذرّة.

وكذلك ما ينزل من السماء من قطرات المطر إلى أشعّة الشمس الباعثة للحياة.

ومن الأعداد العظيمة من الملائكة إلى أنوار الوحي والكتب السماوية.

ومن أشعّة الكونية إلى الشهب والنيازك المنجذبة نحو الأرض، إنّه عالم بأجزاء كلّ ذلك.

وكذلك ما يصعد إلى السماء، أعمّ من الملائكة، وأرواح البشر، وأعمال العباد، وأنواع الأدعية، وأقسام الطيور، والأبخرة، والغيوم وغير ذلك، ممّا نعلمه وممّا لا نعلمه، فإنّه واضح عند الله وفي دائرة علمه.

وإذا فكّرنا قليلا بأنّ في كلّ لحظة تدخل الأرض ملايين الملايين من الموجودات المختلفة، وملايين الملايين من الموجودات تخرج منها، وملايين الملايين تنزل من السماء أو تصعد إليها، حيث تخرج عن العدّ والحصر والحدّ، ولا يستطيع أي مخلوق أن يحصيها .. إذا فكّرنا بهذا الموضوع قليلا فسنعرف مدى إتّساع علمه سبحانه.

وأخيراً في رابع وخامس صفة له سبحانه يركّز حول نقطة مهمّة حيث يقول:

[ 21 ]

( وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير).

وكيف لا يكون معنا في الوقت الذي نعتمد عليه، ليس في إيجادنا فحسب بل في البقاء لحظة بلحظة ـ أيضاً ـ ونستمدّ منه العون، إنّه روح عالم الوجود، بل هو أعلى من ذلك وأسمى.

فالله معنا في كلّ الحالات وفي كلّ الأوقات، فهو معنا يوم كنّا ذرّة تراب مهملة، وهو معنا يوم كنّا أجنّة في بطون اُمّهاتنا، وهو معنا طيلة عمرنا، وفي عالم البرزخ ... فهل بالإمكان ـ مع هذا ـ ألاّ يكون مطّلعاً علينا؟

الحقيقة أنّ الإحساس بأنّ الله معنا في كلّ مكان يعطي للإنسان عظمة وجلالا من جهة، ومن جهة اُخرى يخلق فيه إعتماداً على النفس وشجاعة وشهامة، ومن جهة ثالثة فإنّه يثير إحساساً شديداً بالمسؤولية، لأنّ الله حاضر معنا في كلّ مكان، وناظر ومراقب لأعمالنا، وهذا أكبر درس تربوي لنا. وهذا الإعتقاد يمثّل دافعاً جدّياً للتقوى والطهارة والعمل الصالح في الإنسان، ويعتبر رمز عظمته وعزّته.

أجل: إنّ مسألة أنّ الله تعالى معنا دائماً وفي كلّ مكان هي حقيقة وليست كناية ومجازاً، حقيقة مقبولة للنفس ومربّية للروح، ومولّدة للخوف والمسؤولية.

ولذا ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إنّ من أفضل إيمان المرء أن يعلم أنّ الله تعالى معه حيث كان»(1).

ونقرأ في حديث آخر أنّ موسى (عليه السلام) قال: «أين أجدك ياربّ، قال عزّوجلّ: ياموسى إذا قصدت إليّ فقد وصلت إليّ»(2).

وفي الأساس فإنّ هذه (المعيّة) أي كون الله عزّوجلّ مع عباده، ظريفة ودقيقة بحيث أنّ كلّ إنسان مؤمن متفكّر يدركها بقدر فكره وإيمانه.

وبعد مسألة الحاكمية والتدبير يأتي الحديث عن مسألة مالكيته سبحانه في

______________________________

1 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص171.

2 ـ روح البيان، ج9، ص351.

[ 22 ]

كلّ عالم الوجود، حيث يقول: ( له ملك السموات والأرض).

وأخيراً يشير إلى مسألة مرجعيّته فيقول تعالى: ( وإلى الله ترجع الاُمور).

نعم، عندما يكون الخالق والمالك والمدبّر معنا في كلّ مكان، فمن البديهي أن يكون رجوعنا ورجوع أعمالنا إليه كذلك.

نحن سلكنا طريق عشقه ومحبّته، وبدأنا المسير حاملين معنا الأمل من نقطة العدم باتّجاهه، وقد سلكنا شوطاً طويلا إلى أن وصلنا إلى مرتبة الوجود .. نحن من الله سبحانه، وإليه نرجع، لماذا؟ لأنّه هو المبدىء وإليه المنتهى.

والجدير بالذكر أنّ الآيات الثلاث الآنفة الذكر قد جاء فيها مثل هذا الوصف أيضاً: ( له ملك السماوات والأرض).

ويمكن أن يكون التكرار هنا بلحاظ أنّ الحديث كان ـ فقط ـ عن مسألة حياة وموت الموجودات الحيّة، وهنا نلاحظ توسّع البحث وشموليّته في رجوع كلّ شيء لله سبحانه.

وفي تلك الآيات مقدّمة عن بيان قدرة الله عزّوجلّ على كلّ شيء، وهنا مقدّمة لرجوع كلّ شيء إليه، وهاتان القضيّتان تستلزمان مالكيّة الله عزّوجلّ للأرض والسماء.

التعبير بـ «الاُمور» جاء ـ هنا ـ بصيغة الجمع، أي: أنّ جميع الموجودات ـ وليس الإنسان فحسب ـ تتحرّك باتّجاهه حركة دائمة وغير قابلة للتوقّف.

وبناءً على هذا فإنّ معنى الآية لا ينحصر ـ فقط ـ برجوع البشر إليه في الآخرة، بالرغم من أنّ موضوع المعاد من المصاديق البارزة لذلك الرجوع العامّ.

وفي آخر مورد للبحث يشير إلى صفتين اُخريين بقوله تعالى: ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل)(1).

______________________________

1 ـ «يولج» من مادّة (إيلاج) وهي الاُخرى مأخوذة من مادّة (ولوج) والولوج بمعنى الدخول والنفوذ، والإيلاج بمعنى الإدخال والإنفاذ.

[ 23 ]

نعم، بالتدريج ينقص أحد الوقتين (الليل والنهار) ليضيف للآخر، وتبعاً لذلك يتغيّر طول النهار والليل في السنة، وهذا التغيّر يكون مصحوباً بالفصول الأربعة في السنة مع كلّ البركات التي تكون مختّصة في هذه الفصول لبني الإنسان.

وهناك تفسير آخر لهذه الآية وهو: إنّ شروق وغروب الشمس لن يحدثا فجأة ودون مقدّمات حتّى لا تجلب هذه الحالة المشاكل للإنسان والموجودات الحيّة الاُخرى، بل يتمّ هذا التغيير بصورة تدريجيّة، وتنتقل الموجودات رويداً رويداً من عالم الضوء في النهار إلى ظلمة الليل، ومن ظلمة الليل إلى ضوء النهار، ويعلن كلّ منهما وصولهما قبل مدّة حتّى يتهيّأ الجميع لذلك.

والجمع بين التّفسيرين لمفهوم الآية ممكن أيضاً.

ويضيف سبحانه في النهاية: ( وهو عليم بذات الصدور).

فكما أنّ أشعّة الشمس الباعثة للحياة تنفذ في أعماق ظلمات الليل، وتضيء كلّ مكان، فإنّ الله عزّوجلّ ينفذ كذلك في كلّ زوايا قلب وروح الإنسان، ويطّلع على كلّ أسراره.

والنقطة الجديرة بالملاحظة في الآيات السابقة أنّ الحديث كان عن علم الله سبحانه بأعمالنا ( والله بصير عليم) وهنا الكلام عن علم الله عزّوجلّ بأفكارنا وعقائدنا وما تكنّه صدورنا، ( وهو عليم بذات الصدور).

كلمة (ذات) في الإصطلاح الفلسفي تعني (عين الشيء وحقيقته) إلاّ أنّها في اللغة بمعنى (صاحب الشيء) وبناءً على هذا فإنّ (ذات الصدور) إشارة إلى النيّات والإعتقادات التي إستولت على قلوب البشر.

وكم هو رائع أن يؤمن الإنسان بكلّ هذه الصفات الإلهيّة من أعماق نفسه، ويحسّ حضوره سبحانه في كلّ أعماله ونيّاته وعقائده، إحساساً لا يخرجه عن جادّة الطاعة وطريق العبودية، إحساساً يبعده عن طريق العصيان والسوء والإنحراف ..

* * *

[ 24 ]

تعقيب

آيات الإسم الأعظم:

قسّم الفلاسفة والمتكلّمون الصفات الإلهيّة إلى قسمين:

أحدهما: «صفات الذات» والتي تبيّن أوصاف جلاله وجماله. والاُخرى: «صفات الفعل» التي تبيّن الأفعال الصادرة من ذاته المباركة، كما جاء في الآيات الستّ في بداية هذه السورة المباركة، والتي يجدر أن تسمّى: بـ (آيات المتعمّقين) تماشياً مع حديث في هذا الصدد.

وقد وردت عشرون صفة من أوصاف الذات الإلهيّة والأفعال بدءاً من علمه وقدرته وحكمته وأزليّته وأبديّته سبحانه، إلى خلقه وتدبيره ومالكيّته وإحاطته عزّوجلّ بكلّ الموجودات وحضوره في كلّ مكان، هذه الأوصاف والتعابير تعطينا عمقاً أكثر في التوجّه إلى الإيمان والسعي لإضاءة مشعل وجودنا وأفكارنا المحدودة ليكون عوناً أفضل في إمدادنا بما يجعلنا في المسير التكاملي نحو الله سبحانه.

وجاء في حديث «براءة بن عازب» أنّه قال: قلت لعلي (عليه السلام): ياأمير المؤمنين، أسألك بالله ورسوله ألا خصّصتني بأعظم ما خصّك به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واختصّه به جبرائيل، وأرسله به الرحمن، فقال (عليه السلام): «إذا أردت أن تدعو باسمه الأعظم، فاقرأ من أوّل سورة الحديد إلى آخر ستّ آيات منها عليم بذات الصدور، وآخر سورة الحشر يعني أربع آيات ثمّ ارفع يديك فقل: يامن هو هكذا أسألك بحقّ هذه الأسماء أن تصلّي على محمّد وأن تفعل بي كذا وكذا ـ ممّا تريد ـ فوالله الذي لا إله غيره لتنقلبنّ بحاجتك إن شاء الله»(1).

______________________________

1 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص171.

[ 25 ]

وفي عظمة هذه الآيات وأهميّة محتواها نكتفي بهذا الحديث، ويجب ألاّ ننسى أنّ إسم الله العظيم ليس بالألفاظ فقط، إذ يجب التخلّق بمعانيه أيضاً.

* * *

[ 26 ]

الآيات

ءَامِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَـقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءَايَـت بَيِّنَـت لِّيُخْرجَكُم مِّنَ الظُّلُمَـتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيرَثُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَـتَلَ أُوْلَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَـتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَـعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)

[ 27 ]

التّفسير

الإيمان والإنفاق أساسان للنجاة

بعد البيان الذي تقدّم حول دلائل عظمة الله في عالم الوجود وأوصاف جماله وجلاله، تلك الصفات المحفّزة للحركة باتّجاه الله تعالى، ننتقل الآن إلى جوّ هذه الآيات المفعم بالدعوة للإيمان والعمل ..

يقول سبحانه في البداية ( آمنوا بالله ورسوله) إنّ هذه الدعوة دعوة عامّة لجميع البشر، فهي تدعو المؤمنين إلى إيمان أكمل وأرسخ، وتدعو ـ أيضاً ـ غير المؤمنين إلى التصديق والإيمان بما جاء به الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه الدعوة إلى الإيمان جاءت توأماً مع أدلّة التوحيد التي تناولتها الآيات التوحيدية السابقة.

ثمّ يدعو إلى أحد الإلتزامات المهمّة للإيمان وهي: (الإنفاق في سبيل الله) حيث يقول تعالى: ( وأنفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه).

إنّها دعوة إلى الإيثار والتضحية، وذلك بالإنفاق والعطاء ممّا منّ الله به على الإنسان، ولكن هذه الدعوة مصحوبة بملاحظة، وهي أنّ المالك الحقيقي هو الله عزّوجلّ، وهذه الأموال والممتلكات قد وضعها الله عند الإنسان بعنوان أمانة لفترة محدودة، كما وضعت كذلك بإختيار الأقوام السابقة.

والحقيقة أنّها كذلك، إذ مرّ بنا في الآيات السابقة أنّ المالك الحقيقي لكلّ العالم هو الله سبحانه، وأنّ الإيمان بهذه الحقيقة والعمل بها تبيّن أنّنا اُمناء على ما إستخلفنا به من قبل الله تعالى، ولابدّ للمؤمن من أن يأخذ بنظر الإعتبار أمر صاحب الأمانة.

الإيمان بهذه الحقيقة يمنح الإنسان روح السخاء والإيثار ويفتح قلبه ويديه على الإنفاق.

عبارة (مستخلفين) قد تكون إشارة إلى أنّ الإنسان خليفة الله تعالى على الأرض، أو أنّه مستخلف عن الأقوام السابقة أو كلا المعنيين.

[ 28 ]

وتعبير (ممّا) تعبير عام ولا يشمل الأموال فحسب بل كلّ الممتلكات والهبات الإلهيّة. وهنا يعني أنّ للإنفاق مفهوماً واسعاً ولا ينحصر بالمال فقط، بل يشمل ـ أيضاً ـ العلم والهداية والسمعة الإجتماعية ورؤوس الأموال المعنوية والمادية.

ثمّ يقول تعالى في الحثّ على الإنفاق: ( فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير).

إنّ وصف الأجر بأنّه «كبير» إشارة إلى عظمة الألطاف الإلهية والهبات الإلهية، وأبديّتها وخلوصها ودوامها ليس في الآخرة فحسب، بل في عالم الدنيا أيضاً حيث أنّ قسماً من الأجر سوف يكون من نصيب الإنسان في الدنيا.

وبعد الأمر بالإيمان والإنفاق يعطي بياناً لكلّ منهما، وهو بمثابة الإستدلال والبرهان، وذلك بصورة إستفهام توبيخي إبتداءاً، حيث يستفسر عن علّة عدم قبول دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حول الإيمان بالله فيقول سبحانه: ( وما لكم لا تؤمنون بالله والرّسول يدعوكم لتؤمنوا بربّكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين) يعني أنّكم إذا كنتم مستعدّين حقيقة وصدقاً لقبول الحقّ، فإنّ دلائله واضحة عن طريق الفطرة والعقل، وكذلك عن طريق النقل.

وهذا رسول الله قد أتى لكم بدلائل واضحة وآيات ومعجزات باهرة، وهذه آثار الله سبحانه في عالم الخلق وفي أنفسكم وقد أخذ نوعاً من العهد التكويني منكم، فآمنوا به، إلاّ أنّكم ـ مع الأسف ـ لا تقيمون وزناً لعقلكم وفطرتكم، وكذلك لا تعيرون إهتماماً لتوجيهات الوحي، ويبدو أنّكم غير مستعدّين ومهيّئين للإيمان أصلا، وقد غلب الجهل والتعصّب والتقليد الأعمى على أفكاركم ونفوسكم.

ويتوضّح ممّا قلناه أنّ المقصود من جملة ( إن كنتم مؤمنين) هو أنّكم إذا كنتم مستعدّين للإيمان بشيء وتقبلون أدلّته فهذا هو محلّه، لأنّ دلائله واضحة من كلّ جهة.

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي معرفة السبب الذي يمنع هؤلاء الذين

[ 29 ]

شاهدوا الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وسمعوا دعوته مباشرةً وبلا واسطة، وشاهدوا معجزاته بأعينهم، من الإيمان بدعوته.

في هذا الصدد نقرأ الحديث التالي: أنّ الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأصحابه يوماً: (أيّ المؤمنين أعجب إليكم إيماناً؟» قالوا: الملائكة. قال: «وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربّهم؟» قالوا: الأنبياء. قال: «وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟» قالوا: نحن. قال: «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيماناً قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بها»(1).

وهذه حقيقة لا غبار عليها، وهي أنّ الأشخاص الذين يطلّون على عالم الوجود بعد سنوات طويلة من رحلة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويشاهدون آثاره في الكتب ـ فقط ـ ويؤمنون بأحقيّة دعوته، فإنّ لهم ميزة كبيرة على الآخرين.

إنّ التعبير بـ «الميثاق» يمكن أن يكون إشارة إلى الفطرة التوحيدية أو الدلائل العقلية التي بمعرفتها يتبيّن للإنسان (نظام الخلقة)، وعبارة (بربّكم) إشارة إلى التدبير الإلهي في عالم الخلقة، وهو شاهد على هذا المعنى أيضاً.

واعتبر البعض كلمة (ميثاق) إشارة إلى (عالم الذرّ) إلاّ أنّ هذا المعنى مستبعد إلاّ أن يراد به التّفسير الذي ذكرناه سابقاً لعالم الذرّ(2).

وجاءت الآية اللاحقة لتأكيد وتوضيح نفس هذا المعنى حيث تقول: ( هو الذي ينزّل على عبده آيات بيّنات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإنّ الله بكم لرؤوف رحيم).

فسّر البعض ( آيات بيّنات) هنا بكلّ المعجزات، وقال قسم آخر: إنّه (القرآن الكريم) إلاّ أنّ مفهوم الآية واسع يستوعب كلّ ذلك، بالرغم من أنّ التعبير ( ينزّل)يناسب (القرآن) أكثر، هذا الكتاب العظيم الذي يمزّق حجب ظلام الكفر والجهل

______________________________

1 ـ صحيح البخاري طبقاً لنقل تفسير المراغي تفسير ظلال القرآن في نهاية الآيات مورد البحث.

2 ـ راجع هذا التّفسير، نهاية الآية (172) من سورة الأعراف.

[ 30 ]

والضلال ويشرق شمس الوعي والإيمان في النفوس، والذي هو رحمة ونعمة إلهيّة عظيمة.

أمّا التعبير بـ ( لرؤوف رحيم) فهو إشارة لطيفة إلى حقيقة أنّ هذه الدعوة الإلهية العظيمة إلى الإيمان والإنفاق تمثّل مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهيّة التي جاءت إليكم جميعاً، كما أنّ جميع بركاتها في هذا العالم والعالم الآخر ترجع إليكم.

وسؤال يثار هنا وهو: هل يوجد إختلاف بين (الرؤوف) وبين (الرحيم)؟ وما هي خصوصيات كلّ منهما؟

ذكر المفسّرون في ذلك آراء، والمناسب من بين كلّ الآراء التي ذكرت هو: أنّ كلمة (رؤوف) جاءت هنا إشارة إلى محبّته ولطفه الخاص بالنسبة إلى المطيعين، في حين أنّ كلمة (رحيم) إشارة إلى رحمته بخصوص العاصين.

قال البعض: إنّ «الرأفة» تقال للرحمة قبل ظهورها، و «الرحمة» تعبير يطلق على الحالة بعد ظهورها.

ثمّ يأتي إستدلال آخر على ضرورة الإنفاق حيث يقول تعالى: ( وما لكم ألاّ تنفقوا في سبيل الله، ولله ميراث السماوات والأرض) أي أنّكم سترحلون عن هذه الدنيا وتتركون كلّ ما منحكم الله فيها، وتذهبون إلى عالم آخر، فلماذا لا تستفيدون من هذه الأموال التي جعلها الله تحت تصرفكم بتنفيذ أمره بالإنفاق؟.

(ميراث) في الأصل ـ كما قال الراغب في المفردات ـ هي الأموال التي تنتقل للإنسان بدون إتّفاق مسبق، وما ينتقل من الميّت إلى ورثته هو أحد مصاديق ذلك، ولكن لكثرة إستعمالها بهذا المعنى يتداعى لسامعها هذا المعنى عند إطلاقها.

وجملة ( لله ميراث السماوات والأرض) بمعنى ليست جميع الأموال والثروات الموجودة فوق الأرض، بل كلّ ما هو في السماء والأرض وعالم الوجود يرجع إليه، حيث تموت جميع الخلائق والله سبحانه هو الوارث لها جميعاً.

[ 31 ]

ولأنّ للإنفاق قيماً مختلفة وأحوالا متفاوتة الشرائط والظروف، يضيف سبحانه: ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل)(1).

هناك إختلاف بين المفسّرين حول المقصود من كلمة «الفتح» التي وردت في الآية، فقد إعتبرها البعض إشارة لفتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة، وإعتبرها آخرون إشارة إلى فتح الحديبية في السنة السادسة للهجرة.

وبالنظر إلى أنّ كلمة «الفتح» فسّرت (بفتح الحديبية) في سورة: ( إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً) فالمناسب هنا أن يكون المقصود بها فتح الحديبية أيضاً. إلاّ أنّ كلمة (قاتل) تناسب فتح مكّة، لأنّه لم يحصل قتال في صلح الحديبية، بعكس فتح مكّة الذي حصل فيه قتال سريع وقصير، إذ لم يواجه بمقاومة شديدة.

ويحتمل أيضاً أن يكون المراد من «الفتح» في هذه الآية هو جنس الفتح، والذي يمثّل إنتصار كلّ المسلمين في الحروب الإسلامية. والمقصود إجمالا أنّ الذين بذلوا المال والنفس في الظروف الحرجة مفضّلون على الذين ساعدوا الإسلام بعد سكون الموج وهدوء العاصفة، لذلك وللتأكيد أكثر يضيف تعالى: ( اُولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا).

والعجيب هنا أنّ بعض المفسّرين الذين اعتبروا مقصود الآية هو فتح مكّة، أو فتح الحديبية، اعتبروا مصداق المنفق في هذه الآية هو «أبو بكر». في حين أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ عدّة حروب وغزوات حصلت بين هجرة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول آية الفتح والذي إستغرق من (6 ـ 8) سنوات، وفي هذه الفترة قاتل وأنفق الآلاف من الأشخاص في طريق الإسلام، إذ شارك في فتح مكّة فقط عشرة آلاف شخص، طبقاً لما ورد في كتب التاريخ. ومن الواضح أنّ أعداداً كبيرة في هذه المجموعة قدّمت الكثير من الأموال في سبيل الله وأعانت الإسلام في المجهود الحربي،

______________________________

1 ـ للآية محذوف يستفاد من المذكور، وتقديره (لا يستوي من أنفق من قبل الفتح وقاتل والذين أنفقوا بعد الفتح وقاتلوا).

[ 32 ]

وواضح أنّ كلمة (قبل) تعني الإنفاق في مشارف هذا الفتح وليس في بداية الإسلام وقبل إحدى وعشرين سنة.

يجدر الإنتباه إلى أنّ بعض المفسّرين يصرّون على أنّ الإنفاق أفضل من الجهاد، وذلك إنسجاماً مع رأيهم السابق، ويدلّلون على صحّته من خلال ما ورد في الآية أعلاه من تقديم الإنفاق المالي على الجهاد بإعتبار أنّ الوسائل والمقدّمات والآلات الحربية، تتهيّأ بواسطته. إلاّ أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ بذل النفس والتهيّؤ للشهادة أعلى وأفضل من الإنفاق المالي.

وعلى كلّ حال، بما أنّ القسمين (الإنفاق والجهاد) مشمولان بعناية الحقّ تعالى مع إختلاف الدرجة، فيضيف في النهاية ( وعد الله الحسنى).

وهذا تقدير لعموم الأشخاص الذين ساهموا في هذا الطريق.

وكلمة (حسنى) لها مفهوم واسع، حيث تشمل كلّ ثواب وجزاء وخير في الدنيا والآخرة.

ولكون قيمة العمل بإخلاصه لله سبحانه فيضيف في نهاية الآية: ( والله بما تعملون خبير).

نعم، إنّه يعلم بكيفية وكميّة أعمالكم. وكذلك نيّاتكم ومقدار خلوصكم. ولغرض الحثّ على ضرورة الإنفاق في سبيل الله، ومن خلال تعبير رائع يؤكّد سبحانه ذلك في الآية مورد البحث بقوله: ( من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً)فينفق ممّا آتاه الله في سبيل الله ( فيضاعفه له وله أجر كريم).

إنّه تعبير عجيب حقّاً، حيث إنّ الله الواهب لكلّ النعم وجميع ذرّات وجودنا ـ هي من بحر فيضه اللامتناهي. وبالإضافة إلى أنّنا عبيد له يعبّر عنّا بأنّنا أصحاب الأموال، ويدعونا لإقراضه ضمن شروط مغرية، حيث أنّ السائد أنّ الديون العادية تسترجع بنفس مقاديرها، إلاّ أنّه سبحانه ـ بفضل منه ـ يضاعفها لنا بالمئات أحياناً وبالآلاف أحياناً اُخرى.

[ 33 ]

وإضافة إلى ذلك فإنّه قد وعدنا بأجر كريم أيضاً، وهو جزاء عظيم لا يعلمه إلاّ هو.

* * *

بحوث

1 ـ بواعث الإنفاق

الشيء الجدير بالإنتباه أنّنا نلاحظ في الآيات السابقة تعبيرات مختلفة للحثّ على الإنفاق، أعمّ من المساعدة والمساهمة في موضوع الجهاد أو أنواع الإنفاق الاُخرى للمحتاجين، والتي يعتبر كلّ منها عاملا أساسيّاً ومحرّكاً باتّجاه تحقيق الهدف.

وتشير الآية السابعة لمسألة إستخلاف الناس بعضهم لبعض أو عن الله تعالى في هذه الثروة، وبما أنّ المالكية الحقيقة لله تعالى، والجميع نواباً له في هذه الأموال. فهذا الفهم يستطيع أن يفتح في الحقيقة يد الإنسان وقلبه للإنفاق ويكون عاملا للحركة في هذا المجال.

أمّا في الآية العاشرة فقد ورد مفهوم آخر يتحدّث فيه عن حالة عدم إستقرار الأموال والممتلكات وبقائها بعد فناء الناس جميعاً، لذا يعبّر عنها بـ ( ميراث السموات والأرض) وأنّها لله تعالى.

وفي الآية الحادية عشرة ورد تعبير مرهف بالحساسية، حيث يعتبر الله سبحانه الإنسان هو المقرض وأنّه تعالى هو المستقرض، وليس في هذا القرض ربا، بل فيه أرباح مضاعفة، وأحياناً مضاعفة بالآلاف عوض هذا القرض، بالإضافة إلى الجزاء العظيم الذي لا نستطيع تصوّره.

إنّ هذا كلّه لإزالة النظرات الخاطئة والمنحرفة ودوافع الحرص والحسد وحبّ الذات وطول الأمل التي تمنع من الإنفاق، لتكوين مجتمع على اُسس ودّية وتعاون عميق وروح إجتماعية بنّاءة.

[ 34 ]

2 ـ شروط الإنفاق في سبيل الله!

إنّ التعبير بـ ( قرضاً حسناً) في الآية أعلاه يشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ إعطاء القرض بحدّ ذاته (أقسام وأنواع) فبعضها يعتبر قرضاً حسناً، والآخر قرضاً قليل الفائدة، أو حتّى عديم الفائدة أيضاً.

والقرآن الكريم يبيّن شروط القرض الحسن لله سبحانه كما وضّح ذلك في الآيات المختلفة، وبعض المفسّرين استنتجوا عشرة شروط في مجموع الآيات القرآنية التي تتحدّث عن الإنفاق، وهي كما يلي:

الشرط الأوّل: إنتخاب أجود الأموال للإنفاق وليس من أرخصها شأناً وقيمة، قال سبحانه: ( ياأيّها الذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم، وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلاّ أن تغمضوا فيه واعلموا أنّ الله غني حميد)(1).

ثانياً: يجدر أن يكون الإنفاق والإقراض من الأموال التي هي موضع حاجة الشخص المنفق، حيث يقول سبحانه: ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)(2).

ثالثاً: يجب أن يكون الإنفاق للأشخاص الذين هم موضع حاجة شديدة إليه، وتؤخذ بنظر الإعتبار الأولويات في إنفاقه، قال تعالى: ( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله)(3).

رابعاً: الأفضل والأولى في الإنفاق أن يكون محاطاً بالسّرية والكتمان قال تعالى: ( وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم)(4).

______________________________

1 ـ البقرة، الآية 267.

2 ـ الحشر، الآية 9.

3 ـ البقرة، الآية 273.

4 ـ البقرة، الآية 271.

[ 35 ]

خامساً: أن لا يقترن الإنفاق منّ ولا أذى أبداً، قال تعالى: ( ياأيّها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى)(1).

سادساً: أن يكون توأماً مع خلوص النيّة قال تعالى: ( ينفقون أموالهم إبتغاء مرضات الله)(2).

سابعاً: الشعور بضئالة العطاء وأنّه صغير لا قيمة له حتّى وإن كان كثيراً ومهمّاً، وذلك تلبية لأمر الله وإنتظاراً للجزاء الذي أعدّه للمنفقين. قال تعالى: ( ولا تمنن تستكثر)(3)(4).

ثامناً: أن يكون الإنفاق ممّا تعلّق قلبه به من الأموال، وخاصّة تلك التي تكون موضع تعلّق وشغف، قال تعالى: ( لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون)(5).

تاسعاً: أن لا يرى المنفق أنّه هو المالك للأموال، حيث أنّ المالك الحقيقي هو الله سبحانه، ويعتبر المنفق نفسه واسطة بين الخالق والمخلوق، قال تعالى: ( وأنفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه)(6).

عاشراً: أن يكون الإنفاق من المال الحلال، لأنّه هو الذي يقبل فقط من قبل الله سبحانه، قال تعالى:( إنّما يتقبّل الله من المتّقين)(7).

وجاء في حديث أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «لا يقبل الله صدقة من غلول»(8).

والذي ذكرناه أعلاه هو قسم مهمّ من الضوابط والشروط اللازمة للإنفاق، ولا

______________________________

1 ـ البقرة، الآية 264.

2 ـ البقرة، الآية 265.

3 ـ لهذه الآية تفاسير متعدّدة، أحدها ما ذكر أعلاه وستطالعون بعون الله شرحاً أكثر في تفسير سورة المدثر إن شاء الله.

4 ـ المدثر، الآية 6.

5 ـ آل عمران، الآية 92.

6 ـ الحديد، الآية 7.

7 ـ المائدة، الآية 27.

8 ـ ذكر الطبرسي (قدس سره) هذه الشروط العشرة في مجمع البيان والفخر الرازي في التّفسير الكبير والآلوسي في روح المعاني وقد أدرجناها بإختصار.

[ 36 ]

تنحصر به، ونستطيع من خلال التدقيق والتأمّل في الآيات الكريمة والروايات الإسلامية أن نتعرّف على شروط اُخرى أيضاً.

ثمّ إنّ ما قيل من الشروط بعضها واجب كـ (عدم الأذى والمنّ والإعلان في العطاء) والبعض الآخر مستحبّ ومن شروط الكمال كـ (الإيثار على النفس) حيث إنّ عدمه لا يقلّل من قيمة الإنفاق، بالرغم من أنّ الإنفاق في هذه الحالة لا يرتقي إلى مستوى الإنفاق العالي من حيث الدرجة.

ومع أنّ ما قيل هنا خاصّ في الإنفاق في سبيل الله (الإقراض لله) إلاّ أنّه أيضاً يصدق في كثير من القروض العادية، لأنّ هذه الشروط من الاُمور اللازمة أو من شروط الكمال للقرض الحسن.

وحول أهميّة الإنفاق في سبيل الله فقد ذكرنا شرحاً مفصّلا تفسير الآيات من (261 ـ 267) من سورة البقرة.

3 ـ السابقون في الإيمان والجهاد والإنفاق

الأشخاص الذين يتقدّمون على غيرهم بالإيمان والعمل الصالح فهم ذوو وعي وشجاعة وإيثار وتضحية أكثر من الآخرين بلا شكّ، ولذا فإنّ درجات المؤمنين غير متساوية عند الله، والآية الكريمة إعتمدت هذا المفهوم وميّزت بين الأشخاص الذين أنفقوا قبل الفتح: (سواء كان فتح مكّة أو الحديبية أو مطلق الفتوحات الإسلامية) وجاهدوا أيضاً، وبين الذين أنفقوا وقاتلوا من بعد.

نقل في حديث عن (أبي سعيد الخدري) أنّه قال: «خرجنا مع رسول الله في عام الحديبية (السنة السادسة للهجرة) حتّى إذا كان بعسفان ـ مكان قريب من مكّة ـ قال رسول الله: «يوشك أن يأتي قوم تحقّرون أعمالكم مع أعمالهم» قلنا: من يارسول الله؟ أقريش؟ قال: «لا، ولكنّهم أهل اليمن، هم أرقّ أفئدة وألين قلوباً» قلنا: أهم خير منّا يارسول الله؟ قال: «لو كان لأحدهم جبل ذهب فأنفقه ما أدرك

[ 37 ]

مُدّ(1) أحدكم ولا نصفيه، ألا إنّ هذا فصل ما بيننا وبين النساء لا يتسوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل»(2).

والنقطة التالية جديرة بالملاحظة أيضاً وهي: أنّ الإقراض لله تعالى هو كلّ إنفاق في سبيله، وأحد مصاديقه المهمّة الدعم الذي يقدّم للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة المسلمين من بعده، كي يستعمل في الموارد اللازمة لإدارة الحكومة الإسلامية.

لذا نقل في الكافي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ الله لم يسأل خلقه ممّا في أيديهم قرضاً من حاجة به إلى ذلك، وما كان لله من حقّ فإنّما هو لوليّه»(3).

وجاء في حديث آخر عن الإمام الكاظم (عليه السلام) حول نهاية الآية مورد البحث: ( من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً ...) أنّه قال: «نزلت في صلة الإمام»(4).

* * *

______________________________

1 ـ الظاهر أنّ المقصود من (المدّ الواحد من الطعام) هو أقلّ من الكيلو.

2 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص172.

3 ـ تفسير الصافي، ص522.

4 ـ تفسير الصافي، ص522.

[ 38 ]

الآيات

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـنِهِم بُشْرَيـكُمُ الْيَوْمَ جَنَّـتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَـفِقُونَ وَالْمُنَـفِقَـتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْـتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُور لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَـهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَـكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الاَْمَانِىُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِىَ مَوْلَيـكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

التّفسير

انظرونا نقتبس من نوركم:

لقد بشّر الله المنفقين في آخر آية من الآيات السابقة بالأجر الكريم،

[ 39 ]

وإستمراراً للبحث فالآيات أعلاه تتحدّث عن هذا الأجر، وتبيّن مدى قيمته وعظمته في اليوم الآخر، يقول سبحانه: ( يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم).

وبالرغم من أنّ المخاطب هنا هو الرّسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أنّ من الواضح أنّ الآخرين يرقبون هذا المشهد أيضاً، ولكن بما أنّ تشخيص المؤمنين من الاُمور اللازمة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليتفقدهم فكانت هذه العلامة: ( نورهم الذي يسعى بين أيديهم ...) دالّة عليهم، وبذلك تكون معرفتهم أيسر.

وبالرغم من أنّ المفسّرين ذكروا إحتمالات متعدّدة لهذا «النور إلاّ أنّ المقصود منه ـ في الواقع ـ تجسيم نور الإيمان، لأنّه سبحانه عبّر بـ (نورهم) ولا عجب، لأنّ في ذلك اليوم تتجسّد أعمال البشر، فيتجسّد الإيمان الذي هو نور هدايتهم بصورة نور ظاهري، ويتجسّد الكفر الذي هو الظلام المطلق بصورة ظلمة ظاهرية. كما نقرأ في الآية الكريمة: ( يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم)(1).

وجاء في الآيات القرآنية الاُخرى أنّ الله تعالى يهدي المؤمنين من الظلام إلى النور: ( يخرجهم من الظلمات إلى النور).

التعبير بـ «يسعى» من مادّة (سعى) ـ بمعنى الحركة السريعة ـ دليل على أنّ المؤمنين أنفسهم يسيرون بسرعة في طريق المحشر باتّجاه الجنّة حيث مركز السعادة السرمدية، ذلك لأنّ الحركة السريعة لنورهم ليست منفصلة عن حركتهم السريعة.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ الحديث جاء عن (نورين) (النور الذي يتحرّك أمامهم، والنور الذي يكون عن يمينهم) وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى

______________________________

1 ـ التحريم، الآية 8.

[ 40 ]

قسمين مختلفين من المؤمنين:

قسم المقرّبين وأصحاب الوجوه النورانية، وهؤلاء نورهم يتحرّك أمامهم.

والقسم الثاني وهم أصحاب اليمين ويكون نورهم عن أيمانهم، وذلك كناية عن صحيفة أعمالهم التي تعطى بأيديهم اليمنى ويخرج النور منها.

كما يوجد إحتمال آخر أيضاً وهو أنّ النورين إشارة إلى مجموعة واحدة، وما يقصد بنور اليمين هو كناية عن النور الذي يصدر عن أعمالهم الصالحة ويضيء جميع أطرافهم.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا النور هو دليلهم إلى الجنّة، وعلى ضوئه يسيرون بسرعة إليها.

ومن جهة ثالثة بما أنّ مصدر هذا النور الإلهي هو الإيمان والعمل الصالح فلا شكّ أنّه يختلف بإختلاف درجات الإيمان ومستوى الأعمال الصالحة للبشر، فالأشخاص ذوو الإيمان الأقوى فإنّ نورهم يضيء مسافة أطول، والذين لهم مرتبة أقل يتمتّعون بنور يناسب مرتبتهم، حتّى أنّ نور بعضهم لا يضيء موضع أقدامهم، كما ورد في تفسير علي بن إبراهيم في نهاية الآية مورد البحث: «يقسّم النور بين الناس يوم القيامة على قدر إيمانهم»(1).

وهنا يصدر هذا النداء الملائكي بإحترام للمؤمنين: ( بشراكم اليوم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم).

أمّا المنافقون الذين سلكوا طريق الظلام والكفر والذنوب والمعصية، فإنّ صراخهم يعلو في مثل تلك الساعة ويلتمسون من المؤمنين شيئاً من النور، لكنّهم يواجهون بالردّ والنفي. كما في قوله تعالى: ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم)(2).

______________________________

1 ـ نور الثقلين، ج5، ص241، حديث60.

2 ـ انظرونا من مادّة (نظر) في الأصل بمعنى الفكر أو النظر لمشاهدة إدراك شيء، وتأتي أحياناً بمعنى التأمّل والبحث، وكلّما تعدّت بـ (إلى) فإنّها تأتي بمعنى النظر إلى شيء، وكلّما تعدّت بـ (في) فإنّها تأتي بمعنى التأمّل والتدبّر، وعندما لا تتعدّى بدون حرف جرّ كأن نقول: (نظرية وأنظرته وانتظرته) فإنّها تأتي بمعنى التأخير أو الإنتظار (من المفردات للراغب).

[ 41 ]

«إقتباس» في الأصل من مادّة (قبس) بمعنى أخذ شعلة من النار، ثمّ استعملت على أخذ نماذج اُخرى أيضاً.

المقصود من جملة (انظرونا) هو أن انظروا لنا كي نستفيد من نور وجوهكم لنجد طريقنا، أو انظروا لنا نظر لطف ومحبّة واعطونا سهماً من نوركم، كما يحتمل أنّ المقصود هو أنّ (انظرونا) مشتقة من (الإنتظار) بمعنى أعطونا مهلة قليلة حتّى نصل إليكم وفي ظلّ نوركم نجد الطريق.

وعلى كلّ حال يأتي الجواب على طلبهم بقوله تعالى: ( قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً).

كان من الممكن أن تحصلوا على النور من الدنيا التي تركتموها وراءكم، وذلك بإيمانكم وأعمالكم الصالحة، إلاّ أنّ الوقت انتهى، وفاتت الفرصة عليكم ولا أمل هنا في حصولكم على النور.

( فضرب بينهم بسور له باب) وهذا الباب أو هذا الجدار من نوع خاص وأمره فريد، حيث إنّ كلا من طرفيه مختلف عن الآخر تماماً، حيث: ( باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب).

«السور» في اللغة هو الحائط الذي يحيط بالمدن ـ كما كان في السابق ـ للمحافظة عليها، وفيه نقاط مراقبة عديدة يستقرّ بها الحرّاس للمحافظة ورصد الأعداء تسمّى بالبرج والأبراج.

والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا حيث يقول تعالى: ( باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب) حيث أنّ المؤمنين كسكّان المدينة داخل البستان، والمنافقين كالغرباء القسم الصحراوي، فهم في جوّين مختلفين وعالمين متفاوتين، ويحكي ذلك عن كون هؤلاء كانوا في مجتمع واحد جنباً إلى جنب ولكن يفصل بينهم

[ 42 ]

حاجز عظيم من الإعتقادات والأعمال المختلفة، ففي يوم القيامة يتجسّد نفس المعنى أيضاً.

ولماذا هذا «الباب»، ولأي الأهداف؟

للجواب على هذا التساؤل نقول: من الممكن أن يكون هذا الباب من أجل أن يرى المنافقون من خلاله نعم الجنّة ويتحسّرون عليها، أو أنّ من كان قليل التلوّث بالذنوب وقد نال جزاءه من العذاب بإمكانه أن يدخل منها ويكون مع المؤمنين في نعيمهم.

غير أنّ هذا الحائط ليس من النوع الذي يمنع عبور الصوت حيث يضيف سبحانه: أنّ المنافقين ( ينادونهم ألم نكن معكم) لقد كنّا نعيش معكم في هذه الدنيا فما الذي حدث وإنفصلتم عنّا وذهبتم إلى الروح والرحمة الإلهية وتركتمونا في قبضة العذاب؟

( قالوا: بلى) كنّا معكم في أماكن كثيرة في الأزقّة والأسواق، في السفر والحضر، وكنّا أحياناً جيراناً أو في بيت واحد .. نعم كنّا معاً، إلاّ أنّ إختلافاتنا في العقيدة والعمل كانت هي الفواصل بيننا، لقد كنتم تسيرون في خطّ منفصل عن خطّنا وكنتم غرباء عن الله في الاُصول والفروع، لذا فأنتم بعيدون عنّا. ثمّ يضيفون: لقد إبتليتم بخطايا وذنوب كثيرة من جملتها:

1 ـ ( ولكنّكم فتنتم أنفسكم) وخدعتموها بسلوك طريق الكفر والضلال.

2 ـ ( وتربّصتم) وانتظرتم موت النبي وهلاك المسلمين وإنهدام أساس الإسلام، بالإضافة إلى التهرّب من إنجاز كلّ عمل إيجابي وكلّ حركة صحيحة، حيث تتعلّلون وتماطلون وتسوّفون إنجازها.

3 ـ ( وارتبتم) في المعاد وحقّانية دعوة النبي والقرآن ..

4 ـ وخدعتكم الآمال ( وغرّتكم الأماني حتّى جاء أمر الله).

نعم هذه الأماني لم تعطكم مجالا ـ حتّى لحظة واحدة ـ للتفكّر الصحيح، لقد

[ 43 ]

كنتم مغمورين في تصوّراتكم وتعيشون في عالم الوهم والخيال، واستولت عليكم أُمنية الوصول إلى الشهوات والأهداف المادية.

5 ـ ( وغرّكم بالله الغرور) إنّ الشيطان غرّكم بوساوسه في مقابل وعد الله عزّوجلّ، فتارةً صوّر لكم الدنيا خالدة باقية واُخرى صوّر لكم القيامة بعيدة الوقوع. وفي بعض الأحيان غرّكم بلطف الله والرحمة الإلهية، وأحياناً جعلكم تشكّون في أصل وجود الله العظيم الخالق.

هذه العوامل الخمسة هي التي فصلت خطّكم عنّا بصورة كليّة وأبعدتنا عنكم وأبعدتكم عنّا.

«فتنتم» من مادّة (فتنة) جاءت بمعاني مختلفة كـ (الإمتحان والإنخداع، والبلاء والعذاب، والضلالة والإنحراف، والشرك وعبادة الأصنام) والمعنيان الأخيران هنا أنسب أي الضلال والشرك.

«تربّصتم» من مادّة (تربّص) في الأصل بمعنى الإنتظار، سواء كان إنتظار البلاء والمصيبة أو الكثرة والنعمة، والمناسب الأكثر هنا هو إنتظار موت الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنتكاسة الإسلام، أو أنّ الإنتظار بمعنى التعلّل في التوبة من الذنوب وإنجاز كلّ عمل من أعمال الخير.

«وارتبتم» من مادّة (ريب) تطلق على كلّ شكّ وترديد وما سيتوقّع فيما بعد، والمعنى الأنسب هنا هو الشكّ بالقيامة أو حقّانية القرآن الكريم.

وبالرغم من أنّ مفهوم الكلمات المستعملة في الآية واسع، إلاّ أنّ من الممكن أن تكون لبيان المسائل المذكورة بالترتيب، من مسألة «الشرك» وإنتظار «نهاية عمر الإسلام والرّسول» ومن ثمّ «الشكّ في المعاد» الذي يؤدّي إلى «التلوّث العملي» عن طريق «الإنخداع بالأماني» والشيطان، وبناءً على هذا فالجمل الثلاث الاُولى من الآية ناظرة إلى الاُصول الثلاثة للدين، والجملتان الاُخريتان بعدهما ناظرتان إلى فروع الدين.

[ 44 ]

وأخيراً فإنّ المؤمنين ـ بلحاظ ما تقدّم ـ يخاطبون المنافقين بقولهم: ( فاليوم لا تؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا) وبهذا الترتيب يواجه المنافقون نفس مصير الكفّار أيضاً، وكلّهم رهينة ذنوبهم وأعمالهم القبيحة، ولا يوجد لهم أي طريق للخلاص.

ثمّ يضيف سبحانه: ( مأواكم النار هي مولاكم(1) وبئس المصير).

الإنسان ـ عادةً ـ لكي ينجو من العقوبة المتوقّعة في الدنيا، يتوسّل للخلاص منها إمّا بالغرامة المالية أو طلب العون والمساعدة من قوّة شفيعة، إلاّ أنّه هناك ـ في يوم القيامة ـ لا يوجد أي منهما ينقذ الكفّار والمنافقين من العذاب المحتوم عليهم.

وفي يوم القيامة ـ عادةً ـ تنقطع كلّ الأسباب والوسائل المادية المتعارف عليها في هذا العالم للوصول إلى المقاصد المرجوة، كما تنفصم الروابط حيث يقول سبحانه: ( إذ تبرّأ الذين اتّبعوا من الذين ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب)(2).

( يوم لا بيع فيه ولا خلّة)(3).

( ولا يؤخذ منها عدل)(4)

( يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً)(5).

( يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئاً)(6).

( فلا أنساب بينهم يومئذ)(7).

______________________________

1 ـ «مولى» هنا من الممكن أن تكون بمعنى الولي، أو بمعنى الشخص أو الشيء الذي تكون له الأولوية للإنسان.

2 ـ البقرة، الآية 166.

3 ـ البقرة، الآية 254.

4 ـ البقرة، الآية 48.

5 ـ الدخان، الآية 41.

6 ـ الطور، الآية 46.

7 ـ المؤمنون، الآية 101.

[ 45 ]

( كلّ نفس بما كسبت رهينة)(1)

وبهذه الصورة يوضّح القرآن الكريم أنّ الوسيلة الوحيدة للنجاة في ذلك اليوم هي الإيمان والعمل الصالح في الدنيا، حتّى أنّ دائرة الشفاعة محدودة للأشخاص الذين خلطوا عملا صالحاً وآخر سيّئاً وليسوا من الغرباء مطلقاً عن الإيمان والذين قطعوا إرتباطهم بصورة كليّة من الله وأوليائه وعصوا أوامره.

* * *

ملاحظة

الإستغاثة العقيمة للمجرمين:

نظراً إلى أنّ الكثير من الناس في يوم القيامة يجهلون طبيعة النظام المهيمن هنالك ويتصوّرون أنّ نفس أنظمة الدنيا تحكم هناك أيضاً، فيحاولون إستخدامها. إلاّ أنّه سرعان ما يتبيّن الخطأ الكبير الذي وقعوا فيه.

فأحياناً يتوسّل المجرمون بالمؤمنين بقولهم لهم: ( انظرونا نقتبس من نوركم ...) إلاّ أنّه بسرعة يواجهون الردّ الحاسم، وهو أنّ منبع النور ليس هنا، إنّما في دار الدنيا حيث تخلّفتم عنه بالغفلة وعدم المعرفة.

وأحياناً يطلب كلّ منهم العون من الآخر (الأتباع من قائدهم) فيقولون: ( فهل أنتم مغنون عنّا من عذاب الله من شيء)(2)

وهنا يواجهون الردّ المخيّب لآمالهم أيضاً.

ثمّ إنّهم يستنجدون ويلتمسون العون من خزنة جهنّم حيث يقولون: ( ادعوا ربّكم يخفّف عنّا يوماً من العذاب)(3)

______________________________

1 ـ المدثر، الآية 38.

2 ـ إبراهيم، الآية 21.

3 ـ المؤمن، الآية 49.

[ 46 ]

وأحياناً يتجاوزن ذلك ويلتمسون من الله أن يخفّف عنهم حيث يقولون: ( ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون)(1)

ولكن هذا الطريق هو الآخر مغلق عليهم أيضاً، لأنّ عهد التكليف قد إنقضى وهذه دار الجزاء والعقاب.

* * *

______________________________

1 ـ المؤمنون، الآية 107.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21339229

  • التاريخ : 29/03/2024 - 14:40

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net