• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : السيرة والمناسبات الخاصة .
              • القسم الفرعي : النبي (ص) وأهل البيت (ع) .
                    • الموضوع : إطلالة على آخر غزوات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله .

إطلالة على آخر غزوات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله

 حميد البغدادي

غزوة تبوك في سطور:

تاريخها: رجب 9 هـ 631م.

مكانها:‌ تقع‌ منطقة تـبوك على حـدود الدولة البزنطية، وتبعد عن المدينة

المنورة 680 كم عن طريق خطِّ‌ سكة الحديد الشام الحجاز المعروف، والذي يمرُّ تـقريباً بطريق الرَّسول (ص) إلى تبوك،‌ أما عن طريق خيبر‌ وتيماء‌ فتبعد 780 كم. والفاصلة بينها وبـين الشام 692 كم.

الجيش الإسلامي: ثـلاثون ألف مـقاتل بمعية عشرة آلاف فرس.

جيش الأعداء: أربعون ألف مقاتل مع كامل المعدات والأسلحة، يساندهم عرب لخم،‌ وجذام، وعاملة، وغسان.

هدف الغزوة: مبادرة الروم بعد وصول الأنباء بحشد القوّات لغزو المسلمين، والمطالبة بدم جعفر بـن أبي طالب(1)

غزوة تبوك آخر غزوات الرسول الأكرم -، وأبعد منطقة‌ قصدها‌ للقتال، ونظراً لبعد المسافة، وقوة جيش الأعداء فإنَّ لهذه الغزوة خصوصية تميزها عن بقية الغزوات.

وقد ورد ذكر أحداث غزوة تبوك فـي سـورة التوبة ابتداء من الآية (38) إلى ما‌ يقارب‌ آخر السورة، مع وجود آيات أثناء ذلك غير مرتبطة بغزوة تبوك.

ولكن لم يصرَّح باسم الغزوة في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قـَاصِداً لَاتـَّبَعُوك وَلَكنْ‌ بَعُدَتْ عَلَيهِمُ الشُّقَّةُ﴾(التوبة:42)

منطقة تبوك

تقع منطقة تبوك في الجزء الشمالي الغربي من المملكة العربية السعودية، ما بين جبلي حسمي في الغرب وشروري في الشرق، على تقاطع‌ خـط‌ طـول‌ 26، 35 شرقاً، و 28،‌ 32‌ شمالا.

وفي الشرق تقع محافظة تيماء، والغرب محافظة حقل والبدع وضباء والوجه وأملج، وفي الشمال حالة عمار المنفذ البري الذي يعتبر‌ من‌ أهم‌ المداخل البرية للمملكة العربية السعودية، وتـبلغ مـساحتها أكـثر‌ من‌ 120400كلم2، وتعتبر تبوك بوابة الشـمال للمـملكة العـربية السعودية.

وجاء في معجم البلدان:

«تبوك: بالفتح ثم الضَّم، وواوٌ ساكنة،‌ وكاف:‌ موضع‌ بين وادي القرى والشام، وقيل: بركة لأبناء سعد من بني‌ عـذرة، وقـال أبـو زيد: تبوك بين الحجر وأوَّل الشام على أربع مـراحل مـن الحجر نحو نصف طريق الشام،‌ وهو‌ حصن‌ به عين ونخل وحائط، ينسب إلى النبي -، ويقال: إِنَّ أصحاب‌ الأيكة‌ الذين بـعث إليـهم شـعيب عليه السلام ، كانوا فيها ولم يكن شعيبٌ منهم، وإنَّما كان من مدين، ومـدين‌ على بحر‌ القلزم على ست مراحل من تبوك، وتبوك بين جبل حسمي وجبل شروري،‌ وحسمي‌ غربيها‌ وشروري شـرقيها» (2).

وجـاء فـي المعجم أيضا:

«الأيكة: التي جاء ذكرها في كتاب الله‌ عزَّ‌ وجل:‌ ﴿كـَذَّبَ أَصـْحَابُ الْأَيكةِ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الشعراء:176) قيل: هي تبوك التي غزاها النبي - آخر غزواته،‌ وأهل‌ تبوك يقولون ذلك ويعرفونه، ويـقولون: إِنَّ شـعيباً عليه السلام أرسل إلى أهل تبوك، ولم‌ أجد‌ هذا‌ في كتب التفسير، بل يقولون: الأيـكة الغـيضة المـلتفة الأشجار، والجمع أيك، وإنَّ المراد بأصحاب‌ الأيكة:‌ أهل مدين. قلت: ومدين وتبوك متجاورتان» (3).

وقـد اتـفق المـفسرون على أنها‌ نزلت‌ في‌ تبوك.

إرهاصات الحرب:

تحقّقت وحدة القبائل العربية بانتمائها إلى الإسلام وفي ظـلّ رسـالته الكبرى،‌ بعد‌ أن كانوا مجرّد قبائل متناحرة، لا يجمعها كيانٌ يذكر، وليست لها قدرةٍ‌ على مـواجهة‌ الأخـطار الخارجية، وصارت لهم ببركة الدين الحنيف دولة مستقلّة، وصاروا يجابهون الدول العظمى في زمانهم‌ كالدولة‌ البـيزنطية،‌ وهـي أعظم قوّةٍ  في ذلك الزَّمان، بل صاروا يغزونها في عقر دارها؟.

هذه الدولة التي أصبح المـسلمون مـن خـلالها قوةً مهابة بين القوى في ذلك الزمان، حتى استطاعوا‌ أن‌ يعودوا إلى مكة فاتحين خلال ثمان سـنين مـن هجرتهم منها حيث كانوا‌ مستضعفين،‌ ليستقبلوا أفواج الناس التي أقبلت للدخول فـي‌ ديـن‌ الله‌ بفضل الله سبحانه وتعالي ودينه العظيم.

وبعد‌ استتباب الوضع الداخلي في مكة المكرمة، وبقية المناطق المـنضوية تـحت رايـة الدولة الإسلامية،‌ بات‌ المجال مفتوحاً لإكمال مهمّة الدعوة‌ والبلاغ،‌ ونشر النور‌ الإلهي‌ فـي‌ أمـاكن جديدة، خصوصاً بعد توارد الأنباء‌ بأنَّ‌ الروم بدأت بحشد قوّاتها لغزو المسلمين، وأنَّ ملك الروم وحلفاءه من العـرب‌ مـن‌ قبائل لخم وجذام وغسان وعاملة قد‌ هيأ جيشاً لمهاجمة الدولة‌ الإسلامية‌ قبل أن تـصبح خـطراً على دولته،‌ فحشد جموعه، وتهيأ لمهاجمة المـسلمين، فـسار جـيشٌ قوامه أربعون ألفاً مع أحدث الأسلحة،‌ فـأراد‌ النـبي - أن يبادرهم بالخروج‌ إليهم،‌ فكانت‌ غزوة تبوك.

جاء‌ في تفسير على بن‌ إبراهيم‌ القـمي: «لمـا شاع بالمدينة أَنَّ الروم قد اجـتمعوا يـريدون غزو رسـول اللهـ‌ - فـي عسكر عظيم، وأنَّ هرقل (4) قد‌ سـار‌ فـي جنوده،‌ وجلب‌ معه‌ القبائل، وقدموا البلقاء (5) أمر‌ رسول الله - وسلم بالتَّهيؤ إلى تبوك - وهـي مـن بلاد البلقاء - وبعث إلى القبائل‌ حـوله، وإلي مكة، وإلي من أسلم‌ مـن‌ خـزاعة‌ ومزينة‌ وجهينة،‌ وحثهم على الجـهاد،‌ فـقدمت‌ القبائل، وقعد عنه قوم من المنافقين وغيرهم» (6).

سبب تسمية الغزوة

ولعلَّ سبب تـسمية هـذه‌ الغزوة‌ هو‌ (عين تبوك) التـي مـرّ بـها المسلمون في‌ طـريقهم‌ إلى أرض‌ الروم،‌ وحدود‌ الدولة البـيزنطية. وسـُمّيت ـ أيضاً ـ بغزوة العسرة؛ لما اجتمع فيها من مظاهر الشدّة والعسرة، حيث حرارة الجوّ، وشحة المـياه، وبـعد المكان، مع ما يعيشه المسلمون حـينها‌ مـن الفقر وضـيق الحـال، وقـد أشار القرآن الكريم إلى تـلك الحال في قوله تعالي: ﴿لَقَد تَّابَ الله على النَّبِي وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعـُسْرَةِ﴾ (التـوبة: 117)

زمان‌ الاستعداد

بعد أنْ منَّ الله سبحانه وتـعالي على المـسلمين بـفتح مـكة، وبعد أنْ خـاض الرسـول الأكرم - حرب حنين والطائف، رجع إلى المدينة المنورة في شهر ذي الحجة، واستقرَّ فيها‌ عدة‌ أشهر، اشتغل - فـي خـلالها بـالاستعداد لحرب الروم؛ حيث خرج لهذه الغزوة فـي شـهر رجـب، وكـان إيـابه -إلى المـدينة المنورة في شهر رمضان‌ المبارك.

جاء في مجمع البيان «وكانت‌ غزوة تبوك بعد فتح مكة، وبعد غزوة حنين والطائف، ورجوع النبي - منها إلى المدينة، ومقامه ما بين ذي الحـجة إلى رجب، ثم تهيأ‌ في‌ رجب للخروج إلى تبوك،‌ وكان‌ منصرفه من تبوك في بقية رمضان، من سنة تسع من الهجرة، ولم يخرج -بعد ذلك لقتال، ولا غزو، إلى أن قبضه الله تعالى»(7)

استعدادات علنية لمواجهة الدولة البيزنطية:

أسباب‌ إعـلان وجـهة الحرب:

خالف الرسول الأكرم - في هذه الغزوة الطريقة المعهودة التي كان يقوم فيها بالإعداد للحرب، والتمويه على الأعداء، وغالباً ما كان يعلن عن أهدافٍ غير تلك التي‌ يريد‌ قصدها؛ لئلا‌ تـقع الأسـرار العسكرية بيد أعداء الإسلام، وإنَّما أعلن عن وجهته لأسباب منها:

1ـ المسافة الشَّاسعة التي كانت‌ تفصل المدينة المنورة عن جبهة القتال، والتي تبلغ مـئات الكيلومترات.

2ـ‌ الظـروف‌ المناخية‌ الصعبة، والحرِّ الشديد، وأرض الصـحراء اللاهـبة، والصعوبات التي كان من المتوقع أن يلاقيها المسلمون.

3ـ القدرات الحربية ‌‌الهائلة‌ للعدوّ، وحجم إمكانياته، فهم الروم، وجيش الإمبراطورية البيزنطية مع حلفائهم من عرب الشمال،‌ هذه‌ الدولة‌ التـي كـانت تمثل إحدى الدولتين العـظيمتين فـي ذلك الزمان.

4 ـ سهولة التَّنبؤ بوجهة الجيش‌ مع الاستعدادات الكبيرة، حيث تمكن المسلمون من السيطرة على مساحاتٍ كبيرةٍ من الجزيرة‌ العربية، ولم تكن هناك‌ مناطق‌ للأعداء تناسب هذا الاستعداد.

5ـ فرز الاتجاهات في المجتمع الإسلامي لأجـل إبـراز الخط المعادي الداخلي، وهم المنافقون، وقد أفلح هذا الإعلان في إبراز نواياهم الخبيثة بشكلٍ صريح.

6ـ إعطاء الجيش‌ والمجتمع المؤمن الفرصة الكاملة لإعداد ما يلزم لهذا السفر الطويل والشاق.

الإعداد للغزوة:

وهـكذا أعـلن النبي - النـفير العام، وأرسل إلى القبائل العربية المسلمة في مختلف المناطق يستنفرهم على قتال‌ الروم،‌ والاشتراك في الجيش، كما حـثَّ الناس على الإنفاق في سبيل الله قائلاً: «من جهّز جيش العسرة غـفر الله له» (8)، فـاستجاب الصحابة لندائه، وضربوا أروع الأمثلة في البذل والعطاء، وتبرَّعت‌ النساء‌ بحليهن وزينتهن من الذهب. حتى فقراء المسلمين كـان ‌لهـم نصيبٌ من المشاركة في دعم المقاتلين؛ حيث قدّموا كل ما يملكون في سـبيل الله مـع قـلّة ذات اليد، فمنهم من‌ أتي‌ بصاعٍ من تمر، ومنهم من جاءّ بنصف صاعٍ أو أقلّ(9)

غزوة العسرة:

وكان الوقـت صيفاً، والصحراء تحترق ناراً، ويسود البلاد حالة من الجدب والقحط، والنّاس تحبّ أن تـبقي تحت‌ الظلال،‌ خاصة‌ وأنـَّ مـحنة مؤتة لـم تكن‌ بعيدة‌ عن‌ الأذهان.

وبالرغم من كلِّ ذلك، استقبل جماعةٌ من المسلمين هذه الدعوة بقلوب عامرة بالإيمان، ونفوس مطمئنة بما وعد اللّه به‌ المجاهدين،‌ تاركين‌ نساءهم وأبناءهم ليقطعوا الصحاري والفيافي، ولكـنَّ جماعة أخري‌ دخلوا‌ الإسلام رغبةً ورهبةً، استقبلت الدعوة بالتثاقل، وبدأوا يلتمسون الأعذار، ويعتذرون بالحرّ تارة، والقوّة أخري، وببعد المسافة ثالثة، وقوّة العدوّ‌ رابعة،‌ وما‌ إلى ذلك من أعذارٍ واهية.

وخرج النبي - يوم‌ الخـميس، وعـسكر بجيشه في ثنية الوداع (10). وكان الحر شديداً للغاية، وعاني المسلمون من عسرة الماء والزاد، حتى اضطروا‌ لذبح‌ إبلهم، وإخراج ما في كروشها فيعصرونه ويشربونه. لذلك سميت الغزوة بغزوة‌ العسرة.

حتي قيل: «كان يـعقب العـشرة على بعير واحد، وكان زادهم الشعير المسوس، والتمر المدود،‌ وبلغت‌ الشدة‌ بهم إلى أن اقتسم التمرة اثنان، وربما مصوها الجماعة ليشربوا عليها الماء.‌ وإنما‌ ضرب‌ المثل بجيش العسرة؛ لأن النبي- لم يغزُ قـبله فـي عدد مثله».(11)

وأخيراً، تحرك‌ المسلمون‌ نحو‌ القتال، وقطعوا آلاف الأميال، عانوا خلالها العطش والجوع والحر، ومن قلّة وسائل الركوب، وقد‌ سميت‌ الغزوة غزوة العسرة كما أسلفنا وفي ذلك قال تعالـى: ﴿لَقـَد تـَّابَ الله على النَّبِي‌ وَالْمُهَاجِرِينَ‌ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتـَّبَعُوهُ فـِي سـَاعَةِ الْعُسْرَةِ...﴾ (التوبة:117)

وقد أشارت آياتٌ من القرآن‌ الكريم‌ إلى أجواء هذه الموقعة، ودعت المسلمين إلى التمسك بدينهم الحق، وحثَّتهم على الجهاد‌ واتباع‌ الرسول‌ -:

﴿يا أَيـُّهَا الَّذِيـنَ آمـَنُواْ مَا لَكمْ إِذَا قِيلَ لَكمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثـَّاقَلْتُمْ‌ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الآخِرَةِ‌ إِلاَّ‌ قَلِيلٌ‌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ يعَذِّبْكمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيـَسْتَبْدِلْ قـَوْماً غـَيرَكمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيئاً وَاللّهُ على كلِّ‌ شَيءٍ‌ قَدِيرٌ﴾(التوبة:‌ 38 ـ 39)

المنافقون وأعداء الجـبهة الداخلية:

فضحت الآياتُ المنافقين، وكشفت‌ عن‌ المتردّدين ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكرِهُواْ أَن يجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سـَبِيلِ اللّهِ وَقـَالُواْ‌ لاَ‌ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كانُوا يفْقَهُونَ﴾ (التـوبة:81)

واسـتغلّ المنافقون هذه المواقف المشرّفة للسخرية من‌ صدقات‌ الفقراء،‌ والتعريض بنوايا الأغنياء، وقد كشف القرآن عن‌ خـباياهم‌ فـقال سـبحانه:

﴿الَّذِينَ يلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يجِدُونَ‌ إِلاَّ‌ جُهْدَهُمْ فَيسْخَرُونَ مـِنْهُمْ سـَخِرَ اللّهُ‌ مِنْهُمْ‌ وَلَهُمْ عَذَابٌ‌ أَلِيمٌ﴾‌ (التوبة:‌ 79)

كما حاولوا أنْ يصدُّوا‌ الناس‌ عن الخروج، بالتَّرهيب مـن قـوات العـدو الجبارة، والتَّرغيب في التَّخلُّف والإخلاد إلى الراحة.

ولم يتوقّف كيد المنافقين عند‌ هذا الحدّ، بـل بـادروا‌ إلى بناء مسجد في أطراف المدينة‌ ليكون‌ مقرّاً لهم، يدّبرون فيه المؤامرات للقـضاء على الإسـلام وأهله، وطلبوا من رسول الله‌ - أن يصلّي فيه إمعاناً في‌ التَّمويه‌ والخداع،‌ لكنَّ الله بين‌ لنـبيه‌ حـقيقة نواياهم، ونهاه عن‌ الصَّلاة‌ في مسجدهم، وهو المسجد المعروف بمسجد ضرار.

قال تعالى: ﴿الَّذِيـنَ اتـَّخَذُواْ‌ مَسْجِداً‌ ضِرَاراً وَكفْراً وَتَفْرِيقاً بَينَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً‌ لِّمَنْ‌ حَارَبَ اللّهَ‌ وَرَسُولَهُ‌ مِن‌ قَبْلُ وَلَيحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنـَا‌ إِلاَّ الْحُسْنَي وَاللّهُ يشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ على التـَّقْوَى مـِنْ‌ أَوَّلِ‌ يـَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ‌ رِجَالٌ‌ يحِبُّونَ‌ أَن‌ يتَطَهَّرُواْ‌ وَاللّهُ يحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ‌ ﴾ (التوبة:107- 108)

وقد تخلّف معظم المـنافقين عـن الغـزو، بأعذارٍ متنوعة كاذبة، فمنهم من اعتذر بعدم‌ القدرة‌ على السفر، ومنهم مـن اعـتذر بقلّة المتاع، ومنهم‌ من‌ اعتذر‌ بشدّة‌ الحرّ،‌ ومنهم‌ من اعتذر بإعجابه بالنساء، وخوف الفتنة بنساء الرومـ، فـسكت النَّبي - عن أعذارهم، وأنزل الله آياتٍ في سورة التوبة تفضح أمرهم، وتكشف حـقيقة كـذبهم، وتنذرهم بالعذاب الأليم(12)

استخلاف الإمام على بـن أبـي طـالب عليه السلام:

واجتمع مع النبي - ثلاثون ألف مقاتل من المـهاجرين والأنـصار وغيرهم من أبناء القبائل العربية، ثم استخلف أمير المؤمنين عليه السلام في أهله،‌ وولده،‌ وأزواجـه، ومـهاجره، وقال له:  «يا على إِنَّ المـدينة لا تصلح إلا بـي أو بـك»، وبـقي على عليه السلام في المدينة وخرج الرسول - إلى الغـزوة، ولكـنَّ المنافقين أخذوا يرجفون‌ بعلي،‌ ويزعمون أنَّه تركه استثقالاً، فلما بلغ إرجافهم بـه، أخـذ على سلاحه ثم خرج حتى لحـق بالنبي وهو بالجرف وقـال له: يـا رسول‌ الله‌ إن المنافقين يزعمون أنـَّك اسـتثقالاً‌ ومقتاً.

فقال له النبي -: «ارجع يا أخي إلى مكانك، فإنَّ المدينة لا تصلح إلا بي أو بك، فـأنت خـليفتي في أهل بيتي،‌ ودار‌ هجرتي وقـومي، أمـا‌ تـرضى‌ يا علي أن تـكون مـني بمنزلة هارون من مـوسى، إلا أنـَّه لا نبي بعدي» (13)

تولوا وأعينهم تفيض من الدمع:

وجاء الفقراء إلى النبي - يطلبون منه أنْ يعينهم‌ بـحملهم‌ إلى الجـهاد، والنَّبي - يعتذر بأنَّه لا يجد ما يـحملهم عـليه من الدوابّ، فـانصرفوا وقـد فاضت أعينهم أسفاً على ما فاتهم من شرف الجهاد مع رسول الله -، فخلّد الله‌ ذكرهم‌ إلى يوم‌ القيامة، وأنزل فيهم قوله:

﴿لَّيـْسَ على الضُّعَفَاء وَلاَ على الْمَرْضَي وَلاَ على الَّذِينَ لاَ يـَجِدُونَ مـَا‌ يـُنفِقُونَ حـَرَجٌ إِذَا نـَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مـَا على الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ‌ وَاللّهُ‌ غَفُورٌ‌ رَّحِيمٌ * وَلاَ على الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْك لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكمْ عـَلَيهِ تـَوَلَّواْ وَّأَعـْينُهُمْ ‌‌تَفِيضُ‌ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يجِدُواْ مَا يـُنفِقُونَ﴾ (التـوبة: 91 ـ 92)

وكـانت رغـبتهم‌ الصـادقة‌ فـي‌ الخروج سبباً لأنْ يكتب الله لهم الأجر كاملاً.

ديار ثمود (مدائن صالح):

جاء في مجمع‌ البيان عن جابر بن عبد الله، قال: «لما مرَّ النبي - بالحجر في غزوة تبوك‌، قال لأصـحابه: لا يدخلن أحد منكم القرية، ولا تشربوا من مائهم، ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلاَّ أن تكونوا باكين أنْ يصيبكم الذي أصابهم. ثم قال‌: أما بعد: فلا تسألوا رسولكم الآيات، هؤلاء قوم صالح عليه السلام سألوا رسولهم الآيـة، فـبعث الله لهم الناقة، وكانت ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا‌ الفج‌، تشرب ماءهم يوم ورودها، وأراهم مرتقي الفصيل حين ارتقي في القارة، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها، فأهلك الله مـن تـحت أديم السماء منهم، في‌ مشارق‌ الأرض ومغاربها، إلاَّ رجلاً واحداً يقال له أبو رغال، وهو أبو ثقيف، كان في حرم الله، فمنعه حرم الله من عذاب الله، فلما خـرج‌ أصـابه‌ ما أصاب قومه، فدفن ودفـن مـعه غصن من ذهب، وأراهم قبر أبي رغال، فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم، وحثوا عنه، فاستخرجوا ذلك الغصن، ثم‌ قنع‌ رسول‌ الله -، رأسه وأسرع السير‌ حتى جاز‌ الوادي» (14)

وجـاء فـي السِّيرة لابن كثير: «مـرَّ الجـيش في الطريق نحو الشمال على ديار ثمود، فسارع بعض المسلمين‌ ليروا‌ مساكنهم،‌ ويقفوا على آثارهم، وبلغ ذلك النبي - فدعا‌ الناس‌ ثم قال لهم: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين؛ حـذراً أن يـصيبكم مثل ما أصابهم،‌ ثم‌ أمرهم‌ بالإسراع في الخروج، فأخبره الصحابة أن بعضهم قد تزوّدوا بالماء‌ للشُّرب، وصنع العجين، فأمرهم بإراقة ذلك الماء، وإطعام العجين للدَّواب، إلاَّ أنَّه استثنى ما أخذوه من بئر نـاقة‌ صـالح‌ عليه السلام » (15)

جيش العسرة:

وبـدأت المعاناة بسبب نقص المياه، وشدّة الحر، وقلّة‌ الدواب،‌ حتى إِنَّ البعير الواحد كان يتناوب عليه الجماعة مـن الرجال، واضطرَّ بعضهم إلى أكل أوراق الشجر،‌ ونحر‌ الإبل‌ ليشربوا ما في بـطونها، وبـعد أن بـلغ بهم الجهد مبلغاً عظيماً شكوا‌ ذلك‌ إلى رسول الله -، فدعا ربّه بنزول المطر، ولم يكد ينتهي من دعائه حتى ‌أمـطرت‌ السماء،‌ وارتوي‌ الناس، وكانت هذه المعجزة تثبيتاً للمؤمنين وتخفيفاً لمعاناتهم.

رحم الله أبا ذر:

وكـان‌ أبـو‌ ذرّ الغـفاري قد تأخَّر عن الجيش، فبحث عن راحلةٍ تمكنه من اللحاق‌ بهم،‌ فلم‌ يجد سوى راحـلةٍ هزيلة، فلما أبطأت به وخشي أنْ يتأخّر، أخذ متاعه وحمله على ظهره،‌ ومـشى على قدميه حتى اقـترب مـن الجيش، فرآه أحد الصحابة فقال: يا رسول‌ الله،‌ هذا‌ رجلٌ يمشي على الطريق، فقال -: (كن أبا ذر)، فلمّا تأمّله القوم قالوا: يا رسول‌ الله،‌ هو والله أبو ذرّ، فقال-: (رحم الله أبا ذر، يمشي وحده،‌ ويـموت‌ وحده،‌ ويبعث وحده) (16)

ندم أبي خيثمة الأنصاري:

وكان ممن تخلَّف عن الغزو في أوَّل‌ الأمر‌، أبو خيثمة الأنصاري، حيث لم يستطع أنْ يحمل نفسه على الخروج، وفي‌ يومٍ‌ من الأيام دخل بستاناً له، ورأى زوجـتيه وهـما يعدّان له المكان الظليل، والماء البارد، فاستيقظ ضميره،‌ وعاتب‌ نفسه، كيف يجلس في الظلّ والنَّعيم ورسول الله - يعاني شدّة الحرّ،‌ ومشقّة‌ الطريق؟! فندم، وأخذ سلاحه، وركب دابّته، حتى أدرك‌ النبي‌ -في تـبوك، وذهـب إليه معتذراً فعاتبه النبي-على‌ ما‌ كان منه، ثم عفا عنه ودعا له بخيرٍ (17)

شعار الغزوة:

قال الإمام‌ الصادق‌ عليه السلام في خبر معاوية. «شعارنا:‌ يا‌ محمد، يا‌ محمد،‌ وشعارنا‌ يوم بدر: يا نـصر الله اقـترب،‌ وشعار‌ المسلمين يوم أحد: يا نصر الله اقترب، ويوم بني النضير: يا روح‌ القدس‌ أرح، ويوم بني قينقاع: لا ربنا‌ لا يغلبنَّك، ويوم الطَّائف:‌ يا‌ رضوان، وشعار يوم حنين: يا‌ بني‌ عـبد الله يـا بـني عبد الله، ويوم الأحزاب: حـم لا يـبصرون، ويـوم بني‌ قريظة:‌ يا سلام أسلمهم، ويوم المريسيع،‌ وهو‌ يوم‌ بني المصطلق: ألا‌ إلى الله الأمر، ويوم الحديبية:‌ ألا‌ لعنة الله على الظالمين، ويوم خيبر، وهـو يـوم القـموص: يا على آتهم من عل،‌ ويوم‌ الفتح: نـحن عـباد الله حقاً حقاً،‌ ويوم‌ تبوك: يا‌ أحد،‌ يا‌ صمد، ويوم بني الملوح:‌ أمت أمت، ويوم صفين: يا نصر الله. وشـعار الحـسين يـا محمد، وشعارنا يا محمد»(18)

في‌ تبوك:

عندما وصل الجيش إلى تبوك، لم‌ يـجد‌ أثراً‌ للروم‌ أو‌ القبائل الموالية، حيث‌ قرر‌ الروم وحلفاؤهم ـ بعد علمهم بمسير المسلمين ـ الانسحاب إلى الداخل، فاجتازوا الأردن وفلسطين، وبالتَّحديد إلى مـنطقة‌ حـمص،‌ حـيثُ استقر هرقل، ولعلَّ مقصودهم كان استدراج‌ الجيش‌ الإسلامي‌ إلى الداخل،‌ والانقضاض عـليه، ولكـنَّ الرسول - بحنكته العسكرية أفشل مخططهم، وعسكر في تبوك، وجعلها آخر نقطة في توغله شمالاً، وجعل يـُراقب تـحرّكات الأعـداء.

المسلمون في تبوك واحتواء القبائل‌ العربية:

أخذ الرسول - يتصل بالقبائل العربية المـتنصرة المـجاورة، ويـعقد معهم معاهدات الصُّلح والتَّعاون، وكان من هؤلاء يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة، الذي صالح الرسـول -، ووافـق على منحه‌ الجزية،‌ كما جاءه أهل جرباء وأذرع وأعطوه الجزية، التي تعني من ناحية السيادة التـحاقهم بـالدولة الإسلامية، مقابل منحهم حرية ممارسة معتقداتهم الدينية، والعيش مع جيرانهم المسلمين بسلام واطـمئنان.

واطـمأن‌ النـبي‌ - بعد معاهدة تلك القبائل المتاخمة لحدود الحجاز، ولـم يبقَ عليه إلاَّ أكيدر بن عبد الملك الكـندي أمـير دومة الجندل، فبعث النبي‌ - سريةً إلى دومة، وغنموا عدداً‌ كبيراً‌ من المتاع والأنعام، واسـتطاعوا أن يـأسروا مـلكها (أكيدر بن كندة)، وأتوا به إلى النبي -، فصالحه على دفع الجزية، ثم أطلق سراحه(19)

ومكث النبي‌ - مـرابطاً بـقواته في تبوك‌ مدّة‌ عشرين يوماً لـم يقاتل أحداً، يستقبل الوفود التي جاءت للمـصالحة ودفـع الجـزية من أهل جرباء وأذرع وغيرهما، وكان منهم وفد ملك (أيلة) الذي بعث بهديةٍ من كساء، وبغلة‌ بـيضاء،‌ فـقبلها النـبي -.

نصرٌ باهرٌ على البيزنطيين:

لقد حقّق النبي - بغزوته انتصاراً مهماً على الجبهة مـع الروم والدولة البـيزنطية، لا يقل عما حققه من انتصارات ضدّ القبائل العربية الوثنية‌ واليهود، وكان من‌ نتائج هذا الانتصار:

1ـ إبعاد القبائل العـربية سـياسياً وحضارياً عن الروم والإمبراطورية البيزنطية، مما أفقد الروم قوّة‌ إضافية.

2ـ أصبح المسلمون على تماس مـباشر مـع قوات الروم.

3ـ‌ أشعار‌ الآخرين‌ بمدى قوّة الدولة الجديدة.

4ـ إظهار عـجز الدولة البـيزنطية عـن مواجهة القوة الإسلامية، وذلك بانسحابهم إلى عمق ‌‌الأراضي‌ البـيزنطية.

5ـ عـزّز هذا الانتصار من ثقة المسلمين، وأعطاهم الكثير من التَّماسك،‌ والقوّة‌ على تحدي الصـعاب، ومـواجهة الأعداء، وأقفل الباب على كـلّ مـن تسوِّل له نـفسه أن يـثور على الدولة الإسلامية، وهذا ما ترجم ندماً واعـتذاراً مـن قبل الذين تخلّفوا عن الالتحاق‌ بالجيش الإسلامي الذي قصد‌ تبوك.

وقد أعلن بـعض الأمـراء التحاقهم بالإسلام من دون أن تصل إليهم رسـائل النبي-، كفروة بن عـمرو الجـذامي، عامل قيصر على عمان مـن أرض البـلقاء، غير آبه بطلب الإمبراطور البيزنطي بتراجعه‌ عن الإسلام، وإيذائه وإلقائه في التهلكة.

ذكـر آل محمد:

ذكـر الشيخ الطوسي في الأمالي الحـديث التـالي: «حـدثنا أبو منصور السـكري، قـال: حدثني جدي على بـن عـمر، قال‌: حدثني العباس بن يوسف الشكلي، قال: حدثنا عبد الله بن هشام، قال: حدثنا مـحمد بـن مصعب القرقساني، قال: حدثنا الهيثم بـن جـماز، عن‌ يـزيد الرقـاشي، عـن أنس بن مالك، قـال: رجعنا مع رسول الله - قافلين من تبوك، فقال لي في بعض الطريق: ألقوا لي الأحلاس والأقتاب‌، ففعلوا فـصعد رسـول الله - فخطب، فحمد الله، وأثنى عليه بما هـو أهـله، ثـم قـال: مـعاشر الناس، مالي إذا ذكـر آل إبـراهيم عليه السلام تهللت وجوهكم‌، وإذا‌ ذكر آل محمد - كأنَّما‌ يفقأ‌ في‌ وجوهكم حب الرمان، فو الذي بعثني بالحق نبياً، لو جاء أحـدكم يـوم القـيامة بأعمال كأمثال الجبال، ولم يجئ بولاية على بـن‌ أبـي‌ طـالب لأكـبه الله عـزَّ وجـلّ في النار»(20)

وهذه الرواية تشير إلى أمرٍ خطيرٍ بحيث استدعى من النبي الأكرم -أنْ يوقف الجيش ليتحدث بهذا الحديث، والذي يكشف‌ عن‌ الألم‌ الكبير الذي كان يحمله النبي -، ويوضح حـركة النفاق التي‌ بدأت تشتد في المدينة المنورة، من محاولة تثبيط العزائم، والقعود عن الجهاد، إلى الاستهزاء بالمؤمنين الفقراء، وبنائهم لمسجد‌ ضرار‌ إلى إرجافهم بالإمام على عليه السلام، وأنِّ الرسول - إنما تركه استثقالاً، وأخـيراً‌ بـمحاولة‌ اغتيال شخص النبي الأكرم -. والذي يمكن أن يفهمه الباحث من دراسة الوضع آنذاك أَنَّ هناك‌ مخططاً‌ لتقويض‌ الدولة الإسلامية، وإبعاد القيادة الشَّرعية عن موقعها الشَّرعي، وهذا بحثٌ مهمٌ ينبغي‌ تسليط‌ الضوء‌ عـليه مـن قبل العلماء والباحثين.

محاولة اغتيال الرسول -:

تعرَّض أكثر المؤرخين لغزوة تبوك‌ إلى المحاولة‌ الفاشلة للمنافقين، فبعد أن فقدوا الأمل في تغلُّب الروم على المسلمين، والذي راهنوا عـليه،‌ ومـنوا‌ به أنفسهم، استعملوا آخر سـهم فـي جعبتهم، وهو الإقدام الآثم على قتل الرسول-.

قال‌ الزَّمخشري‌ في تفسير قوله تعالى: ﴿وَهَمُّوا بِمَا لَمْ ينَالُوا﴾ (التوبة: 74): «وهو الفتك‌ برسول‌ الله -، وذلك عند مرجعه من تـبوك، تـواثق خمسة عشر منهم على أن‌ يدفعوه‌ عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل ـ وهي عقبة أوس ويقال: اسمها‌ عقبة‌ دقيق ـ فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها، وحذيفة خلفها يسوقها‌، فبينما‌ هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل، وبـقعقعة السـِّلاح، فالتفت فإذا قوم متلثمون، فقال‌: إليكم‌ إليكم يا أعداء الله! فهربوا» (21)

وجاء في تفسير الأمثل أيضا: «أَنَّ‌ جماعةً من المنافقين صمموا على قتل النبي الأكرم - في طريق عودته من غـزوة تـبوك، فلما‌ وصـل‌ إلى العقبة نفروا بعيره ليسقط في الوادي، إلاَّ أَنَّ النبي - قد‌ أطلع‌ بنور الوحي على هذه النية الخبيثة، فـردَّ‌ كيدهم‌ في‌ نحورهم، وأبطل مكرهم. وكان زمام النَّاقة بيد‌ عمار‌ يـقودها، وكـان حـذيفة يسوقها لتكون الناقة في مأمن تام، وأمر النبي - المسلمين‌ أن‌ يسلكوا طريقا آخر حتى لا‌ يخفى‌ المنافقون أنـفسهم‌ ‌بـين‌ المسلمين،‌ وينفذوا خطتهم. ولما وصل إلى سمع‌ النبي‌ - وقع أقدام هؤلاء أو حوافر خيولهم أمـر بـعض أصـحابه أن يدفعوهم‌ ويبعدوهم،‌ وكان عدد هؤلاء المنافقين اثني عشر،‌ أو خمسة عشر رجلاً،‌ وكان‌ بعضهم قد أخـفى وجهه، فلما‌ رأوا‌ أن الوضع لا يساعدهم على تنفيذ ما اتفقوا تواروا عن الأنظار، إلاَّ أَنَّ‌ النـبي‌ - عرفهم، وذكر أسماءهم واحـداً‌ واحـداً‌ لبعض‌ أصحابه» .(22)

العودة‌ إلى المدينة المنورة:

وبعد‌ أن‌ أنجز الله للرسول الأكرم- ما أراد من غزوته، عاد الجيش الإسلامي إلى المدينة، فلما‌ اقترب‌ منها خرجت جموع النساء والأطفال لاستقبال‌ النبي‌ -، والاطمئنان‌ على سلامته،‌ ثم توجّه النـبي - إلى مسجده، وصلّى فيه ركعتين، ثم جلس مع الناس.

وعلى الثلاثة الذين خلفوا:

وقد كان‌ تخلف‌ عن تبوك جمعٌ من المنافقين، وكذلك‌ جمعٌ‌ من‌ المسلمين‌ من‌ غير شك ولا‌ نفاق،‌ فبعد عودته - جاءه المنافقون يعتذرون إليـه، فـقبل أعذارهم، وأوكل سرائرهم إلى الله، وحضر إليه الثلاثة‌ الذين‌ خُلّفوا‌ عن المعركة، فلم يقبل أعذارهم، فقد أمر‌ رسول‌ الله‌ - بمقاطعتهم،‌ وقال‌ لبقية أصحابه: «لا تكلمن أحداً من هؤلاء الثلاثة»، فاعتزلوهم خمسين يـوماً، ثـم أبلغهم - بتوبة الله عليهم (23)

قال الله عزَّ وجل: ﴿قَد تَّابَ الله على النَّبِي وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كادَ يزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيهِمْ إِنـَّهُ بـِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ*وَعَلَي الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيهِمُ‌ الأَرْضُ‌ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيهِمْ لِيتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم* يـَا أَيـُّهَا الَّذِيـنَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكونُواْ‌ مـَعَ‌ الصـَّادِقِينَ﴾ التـوبة 117- 119

والثلاثة المخلفون عن غزوة تبوك هم كعب بن مالك، ومرارة بن الرَّبيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، وكلُّ هؤلاء‌ من‌ الأنـصار (24)

ونـفهم مـن هذه‌ الحادثة‌ أَنَّ رسول الله - لم يكن يكره أحداً على القـتال في سبيل الله، بل يكتفي بحثِّ المسلمين عليه، ويقاطع الذين يتخلفون بغير عذر، ويطلب‌ من‌ المؤمنين مقاطعتهم اجتماعياً؛ لأن‌ العـقوبة‌ النـَّفسية أقوى من العقوبة الجسدية.

أبو لبابة:

يعرف الذين تشرَّفوا بزيارة مسجد النـبي اسطوانة أبي لبابة، واسطوانة التوبة، وقد اختلفت الروايات في ذنب أبي لبابة، ففي بعضها أنَّه كان تخلفه‌ عـن‌ الاشـتراك فـي غزوة تبوك، وفي بعضها الآخر أنَّه كان إفشاء حكم رسول الله - فـي بـني قريظة لهم. ومهما كان السَّبب، فإنَّه ربط نفسه بالأسطوانة، وبقي أياماً حتى تاب‌ الله‌ عليه، فـأراد أنْ يـتصدق بماله كلِّه، فنهاه النبي -، ثم رضي بأن يتصدق بثلث ماله (25)

والآيات التـي نـزلت فـيه هي قوله تعالى:

﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكمْ‌ مِّنَ‌ الأَعْرَابِ‌ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا على النـِّفَاقِ... * وَآخـَرُونَ اعـْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً ‌‌وَآخَرَ‌ سَيئاً عَسَي اللهُ أَنْ يتُوبَ عَلَيهِمِ إِنَّ اللهَ غـَفُورٌ رَحـِيمٌ * خُذْ مَنْ‌ أَمْوالِهِمْ‌ صَدَقَةً‌... ﴾ التوبة: 101 - 103.

أحداثٌ رافقت تبوك:

أ ـ الملاعنة:

جاء في تفسير القمي مرسلاً عـنهم: «قـال: إِنـَّ رسول الله‌ - لما رجع من‌ غزوة‌ تبوك، قام إليه عويمر بن الحارث، فقال: إِنـَّ امـرأتي زنت بشريك بن الشمحاط، فأعرض عنه، فأعاد عليه القول فأعرض عنه، فأعاد عـليه ثـالثة، قـال: فدخل فنزل اللعان فخرج إليه‌ فقال: ائتني بأهلك، فقد أنزل الله فيكما قرآناً، فمضي فأتاه بـأهله، وأتـي معها قومها، فوافوا رسول الله - وهو يصلي العصر، فلما فرغ أقبل عليهما، فـقال لهـما: تـقدما إلى المنبر فتلاعنا،‌ فتقدم‌ عويمر، فتلا عليهما رسول الله - آية اللعان ﴿والذين يرمون أزواجهم﴾ الآية، فشهد أربـع شـهادات بـالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن غضب الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم‌ شهدت بـأربع شـهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماها به، فقال لها رسول الله -: العني نفسك الخامسة فشهدت، وقالت فـي الخـامسة: أنْ غضب الله عليها‌ إنْ‌ كان من الصادقين فيما رماها به، فقال لهـما رسـول الله -: اذهبا فلن تحلّ لك، ولن تحلِّي له أبداً، فـقال عـويمر: يـا رسول الله! فالذي أعطيتها؟ فقال‌: إن كنت صـادقاً فـهو لها‌ بما‌ استحللت‌ فرجها، وإنْ كنت كاذباً فهو أبعد لك منه»  (26)

وقال ابن الأثـير فـي أسد الغابة(27): عويمر بن أبيض العـجلاني الأنصاري صـاحب‌ اللعان‌...، ثـم نـقل عـن الطبري أَنَّ‌ عويمر‌ بن الحارث بـن زيـد بن حارثة بن الجد العجلاني، وهو الذي رمي زوجته بشريك بن سمحاء، فـلاعن رسـول الله‌ - بينهما،‌ وذلك في شعبان سنة تـسع لما قدم من تـبوك.

القـصر في الصلاة

ذكر العلامة الحلي «وقـال جـابر أقام النبي - في غزوة تبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة»(28)

الصلاة‌ على الدابة:

روي في قـرب الإسـناد عن حماد بن عيسى(29). قـال «سـمعت‌ أبـا عبد الله عليه السلام يقول: خـرج رسـول الله - إلى تبوك، فكان يصلى صـلاة الليـل على راحلته‌ حيث‌ توجهت به، ويومئ إيماء».

تحريم المتعة في تبوك:

إِنَّ أحاديث تحريم‌ المـتعة‌ مـضطربة‌ جداً يخالف بعضها بعضاً؛ لأنَّه روي فـي بـعضها أنَّه - حـرمها عـام خـيبر، وروي‌ في‌ بعضها‌ أنـَّه - حرمها عام الفتح بمكة، وروي في بعضها أنه في غزوة تبوك، وروي‌ في‌ بعضها أنه حـرمها فـي حجة الوداع!

الجمع بين الصلاة:

حدثنا ابن عـباس:‌ أَنَّ‌ رسـول‌ الله - جـمع بـين الصلاة في سـفرة سـافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر،‌ والمغرب‌ والعشاء. قال سعيد فقلت لابن عباس: ما حـمله على ذلك؟ قال: أراد أن‌ لا‌ يحرج‌ أمته (30)

تشريع الجزية:

وقيل: شـُرِّعت فـي السـنة التـاسعة، وهـذا هـو الظاهر؛ لأنَّ سورة التوبة‌ التي‌ فيها آية الجزية نزلت قبيل غزوة تبوك في السنة التاسعة. ولما توجه‌ رسول‌ الله-‌ إلى غزوة تبوك من أرض شام صالح أهل أيلة وأذرح ومـقنعا والجربا على الجزية(31)

مسجد‌ ضرار:

روي أَنَّ بني عمرو بن عوف بنوا مسجد قباء، وصلَّى فيه‌ رسول‌ الله -، فحسدهم إخوتهم بنو غنم بن عوف، فبنوا مسجد الضرار، وأرادوا أنْ يحتالوا بذلك فيفرقوا‌ المؤمنين،‌ ويـوقعوا الشـك في قلوبهم، بأن يدعوا أبا عامر الراهب من الشام ليعظهم،‌ ويذكروهن‌ دين الإسلام، ليشك المسلمون ويضطربوا في دينهم،‌ فأخبر‌ الله‌ نبيه بذلك، فأمر بإحراقه وهدمه بعد الرجوع‌ من‌ تـبوك.

وفـي مجمع البيان ضراراً، أي: مضارة، يعني: الضرر بأهل مسجد‌ قباء،‌ أو مسجد الرسول؛ ليقل الجمع‌ فيه(32)

الجهاد‌ الأكبر:

روي‌ عن النبي - أنَّه لما رجع‌ مـن‌ غـزوة تبوك، قال:  «رجعنا من الجـهاد الأصـغر إلى الجهاد الأكبر، يعني: جهاد‌ النفس،‌ هو اجتباكم واختاركم لدينه ولنصرته» (33)

هذا، آخر ما أردتُ‌ المساهمة‌ فيه، في الكلام عن آخر‌ عزوةٍ‌ من غزوات الرَّسـول الأعـظم صلوات الله عليه وعلى آله، عـلَّني بذلك أكون قد‌ قدَّمت‌ فائدة ولو قليلة للقارئ، فينالني‌ بذلك‌ شفاعة‌ النَّبي وآله عليهم‌ أفضل‌ الصَّلاة والسلام.

* * *

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) تاريخ اليعقوبي، ج 2 ص 67.

(2) معجم البلدان، الحموي، ج 2 -ص‌ 14.

(3) معجم‌ البلدان، الحموي، ج 1 ص 291.

(4) هرقل على وزن دمـشق، وهـرقل وزان خندف: اسم ملك الروم. القاموس‌ المحيط، ج 4 ص69 (هرقل)

(5) البلقاء‌: كورة‌ من‌ أعمال دمشق بين‌ الشام‌ ووادي القري. معجم البلدان، ج 1 ص 489.

(6) تفسير القمي، ج1 ص 290.

(7) تفسير‌ مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج 9 ص 192.

(8) السيرة‌ النبوية،‌ ابن كثير، ج 4 ص 7.

(9)كنز العـمال، المـتقي الهندي، ج 2 ص 427.

(10) السـيرة النبوية، ابن كثير، ج 4 ص 11.

(11) تفسير غريب‌ القرآن، فخر الدين الطريحي، ص 263.

(12) السيرة النبوية، ابن كثير، ج 4 ص 366 - 369.

(13) وهذا حديث المنزلة المـعروف. ولمعرفة مصادر هذا الحديث راجع كتاب المراجعات ص 139‌ - 142 والاستيعاب 3 / 1097.

(14) تفسير مجمع البـيان، الشـيخ الطـبرسي، ج 4 ص 297.

(15) راجع السيرة النبوية لابن كثير، ج 4 ص 19

(16) راجع‌ تاريخ‌ الطبري، ج 2 ص 371، السيرة النبوية لابن هشام الحميري، ج 4 ص 951.

(17) راجع تاريخ الطبري، ج 2 ص 369.

(18) الوسـائل‌ ‌- البـاب 56 من أبواب‌ جهاد‌ العدو الحديث 1 - 2 - 3.

(19) راجع السيرة النبوية لابن كثير، ج 4 ص 31.

(20) الأمالي، الشيخ الطـوسي، ص 308.

(21) الكـشاف، الزمـخشري، ج 2 ص 203.

(22) الامثل، الشيخ مكارم الشيرازي، ج6 ص127

(23) السيرة النبوية / ابن هشام 4: 175، 179، 180.

(24) تاريخ الطبري، ج 2 ص 374‌.

(25) الموسوعة الفقهية الميسرة، الشـيخ محمد على الأنصاري، ج 3، هامش ص 244.

(26) تفسير القمي ج 2 ص 98، الوسائل ج 15 ص 589 ب 1 ح 9 مع‌ اختلاف قليل.

(27) أسد الغابة، ابـن الأثير، ج 4 ص 168.

(28) منتهي المطلب‌ (طـ. قـ)، العلامة الحلي، ج 1 ص 397.

(29) رواه في‌ الوسائل‌ في‌ الباب 15 من القبلة.

(30) صحيح مسلم ج2 ص 151.

(31) فتوح البلدان. ص 79.

(32) الرسائل، الإمام الخميني، ج 1 ص 31.

(33) التفسير الصافي، الفيض الكاشاني، ج 3 ص 391.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2070
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 12 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29