• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : السيرة والمناسبات الخاصة .
              • القسم الفرعي : الحج وعيد الأضحى .
                    • الموضوع : دور الحجّ في ترسيخ السّلام في العلاقات الاجتماعيّة ق(1) .

دور الحجّ في ترسيخ السّلام في العلاقات الاجتماعيّة ق(1)

آية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي (ره)

﴿أَوَ لَم يَرَوا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً﴾ (1).

 من مهام الحج تحقيق السلام في العلاقات الاجتماعية، وتوفير فرصة نموذجية للسلام في العلاقات فيما بين الناس، في فترة الإحرام في الحج، وتوفير رقعة نموذجية من الأرض؛ لتمكين السلام في العلاقات الاجتماعية هي رقعة الحرم.

 ولكي نعرف موقع السلام في هذه الرحلة، لا بدّ من أن نستعرض المراحل الأساسية فيها بإيجاز شديد، بالقدر الذي نستطيع أن نتعرف فيه على مواقع السلام في هذه الرحلة الإِلهية.

 الحج رحلة الأنا والذات إلى الله على الطريقة الإِبراهيمية أو اختزال لهذه الرحلة الشاقة التي قطعها من قبل أبونا إبراهيم (ع)، على الطريقة الرمزية التي تعتمدها فريضة الحج بصورة واضحة.

 هذه الرحلة تبدأ مهمتها من الميقات، وتنتهي بطواف النساء وطواف الوداع والآن نشير بإجمال إلى الأشواط الرئيسة التي يقطعها الحاج في هذه المرحلة من الأنا إلى الله تعالى.

 1- التحرر من الأنا:

تبدأ هذه الرحلة في الميقات بتجاوز الذات والأنا، ومحاولة صهر الذات والأنا في المسيرة الإِيمانية إلى الله تعالى، وهذه هي المرحلة الأولى في هذه الرحلة الإِلهية.

 وتصبّ هذه الذوات بعد انسلاخها عن الأنا، ومختصات هذا الأنا- في الحشد البشري - الكبير، في الطواف حول البيت، كما تصب السواقي والأنهر الصغيرة في البحر الكبير، فلا تستطيع أن تميز -بعد ذلك- أين هي مياه هذه السواقي من البحر الكبير، وهي رحلة شاقة وذات معاني كبيرة في حياة الإنسان، تستحق منا الكثير من التأمل والتفكير.

 تبدأ هذه الرحلة من الميقات، حيث يتجرّد الإنسان فيه من ذاته وأهوائه، وخصائصه التي تفرزه عن الآخرين وتفرده، وتحجزه عن الانصهار في المسيرة الإلهية الحاشدة، التي لا يتمايز فيها الأفراد، ولا يحجز بعضهم عن البعض شيءٌ من هذه النوازع، والفوارز التي تفصل الناس بعضهم عن بعض.

 إنّ الميقات حدّ فاصل، بين الأنا وبين الجماعة المؤمنة. فقبل أن يدخل الحاج الميقات يعيش كما يعيش سائرُ الناس الأنا تمييزاً وتشخيصاً. وللأنا تظاهر وبروز في حياتهم، وللأنا سماته معالمه الواضحة. فإذا دخل الميقات تضاءل الأنا وخف صراخه وصوته وفقد معالمه ومميزاته، وفقد لونه وصبغته الصارخة، وهذا الانقلاب في الشخصية والموقع يتمّ في الميقات. ويرمز إلى هذا الانقلاب (لباس الإحرام).

 وقد قلنا: إن الحج يعبّر عن المعاني والمفاهيم التي تنطوي عليها بلغة الرمز. فعند الميقات يتجرد الحاج عن كل ملابسه وما تحمله من سمات شخصية وطبقية وقومية وإقليمية.

إنّ لباس الإنسان يحمل هويته ويحمل الإِشارة إلى شخصية الإنسان وانتمائه القومي والإقليمي والعقدي وطبقته مهنته ودرجته في الثراء والفقر والمستوى الاجتماعي. فإذا بلغ الميقات تجرد عن ملابسه، ولبس ثياب الإحرام إزاراً ورداءً... وكانا قطعتين من القماش، لم يستعمل فيهما الخيط، كالآخرين على نحو سواء في غير بذبح ولا شرف ولا تمييز، وخلع عن نفسه ملابسه التي كانت تحمل هويته وتعبر عن شخصيته. إنّ هذه الخطوة الأولى في الميقات تعبّر عن انسلاخ الإنسان عن هويته وشخصيته وأنانيته وتعبر أيضاً عن العبور على الذات وتجاوز الأنا. وكما يجرد الميت عن ملابسه، لأنّ دور الأنا في حياته قد انتهى، ولم يعد للأنا حجم ولا دور ولا شكل في المرحلة الجديدة من حياته، كذلك الميقات مرحلة أخرى من الحيات ضمن هذه الحياة الدنيا، يتجرد فيها الحاج عن هويته وأنانيته، وينسلخ عن ذاته ليدخل الميقات، وكان الميقات مصفاة، وأول شيء تأخذه هذه المرحلة من الإنسان هو ذاته، فإذا تجرد عن الأنا وانسلخ عن ذاته حق له أن يتجاوز الميقات إلى الحج، وما لم يتخلص الإنسان عن ذاته فلا يحق له أن يتجاوز الميقات إلى لقاء الله. فإذا خلص في هذه المصفاة من ذاته اجتاز الميقات وتوجه إلى الحج.

وإنّ أكثر ما يثير المتاعب في حياة الناس ويعكّر العلاقة فيما بينهم هو التصادم الذي يحدث بين الذوات والأنانيات، وعندما تذوب الذات عند الإنسان وتنصهر، ويخلص الإنسان من طغيان الأنا، ينتهي شطر كبير من مشاكل الإنسان، ولقاءاته السبيلة مع الآخرين، وما يستتبعه من صدام وتردي العلاقة، وحالة الأثرة والأنانية، وحب الذات، فإذا خلصت حياته من الذاتية والأنانية تمكن أن يسلم من هذه المشاكل والمتاعب التي تعجّ بها حياة الناس في المجتمع، واستطاع أن يضع حياته وعلاقاته الاجتماعية على أسس سليمة وأن يحكم السلام في علاقاته مع الآخرين.

 التجمل والترف:

وفي الميقات يختص الإنسان مع خصلة أخرى من خصال الأنا، وهي خصلة ممدوحة لو كانت في الحدود المعقولة، التي لا تستأثر باهتمام الإنسان كله ولا تملك إرادته ولا تحكمها، فإذا تحولت هذه الخصلة إلى خصلة حاكمة على إرادته كانت صفة ذميمة من صفات الإنسان، وتلك هي خصلة التجمل، فهي خصلة ممدوحة في الحدود التي تظهر على الإنسان نعم الله تعالى وفضله، فإذا تحولت إلى خاصية من خواص الذات، مهمتها إبراز الذات وإظهارها، لا إبراز نعم الله تعالى وفضله، تحولت إلى صفة ذميمة من صفات الذات، وسلبته القدرة على تحمل الشظف والسير على طريق ذات الشوكة.

وفي الميقات يدخل الأنا في هذه التصفية الإِلهية، ويلزم الإحرام التخلي في فترة الإحرام عن هذه الخصلة، ويحرم عليه الطيب والتجمل، حتى بالنسبة للنساء، فيما يتجاوز الحد المألوف للمرأة في التجمل، وذلك لتمكين الإنسان من هذه الخصلة التي تشكل حالة تظاهر للأنا، وحالة ترف تؤثر تأثيراً سلبياً على إرادة الإنسان، وقدرته في مواجهة متاعب الطريق، إذا لم يعمل على تعديل وتهذيب هذه الخصلة، وإرجاعها إلى نصابها الممدوح، الذي يقره الإسلام ويأمر به.

 سلطان الهوى والشهوات:

وفي الميقات يمر الأنا بتصفية ثالثة، وهي تخليص الإنسان من سلطان الهوى والشهوات والغرائز، وهي مسألة في غاية الدقة في الإسلام فقد قلنا إنّ تخليص الإنسان من سلطان الهوى والشهوات، ولم نقل من الهوى والشهوات، ذلك لأنّ الإسلام لا يكافح الأهواء والشهوات في نفس الإنسان، وإنما يعتبرها ضرورة من ضرورات الحياة ومن دونها تختل الحياة، وإنما الذي يكافحه الإسلام هو سلطان الهوى، والشهوات على الإنسان وإرادته، وليست الأهواء والشهوات في حدّ ذاتها مصدراً للانحراف والسقوط في حياة الإنسان، وإنما الانحراف والسقوط يأتي من ناحية سلطان الهوى على إرادته، فإذا تمكنت الأهواء منه، وتحكمت الشهوات عليه وخضع واستسلم لها، عند ذلك فقط يتمكن الشيطان منه، ويتعرض الإنسان للسقوط والانحراف.

 ولذلك فإن النهج الإسلاميّ في التربية يعمل على ترويض الأهواء والشهوات وتطويعها لإرادة الإنسان، وتمكين الإرادة منها، دون أن يكافحها ويحاربها ويستأصلها ويصادرها.

 والصوم نموذج واضح لهذا المنهج التربوي. والميقات هو الآخر يقع في هذا الخط التربوي، ففي الميقات يتعرض الإنسان لتصفية واسعة في (الأنا) و(الهوى)، ويمتص الميقات من نفس الإنسان سلطان هاتين الخصلتين، ويسمح له بالدخول في رحاب ضيافة الله تعالى بعد أن يجرده من هذه النزعة الحيوانية التي تطغى على تصرفاته وتحكم إرادته وفعله.

 والهوى عند ما يحكم الإنسان يتحول إلى مصدر للشرّ في علاقاته وحياته الاجتماعية، ويسلب الأمن والسلام في حياة الناس، فليس ما بين الناس من خلاف وصراع وصدام مصدره الاختلاف في الرأي غالباً وإنما يعود السبب في نسبة كبيرة وواسعة في هذه الخلافات إلى عامل الهوى في العلاقات الاجتماعية.

 وللإِمام الخميني (قدس سره) كلمة ذات دلالة عميقة فيما يقول قدس سره: "لو أن مئة وأربعة وعشرين ألف نبيّ عاشوا في مكان واحد لما اختلفوا فيما بينهم، لأنه لا سلطان للهوى في نفوسهم".

 فالميقات نقطة تحول وانقلاب في حياة الإنسان، وأهم ما في هذا الانقلاب هو إضعاف الأنا والذات، وخصال وخصائص في حياة الإنسان. فإذا تجرد عن ذلك كان مؤهلا للدخول في رحاب ضيافة الله في الحج.

 ومن عجب أن المذاهب الفكرية المادية تؤكد عكس ذلك تعزيز الأنا وتثبيت واعتماد عنصر الاعتداد بالنفس، وتنمية حالة الغرور والعجب. بخلاف الإسلام الذي يبني منهجه التربوي على أصل مكافحة الأنا وإضعافها وتحجيمها، وتحويل الإنسان من محور الأنا، إلى محور حاكمية الله تعالى وسلطانه في حياته، ويدعو الإنسان إلى التحلل من هذا المحور والارتباط بالمحور الرباني والانصهار فيه ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(2).

 ــــــــــــــ

1- العنكبوت/67.

-2 الأنعام/162.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1703
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 10 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29