• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المشرف العام .
              • القسم الفرعي : مقالاته .
                    • الموضوع : الانتصار على النفس .

الانتصار على النفس

الشيخ عبد الجليل المكراني

قال أمير المؤمنين ومولى المتّقين سلام الله عليه: (إنّما هي نفسي أروّضها  بالتقوى؛ لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق)(1).

في هذه المقطوعة العلوية المباركة دَرْسٌ من حياة هذا الإنسان العظيم الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، والتي هي منهج متكامل في تهذيب النفس وتطهير القلب وتربية الروح ممّا يهبط بها وينزلها من ساحة القيم والمثل الإنسانية العليا.

إنّ المدارس التربوية المعاصرة والقديمة قد لا تتفهّم مسألة تهذيب النفس وجهادها المطروح ضمن الثقافة الروحية والتربوية الإسلامية، بل السائد والمشاهد في أدبيات الفلسفات التربوية والأخلاقية المعاصرة عكس ذلك؛ لذا نراها تدعو للاعتزاز بالذات، والسماح لأهواء الإنسان ورغباته بالظهور والتحقق في دنيا الإنسان الروحية والمعنوية والمادية. ويعبّر عن هذا الاتجاه بإشباع الغريزة والحصول على اللذة.

وفي الثقافة المعاصرة الآن اتجاه شيطاني خبيث يدعو إلى الاندفاع وراء الحسّيات والشهوات، وتحقيق كلّ ما يخطر ببال الإنسان، ونتيجة  ذلك نرى انهياراً أخلاقياً غير مسبوق في المجتمع البشري الذي يسوّق لهذه الثقافة الحيوانية تجاه الجسد والمادة، وقد حذّر أمير المؤمنين(عليه السلام) من هذا الاتجاه المتردّي خلقياً، فقال: (خدمة الجسد إعطاؤه ما يستدعيه من الملاذ والشهوات والمقتنيات، وفي ذلك هلاك النفس)(2).

ومن الملاحظ في ثقافة العقل الغربي أنّ الذات ومميزاتها وقدراتها هو المنطلق للنجاح  والسمو والرفعة والانتصار، وهي ـ بتعبير آخر ـ ثقافة العقل الدنيوي والمادي.

وهذا المبدأ إنّما نستطيع تقبّله والموافقة عليه بشكل جزئي؛ وذلك أنّ الإنسان لا يخلو من توجّهات ورغبات وأمنيات مرتكزة على ما يملكه من قدرات وإمكانات تؤسّس لمشاريعه وأغراضه وأهدافه الشخصية، وهذا ما ينتجه طابع سلوكه الفردي والاجتماعي. لكن ما لا نوافق عليه هو الاعتداد المطلق بنزعات الإنسان وجموح شهواته الذي يجرفه إلى الاتجاه الذي يحدده ويريده هواه.

جهاد النفس علامة فارقة في التربية الإسلامية

وعلى العكس من التوجّه المادي والدنيوي الداعي جزافاً إلى الأخلاق الذاتية الضيقة المحدودة، فإنّ مفهوم  جهاد النفس هو من المعالم الأساسية في المنهج التربوي والأخلاقي في المدرسة الدينية الإسلامية الذي يؤسّس لقيم ومبادئ خلقية تخالف ذلك التوجه المادي الضيق؛ لأنّ الإسلام يعتبر الإنسان ـ كلّ إنسان ـ هو مشروع إصلاح وإعمار ورقي لبيئته الذاتية والشخصية أولاً، ثم لمحيطه الاجتماعي والإنساني العامّ ثانياً، فيكون الإنسان بهذا المضمون قد تربّى على رفض كلّ النزعات التي تحمل طابع الأنانية والنفعية الضيقة الداعية لمتابعة اللّذة والأمور الحسّية الهابطة.

يقول الإمام الباقر(عليه السلام): (إنّ المؤمن معني بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها، فمرّة يقيم أودها ويخالف هواها في محبّة الله، ومرّة تصرعه نفسه فيتبع هواها فينعشه الله فينتعش، ويقيل الله عثرته فيتذكر)(3).

ثمار المجاهدة

يمكن لنا إدراج ثمار مجاهدة النفس من خلال ما نستعرضه من الكلمات النورانية للمعصومين(عليهم السلام):

1 ــ رسول الله(صلى الله عليه وآله): (جاهدوا أهواءكم تملكوا أنفسكم)(4).

2 ـ رسول الله(صلى الله عليه وآله): (بالمجاهدة يُغلبُ سوءُ العادة)(5).

3ـ الإمام علي(عليه السلام): (ثمرة المجاهدة قهر النفس)(6).

4 ـ عنه(عليه السلام): (في مجاهدة النفس كمال الصلاح)(7).

5 ـ وعنه(عليه السلام) أيضاً: (بالمجاهدة صلاح النفس)(8).

خدعة النفس خطر شامل

ولعل من الصعب جدّاً جني ثمار هذه المجاهدة إذا ما أرخى الإنسان لنفسه زمامها، فإنّها ربّما تخدعه وتغدره، فيكون خطرها ليس بالهين، حتى يصعب عليه فيما بعد كبح ذلك الزمام المرتجي الذي قد جرّه إلى الأخطار والمزالق التي تهبط بمستوى الإنسان إلى درجات دانية تجعله سهل التحطيم بأهون الأشياء. لذا قد يستنكر البعض هذا المعنى ويخالفه.

لكن أمير المؤمنين(عليه السلام) ـ وهو إمام معصوم جامع الفضائل والكمالات ـ أشار لصعوبة الموقف وخطورته على شخصية الإنسان، فانطلق يُرشد ويعلّم بلغة تربوية شفافة عندما عبّر عن نفسه الطاهرة وإصراره على الارتقاء بها والمحافظة عليها من المزالق الشيطانية والشهوانية المحدقة بالإنسان في كلّ حياته، فقال بأبي هو وأمّي: (هي نفس أروضها...).

وفي كلامه ـ سلام الله عليه ـ رسالة لكلّ المؤمنين ليكونوا على درجة عالية من الوعي واليقضة والتحسّس من أية هفوة قد تسبّب ـ والعياذ بالله ـ الانجراف بالإنسان في مسالك الهوى وحبّ الذات والتردي الأخلاقي الذي يُفقد الإنسان قيمه ومبادئه الدينية.

يقول الإمام زين العابدين(عليه السلام): (إلهي إليك أشكو نفساً بالسوء أمّارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، وبسخطك متعرضة، تسلك بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك، كثيرة العلل، طويلة الأمل، وإن مسّها الشرُّ تجزع، وإن مسّها الخير تمنع، ميالة إلى اللعب واللهو، مملوءة بالغفلة والسهو، تسرع بي إلى الحوبة، وتسوفني بالتوبة)(9).

الاستسلام للأماني

إنّ من أخطر ما يواجه الإنسان في عملية تهذيب نفسه وتنمية ذاته في طريق الخير والصلاح والنجاح  هو طريق التمني الطويل المتشعب بكثرة فروعه وأغصانه، الذي يجعل الأماني الفارغة والأهداف المزيفة تطبع حياة الإنسان بالعبثية  والضياع والتضليل، وهنا تقوم النفس غير المروضة بدور تلقين صاحبها وتحذيره، حتى تنعكس عنده الموازين، فيرى الخسارة ربحاً، والتردّي رقيّاً، فيضيع بذلك عمر الإنسان ورأس ماله الحقيقي، وهو جهده في هذه الحياة وعمله الذي يلاقي به ربّه، يقول جلّ وعلا {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(10).

وتبرز في هذه المرحلة عناصر التعصّب والغرور والتكبّر وحبّ الذات،كعوامل قويّة تقود إلى مثل هذه التصورات الخاطئة، فلا تتيح له هذه العناصر فرصة محاسبة نفسه لأجل ردعها أو إعادة بعض حساباته الداخلية معها؛ لأنّها تصوّر له أنّه على الصواب دوماً، وأنّ كلّ ما يقوم به من عمل وكل ما يلفظه من قول هو الصحيح لا شائبة فيه. وفي بعض الأحيان يكون التملّق، أو الانطواء على الذات والنفس سبباً لظهور هذه الحالة، حيث يتصوّر الإنسان أنّ كلّ أعماله الخاطئة المنحرفة هي أعمال جميلة، لذا يشعر بالفخر والغرور والمباهاة بدلاً من إحساس الخجل والشعور بالعار بسبب أعماله القبيحة: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}(11).

كما أنّ الشيطان يتحيّن هذه الفرص، فيكمن لمثل هذه النفوس المريضة والأفكار الكاذبة فيقتنصها ويجعلها في مصيدته، فيزيّن للإنسان سيئاته، ويمنّيه بالغلبة والنصر، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}(12).

مراقبة الآخرين ومواجهة النفس

يعيش البعض عقد الآخرين، سواء كانوا أصدقاءً أم أعداءً، وسواء كان بعضهم أخاً أم زوجاً أم زميلاً في العمل أم رئيساً له أم مرؤوساً؛ بحيث يشكّل الآخر في نظرته رصداً لعيوبه ومساوئه، وبالتالي فإنّ الآخرين ـ حسب رأيه ـ يحاولون الإنقاص من شخصيته ووزنها الاجتماعي أو العلمي أو المهني أو ما شاكل. ومثل هذا الشخص يعي ويشعر بجميع تصرفاته وأفعاله، لذا يكون مطّلعاً بشكل دقيق على ما يعنيه من العادات السيئة والأمراض والتشوّهات الروحية أو النفسية أو الاجتماعية، ويشخّص طريقة العلاج لذلك، لكنّه يبقى مصرّاً على ارتكاب الخطأ وتستهويه نفسه بأضاليلها وأمنياتها، فتقوده إلى السقوط والوقوع في فخ المهلكة، لكنّه مع شعوره بذلك يغمض عينيه، والسبب أنّه يحسب ذلك انهزاماً وخسارة، فلا يتنازل عن خطئه، أو يصحّح مساره، أو يفصح للآخرين عن قبح ما يقوم به وتفاهة ما يمارسه من أعمال، وذلك لما فيه من منقصة اجتماعية أو عيب أو جبنٍ يرى في نفسه أنّه أرفع منزلة ومكانة من أن ينزل بمستواه إلى هذا الحدّ.

يقول الإمام الصادق(عليه السلام): (اجعل نفسك عدواً تجاهده، وعارية تردها، فإنّك قد جعلت طبيب نفسك، وعرفت آية الصحة، وبيّن لك الداء، ودللت على الدواء، فانظر قيامك على نفسك)(13).

ــــــــــــــــ

(1) نهج البلاغة 3: 17.

(2) عيون الحكم والمواعظ: 245.

(3) تحف العقول: 284.

(4) ميزان الحكمة 1: 455.

(5) ميزان الحكمة 1: 455.

(6) عيون الحكم والمواعظ: 208.

(7) عيون الحكم والمواعظ:  353.

(8) عيون الحكم والمواعظ: 189.

(9) الصحيفة السجادية: 403.

(10) الكهف: 103ـ 104.

(11) فاطر: 8 .

(12) الأنفال: 48.

(13) ميزان الحكمة 1: 454.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1585
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 10 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18