• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الأخلاق في القرآن .
                    • الموضوع : المثل الثامن: عاقبة الاُمور .

المثل الثامن: عاقبة الاُمور

يقول الله تعالى في ثامن مثل من أمثال القرآن في الآية 266 من سورة البقرة:

(أيَوَدُّ أحَدَكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِيْل وَأعْنَاب تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيْهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وأصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَةٌ ضُعَفَاءُ فأصَابَهَا إعْصَارٌ فِيْهِ نَارٌ فاحْتَرَقَت كَذلك يُبَيِّن اللهُ لَكُمُ الآياَتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) .

 

تصوير البحث

كيف يكون أحدكم راغباً في ان يبتلى بمصير الشخص الذي له بستان فيه نخيل وأشجار مثمرة وفيه أنهار بعد ما بلغ هذا الشخص سن الكبر، وكان قد جمع حوله ذرية واطفالا ضعفاء، حينئذ يواجه البستان إعصاراً متزامناً مع نار ملتهبة تلتهم بستانه وما فيه ليصبح ذليلا بعد عمر من العز.

 

الشرح والتفسير

للمفسرين أقوال في هذه الآية:

يعتقد بعض المفسرين أنَّ هذا المثل يحكي عاقبة الإنسان الذي يحرق محاصيل انفاقه وبذله بنار الرياء، لتذهب بذلك أعماله الصالحة وعباداته سُدى.

قد يقوم البعض باعمال كثيرة من قبيل الحج والصلاة والصيام والجهاد واعانة المساجد وبناء المستشفيات واعانة الايتام، وقد يقضي عمراً طويلا في هذه الأعمال إلاَّ أنه قد يحرقها ويُذهب بها مع الريح ليمحو آثارها وذلك بأن يتراءى بها.(1)

ويرى البعض أنَّ آية المثل لا تختص بالرياء، بل تشمل جميع الذنوب، فإنَّ الآية تحذّر المسلمين ليراقبوا أعمالهم وعباداتهم، ويحفظوها مما قد يدمرها ويحرقها من الذنوب.

وحسب هذه الاية، فانّ الإنسان إذا لم يراقب أعماله قد يبتلي بمصير هذا الشيخ الذي تضرر هو مع عياله وأولاده وأوقع مستقبل اطفاله بخطر.(2)

وبعبارة أخرى: يا إنسان! حافظ على أعمالك وعباداتك دائماً وبشكل مناسب وفكر بعاقبة امرك; وأنَّ حفظ العمل اصعب من اداء نفس العمل.

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «من قال لا إله الا الله، غرس الله بها شجرة في الجنة»، والحديث يعني أنَّ الإنسان كلما نطق بهذه الكلمة غرست له شجرة في الجنة.

والمستفاد من هذه الرواية هو أنَّ الجنة وكذا جهنم تبنى بواسطة أعمالنا، فهي ليست مبنية من ذي قبل.

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «من قال: سبحان الله غرس الله بها شجرة في الجنة. ومن قال: الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنة. ومن قال: لا اله الا الله غرس الله له بها شجرة في الجنة. ومن قال: الله اكبر غرس الله له بها شجرة في الجنة».

فقال رجل من قريش: يا رسول الله إنّ شجرنا في الجنة لكثير، قال: «نعم، ولكن إيَّاكم أنْ ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها وذلك أنَّ الله عزوجل يقول: (يَا أيُّهَا الّذِيْنَ آمَنُوا أطِيْعُوا اللهَ وأطِيْعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أعْمَالَكُم).(3)

ويقول الرسول(صلى الله عليه وآله) في حديث آخر: «العلماء كلهم هلكى إلاَّ العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلاَّ المخلصون، والمخلصون على خطر».(4)

وفي هذا الحديث تحذير آخر للانسان بان لا يذهب باعماله الخالصة الماضية بذنوبه المقبلة.

(أيَوَدُّ أحَدَكُم أنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيْل وَأعْنَاب) إنَّ الإشارة إلى فاكهة العنب والتمر دون غيرهما يفيد أنهما أهم أغذية للبشر، أما الأهم منها فمعدم أو قليل.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ فِيْهَا مِنْ كُلِّ الثَمَرَاتِ) البستان قد يحتوي على بركة أو قنال يسقى منها، والأخير قد يستدعي بذل المال مقابل الماء. وفي كلا الحالتين، إنَّ السقي بهما يستلزم متاعب وزحمات جمة. إلاَّ أنَّ البستان الذي تحدثت عنه الآية يقع في مسير نهر، وهذا يعني أنَّ السقي لهذا البستان مريح جداً ولا يستدعي تحمل زحمات وافرة. اضافة إلى هذا; فإنَّ في هذا البستان فواكه من قبيل التمر والعنب.

(وأصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءٌ) أي أنَّ صاحب هذا البستان أصبح شيخاً كبيراً. وضعف الذرية اشارة إلى عدم امكانهم اعانته على شؤون البستان، بل انَّ عبء هؤلاء الأطفال واقع جميعاً على عاتق هذا الشيخ، وهذا البستان لا يحتاج إلى عناية كبيرة ومستمرة فيمكنهم التمتع بمحاصيله وثماره.

(فَأصَابَهَا إعْصَارٌ فِيْهِ نَارٌ فاحْتَرَقَتْ) أي في الوقت الذي يكون فيه الشيخ بأمسِّ الحاجة إلى هذا البستان يأتي إعصار من نار يحرق هذا البستان ويبدله إلى تل من الرماد ثم يذهب هذا الرماد مع الريح متناثراً بحيث لا يبقى أي اثر منه.

الإعصار يحصل اثر اصطدام ريحين قادمين من اتجاهين مختلفين، وهو يحضى بقدرة عجيبة إذا حصل في مكان فانه يذهب معه كل ما يكون هناك من اشياء، فقد يذهب بماء حوض مع اسماكه ويسقطها في مكان اخر بحيث يتصور البعض انّ الاسماك جاءت من السماء، وقد يرفع انساناً من مكانه ويلقيه في مكان آخر.

سؤال: كيف يحصل النار ويتزامن مع هذا الاعصار؟

هناك إجابات عديدة لهذا السؤال:

الف - يعتقد البعض أنَّ الاعصار خال من النار، والنار تقدم من الصواعق فالصاعقة تحرق البستان ثم يأتي الاعصار ليذهب برماد البستان وينقله إلى مكان آخر.

باء - إنَّ الاعصار قد يتلاقى مع نار مستعرة فياخذ منها ويلقيه على البستان فيحترق البستان ويتبدل رماداً.

جيم - هذه الأعصار ليست اعصاراً متعارفة، بل هي اعصار يطلق عليها (سموم) تهب غالباً في السعودية والذين يقعون في طريقها يتقنعون وينبطحون إلى أنْ تَتجاوزهم، وهذه الأعصار عندما تلاقي البستان تحرقه وتدمره.

(كَذَلك يُبَيِّن اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُم تَتَفَكَّرُونَ) يعتبر الله الهدف من هذا المثل هو التفكّر والتعقل. ووفقاً لهذه الآية الشريفة، فإنَّ على الإنسان أن يودع نفسه بيد الله ويعتقد أنَّ كل ما يقوم به من أعمال وطاعات وعبادات هي قليلة في حق الله وأنَّ ما يصله من الله تعالى من نعيم هو بلطفه وإحسانه لا لعمل وعبادة استحق بهما الإنسان تلك النعم.

من المؤسف أنَّ هذا الإنسان الضعيف قد لا يفكر جيداً ويغتر بما جاء به من ركعات صلاة وأيام من الصوم فيعد نفسه - لأجل ذلك - من أصحاب الجنة. بل يعد الجنة، واجبة له، ونفس هذا الإنسان قد يرى نفسه ميتاً خلو الإيمان.

اللهم اجعلنا من المرحومين ولا تجعلنا من المحرومين.

 

إنّ السوء كان عاقبة هذا الشخص

في زمن الطاغوت البهلوي كان طالب حوزة متدينٌ جداً ومتق، وكان يواضب على اعماله كثيراً، وقد كان متذمراً من اخيه ولا يعاشره لاجل انه كان لا يدفع الخمس والزكاة. في يوم من الأيام مرض هذا الطالب مرضاً شديداً فاخذه اخوه إلى بيته ليعتني به وأثناء تواجده عند أخيه ذهب احد الاساتذة لعيادته وعند الدخول قال للاستاذ: لا تجلس على السجادة لانها مغصوبة.. لكن الزمان غيّر هذا الطالب ولم يبقه على ما كان، بل حوّله إلى درجة أنّه ما كان يجلس على مأدبة طعام خالية من المسكر.

يقول الإمام علي(عليه السلام) في الخطبة القاصعة(5) التي تعرض في جزء منها إلى آثار التكبر والعجب: «فاعتبروا بما كان من فعل الله بابليس إذ احبط عمله الطويل وجهده الجهيد وكان قد عبد الله ستة الاف سنة، لا يدري أمن سني الدنيا ام من سني الاخرة عن كبر ساعة واحدة»، فإنَّ ساعة من العناد والتكبر احبطت اعماله وورطته بمصير لا يحمد.

وعلى هذا، فلا ينبغي ان يغتر الإنسان ابداً بطاعاته واعماله، بل عليه ان يتطلع دائماً إلى عفو الله ورحمته.

اللهم اجعل عاقبة أمرنا خيراً.

 

خطابات آية المثل هي الاحباط والتكفير

من البحوث المطروحة في علم الكلام هي مسألة الاحباط والتكفير وقد أشارت اليهما الآية.

إنَّ الاحباط عبارة عن أعمال وذنوب، الاتيان بها يؤدي إلى ذهاب حسنات الإنسان وعباداته. أمّا التكفير فهو عبارة عن اعمال، اداؤها يؤول إلى ذهاب الذنوب ومحوها. وعلى سبيل المثال، فإنَّ تكبر الشيطان وحسده ولجه سبب في احباط اعماله التي أدَّاها خلال ست الاف سنة، أمّا توبة الحر بن يزيد الرياحي عند الامام الحسين(عليه السلام)فقد كانت تكفيراً لذنوبه التي ارتكبها.

ان التوبة تطفي نار الذنوب، وعلى المسلمين ان يتوبوا وينيبوا إلى الله دائماً بالدعاء والمناجاة والتوسل بالأئمة المعصومين (عليهم السلام).

اضافة إلى الايات، فإن ادعية العشرة الثالثة من شهر رمضان أشارت إلى مسألة الاحباط والتكفير، فنقرأ في دعاء ليلة القدر مثلا: «وان كنت من الاشقياء فامحني من الاشقياء واكتبني من السعداء»(6) فان القسم الاول من الدعاء يشير إلى مسألة الاحباط والقسم الثاني إلى مسألة التكفير.

 

الاستدلال على وجود الاحباط والتكفير

رغم أنَّ بعض العلماء المسلمين لا يعتقد بالاحباط والتكفير ولا يرى تأثيراً لاحدهما على الاخر أي أنَّ الأعمال الحسنة لا تؤثر على السيئة والسيئة لا تؤثر على الحسنة، لكن القرآن يصرح في بعض الآيات بالاحباط والتكفير.

ونختار من ذلك بعض النماذج:

الف - يقول الله في الآية 114 من سورة هود: (وَأَقِمِ الصَّلوةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلْفاً مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلك ذِكْرَى للذّاكِرِينَ) .

باء - يتحدث القرآن المجيد عن الاحباط في الآية 5 من سورة المائدة: (وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَة مِنَ الْخَاسِرِينَ) . (7)

وعلى هذا، فأصل الإحباط والتكفير قد بُيِّنَ في الآيات، إلاّ أنها لم توضح أي نوع من الذنوب توجب الاحباط وأي نوع من الاعمال توجب التكفير، وعلينا استفادة ذلك من الروايات.

ما ينبغي علينا إلاّ مُراقبة أعمالنا خوف أنْ يصدر منّا عمل يحبط اعمالا قيّمة كثيرة. وإذا ما اذنبنا فعلينا طلب الاعانة من الله بالبكاء والنواح لكي يتوافر بذلك بحر من الماء يطفئ نار الذنوب. وإذا كانت شخصية مثل الإمام علي ((عليه السلام)) يسجد ويقول خضوعاً: «آه من قلّة الزاد وطول الطريق وبعد السفر...»(8) فكيف بنا نحن انا وأنت؟!

ــــــــــــ 

1. انظر الأمثل 2: 216 - 217.

2. انظر مجمع البيان 2: 379.

3. بحار الأنوار 90: 168.

4. ميزان الحكمة، الباب 1032، الحديث 4768.

5. نهج البلاغة، الخطبة 192.

6. مصباح الكفعمي، أعمال ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان المبارك اضافة الى هذا فان جملة (ان تجعل اسمي في هذه الليلة في السعداء) نجدها في جميع ادعية الليالي العشر الاخيرة من شهر رمضان.

7. وهناك آيات أخرى من القرآن الكريم دلت على الاحباط والتكفير، للمزيد راجع تفسير الأمثل 2:67 - 96، ومحال أُخرى من الكتاب نفسه متناثرة في باقي مجلداته، منها في سورة هود ومنها في سورة الحجرات وغيرهما من السور.

8. نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 77.

منقول من مركز آل البيت عليهم السلام للمعلومات


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1064
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 06 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29