• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 104 ـ في تفسير سورة الهمزة .

104 ـ في تفسير سورة الهمزة

 العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9).

1 ـ تكرّر في القرآن الكريم ذكر كلمة (ويل) بصيغة النكرة، للدلالة على تعظيم التهديد والتوبيخ في سبعة عشر مورداً، ويجمع متعلّقها في جميع الموارد عنوان: الشرك والكفر كقوله تعالى: ﴿وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سورة إبراهيم، 2] والمخالفة الأخلاقية كالكذب والهمز واللّمز كما في هذه السورة.

والعبرة المستفادة من ذلك: إنّ الله تعالى يستعمل كلمة الويل ـ الدالّة على التقبيح على أرذل الأمور الباطنية كالكفر ـ وذلك في الرذائل الخارجية المتمثّلة بالمعاصي المذكورة في هذه السورة، والتي يستسهلها العصاة لكونها من مقولة الألفاظ كالهمز واللّمز!

وعليه، فلا ينبغي الركون والارتياح إلى النفس عند التخلّص من الخبث الباطني مع وجود الخبث الخارجي.

وبعبارة جامعة نقول: إنّ التخلّق بأخلاقيات الشريعة جزء أساسيّ منها كالالتزام بعقائدياتها، ومن هنا كان التهديد بالويل مشتركاً فيهما.

قيل وجوه عدّة في التفريق بين الهمز واللّمز، ولكنّ الجامع بينهما هو ذِكر عيب الغير عموماً، فينطبق على كل موارده ممّا كان بنحو الجدّ أو الاستهزاء، وسواءً كان في أمر الدين أو الدنيا، وسواءً كان بالقول أو بالفعل، وسواءً كان بالحضور أو الغيبة.

والمفهوم إجمالاً من هذه الآية وآية الغيبة [﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوه سورة الحجرات، 12]: إنّ مراد المولى هو التشنيع على مَن يذكر عيوب الناس من دون مسوّغ؛ لأنّه يوجب الوهن في الغير، وتذكي روح العدوان في النفس، وتشغله عن إصلاح أمرها.

ما من معصية في الخارج إلا وتعود جذورها إلى الداخل: فالمتكبّر لا يتكبّر ـ كما روي ـ إلا لذلّة يجدها في نفسه، والمطفّف الذي أسند إليه الويل لا يأكل مال الغير إلا لحبّه لجمع المال والمتاع، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الهمّاز اللمّاز الذي لا يلج في أعراض الخلق إلا لخسّةٍ ودناءةٍ في نفسه، فإنّهما والمغتاب قد لا يعود إليهم نفع في الدنيا، ومع ذلك يعرّضون أنفسهم لانتقام ربّ العالمين.

ومن الممكن أن نجعل عذاب المغتاب متوجّهاً للهمّاز واللمّاز وكذلك العكس؛ لأنّ معصيتهم من سنخٍ واحدٍ وهو تتبّع عيوب الآخرين وذكرها، وما من شكّ أنّ ذِكر النار وأهوالها من موجبات الارتداع عمّا ذُكر، لمَن كان بناؤه على الارتداع، وهو ما خُتمت به هذه السورة المباركة.

إنّه بالإضافة إلى الذمّ لعامّة اللّمز ـ كما في هذه السورة ـ إلا أنّ الله تعالى أدان اللّمز في خصوص أشرف الخلق (ص) وذلك في أجلى صفاته عند الناس متمثّلة بالأمانة، إذ تجرّأ البعض باللّمز في حقّ النبيّ (ص) فكانوا من الذين قال عنهم الله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [سورة التوبة، 58] بل دافع المولى عن المؤمنين المطّوّعين أيضاً فقال عنهم: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ [سورة التوبة، 79].

وليُعلم أنّ هذه الصفة ـ البارزة في المنافقين ـ لو وجدت في غيرهم من المؤمنين لتحقّق فيه ملاك القبح نفسه، وخاصّة أنّ الآية صريحة في التعميم حيث استعملت كلمة ﴿لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ وكم هو أمر قبيح أن تكون في المؤمن صفة من صفات المنافقين: كصفة ذِكر عيوب الغير، وكصفة الكسل إذا قاموا للصلاة؟!

إنّ جمع المال من دون تصريفه بالإنفاق الراجح مذموم في حدّ نفسه، فإنّه ـ وإن لم يكن حراماً بالمعنى الفقهي ـ قد يكون مقدّمة لمفاسد اُخرى، ويكفي أنّه ذكر في عداد الهمز واللّمز!

ومن المعلوم أنّ القلب إذا تلوّث بحبّ الدنيا؛ نسي خالقه أو أنساه الخالق ذكره ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [سورة الحشر، 19] وحينئذٍ صار من السهل أن يخوض في كل أنواع الباطل، لما يرى في نفسه من الاستعلاء على الغير ممّا يستسهل معه انتقاصه، فإنّ «حب الدنيا رأس كل خطيئة» [الكافي، ج2، ص131]، وقد روي عن الرضا (ع): «لا يجتمع المال إلا بخصال خمس: ببخل شديد، وأمل طويل، وحرص غالب، وقطيعة الرحم، وإيثار الدنيا على الآخرة» [الخصال، ص282].

إنّ المال المكتسب إذا كان بعد ذِكر الله تعالى فإنّ فيه كل الخير والبركة، بل يندب القرآن الكريم لجمعه كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة الجمعة، 10]، ولكنّه إذا كان في قبال ذِكر الله تعالى؛ فإنّه عاد مذموماً كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سورة الجمعة، 11].

وجمع المال المذموم في هذه السورة إنّما هو في هذا السياق، إذ لا يجمع المال ويعدّده إلا من عشق المال لنفسه، لا بغية إنفاقه فيما خوّل الله تعالى عبده فيه.

إنّ من موجبات الردع عن الباطل في القرآن الكريم هو تحقير أصحابه، إذ ورد في هذه السورة ـ إضافةً إلى ذكر الويل الدالّ على التحقير والتقبيح ـ التعبير بـ :

﴿لَيُنْبَذَنَّ في حقّهم، وهو قذف الشيء وكأنّه أمر محقور يُراد التخلّص منه.

﴿الْحُطَمَةِ عن النار التي تحطّم، وتهشّم ما يقذف فيها.

أضف إلى كل ذلك تحقير نفوسهم التي لا تدرك أبسط الحقائق، حيث حسبوا أنّ المال من موجبات الخلود، وهو أسخف ما يكون عليه الفكر!

إنّ التعبير بـ﴿وَمَا أَدْرَاكَ يستعمل عادةً في وصف القيامة وأهوالها كالحاقّة [﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ سورة الحاقة، 3] والقارعة [﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ سورة القارعة، 3]، والإتيان بها في هذه السورة مع وصف النار بالحطمة ﴿الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ لمن موجبات الردع الشديد عن هذا المنكر والذي قد يكون متعارفاً عند كثير من الناس.

وعليه، فإنّه لا بُد من اجتناب كل أنواع الحرام الذي لا يُعلم ملكوته إلا عند الورود في ذلك العالم، ﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [سورة الفجر، 23] ولا تخفى المناسبة بين النار الحاطمة في الآخرة وبين أفعال أصحابها؛ لأنّ كلماتهم أيضاً حاطمة للنفوس في الدنيا.

إن جعلنا تعريف الكبيرة هو: (ما أوعد الله تعالى عليها النار في كتابه) فإنّ هذا التعريف منطبق بأوضح صوره على معصية الهمز واللّمز، والمشكلة في مجمل المعاصي القولية ـ كمثل هذه المعصية ـ أنّ أصحابها يستسهلونها، لعدم تحقّق شيء معيب بحسب زعمهم في الخارج؛ خلافاً للزنا والسرقة والقتل مثلاً!

والحال أنّ المعاصي القولية منشأ لكثير من هذه المعاصي: كالقتل عند إثارة الغضب بهذه المعاصي القولية، وكالزنا عند إثارة الشهوة بها أيضاً.

إنّ العذاب المذكور في قوله تعالى: ﴿الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ وإن فُسّر بإحراق الباطن إضافةً إلى إحراق الجلود، ولكن من الممكن القول: إنّ العذاب يصل إلى الباطن الحقيقي المتمثّل بالنفوس الحيّة، لا إلى باطن الأبدان فحسب؛ فإنّ هذا الباطن هو المنشأ لكل الشرور.

ومن هنا نرى انعكاس هذه الحالة الحارقة في بواطن العصاة وذلك في دار الدنيا أيضاً، إذ يحترقون بنار بواطنهم وهي الموجبة للضيق والتبرّم كما يصفها القرآن الكريم بقوله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [سورة الأنعام، 125] وهذا ما يُفسِّر تماديهم في أنواع المتع والتلذّذ للخلاص ممّا هم فيه من الضيق والضنك.

إنّ آخر أمل للمحبوس في دار الدنيا هو الفرار من حبسه، والقرآن الكريم يسدّ هذا الباب الموهوم على أهل النار في آيات مختلفة، حيث يستفاد منها أنّ أبواب جهنّم محكمة الغلق ومطبقة على أهلها، فمنها قوله تعالى: ﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ومنها ما في قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ [سورة السجدة، 20] ومنها ما في هذه السورة: ﴿إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ.

ومن المعلوم: أنّ إحساس مَن هو في العذاب بأنّه لا يمكنه الفرار منه، لمن موجبات الأذى الباطني، إضافة إلى ما هو فيه من الأذى الخارجي، ومن هنا أضيفت كلمة (الغمّ) ضمن العذاب المتوجّه في النار في قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا [سورة الحج، 22].

إنّ الأمر الملفت في هذه السورة هي المقابلة بين صاحب المال الذي يحسب أنّه مخلّد به ﴿أَخْلَدَهُ وبين النبذ في ﴿الْحُطَمَةِ.. فكيف هي خيبة الأمل عند من رأى ماله ـ الذي كان يحسبه من موجبات الخلود ـ قد صار من موجبات القذف والنبذ في النار؟!

كما أنّه من الملفت أيضاً المقابلة بين المال الذي ﴿عَدَّدَهُ وبين عمد النار الـ﴿مُمَدَّدَةٍ إذ بعدد المال المُعدّد امتدت أعمدة النار في الجحيم.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1876
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 12 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29