00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة المطففين من أول السورة ـ آخر السورة من ( ص 9 ـ 48 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء العشرون)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الأَمْثَلُ في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد العشرون

[5]

 

نهاية تجربة وبداية تجربة اُخرى

ها نحن بفضل اللّه ومنّه وتوفيقه في نهاية المطاف مع «التّفسير الأمثل»، بعد جولة في كتاب اللّه استغرقت خمسة عشر عاماً: ومن المناسب أن يكون لنا مع القارىء الكريم، الذي رافقنا في هذه الرحلة الطويلة، حديث نستعرض فيه عصارة تجربتنا مع هذا التّفسير على أن يكون مفيداً للسائرين على طريق الدراسة والتعمّق في القرآن الكريم.

1 ـ خلال جولتنا في رحاب كتاب اللّه ازددنا تفهّماً لما ورد في الحديث الشريف بشأن وصف القرآن، بل تلمّسنا هذه الأوصاف بكلّ وجودنا، ورأينا باُم أعيننا. من ذلك ما ورد عن النّبي عليه أفضل الصلاة والسّلام أنّه قال في القرآن:

«له نجوم، وعلى نجومه نجوم، ولا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، ومنازل الحكمة».(1)

وعن علي بن موسى الرضا(عليه السلام) أنّه في جواب من سأله: ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلاّ غضاضة؟ قال:

«لأنّ اللّه تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد وعند كلّ قوم غض إلى يوم القيامة».(2)

نعم: إنّه الشجرة الطيبة التي (تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها)، وهو البحر

_______________________________________

1 ـ بحار الأنوار، ج89، ص17.

2 ـ المصدر السابق، ص15.

[6]

الواسع العميق الذي يجد فيه الغواص درّاً جديداً كلما ازداد فيه غوصاً.

هذه الحقيقة تتّضح لكلّ السالكين طريق القرآن، وتبعث فيهم الشوق والإندفاع نحو طلب المزيد من مائدة كتاب اللّه، ونحو مواصلة هذا الطريق حتى نهاية رحلة العمر.

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال في حديثه عن القرآن:

«فيه ربيع القلب، وينابيع العلم، وما للقلب جلاءٌ غيره».(1)

وهذه حقيقة اُخرى تلمّسناها خلال جولتنا في رحاب القرآن الكريم. وكلما عاش الإنسان جوّ القرآن أكثر يحسّ بتفتح جديد في القلب والروح. وهذا الإحساس واضح لكلّ من دخل غمار التجربة. وباب الدخول مفتوح لمن أراد أن يجرّب.

2 ـ من خلال هذه الجولة التّفسيرية تبيّن مدى شمول التعاليم القرآنية، واتضح أنّ القرآن الكريم لم يترك مجالاً من المجالات الحيويّة في الساحة الإنسانية دون أن يبيّن اُصولها ويعيّن إطارها (التفاصيل تكفلت السنّة ببيانها).

من هنا لا يحتاج الإنسان المسلم في تنظيم حياته السياسية والإقتصادية والإجتماعية إلى أن يولّي وجهه شطر مدارس الشرق أو الغرب، وكما قال  أمير المؤمنين علي(عليه السلام):

«واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ولا لأحد قبل القرآن من غنى».(2)

مشكلة المسلمين تكمن في عدم معرفتهم بما بين ظهرانيهم من كنز عظيم:

كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول

وهنا نشير مرّة اُخرى إلى أن معارف القرآن وتعاليمه لا يمكن أن نتلقاها من

_______________________________________

1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 176.

2 ـ المصدر السابق.

[7]

كتاب اللّه العزيز إلاّ إذا جلسنا عنده متتلمذين متعلمين. أمّا إذا اقبلنا على القرآن بذهنية مملوءة بأحكام مسبقة ملتقطة من مدارس الشرق والغرب، فسوف نلجأ إلى زجّ آيات القرآن في إطار مفاهيم غريبة عليه، لتنسجم مع ما نحمله من أحكام ونظريات مسبقة، وبذلك نُحرم من عطاء القرآن، ونحوله إلى «آلة» لتبرير أخطائنا وإسناد أفكارنا الناقصة.

3 ـ بعد هذه الجولة القرآنية التي تلمّسنا فيها الحياة القرآنية بكلّ ما تحمله من عطاء ثرّ لحياة الفرد والجماعة، لابدّ أن نسجّل أسفنا لما يحمله كثير من المسلمين من نظرة إلى القرآن... نظرة تجعل القرآن محاطاً بهالة من القدسية غير أنّه معزول عن الحياة. تتلمس الثواب والبركة في التلاوة، والفضيلة في الحفظ، دون أن ترى فيه منهجاً للحياة.

لقد نسي هؤلاء أنّ القرآن مدرسة للفرد المسلم وللجماعة المسلمة، يرسم لها طريقها في جميع المجالات، ويوجهها الوجهة الصحيحة في كلّ المنعطفات، وهنا تكمن عظمة القرآن وقدسيته.

كثيرة هي مدارس القرآن وخلاوي التحفيظ ومجلس التلاوة في عالمنا الإسلامي، وكم يدور فيها من البحوث حول طريقة التجويد والترتيل! لكن الحديث عن المنهج العملي الذي يطرحه القرآن قليل، والإلتزام بهذا المنهج أقلّ.

ونحن في هذا التّفسير قلّما تعرّضنا لسورة دون أن نبيّن أنّ التلاوة التي بيّنت السنّة فضائلها إنّما هي التلاوة المتبوعة بالفكر والعمل... فضيلة التلاوة أن يكون مقدمة للتفكر، أن يؤدي التفكر إلى العمل.

نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يوفق علماء المسلمين لطرح منهج القرآن بين أبناء الاُمّة، وأن يوفق اتباع القرآن إلى العمل به في كلّ جوانب حياتهم، وهذه كلمتنا الأخيرة في التّفسير الأمثل، وندع بقية الحديث إلى (التّفسير الموضوعي).

والحمد للّه ربّ العالمين

* * *

[9]

 

سُورَة المُطفِّفينَ

مَكيَّة

وَعَدَدُ آيَآتُهَا سِتّ وَثلاثُون آية

[11]

 

«سورة المُطفّفين»

محتوى السّورة:

لقد جرى الحديث بين المفسّرين بخصوص نزولها بين مكّة والمدينة، وبملاحظة أسباب نزول الآيات الاُولى من السّورة، والتي تتعلق بالذين يُخسرون الميزان، فسيظهر أنّ نزولها كان في المدينة.

ولكنّ طبيعة بقية الآيات تأتي تماماً مع سياق الآيات المكّية، حيث أنّها تتحدث وبعبارات موجزة ومثيرة عن حوادث يوم القيامة، وعلى الخصوص الآيات الأخيرة من السّورة والتي تنقل لنا حالة استهزاء الكفّار بالمسلمين، وهو ما ينسجم مع أوضاع مكّة في أوائل الدعوة المباركة، حينها كان المؤمنون عصبة قليلة والكفّار كثرة من حيث العدد. ولعل ذلك هو الذي دفع بالمفسّرين لإعتبار قسم من الآيات مكّية والقسم الآخر مدنية.

وعموماً، فالسّورة أقرب منها للسور المكّية من السور المدنية،

وعلى أية حال، فبحوث السّورة تدور حول محاور خمس: هي:

1 ـتحذير وإنذار شديد للمطفّفين.

2 ـالإشارة إلى أنّ منشأ الذنوب الكبيرة إنّما يأتي من عدم رسوخ الإيمان بالبعث والمعاد.

3 ـعرض لجوانب من عاقبة «الفجّار» في ذلك اليوم العظيم.

4 ـعرض لجوانب ما ينتظر المحسنين في الجنّة من نعم إلهية وعطاء ربّاني جزيل.

[12]

5 ـالإشارة لآثار استهزاء الكفّار بالمؤمنين في الحياة الدنيا، وانعكاس الحال في يوم القيامة.

فضيلة السّورة:

روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه قال: «من قرأ سورة المطفّفين سقاه اللّه من الرحيق المختوم»(1).

وعن الإمام الصّادق(عليه السلام): أنّه قال: «مَن قرأ في فرائضه (ويل للمطفّفين)أعطاه الأمن يوم القيامة من النّار، ولم تره، ولم يرها...»(2).

وبطبيعة الحال، فكلّ هذا الثواب والفضيلة والبركة، سينالها مَن جعل قراءتها مقدمة للعمل على هديها.

* * *

_______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص451.

2 ـ ثواب الاعمال، ص122، وعنه نور الثقلين، ج5، ص527.

[13]

الآيات

وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ(1) الَّذِينَ إِذا اكْتَالُواْ عَلَى الْنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3) أَلاَ يَظُنَّ أُوْلَـئكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ(4) لِيَوْم عَظِيم(5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـلَمِينَ(6)

سبب النّزول

قال ابن عباس: لمّا قَدِمَ نبيّ اللّه المدينة، كانوا من أبخس النّاس كيلاً، فأنزل اللّه هذه الآية، فأحسنوا الكيل بعد ذلك.

وقيل: كان تجار المدينة تجاراً يطففون، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة، فنزلت هذه الآية، فخرج رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فقرأها عليهم وقال: «خمس بخمس»، قيل يا رسول اللّه، وما خمس بخمس؟

قال: «ما نقص قوم العهد إلاّ سلط اللّه عليهم عدّوهم!

وما حكموا بغير ما أنزل اللّه إلاّ فشا فيهم الفقر!

وما ظهرت فيهم الفاحشة إلاّ فشا فيهم الموت!

[14]

ولا طففوا الكيل إلاّ منعوا النبات وأُخذوا بالسنين!

ولا منعوا الزكاة إلاّ حبس عنهم المطر!»(1).

وروى العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان: إنّ رجلاً كان في المدينة يقال له  (أبو جهينة) كان له صاعان، يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر، فنزلت هذه الآيات.(2)

التّفسير

ويلٌ للمُطفِّفين:

بدأ الحديث في هذه السّورة بتهديد شديد للمطففين: (ويل للمطفّفين).

وتمثل الآية في حقيقة توجيهها، إعلان حرب من اللّه عزّوجلّ على هؤلاء الظالمين، الذين يأكلون حقّ النّاس بهذه الطريقة القذرة.

«المطفّفين»: من (التطفيف) وأصله من (الطف)، وهو جوانب الشيء وأطرافه، وإنّما قيل لكربلاء بـ (وادي الطف)، لوقوعها على ساحل نهر الفرات، و(الطفيف): الشيء النزر، و(التطفيف): البخس في الكيل والوزن، ونقص المكيال، وهو أن لا تملأه إلى أصباره.

«ويل»: تأتي بمعاني: حلول الشرّ، الحزن، الهلاك، المشقّة من العذاب، واد مهيب في نار جهنم، وتستعمل عادة في اللعن وبيان قبح الشيء، ورغم صغر الكلمة إلاّ أنّها تستبطن مفاهيم كثيرة.

وروي عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «ولم يجعل اللّه الويل لأحد حتى يسميه كافراً، قال اللّه عزّوجل: (فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم)(3).

_______________________________________

1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج31، ص88; وكذلك..أبو الفتوح والمراغي في تفسيريهما.

2 ـ مجمع البيان، ج10، ص452.

3 ـ اصول الكافي، ج2، ص32; وعنه نور الثقلين، ج5، ص527.

[15]

وما نستفيده من هذه الرّواية هو: إنّ التطفيف فيه وجه من الكفر.

وتتطرق الآيتين التاليتين إلى طريقة عمل المطففين، فتقول الآية الاُولى: (الذين إذا اكتالوا على النّاس يستوفون)(1).

وتقول الآية الثّانية: (إذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون)

وذهب جمع من المفسّرين إلى أنّ الآية أرادت بـ «المطفف» مَن يأخذ عند الشراء أكثر من حقّه، ويعطي عند البيع أقل من الحقّ الذي عليه، والـ «ويل» إنّما جاء بلحاظ هاتين الجهتين.

ولكن ما ذهب أُولئك المفسّرون غير صحيح، بدلالة «يستوفون» التي تعني أخذهم بالكامل، وليس ثمّة ما يدلّ على أخذهم أكثر من حقّهم، ويمكننا توجيه (الذم) الحاصل، باعتبار أخذهم حقّهم كاملاً عند الشراء، وينقصون من حقّ الآخرين عند البيع، كمن يريد أن يذم شخصاً بقوله: ما أغربك من رجل، تراك تأتي في الموعد المقرر عندما تكون دائناً، وتتهرب من أداء ما عليك عندما تكون مديناً.

فأخذ الحقّ في موعده المقرر ليس عملاً سيّئاً، ولكن حصول الحالتين (أعلاه) في شخص واحد هو الشيء.

وقد جاء ذكر «الكيل» في الآيتين عند حالة الشراء، وذكر «الكيل» و«الوزن» عند حالة البيع، وربّما يرجع ذلك لأحد سببين:

الأوّل: كان تجار تلك الأزمان الكبار يستعملون (المكيال) عند شرائهم للكميات الكبيرة من المواد، لأنّه لم يكن عندهم ميزان كبير يستوعب تلك المواد الكثيرة.

(وقيل: إنّ (الكُر)، كان في الأصل إسماً لمكيال كبير.. والكُر: مصطلح

_______________________________________

1 ـ «على النّاس»: اشارة إلى ما لهم لدى النّاس، والتقدير: (إذا كالوا ما على النّاس) وذلك عند الأخذ منهم، وهو ما نستفيده من (كال عليه)..أمّا (كاله) أو (كال له) فهو عند العطاء.

[16]

يستعمل لقياس سعة الماء).

أمّا في حالة البيع، فكانوا يكيلون لبيع الجملة، ويزنون لبيع المفرد.

الثّاني: إنّهم كانوا يفضلون استعمال المكيال عند الشراء، لصعوبة الغش فيه، ويستغلون الميزان عند البيع لسهولة الغش فيه!

وممّا ينبغي الإلتفات إليه..إنّ الآيات وإن تحدثت عن التطفيف في الكيل والوزن، ولكن، لاينبغي حصر مفهومها بهما، فالتطفيف يشمل حتى العدد، وليس من البعيد أن تكون الآيات قد أشارت إلى إنقاص ما يؤدي من خدمة مقابل أجر، كما لو سرق العامل أو الموظف من وقت عمله، فإنّه والحال هذه سيكون في حظيرة «المطففين» المذمومين بشدّة في الآيات المباركة المذكورة.

ويتوسع البعض في مفهوم الآية أكثر وأكثر حتى يجعل أيّ تجاوز لحدود اللّه، وأيّ إنقاص أو اخلال في الروابط الإجتماعية أو إنحلال في الضوابط الأخلاقية، إنّما هو مفردات ومصاديق لهذا المفهوم.

ومع أنّ ظاهر ألفاظ الآية لا يرمز إلى هذه المعاني، ولكنّها لا تخلو من مناسبة.

ولذا، فقد ورد عن ابن عباس، أنّه قال: (الصلاة مكيال، فمن وفى، وفى اللّه له، ومَن طفف، قد سمعتم ما قال اللّه في المطففين)(1).

ويهدد القرآن الكريم المطففين، باستفهام توبيخي: (ألاّ يظنّ أُولئك أنّهم مبعوثون).

(ليوم عظيم).

يوم عظيم في: عذابه، حسابه وأهواله.

(يوم يقوم النّاس لربّ العالمين).

_______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص452.

[17]

أي، إنّهم لو كانوا يعتقدون بالبعث والحساب: وأنّ أعمالهم مسجلة وستعرض كاملة في محكمة العدل الإلهي بخيرها وشرّها، وكبيرها وحقيرها، لو كانوا يعتقدون ذلك، لما ظلموا أحداً، ولأعطوا النّاس حقوقهم كاملة.

وقد اعتبر كثير من المفسّرين: إنّ «الظن» الوارد في الآية من «يظن» بمعنى (اليقين): كما هو في الآية (249) من سورة البقرة: (قال الذين يظنون أنّهم ملاقوا اللّه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه)، وهذه الآية كانت تتحدث عن المراحل المختلفة لإيمان واستقامة بعض بني إسرائيل.

وممّايشهد على ما ذُكر أيضاً، ما روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في تفسير الآية: (ألاّ يظنّ أُولئك أنّهم مبعوثون ليوم عظيم)، أنّه قال: «أليس يوقنون أنّهم مبعوثون»؟(1)

وروي عنه(عليه السلام) أيضاً، أنّه قال: «الظن ظنان، ظنّ شك وظنُّ يقين، فما كان من أمر المعاد من الظنّ فهو ظنّ يقين، وما كان من أمر الدّنيا فهو على الشك».(2)

واحتمل البعض: إنّ «الظنّ» الوارد في الآية، هو ذات «الظنّ» المتعارف عليه في زماننا، وهو غير اليقين، فيكون إشارة إلى أنّ الإيمان بالقيامة يترك أثراً في روح الإنسان، يجعله يتنزّه عن الوقوع في الذنوب والظلم، حتى وإن كان ذلك الإيمان بنسبة «الظنّ»..فكيف به إن كان يقيناً؟! ويصطلح العلماء على هذا المعنى، عنوان (دفع الضرر المظنون) أو (دفع الضرر المحتمل).

فيكون مفهوم الآية، على ضوء ما ورد: ليس المطففين العاصين لا يملكون اليقين بوجود يوم القيامة، بل إنّهم لا يظنون بذلك أيضاً.

(ويبدو أنّ التّفسير الأوّل أنسب).

و«الظنّ» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ: اسم لما يحصل عن إمارة، ومتى

_______________________________________

1 ـ تفسير البرهان، ج4، ص438.

2 ـ نور الثقلين، ج5، ص528.

[18]

قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت جدّاً لم يتجاوز حدَّ التوهم.

وعليه..فاصطلاح «الظنّ» ـ بخلاف ما يتبادر إليه الذهن في زماننا ـ يشمل العلم والظنّ، ويستعمل في الحالتين.

* * *

ملاحظة

التطفيف من عوامل الفساد في الأرض:

تعرض القرآن الكريم للتطفيف في الوزن مراراً، ومن ذلك ما جاء في الآيات (181 ـ 183) من سورة الشعراء، حينما خاطب شعيب(عليه السلام) قومه قائلاً: (أُوفوا الكيل ولا تكونوا من الُمخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا النّاس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين)

فالتطفيف في الوزن والكيل من الفساد في الأرض، وذلك لما تنتج عنه من مفاسد اجتماعية ذات أبعاد واسعة.

كما جاء التأكيد في الآيتين (7 و 8) من سورة الرحمن على ضرورة الإلتزام بالعدالة حين استعمال الميزان، بعد الإشارة إلى أن العدل أصلٌ قد روعي فيه حتى نظام الخلق في عالم الوجود: (والسماء رفعها ووضع الميزان ألاّ تطغوا في الميزان).

ولذا، نجد أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) قد أَولوا هذا الموضوع اهتماماً بالغاً، حتى روي عن الأصبغ بن نباتة، أنّه قال: سمعت أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول على المنبر: «يا معشر التجار! الفقه ثمّ المتجر، الفقه ثمّ المتجر، الفقه ثمّ المتجر» إلى أن قال: «التاجر فاجر، والفاجر في النّار، إلاّ من أخذ الحقّ وأعطى الحقّ».(1)

وفي رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «كان أمير المؤمنين(عليه السلام) بالكوفة

_______________________________________

1 ـ اُصول الكافي، ج5، ص150، الحديث 1.

[19]

يغتدي كل يوم بكرة من القصر، فيطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً، ومعه الدّرة على عاتقه (لمعاقبة المخالفين)، فينادي: يا معشر التجّار اتقوا اللّه عزّوجلّ، فإذا سمعوا صوته(عليه السلام) ألقوا ما بأيديهم، وأرعوا إليه بقلوبهم، وسمعوا بآذانهم، فيقول(عليه السلام): قدموا الإستخارة، وتبركوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزيّنوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وانصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا النّاس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، فيطوف(عليه السلام) في جميع أسواق الكوفة ثمّ يرجع فيقعد للناس»(1).

وبشأن نزول الآيات، قال النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): «ولا طففوا الكيل إلاّ منعوا النبات واُخذوا بالسنين».

وزبدة ما تقدم: يعتبر التطفيف في الميزان من العوامل الأساسية في عذاب وهلاك بعض الاُمم السالفة، حيث أدى ذلك إلى اختلال النظام الإقتصادي عندهم من جهة، وإلى نزول العذاب الإلهي عليهم من جهة اُخرى.

وقد حثّت الرّوايات الواردة في خصوص آداب التجارة على الأخذ ناقصاً والعطاء راجحاً، أي بعكس سلوكية مَن ذمتهم الآيات المبحوثة، فهم يأخذون بدقّة ويعطون ناقصاً.(2)

وكما قلنا في تفسير الآية، فثمّة من يذهب إلى أنّ مفهوم التطفيف أوسع من أن يحدد بالكيل والميزان، ويمتد ليشمل أيّ انقاص في عمل، وأيّ تقصير في أداء وظيفة فردية أو اجتماعية أو إلهية.

* * *

_______________________________________

1 ـ المصدر السابق، الحديث3.

2 ـ ولمزيد من الإطلاع.. راجع وسائل الشيعة، ج12، ص290، أبواب التجارة، الباب 7.

[20]

الآيات

كَلاَّ إِنَّ كِتَـبَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّين(7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ(8) كِتَـبٌ مَّرْقُومٌ(9) وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِّلْمُكَذِّبِينَ(10)

التّفسير

وما أدراك ما سجّين؟!

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن المطفّفين، وعن ارتباط الذنوب بعدم الإيمان الراسخ بالمعاد ويوم القيامة، تشير الآيات أعلاه إلى ما ستؤول إليه عاقبة المسيئين والفجار يوم حلول اليوم المحتوم، فتقول: (كلاّ) فليس الامر كما يظن هؤلاء عن المعاد وأنّه ليس هنا حساب وكتاب، بل (إنّ كتاب الفجّار لفي سجّين).

(وما أدراك ما سجّين).

(كتابٌ مرقوم).

وتوجد نظرتان في تفسير الآية أعلاه:

الاُولى: المراد من «كتاب»: هو صحيفة الأعمال، التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، من الأفعال الإنسان إلاّ وأحصتها.

والمراد بـ «سجّين»: هو الكتاب الجامع لكل صحائف أعمال الإنسان عموماً.

[21]

وما نستفيده من الآيات المذكورة وآيات اُخرى: إنّ أعمال جميع المسيئين تجمع في كتاب يُسمّى «سجّين»، وأعمال جميع الصالحين والأبرار تجمع في كتاب آخر، اسمه «علّيين».

و«سجّين»: من (السجن)، وهو (الحبس)، وله استعمالات متعددة، فهو: السجن الشديد، الصلب الشديد من كلّ شيء، اسم لوادي مهول في قعر جهنم، موضع فيه كتاب الفجّار، ونار جهنم أيضاً.

وقال: «الطريحي» في «مجمع البحرين» في «سجّين»: وفي التّفسير هو كتاب جامع ديوان الشرّ، دَوَّنَ اللّه فيه أعمال الكفرة والفسقة من الجنّ والإنس...(1)

أمّا القرائن التي تؤيد هذا التّفسير، فهي:

1 ـغالباً ما وردت كلمة «كتاب» في القرآن الكريم بمعنى (صحيفة الأعمال).

2 ـظاهر الآية التالية: (كتاب مرقوم) يشير إلى أنّها تفسير لـ «سجّين».

3 ـقيل: إنّ «سجّين» و«سجّيل» بمعنى واحد، وكما هو معلوم أنّ «سجّيل» بمعنى (كتاب كبير).(2)

4 ـوتشير آيات قرآنية اُخرى إلى أنّ أعمال الإنسان تضبط في عدّة كتب، حتى لا يبقى عذر للإنسان في حال حسابه.

وأُولى تلك الكتب، صحيفة الأعمال المعدّة لكلّ شخص، فالصالح سيعطى كتابه في يمينه، والمسيء سيعطى كتابه في شماله.

وهذا المعنى كثير ما تكرر ذكره في القرآن الكريم.

والكتاب الثّاني، هو ما تسجّل فيه أعمال الاُمم، ويمكن أن نسميه بـ (صحيفة أعمال الأُمم) والآية (28) من سورة الجاثية تشير إلى هذا بقولها: (كلّ اُمّة تُدعى

_______________________________________

1 ـ ولم يوضح الطريحي أنّ هذا التّفسير لمعصوم كان أم لغيره.

2 ـ روح المعاني، ج30، ص70، ومجمع البحرين، مادة (سجل).

[22]

إلى كتابها).

وثالث الكتب، هو صحيفة أعمال جميع الأبرار والفجّار، التي وردت الإشارة إليهما في الآيات المبحوثة وما سيأتي من الآيات، باسم «سجّين» و«علّيين».

وخلاصة القول: إنّ «سجّين» عبارة عن ديوان جامع لكافة صحائف الفجّار والفسقة، وأطلق عليه هذا الاسم باعتبار أنّ ما فيه يؤدي إلى حبس أصحابه في جهنم، أو أنّ هذا الديوان موجود في قعر جهنم.

على عكس كتاب الأبرار فإنّه في أعلى علّيين.. في الجنّة.

الثّانية: إنّ «سجّين»، هي «جهنم»... وهي سجن كبير لجميع المذنبين، أو هي محل شديد من جهنم.

و«كتاب» الفجّار، أي: ما قرر لهم من عاقبة ومصير.

فيكون التقدير على ضوء هذا التّفسير: إنّ جهنم هي المصير المقرر للمسيئين، وقد استعمل القرآن كلمة «كتاب» بهذا المعنى في مواضع عدّة، ومن ذلك ما تناولته الآية (24) من سورة النساء حين بيّنت حرمة الزواج من المتزوجات: (كتاب اللّه عليكم) أي، إنّ هذا الحكم (وما سبقه من أحكام)، هي أحكام قررها اللّه عليكم، وكذلك ما جاء في الآية (75) من سورة الأنفال: (وأُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه)، أي فيما قرره اللّه وجعله من أحكام.

وممّا يؤيد هذا التّفسير ما جاء في الرّوايات من أنّ «سجّين» هي «جهنم»...

ففي تفسير علي بن إبراهيم، قال في تفسير: (إنّ كتاب الفجّار لفي سجّين): ما كتب اللّه لهم من العذاب لفي سجّين.

وعن الإمام الباقر(عليه السلام)، أنّه قال: «السجّين الأرض السابعة، وعلّيون السماء السابعة»، (إشارة إلى أخفض وأعلى مكان)(1).

_______________________________________

1 ـ تفسير علي بن إبراهيم، ج3، ص410; وعنه نور الثقلين، ج5،ص 530، الحديث 15.

[23]

وروي في روايات عديدة، إنّ الأعمال التي لا تليق بالقرب منه جلّ شأنه تُسقط في سجّين: كما نُقل الأثر عن سيد البشر(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «إنّ المَلك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً فإذا صعد بحسناته يقول اللّه عزّوجلّ اجعلوها في سجّين، إنّه ليس إيّاي أراد فيها!»(1)

ومن كلّ ما تقدم، نصل إلى أنّ «سجّين»: مكان شديد جدّاً في جهنم، توضع فيه أعمال المسيئين أو صحيفة أعمالهم، أو يكون مصيرهم الحبس في ذلك المكان (السجّن).

وعلى ضوء هذا التّفسير، تكون الآية: (كتاب مرقوم) تأكيداً للآية: (إنّ كتاب الفجّار لفي سجّين)، وليس تفسيراً لها، لأن العقاب قد قرر لهم، وهو قطعي وحتمي.

«مرقوم»: من (رقم» على وزن (زخم)، وهو الخطّ الغليظ، ولكون هكذا خطّ من الوضوح بحيث لا إبهام فيه، فقد استعملته الآية للإشارة إلى قطعية ما قرر لهم من مصير من غير أيِّ إبهام أو إغفال.

وعلى أيّة حال، فلا مانع من الجمع بين التّفسيرين، لأنّ «سجّين» حسب التّفسير الأوّل بمعنى الديوان الجامع لكلّ أعمال المسيئين، وحسب التّفسير الثّاني بمعنى: «جهنم» أو قعرها، فالأمران على صورة علّة ومعلول، فإذا كانت صحيفة أعمال الإنسان السيئة في ذلك الديوان الجامع، فإنّ مقام الديوان هو قعر جهنم.

وتأتي الآية التالية لتقول: (ويلٌ يومئذ للمكذّبين).

التكذيب الذي يوقع في ألوان من الذنوب، ومنها التطفيف والظلم.

وبملاحظة كلمة «ويل» الواردة في أوّل أية وآخر آية، تبيّن شدّة العلاقة

_______________________________________

1 ـ نور الثقلين، ج5، ص530، الحديث 19.

[24]

الموجودة ما بين تلك الأعمال السيئة وإنكار المعاد، حيث بدأ الحديث بالويل للمطفّفين، ومروراً بالفجّار ومن ثمّ الويل للمكذبين بيوم الدين.

وسيتوضح هذا الترابط بشكل أدق في الآيات التالية.

* * *

[25]

الآيات

الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ(11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَد أثِيم(12) إذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـتُنَا قَالَ أَسَـطِيرُ الأَوَّلِينَ(13)كلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ(14) كلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَومَئِذ لَّمحْجُوبُونَ(15) ثُمَّ إِنّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ(16) ثُمَّ يُقَالُ هَـذَا الَّذِى كُنْتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ(17)

التّفسير

صدأ الذنوب:

بعدما ذكرت آخر آية من الآيات السابقة مصير المكذّبين، تأتي الآيات أعلاه لتشرح حالهم، فتقول: (الذين يكذّبون بيوم الدين)، وهو يوم القيامة.

وتقول أيضاً: (وما يكذّب به إلاّ كلّ معتد أثيم).

فإنكار القيامة لا يستند على المنطق السليم والتفكير الصائب والإستدلال العقلي، بل هو نابع من حبّ الإعتداء وارتكاب الذنوب والآثام (الصفة المشبهة «أثيم» تدل على استمرار الشخص في ارتكاب الذنوب).

[26]

فهم يريدون الإستمرار بالذنوب والإيغال بالإعتداءات وبكامل اختيارهم، ومن دون أيّ رادع يردعهم من ضمير أو قانون، وهذا الحال شبيه ما أشارت إليه الآية (5) من سورة القيامة: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه)، وعليه، فهو يكذّب بيوم الدين.

وعلى هذا الأساس، فإنّ للممارسات السيئة أثر سلبي على عقيدة الإنسان، مثلما للعقيدة من أثر على سلوكية وتوجيهات الإنسان، وهذا ما سيتوضح أكثر في تفسير الآيات القادمة.

وتشير الآية التالية للصفة الثّالثة لمنكري المعاد، فتقول: (وإذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين).

فبالاضافة لكون منكر المعاد معتد وأثيم، فهو من الساخرين والمستهزئين بآيات اللّه، ويصفها بالخرافات البالية(1)، وما ذلك إلاّ مبرر واه لتغطية تهربه من مسؤولية آيات اللّه عليه.

ولم تختص الآية المذكورة بذكر المبررات الواهية لاُولئك الضالّين المجرمين فراراً من الإستجابة لنداء الدعوة الربانية، بل ثمّة آيات أُخرى تناولت ذلك، منها الآية (5) من سورة الفرقان: (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تُملي عليه بكرة وأصيلاً)، والآية (17) من سورة الأحقاف، حكاية عن قول شاب طاغ وقف أمام والديه المؤمنين مستهزءاً بنصائحهما قائلاً: (ما هذا إلاّ أساطير الأولين).

وقيل في شأن نزول الآية: إنّها نزلت بشأن (النضر بن حارث بن كلدة)، ابن خالة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان من رؤوس الكفر والضلال.

ولا يمنع نزول الآية في شخص معين، من تعميم ما جاء فيها لكلّ من يشارك

_______________________________________

1 ـ «أساطير»: جمع (اُسطورة) من (السطر)، وغالباً ما تستعمل في وصف الشخصيات الموهومة والأحاديث الملفقة والقصص الكاذبة.

[27]

ذلك الشخص في الصفة والحال.

فالطغاة، كثيراً ما يتذرعون بأعذار واهية، عسى أن يتخلصوا من لوم وتأنيب الضمير من جهة.. ومن اعتراضات النّاس ورجال الحق من جهة اُخرى، والعجيب أنّ الطغاة من الحماقة والتحجّر بحيث أنّ اُسلوب مواجهتهم للأنبياء(عليهم السلام)وعلى مرّ التاريخ قد جاء على وتيرة واحدة، وكأنّهم قد وضعوا لأنفسهم مخططاً  لا  ينبغي الحيد عنه، فعند مواجهتهم لدعوة الأنبياء(عليهم السلام) بتعاليم السماء، ليس عندهم سوى أن يقولوا: سحر، كهانة، جنون، أساطير!

ويعري القرآن مرّة أُخرى جذر طغيانهم وعنادهم، بالقول: (كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).

ما أشد تقريع العبارة! فقد احتوى صدأ أعمالهم كلّ قلوبهم، فأُزيل عنها ما جعل اللّه فيها من نور الفطرة الاُولى وذهب صفائها، ولذا.. فلا يمكن لشمس الحقيقة أن تشرق بعد في اُفق قلوبهم، ولا يمكن لتلك القلوب التعسة من أن تتقبل نفوذ أنوار الوحي الإلهي إلى دواخلها.

«ران»: من (الرين) على وزن (عين)، وهو: الصدأ يعلو الشيء الجليل (كما يقول الراغب في مفرداته)، ويقول عنه بعض أهل اللغة: إنّه قشرة حمراء تتكون على سطح الحديد عند ملامسته لرطوبة الهواء، وهي علامة لتلفه، وضياع بريقه وحسن ظاهره.

وقيل: ران عليه: غلب عليه، ورين به: وقع في ما لا يستطيع الخروج منه ولا طاقة له به(1)

وكل هذه المعاني هي من لوازم المعنى الأوّل.

وسنتناول موضوع تأثير الرين على صفاء القلب ونورانيته في البحوث

_______________________________________

1 ـ راجع: المنجد، وتفسير الفخر الرازي في الآية المبحوثة.

[28]

القادمة.

ويستمر البيان القرآني: (كلاّ إنّهم عن ربّهم يؤمئذ لمحجوبون).

وهو أشدّ ما سيعاقبون به، مثلما منزلة اللقاء باللّه ودرجة القرب منه هي من أعظم نعم الأبرار والصالحين وأكثرها لذةً واستئناساً.

«كلاّ»: عادةً ما تستعمل لنفي ما قيل سابقاً، وللمفسرين أقوال في تفسيرها:

القول الأوّل: إنّها تأكيد لـ «كلاّ» المتقدمة في الآية السابقة، أي: يوم القيامة ليس بأُسطورة كما يزعمون.

والقول الثّاني: «كلاّ» بمعنى لا يمكن إزالة الرين الذي فقأ البصيرة في قلوبهم، فهم محرومون من رؤية جمال الحقّ في هذا العالم وفي عالم الآخرة أيضاً.

القول الثّالث: إنّ الآية تجيب زعم اُولئك من أنّ القيامة (حتى على فرض وجودها!) فهم سينعمون بها كما (يتصورون) بأنّهم منعمين في الدنيا، (وقد تناولت الآيات الأُخرى ما جاء في زعمهم)(1).

ولكنّ أحلامهم ستتلاشى أمام حقيقة وقوع القيامة، وما سينالونه من شديد العذاب.

نعم، فأعمال الإنسان في دنياه ستتجسم له في آخرته شاء أم أبى، ولما كان أُولئك قد أغلقوا عيونهم عن رؤية الحق، ورانت أعمالهم على قلوبهم، فسيحجبون عن ربّهم في ذلك اليوم العظيم، وعندها فسوف لن يتمتعوا برؤية جمال الحق أبداً، وسيحرمون من نعمة اللقاء بالحبيب الحقيقي، الذي لا حبيب سواه.

و: (ثمّ إنّهم لصالوا الجحيم).

فدخولهم جهنم نتيجة طبيعية لاحتجابهم عن اللّه تعالى وأثر لازم له، وممّا لا شك فيه إنّ لهيب الحرمان من لقاء اللّه أشدّ إيلاماً وإحراقاً من نار جهنم!

_______________________________________

1 ـ كما في الآية (32) من سورة الكهف: (وما أطنّ الساعة قائمة ولئن رددت الى ربّي لأجدن خيراً منها منقلباً)، كما وجاء نظير ذلك في الآية (50) من سورة فصلت.

[29]

وتقول الآية التالية: (ثمّ يقال هذا الذي كنتم به تكذّبون).

يقال لهم ذلك توبيخاً ولوماً لزيادة تعذيبهم روحياً، وهو ما ينتظر كلُّ من عاند الحق وتخبط متاهات الضلال.

* * *

ملاحظتان

1 ـ لِمَ كانت الذنوب صدأ القلب؟!

تناول القرآن الكريم في مواضع متعددة ما للذنوب من تأثيرات سلبية على إظلام القلب وتلويثه، فقد جاء في الآية (35) من سورة المؤمن: (كذلك يطبع اللّه على قلب كلّ متكبر جبّار).

وقال في موضع آخر: (ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم)(1).

وجاء في الآية (46) من سورة الحج: (فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور).

نعم.. فأسوأ ما للإستمرار في الذنوب من آثار: إسوداد القلب، فقدان نور العلم، موت قدرة التشخيص بين ما هو حق وباطل.

فآثار ما تقترفه الجوارح من ذنوب تصل إلى القلب وتحوله إلى مستنقع آسن، وعندها لا يقوى الإنسان على تشخيص طريق خلاصه، فيهوى في حفر الضلالة التي توصله لأدنى دركات الإنحطاط، وتكون النتيجة أن يرمي ذلك الإنسان مفتاح سعادته بنفسه من يده، ولا يجني حينها إلاّ الخيبة والخسران.

وروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «كثرة الذنوب مفسدة للقلب».(2)

_______________________________________

1 ـ البقرة، الآية 7.

2 ـ تفسير الدر المنثور: ج6، ص326.

[30]

وفي حديث آخر: «إنّ العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الرين الذي ذكر اللّه في القرآن: (كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)(1).

وروي الحديث (بتفاوت يسير) عن الإمام الباقر(عليه السلام)(2).

وعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإنّ الحديث جلاء للقلوب، إنّ القلوب لترين كما يرين السيف، وجلائه الحديث».(3)

ومن الثابت في علم النفس، أنّ للأعمال الأثر الكبير على نفسية وروحية الإنسان، فنفسية الإنسان تتكيف تدريجياً على ضوء تلك الآثار، وبالنتيجة سينعكس ذلك على فكر وآراء الإنسان.

وينبغي التنويه إلى: أنّ روح الإنسان تتعامل طردياً مع الذنوب، فمع استمرار الذنوب تغوص الروح في أعماق الظلام لحظة بلحظة، حتى تصل إلى درجة يبدأ الإنسان يرى سيئاته حسنات، وربّما يتفاخر بها! وعندها.. ستغلق أمامه أبواب العودة: (إلاّ أن يشاء اللّه)، وهذه الحال من أخطر ما تعرض للإنسان في حياته الدنيوية من حالات.

2 ـ حجاب الروح!

حاول كثير من المفسّرين أن يجعل للآية: (كلاّ إنّهم عن ربّهم لمحجوبون)تقديراً، واحتاروا بين أن يجعلوا التقدير (الحجاب عن رحمة اللّه)، أم الحجاب عن إحسانه، أم كرامته، أم ثوابه...

ولكنّ ظاهر الآية لا يبدو فيه الإحتياج لتقدير، فإنّهم سيحجبون عن ربّهم

_______________________________________

1 ـ المصدر السابق، ص325.

2 ـ نور الثقلين، ج5، ص531، الحديث 22.

3 ـ المصدر السابق، الحديث 23.

[31]

على الحقيقة، بينما سينعم الصالحون الطاهرون بقرب اللّه وجواره ليفعموا بلذيذ لقاء الحبيب، والرؤية الباطنية لهذا الحبيب الأمل، بينما الكفرة الفجرة ليس لهم من هذا الفيض العظيم والنعمة البالغة من شيء.

وبعض المؤمنين المخلصين يتنعمون بهذا اللقاء حتى في حياتهم الدنيا، في حين لا يجني المجرمون المعمية قلوبهم سوى الحرمان...

فهؤلاء في حضور دائم، واُولئك في ظلام وابتعاد!

فلمناجاة المؤمنين مع بارئهم حلاوة لا توصف، وأمّا مَن اسودت قلوبهم فتراهم غرقى في بحر ذنوبهم وتتقاذفهم أمواج الشقاء، (أعاذنا اللّه من ذلك).

ويقول أمير المؤمنين(عليه السلام) في دعاء كميل: «... هبني صبرت على عذابك فكيف اصبر على فراقك».

* * *

[32]

الآيات

كَلاَّ إِنَّ كِتَـبَ الأَبْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ(18) وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ(19) كِتَـبٌ مَّرْقُومٌ(20) يَشْهَدُهُ الْـمُقَرَّبُونَ(21) إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيم(22) عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ(23) تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِم نَضْرَةَ النَّعِيمِ(24) يُسْقَونَ مِن رَّحِيق مَّخْتُوم(25)خِتَـمُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَـفِسُونَ(26) وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيم(27) عَيْنَاً يَشْرَبُ بِهَا الْـمُقَرَّبُونَ(28)

التّفسير

عليّون في انتظار الأبرار:

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن الفجّار وكتابهم وعاقبة أمرهم، ينتقل الحديث في هذه الآيات للطرف المقابل لهؤلاء، فتتحدث عن الأبرار الصالحين وما سيآلون إليه من حسن مآب، ويبدأ الحديث بالقول: (كلاَّ إِنَّ كتابَ الأَبْرارِ لَفي عِلِّيينَ).

«عليّين»: جمع (عليّ) على وزن (ملّي)، وهو المكان المرتفع، أو الشخص

[33]

الجالس في مكان مرتفع، ويطلق أيضاً على ساكني قمم الجبال.

وقد فُسِّر في الآية بـ (أشرف الجنان) أو (أعلى مكان في السماء).

وقيل: إنّما استعمل اللفظ بصيغة الجمع للتأكيد على معنى (العلو في علو).

وعلى أيّة حال، فما عرضناه بخصوص تفسير «سجّين» يصدق على «عليّين» أيضاً، بقوليه:

الأوّل:أنّ المقصود من «كتاب الأبرار» هو صحيفة أعمال الصالحين والمؤمنين، فجميع الأعمال تجمع في هذا الديوان العام، وهو ديوان عالي المقام وشريف القدر.

الثّاني:أنّ صحيفة أعمال الأبرار تكون في أشرف مكان، أو في أعلى مكان في الجنّة، وهذا يكشف عن علو شأنهم ورفعة كرامتهم عند اللّه عزّوجل.

وجاء في الحديث النّبوي الشريف: «عليّون في السماء السابعة تحت العرش»(1).

وهذا بالضبط هو المحل المضاد تماماً لمحل صحيفة أعمال «الفجار»، حيث وضعت في أسفل طبقات جهنم.

وذهب قسم من المفسّرين إلى أنّ الـ «كتاب» هنا يرمز لمعنى (المصير)، أو (الحكم القطعي الإلهي) بخصوص نيل الصالحين درجات الجنّة العلُى.

ولا يضرّ من الجمع بين التّفسيرين، فأعمال الأبرار مجموعة في ديوان عام، ومحل ذلك الديوان في أعلى نقطة من السماء، ويكون الحكم والقضاء الإلهي كذلك مبنيٌّ على كونهم في أعلى درجات الجنّة.

ولأهمية وعظمة شأن «عليّين».. تأتي الآية التالية لتقول: (وما أدراك ما عليّون)، إنّه مقام من المكانة بحيث يتجاوز حدود التصور والخيال والقياس

_______________________________________

1 ـ تفسير القرطبي، ج10، ص7053، ومجمع البحرين: مادة (علو).

[34]

والظن، بل وحتى أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى ما له من علو شأن ومرتبة مرموقة،  فلا يستطيع من تصور حجم أبعاد عظمته.

ويبدأ البيان القرآني بتقريب ألـ «عليّين» إلى الأذهان: «كتاب مرقوم»

وهذا على ضوء تفسير «عليّين» بالديوان العام لأعمال الأبرار، أمّا على ضوء التّفسير الآخر فسيكون معنى الآية: إنّه المصير الحتمي الذي قرره اللّه وسجّله لهم، بأن يكون محلهم في أعلى درجات الجنّة، (بناء على هذا التّفسير فستكون الآية «كتاب مرقوم» مفسّرة لكتاب الأبرار وليس لعليّين).

وكذلك: (يشهده المقرّبون) أي يشاهدونه، أو عليه يشهدون عليه.

ثمّة من ذهب إلى أنّ «المقربون» في الآية، هم ملائكة مقرّبون عند اللّه عزّوجلّ، ينظرون إلى ديوان أعمال الصالحين، أو ينظرون إلى مصيرهم المحتوم.

ولكنّ الآيات التالية تظهر بوضوح بأنّ المقرّبين، هم نخبة عالية من المؤمنين لهم مقام مرموق، وبأمكانهم مشاهدة صحيفة أعمال الأبرار والصالحين.

ويمكن أن نستفيد هذا المعنى من الآيتين (10 و 11) من سورة الواقعة: (والسابقون السابقون أُولئك المقرّبون)... ومن الآية (89) من سورة النحل: (ويوم نبعث في كلّ اُمّة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء).

وينتقل الحديث إلى عرض بعض جوانب جزاء الأبرار: (إنّ الأبرار لفي نعيم).

«النعيم»: هو النعمة الكثيرة ـ على قول الراغب في مفرداته ـ، وجاءت بصيغة نكرة لتعظيم شأنها، أي إنّهم في نعيم مادي ومعنوي لا حَدّ لوصفه.

وينقلنا البيان القرآني لجوانب من نعيم الأبرار: (على الأرائك ينظرون).(1)

_______________________________________

1 ـ المبتدأ محذوف في الآية، التقدير: (هم على الأرائك ينظرون) «ينظرون»، حال، أو أن جملة «على الأرائك»: خبر ثان، نسبة إلى «إنّ» الواردة في الآية السابقة.

[35]

«الأرائك»: جمع (أريكة)، وهي سرير مُنَجّد مزّين خاص بالملوك، أو سرير في حجلة، وجاءت في الآية بمعنى، الأسرة المزينة التي يتكيء عليها أهل الجنّة.

وثمّة من يذهب إلى أنّها معربة من «اُرك» بمعنى قصر الملك في الفارسية، أو القلعة في وسط المدينة، وبما أنّ القلعة في وسط المدينة تكون للملوك عادة اطلق عليها هذه الكلمة، أو بمعنى عرش السلطان الذي يقال عنه بالفارسية «أراك»، ثمّ سمّيت العاصمة به (أراك) و«عراق» معرب «أراك» بمعنى مقر السلطان.

فيما يقول آخرون أنّها من (الأراك) وهو شجر معروف تصنع من الاُسرة، وقيل أيضاً، إنّما سمّيت بذلك لكونها مكاناً للإقامة من (الأروك) وهو الإقامة.(1)

وجاءت «ينظرون» مطلقة، لإعطاء مفهوم السعة والشمول، فمسموح لهم النظر إلى لطف الباري وجماله، وإلى نعم الجنّة الباهرة، وإلى ما أودع فيها من رونق وبهاء.. وذلك لأنّ لذة النظر من اللذائذ الإنسانية التي تدخل الغبطة والسرور في الإنسان بشكل كبير وملموس.

ثمّ يضيف: (تعرف في وجوههم نضرة النعيم).

إشارة إلى أنّ ما يبدي على وجوههم من علائم النشاط والسرور والغبطة، إنّ هو إلاّ إنعكاس لسعادتهم الحقّة، بعكس أهل جهنّم الذين لا يبدو على وجوههم إلاّ علائم الغم والحسرة والندم والشقاء.

«نضرة»: إشارة إلى النشاط والأريحية التي تظهر على وجوههم. (كما أسلفنا القول).

وبعد ذكر نِعَم: «الأرائك»، «النظر»، «الإطمئنان والسعادة»..تذكر الآية التالية نعمة شراب الجنّة، فتقول: (يسقون من رحيق مختوم).

إنّه ليس كشراب أهل الدنيا الشيطاني، بما يحمل من خبث دافع إلى المعاصي

_______________________________________

1 ـ لمزيد من الإيضاح.. راجع مفردات الراغب، ولسان العرب (مادة: أرك).

[36]

والجنون، بل هو شراب طاهر يذكي العقول ويدب النشاط والصفاء في شاربه.

و«الرحيق» ـ كما اعتبره المفسّرين ـ : هو الشراب الخالص الذي لا يشوبه أيَّ غش أو تلوث.

و«مختوم»: إشارة إلى أنّه أصلي ويحمل كلّ صفاته المميزة عن غيره من الأشربة ولا يجاريه شراب قطّ، وهذا بحدّ ذاته تأكيد آخر على خلوص الشراب وطهارته.

والختم بالصورة المذكورة يظهر مدى الإحترام الخاص لأهل الجنّة، حيث أنّ ذلك الإحكام وتلك الأختام مختصة لهم، ولا يفتحها أحد سواهم.(1)

وتقول الآية التالية: (ختامه مسك).

فختامه ليس كختوم أهل الدنيا التي تلوث الأيدي، وأقل ما فيها أنّها في حال فتحها ترمى في سلة الأوساخ، بل هو شراب طاهر مختوم، وإذا ما فتح ختمه فتفوح رائحة المسك منه!

وقيل: «ختامه» يعني (نهايته)، فعندما ينتهي من شرب الرحيق، ستفوح من فمه رائحة المسك، على خلاف أشربة أهل الدنيا، التي لا تترك في الفم إلاّ المرارة والرائحة الكريهة، ولكنّه بعيد بملاحظة الآية السابقة.

ويقول العلاّمة الطبرسي في (مجمع البيان): «التنافس»: تمنّي كلّ واحد من النفسين مثل الشيء النفيس الذي للنفس الاُخرى أن يكون له.

وفي (مجمع البحرين): نافست في الشيء: إذا رغبت فيه على وجه المبارات في الكرم، (سباق سالم ونزيه).

_______________________________________

1 ـ عملية ختم الأشياء (كانت ولا زالت)، تستعمل للإطمئنان على سلامة تلك الأشياء من التلاعب بها، فمثلاً.. لكي يُطمأن على سلامة وصول شيء معين إلى صاحبه المراد، فإنّه يوضع في ظرف خاص مغلق، وإذا ما كان الشيء بدرجة عالية من الأهمية، فلا يكتفي بالغلق، بل يربط بسلك أو ما شابه ومن ثمّ يوضع على عقدته شيء من الشمع أو الطين ويختم بختم معين، كل ذلك للتأكيد من وصوله إلى المراد بدون أن تمتد إليه يد التلاعب.

[37]

وفي (مفردات الراغب): «المنافسة»: مجاهدة النفس للتشبّه بالأفاضل واللحوق بهم من غير إدخال ضرر على غيره.

وجاء مضمون الآية في الآية (21) من سورة الحديد: (سابقوا إلى مغفرة من ربّكم وجنّة عرضها كعرض السماء والأرض)، وما جاء في الآية (133) من سورة آل عمران: (وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم وجنّة عرضها السماوات والأرض).

وعلى آية حال، فدقّة تعبير الآية وشفافيته، من أجمل تعابير التشجيع للوصول إلى النعيم الخالد، من خلال ترسيخ الإيمان في قلوب وتجسيد الأعمال الصالحة على سوح الواقع، والآية قطعة بلاغية رائعة(1)(2)

ونصل لآخر وصف شراب الأبرار في الجنّة: (ومزاجه من تسنيم) أي أنّه ممزوج بالتسنيم، (عيناً يشرب بها المقرّبون)(3).

ومن خلال الآيتين أعلاه، يتّضح لنا بأنّ «التسنيم» هو أشرف شراب في الجنّة، و«المقرّبون» يشربون منه بشكل خالص، فيما يشربه «الأبرار» ممزوجاً بالرحيق المختوم.

أمّا وجه تسمية ذلك الشراب أو العين بـ «تسنيم»، (علماً بأنّ التسنيم في اللغة هو عين ماء يجري من علو إلى أسفل)، فقد قال البعض فيه: إنّه شراب خاص موجود في الطبقات العليا من الجنّة.. وقال آخرون: إنّه نهر يجري في الهواء فينصب في أواني أهل الجنّة.

والحقيقة، فللجنّة ألوان من الأشربة، منها ما يجري على صورة أنهار، كما

_______________________________________

1 ـ يتّضح من تفسير الآية، أنّ اسم الإشارة «ذلك» يعود على جميع نعم الجنّة، وشرابها بالذات لما وصف فيه في الآية.

2 ـ «الواو» و«الفاء» في (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)، كلاهما حرف عطف، وإذا ما سئل عن علة وجودهما معاً، فالجواب هو: يوجد شرط محذوف، والتقدير: «وإن اُريد تنافس في شيء فليتنافس في ذلك المتنافسون»، فحذفت أداة الشرط والجملة الشرطية وقدمت «في ذلك».

3 ـ قيل في سبب نصب «عيناً» عدّة وجوه.. منها: لأنّها حال التسنيم، تمييز، مدح واختصاص.. والتقدير: (أعني).

و«الباء» في «بها»: زائدة، أو بمعنى (من) وهو الأنسب.

[38]

تشير إلى ذلك آيات قرآنية كثيرة(1)، ومنها يُقدّم في كؤوس مختومة، كما في الآيات أعلاه، ويأتي ألـ «تسنيم» في قمّة أشربة الجنّة، وله من العطاء على روح شاربه ما لا يوصف بوصف أبداً.

ونعود لنكرر القول مرّة آُخرى: إنّ حقيقة النعم الإلهية في عالم الآخرة لا يمكن لأيّ كان من أن يتكلم عنها بلسان أو يوصفها بقلم أو يتصورها في ذهن، وكلّ ما يقال عنها لا يتعدى عن كونه صوراً تقريبية على ضوء ما يناسب محدودية الإنسان.

والآية (17) من سورة السجدة: (فلا تعلم نفس ما اُخفى لهم من قرّة عين)خير دليل على ذلك.

* * *

بحثان

1 ـ من هم «الأبرار» و«المقرّبين»؟

ورد ذكر «الأبرار» و«المقربين» كثيراً في القرآن الكريم، وما آُعدّ لهم من درجة رفيعة وثواب عظيم، حتى أنّ اُولي الألباب تمنوا أن تكون وفاتهم مع الأبرار، كما تقول الآية (193) من سورة آل عمران: (وتوفنا مع الأبرار).

وتناولت الآيات (5 ـ 22) من سورة الدهر ما اُعدّ لهم من ثواب جزيل، كما وتناولت الآية (13) من سورة الإنفطار، والآيات المبحوثة بعض ما ينتظرهم من ألطاف إلهية.

فمن هم يا تُرى؟

«الأبرار»: هم أصحاب النفوس الزكية الأبية الطاهرة، ومعتنقي العقائد

_______________________________________

1 ـ كالآية (15) من سورة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم).

[39]

الصائبة، والذين لا يعملون إلاّ ما فيه الخير والصلاح.

و«المقربون»: هم الذين لهم مقام القربة عند اللّه عزّوجلّ.

فبين الأبرار والمقربين عموم وخصوص مطلق، حيث كلّ المقرّبين أبرار، وليس كلّ الأبرار مقرّبين.

وروي عن الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)، أنّه قال: «كلما في كتاب اللّه عزّوجلّ من قوله: «إنّ الأبرار» فواللّه ما أراد به إلاّ عليّ بن أبي طالب وفاطمة وأنا والحسين»(1)

وممّا لا يشوبه شك، أنّ الخمسة الطيبة، تلك الأنوار القدسيّة، وهي أفضل مصاديق الأبرار والمقربين.

وكما ذكرنا في تفسيرنا لسورة الدهر التي تحدثت بشكل رئيسي عن  أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)، وقلنا بأنّ الآيات الثمانية عشر قد تناولت فضائلهم(عليهم السلام)، ولكن لا يمنع من انطباق على غير الخمسة الطيبة(عليهم السلام).

2 ـ خمور الجنّة

تبيّن لنا مختلف الآيات في القرآن الكريم أنّ ثمة ألوان من الأشربة والخمور الطاهرة بأسماء وكيفيات مختلفة، تباين خمور أهل الدنيا الملوثة من جميع جهاتها، فهذه: تأخذ بلبّ الإنسان صوب التيه، توصل شاربها لحال الجنون، كريهة الطعم والرائحة، وتزرع عند شاربها العداوة والبغضاء، تؤدي إلى سفك الدماء وتبث الرذيلة والفساد... أمّا تلك: تذكي عقل شاربها وتصفو به، وتزيده نشاطاً وحيوية، ذات عطر لا يوصف وطهارة خالصة، ويغوص شاربها في نشوة روحية نقية راقية.

_______________________________________

1 ـ نور الثقلين، ج5، ص533، الحديث 33.

[40]

وذكرت السّورة المبحوثة نوعين منها: (الرحيق المختوم) و«التسنيم» في حين ذكرت سورة الدهر أنواعاً اُخرى، وفي سور اُخرى ـ وقد تعرضنا لها في محلها.

وتؤكّد الأحاديث والرّوايات على أنّ تلك الأشربة خالصة لمن تنزّه عن الولوغ في خمور الدنيا الخبيثة.

فعن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال لأميرالمؤمنين(عليه السلام): «يا عليّ من ترك الخمر للّه سقاه اللّه من الرحيق المختوم»(1).

وفي حديث آخر أنّه(عليه السلام) سأله عن هذا الترك أنّه حتى لو كان: «لغير اللّه»؟، قال(صلى الله عليه وآله وسلم): «نعم واللّه، صيانة لنفسه فيشكره اللّه تعالى عن ذلك»(2).

نعم، فهؤلاء من اُولي الألباب، الذين تناولت ذكرهم الآية (193) من سورة آل عمران، واُولي الألباب مع الأبرار في تناول تلك الأشربة الطاهرة.

وروي عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين(عليه السلام) أنّه قال: «مَن سقى مؤمناً من ظمأ سقاه اللّه من الرحيق المختوم»(3).

وجاء في حديث آخر: «مَن صام للّه في يوم صائف، سقاه اللّه من الظمأ من الرحيق المختوم»(4)

* * *

_______________________________________

1 ـ نور الثقلين، ج5، ص534، الحديث 40.

2 ـ المصدر السابق، الحديث 37.

3 ـ المصدر السابق، الحديث 35.

4 ـ مجمع البيان، ج10، ص456.

[41]

الآيات

إِنَّ الَّذِينَ أجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الّذِينَ ءَامَنُوا يَضحَكُونَ(29)وإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ(30) وإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ(31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَّآلُونَ(32) وَمَآ أُرْسِلُوا عَلَيهِمْ حـَـفِظِينَ(33) فَاليَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ(35) هَل ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ(36)

سبب النّزول

ذكر المفسّرون سببين لنزول هذه الآيات:

الأوّل: إنّها نزلت في علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وذلك.. إنّه كان في نفر من المسلمين جاؤوا إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فسخر منهم المنافقون، وضحكوا، وتغامزوا...فنزلت الآية قبل أن يصل علي(عليه السلام) وأصحابه إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

وذكر الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتابه (شواهد التنزيل) عن ابن عباس قال: (إنّ الذين أجرموا) منافقو قريش، و(الذين آمنوا) علي بن أبي طالب(عليه السلام)

[42]

وأصحابه.(1)

الثّاني: إنّها نزلت في مشركي قريش، أبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشياعهم، كانوا يستهزؤون بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم.(2)

التّفسير

بالأمس كانوا يضحكون من المؤمنين..أمّا!!

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن النعم التي تنتظر الأبرار والصالحين في الحياة الآخرة، تبدأ الآيات أعلاه بتبيان جوانب ممّا يعانوه من مصائب ومشاكل في الحياة الدنيا بسبب إيمانهم وتقواهم...

وأنّ ما سيناله الأبرار من ثواب جزيل ليس اعتباطياً.

فالآيات تنقل لنا أساليب الكفار القذرة التي كانوا يتعاملون بها مع المؤمنين البررة، وقد صنّفتها في أربعة أساليب:

الاُسلوب الأوّل: (إنّ الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون)

فأصل الطغيان والتكبر والغرور والغفلة الذي زُرع في نفوسهم، يدفعهم للضحك على المؤمنين والإستهزاء بهم والنظر إليهم بسخرية واحتقار!

وهذا هو شأن كلّ من غرّته أحابيل الشيطان في مواجهة مَن آمن واتقى، وعلى مرِّ الأيّام.

وجاء وصفهم بـ «أجرموا» بدلاً من «كفروا»، للإشارة إلى إمكان معرفة الكافرين من خلال أعمالهم الإجرامية، فالكفر دائماً مصدراً للجرائم والعصيان.

_______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10،ص 457 ـ كما وذكر كثير من المفسّرين مسألة نزولها في علي بن أبي طالب، ومشركي مكّة، كما في تفسير القرطبي، وروح البيان، والكشّاف، وتفسير الفخر الرازي...الخ.

2 ـ روح المعاني، ج30، ص76.

[43]

والاُسلوب الثّاني:(وإذا مرّوا بهم يتغامزون) فحينما يمرّ المشركون على مجموعة من المؤمنين يغمزون بأعينهم ويشيرون إليهم بالقول:

اُنظروا إلى هؤلاء الفقراء المعدمين.. إنّهم أصبحوا مقرّبين عند اللّه!

اُنظروا إلى هؤلاء الحفاة العراة.. إنّهم يدّعون نزول الوحي الإلهي لهم!

انظروا إليهم.. فإنّهم يعتقدون بأنّ العظام البالية ستعود إلى الحياة مرّة اُخرى!! وما شابه ذلك، من الكلمات الرخيصة والموهنة..

ويبدو أنّ ممارسة الضحك من قبل المشركين يكون حينما يمرّ المؤمنون من أمامهم وهم متجمعون، في حين يمارسون الاُسلوب الثّاني وهو الإشارات الساخرة والغمز واللمز حين مرورهم هم أمام جمع من المؤمنين، لعدم تمكنهم من الضحك العلني أمام جمع المؤمنين.(1)

«يتغامزون»: من (الغمز)، وهو الإشارة بالجفن أو اليد طلباً إلى ما فيه معاب، وعبّرت الآية بهذا اللفظ «التغامز» للإشارة إلى اشتراكهم جميعاً في ذلك الفعل.

ولكنّهم لم يكتفوا بالنيل من المؤمنين في حضورهم من خلال الضحك والتغامز، بل تعدوا إلى حال غيابهم أيضاً، حيث تنقل لنا الآية التالية، الاُسلوب الثّالث بقولها: (وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين).

وكأنّهم في ضحكهم وتغامزهم قد نالوا فتحاً كبيراً! فتأخذهم نشوة تصور الغفلة والجهل لأن يتباهوا فيما قاموا به من فعل قبيح، ويبقون على حالة السخرية والإستهزاء بالمؤمنين رغم غياب المؤمنين عنهم!...

«فكهين»: جمع (فكه)، وهي صفة مشبهة من (الفكاهة) بمعنى التمازح والضحك، مأخوذة من (الفاكهة)، وكأن لذة الخوض في هكذا حديث وسخرية كلذة أكل الفاكهة، كما ويطلق على حديث ذوي الأنس اسم (فكاهة).

_______________________________________

1 ـ ذكر المفسّرون احتمالين في ضمير «مرّوا» و«بهم»، فارجع بعضهم الأوّل الى المشركين والثّاني إلى المؤمنين، وقال البعض الآخر عكس ذلك، ويبدو أن الاحتمال الأوّل أقرب بلحاظ ما ذُكر أعلاه.

[44]

«الأهل»: هم العائلة والاقرباء، وقد تشمل الأصدقاء المقرّبين أيضاً.

والاُسلوب الرّابع: (وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالّون).

لماذا؟ لأنّهم تركوا ما كان شائعاً من عبادة الأصنام، والخرافات التي يعتبرونها هداية! واتجهوا نحو الإيمان باللّه والتوحيد الخالص.

ولأنّهم باعوا لذة الدنيا الحاضرة بنعيم الآخرة الغائبة!...

ويمكن أن تكون هذه المواجهة قد حدثت بعد إنتهاء مرحلة الإستهزاء، بعد أن غُلّف الأمر بطابع الجديّة ورأوا ضرورة المواجهة الشديدة، لأنّ حال المشركين والكافرين على مرّ التاريخ في مواجهتهم لدعوة ورسالات الأنبياء(عليهم السلام)تبدأ بالسخرية وعدم المبالاة، وكأنّهم لم يشاهدوا بعد من الدين الجديد ما يوجب الوقوف أمامه بجدٍّ وحزم، ولكن بمجرّد إحساسهم بأنّ الدين الإلهي راح ينفذ إلى قلوب النّاس، ورؤيتهم لازدياد أتباعه، سيزداد إحساسهم بالخطر، فيدخلون مرحلة المواجهة العنيفة مع الدين الجديد.

فتشير الآية إلى أوّل خطوة جادة من قبل المجرمين في قبال المؤمنين، التي تتبعها خطوات وخطوات حتى تصل الحال إلى المواجهة الدموية الحادّة.

وغالباً ما لا يكون المؤمنون من أثرياء أو وجهاء القوم، ولذلك يُنظر إليهم باحتقار ويهزأ بدينهم وإيمانهم، في مجتمع يسوده التمايز الطبقي بشكل راسخ وظاهر.

فيقول القرآن الكريم في الآية التالية: (وما أرسلوا عليهم حافظين)

فبأي حقّ إذَن يهزأون بهم، ويقفون أمامهم؟!

تنقل لنا الآية (27) من سورة هود ما قاله المستكبرين من أثرياء قوم نوح(عليه السلام): (وما نراك اتبعك إلاّ الذين هم أراذلنا بادي الرأي)، وتنقل لنا الآية (31) من نفس السّورة جواب نوح(عليه السلام): (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم اللّه خيراً اللّه أعلم بما في أنفسهم).

[45]

فجواب نوح(عليه السلام) عام يشمل حتى اُولئك المغرورون في صدر الإسلام.. فما شأنكم وهؤلاء؟! وعليكم أن تنظروا إلى هذا الدين، وإلى النّبي الذي جاء بهذا الدين، ولا تنظروا إلى مَن آمن به واتبعه!...

وتبقى أساليب الذين يعادون الحقّ محدودة في إطار الحياة الدنيا، ولكن إذا كان يوم القيامة، فستختلف الحال تماماً: (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون).

فيوم القيامة، يوم مجازات الأعمال وإجراء العدالة الإلهية، والعدالة تقتضي بأن يستهزأ المؤمنون بالكافرين المعاندين للحقّ، والإستهزاء في ذلك اليوم أحد ألوان عذاب الآخرة الأليم الذي ينتظر اُولئك المغرورون والمستكبرون.

وروي عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «المستهزئين بالنّاس في الدنيا يرفع لأحدهم يوم القيامة باب من أبواب الجنّة، فيقال له: هلم، فيجيء بكربه وغمّه، فإذا أتاه أغلق دونه، ثمّ يفتح له باب آخر، فيقال: هلم هلم، فيجيء بكربه وغمّه، فإذا أتاه أغلق دونه، فما يزال كذلك حتى أنّه ليفتح له الباب فيقال: هلم هلم، فلا يأتيه من أياسه»(1)..(وهنا يضحك المؤمنون الذين يطلعون عليه وعلى بقية الكفار من جنتهم).

وتقول الآية التالية: (على الأرائك ينظرون).

ماذا ينظرون؟

إنّهم ينظرون إلى: نعم اللّه التي لا توصف ولا تنفد في الجنّة، وإلى كلّ ما فازوا به من الألطاف الإلهية والكرامة، وإلى ما أصاب الكفار والمجرمين من العذاب الأليم خاسئين...

وفي آخر آيات السّورة، يقول القرآن مستفهماً: (هل ثوّب الكفار ما كانوا

_______________________________________

1 ـ تفسير الدر المنثور، ج6، ص328.

[46]

يفعلون)(1).

فهذا القول سواء صدر من اللّه، أو من الملائكة، أو من المؤمنين، فهو في كلّ الحالات يمثل طعناً واستهزاءاً بأفكار وادعاءات اُولئك المغرورون، الذين كانوا يتصورون أنّ اللّه سيثيبهم على أعمالهم القبيحة، ويأتيهم النداء ردّاً على خطل تفكيرهم: (هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون).

واعتبر كثير من المفسّرين أنّ الآية (جملة مستقلة)، في حين اعتبرها آخرون تابعة للآية التي قبلها، أيّ: إنّ المؤمنين سيجلسون على الأرائك ينظرون هل أن الكفار نالوا جزاءهم العادل؟

فإنّ كانوا يرجون ثواباً فليأخذوه من الشيطان!... ولكن هل بإمكان هذا اللعين المطرود من رحمة اللّه أن يثيبهم على ما عملوا له؟!

«ثوّب»: من (الثوب) على وزن (جوف)، وهو رجوع الشيء إلى حالته الاُولى التي كان عليها، و«الثواب»: ما يرجع إلى الإنسان جزاء أعماله، ويستعمل للخير والشرّ أيضاً، ولكن استعماله للخير هو الغالب(2).

وعليه، فالآية تشير إلى الطعن بالكفار كنتيجة طبيعية لإستهزاءهم بالمؤمنين وبآيات اللّه في الحياة الدنيا، وما عليهم إلاّ أن يتقبلوا جزاء ما كسبت أيديهم.

* * *

بحث

الإستهزاء.. سلاح بائس:

من الحراب التي طالما شُهرت في وجوه الأنبياء(عليهم السلام) عبر التاريخ.. حربة الإستهزاء والسخرية، وعكست لنا الآيات القرآنية مراراً تلك الصور التي تحكي

_______________________________________

1 ـ الإستفهام في الآية.. استفهام تقريري.

2 ـ مفردات الراغب: مادة (ثوب).

[47]

هذا الموضوع، ولا عجب في ذلك حين صدور الإستهزاء من اُناس ابتلوا بالظلم والكفر، لأنّ مصدر كفرهم وظلمهم هو عقدة الغرور والتكبر التي تدفعهم للنظر إلى الآخرين بعين التحقير والتصغير.

ولم ينفلت زماننا المعاش من مدار تلك الأساليب القديمة، فما زال الإعلام الكافر وعبر وسائله التقنية، ما زال يبذل كلّ ما في جهده في استعمال ذات الحربة القديمة، عسى أن يُخرج الحقّ وأتباعه من الميدان، وبواجهات عدّة، ومنها تلك التي يسمّونها برامج الترفيه والفكاهة.

ولكنّ المؤمنين أقوى من أن تزلزلهم تلك الألاعيب الماكرة الواهية، وهم مطمئنون تماماً بالوعد الإلهي الحق، كما ورد في الآيات أعلاه.

وما استعمال أساليب السخرية والغمز والضحك في قبال دعوة تدعو إلى الحق إلاّ كاشف عن جهالة وغرور اُولئك المساكين.

فحتى على فرض عدم الإيمان بالدين الحق، أو ليس المنطق السليم والحجّة القاطعة هي سلاح الإنسان العاقل؟ فأين هم من إنسانيتهم أمام ما يمارسونه؟!...

اللّهمّ! قنا من الغرور والتكبر.

اللّهمّ! ارزقنا طلب الحق وزيّنا بالتواضع.

اللّهمّ! اجعل صحيفة أعمالنا في «عليين» وجنبها من الوقوع في «سجّين»...

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة المطفّفين




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21404002

  • التاريخ : 20/04/2024 - 03:53

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net