• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : السيرة والمناسبات الخاصة .
              • القسم الفرعي : النبي (ص) وأهل البيت (ع) .
                    • الموضوع : الإمام الحسن (ع) و مصلحة الإسلام العلیا .

الإمام الحسن (ع) و مصلحة الإسلام العلیا

فؤاد كاظم المقدادي

‌‌‌إن المقام المقدس الذي حظی به الامام الحسن(علیه السلام) علی لسان جده رسول اللّه(صلی‌ الله عـلیه‌ وآله)، یدفعنا لمزید من التأمل فی سیرته المباركة، بكل ما تحتویه من جوانب‌ عظمة وكمال ذاتـیة وحكمة وسداد رسالي، والذي نراه ینسجم تماماً مع وصف‌ رسول اللّه(صلی الله علیه‌ وآله)‌ له ومـوضعه منه فیما ورد عنه(صلی الله عـلیه وآله)في حقه(علیه السلام) منها:

عن علي بن الحسین(علیه السلام) قال: « لما ولدت فاطمة الحسن(علیه السلام) قالت لعلي(علیه السلام): سمّه، فقال: ما كنت لاسبق باسمه رسول اللّه، فجاء رسول اللّه(صلی الله علیه وآله) فأُخرج إلیه فـي خرقة صفراء فقال: ألم أنهاكم أن تلفوه فی خرقة صفراء‌؟! ثم رمی بها وأخذ خرقة بیضاء فلفّه فیها، ثم قال لعلي(علیه السلام): هل سمیته؟ فقال: ما كنت لاسبقك باسمه، فقال(صلی الله علیه وآله): ومـا‌ كـنت لاسبق باسمه ربي عزَّوجل.

فأوحی اللّه تبارك وتعالی إلی جبرئیل أنه قد ولد لمحمد ابن، فاهبط فأقرئه السلام وهنئه وقل له: إن علیاً منك‌ بمنزلة‌ هارون من موسی، فسمّه باسم ابن هارون، فهبط جبرئیل(علیه السـلام) فـهنأه من اللّه عزَّوجل ثم قال: إن اللّه تبارك وتعالی یأمرك أن تسمیه باسم ابن هارون‌، قال‌: وما كان اسمه؟ قال‌: شبَّر، قال: لساني عربي، قال: سمه الحسن، فسمّاه الحسن».

وقال رسول اللّه(صلی الله عـلیه‌ وآله)‌: «الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنّة‌، وأبوهما خیر منهما»

وعن زینب بنت أبي رافع عن امها قالت: «قالت فاطمة(علیها السلام)‌: یا‌ رسول اللّه، هذان ابناك فانحلهما، فقال رسول اللّه(صلی‌ الله عـلیه وآله): أمـا الحسن فنحلته هیبتي وسؤددي، وأمـا الحـسین فـنحلته سخائي وشجاعتي»

وعن‌ البراء‌ بن عازب قال: « رأیت رسول اللّه(صلی الله علیه وآله)‌ واضعاً‌ الحسن علی عاتقه فقال: من أحبني فلیحبه»

وقـوله(صلی الله عـلیه وآلهـ): « اللهم‌ إنی أحبه فأحبه واحب من یحبه قـال: وضـمّه إلی صدره»

واجتمع‌ أهل القبلة علی أن النبي(صلی الله علیه وآله) قال: «الحسن والحسین إمامان‌ قاما‌ أو‌ قعدا »

ولو سبرنا حیاة الامام الحسن المـجتبی(علیه السـلام) لوجـدنا ذات الخط‌ الذي‌ نهجه أبوه أمیر المؤمنین(علیه السلام) وأمه فاطمة الزهـراء(علیها السلام)، یتجسد مرة أخری‌ فی‌ سیرته‌ الرسالیة، حیث لم یر مصلحة فوق مصلحة الاسلام العلیا، ولا قیمة لشيء‌ اكبر‌ مـن قـیمتها، بـل لقد ارخص سلام اللّه علیه كل شيء في سبیلها‌، لانها‌ سبیل اللّه وكـلمته العـلیا.

ولنأخذ من مواقفه الكبری في هذا السبیل بعض النماذج‌ المتمیزة‌ في عهود اساسیة ثلاث من سـیرته المـباركة:

1 ـ فـي‌ عهد‌ عثمان‌: ونستلّ من سیرة الامام الحسن المجتبی(علیه السلام)، في هذا العـهد مـجالین هـما:

أ ـ مشاركته في الكثیر من حروب الدفاع عن بیضة الاسلام، وفي‌ كثیر‌ من الفتوحات الاسـلامیة أیـام خـلافة عثمان، منطلقاً من مقولة أبیه امیرالمؤمنین(علیه السلام) فی رعایة مصلحة‌ الاسلام‌ العلیا التی كـررها فـي اكثر من موضع: « واللّه لاسلِمن ما‌ سلمت‌ اُمور المسلمین، ولم یكن جورٌ إلاّ‌ عليّ‌ خاصّة»

وقـد نـقلت لنـا كتب‌ التاریخ‌ ومرویاته هذه الحقیقة، وممّا جاء فیها: «إن الامام أبا محمد‌ الحسن(علیه‌ السلام) كـان قـد بلغ العشرین‌ عاماً‌ أو تزید‌، وقد‌ برز بین اعیان المسلمین في مواهبه‌ العالیة‌ وتـطلعاته إلی حـقائق الامـور ومشكلاتها، ومضی مع أبیه یتجرع مرارة تلك‌ الاحداث‌ القاسیة، ویترقب معه الوقائع والاحداث‌، ویعملان لصـالح الاسـلام‌. وانضمّ الحسن إلی جنود المسلمین‌ الذین‌ اتّجهوا إلی إفریقیا بقیادة عبد اللّه بن نافع وأخـیه عـقبة فـي جیش بلغ‌ عشرة‌ آلاف مجاهد، كما جاء‌ في‌ العبر‌ لابن خلدون، وتطلع‌ المسلمون إلی النصر والفتح‌ مـتفائلین‌ بـوجود حـفید الرسول وحبیبه یجاهد معهم، وكانت الغزوة ناجحة وموفقة كما یصفها المؤرخون‌، وعـاد الحـسن منها إلی مدینة جده‌ وقلبه‌ مفعم بالسرور‌، وعلامة‌ الارتیاح بادیة علی وجهه‌ الكریم لانتشار الاسلام في تـلك البـقعة من الارض.

كما جاء في تاریخ الامم‌ والملوك‌ في حوادث سنة ثلاثین للهـجرة أن سعید‌ بن‌ العاص‌ غزا‌ خراسان، ومعه‌ حـذیفة‌ بـن الیـمان وناس من اصحاب رسول اللّه والحسن والحسین وعـبد اللّه بـن عباس، ومضی سعید‌ ومعه‌ الحسن‌ والحسین إلی جرجان، فصالحوه علی مئتي‌ الف‌، ثم‌ هـاجم‌ طـمیة‌ وهي تابعة لطبرستان ومتاخمة لجـرجان عـلی حد تـعبیر الطـبري عـلی ساحل البحر، فقاتلهم اهلها قتالاً شـدیداً وصـلی المسلمون صلاة الخوف، واخیراً انتصر المسلمون فی تلك‌ المناطق كما نصّ عـلی ذلك ابـن خلدون وغیره من المؤرخین.

وجاء فـي الفتوحات الاسلامیة وغیرها أن سـعید بـن العاص غزا طبرستان سنة ثـلاثین مـن الهجرة، وكان الاجهید‌ قد‌ صالح سوید بن مقرن علی مال بذله في عـهد عـمر بن الخطاب، وفي عهد عـثمان بـعد اسـتیلائه علی السلطة بـخمس سـنوات تقریباً، جهز الیهم جـیشاً بـقیادة سعید‌ بن‌ العاص، كان فیه الحسن والحسین وعبد اللّه بن العباس وغیرهم من اعیان المـهاجرین والانـصار، وتم لهم الاستیلاء علی تلك المـناطق والتـغلب‌ علیها‌.

وتـؤكد اكـثر المـرویات‌ أن‌ الحسن والحسین قـد اشتركا في كثیر من الفتوحات الاسلامیة، وكان لهما دور بارز في سیر تلك المعارك التی كانت تـدور رحـاها بین المسلمین‌ وغیرهم‌«.

ب ـ كان موقفه مـن خـلافة عـثمان ومـا آلت إلیـه هو موقف ابـیه أمـیرالمؤمنین(علیه السلام)، معبراً فیه عن كامل الطاعة والالتزام بأوامره وتوجیهاته في تلك الفترة العصیبة والفتنة العمیاء، خـصوصاً‌ بـعد‌ أن مـلّ المسلمون سیاسة عثمان وأعوانه وعماله. وتنقل لنـا كـتب التـاریخ وقـائع تـلك الفـترة، ومنها أنه بعد فشل كل المحاولات التي بذلها المسلمون لاصلاح سیاسة عثمان وأعوانه وعماله‌، وخوفهم علی‌ دینهم ودنیاهم، زحفوا إلیه من جمیع الاقطار، ودخلوا فی مفاوضات مـعه یطالبونه بإصلاح ما أفسده‌ هو وعماله، أو بالتخلی عن السلطة، وكان أمیر المؤمنین(علیه‌ السلام)‌ وولده‌ الحسن وسیطین بین الخلیفة ووفود الامصار فی محاولة للاصلاح، ووضع حدّ للفساد الذي شمل جمیع مرافق ‌‌الدولة‌، وكـانا كـلما أشرفا علی النجاح، ووضعا الحلول الكفیلة بالاصلاح وارجاع الثوار‌ إلی‌ بلادهم‌، جاء مروان ونقض كل ما أُبرم بین الطرفین من حلول واتفاقات، حتی تعقدت‌ الامور اخیراً وهاجمه الثوار بـتحریض مـن عائشة وطلحة والزبیر، وقالت لهم عائشة‌ كما تؤكد ذلك اكثر‌ المرویات‌: اقتلوا نعثلاً فقد كفر. وأخرجت للمسلمین قمیص رسول اللّه(صلی الله علیه وآله) وقالت بـصوت سـمِعه الجمیع: هذا قمیص رسول اللّه لم یـبل وقـد أبلی عثمان سنّته. كما‌ تؤكد المصادر الموثوقة أن طلحة لم یقتصر دوره علی التحریض علی عثمان، بل اشترك معهم وسهل لهم الوصول إلی داره للقضاء علیه في حین أن أمـیر المـؤمنین ـ كما یدعي‌ الرواة‌ ـ قد ارسـل ولدیـه حسناً وحسیناً لیدفعا عنه الثوار.

وجاء في روایة ابن كثیر أن الحسن بن علي قد أُصیب ببعض الجروح وهو یدافع عنه. ومما لا‌ شك‌ فیه أن أمیر المؤمنین وولدیه الحسن والحسین(علیهم السلام)، كـانوا كـغیرهم من خیار الصحابة غير راضين علی تصرفات عثمان وأنصاره وعماله، ومع ذلك لم یبلغ بأمیر المؤمنین(علیه السلام) الحال‌ إلی حدود الرضا بقتله والتحریض علیه، بل وقف منه موقفاً سلیماً وشریفاً، أراد من عثمان أن ینتهج سـیاسة تـتفق مع مـنهج الاسلام، وأن یجعل حدّاً لتصرفات ذویه‌ وعماله‌ الذین‌ أسرفوا في تبذیر الاموال واستعمال‌ المنكرات‌، وأراد من الثائرین علیه أن یـقفوا عند حدود المطالبة بالاصلاح الشامل لجمیع مرافق الدولة، وألاّ تتخذ ثورتهم طابع العـدوان والانـتقام‌، واسـتطاع‌ في المراحل الاولی من وساطته أن یضع حدّاً‌ للصراع‌ القائم بین الطرفین بما یحفظ لكل منهما حقه، لولا أن مروان بـن‌الحـكم قد أفسد كل ما أصلحه‌ الامام(علیه‌ السلام)‌ وظلّ الامام إلی آخر لحظة یتمنی عـلی عـثمان أن یـتخذ‌ موقفاً سلیماً حتی یُتاح له أن یعالج الموقف فی حدود ما انزل اللّه.

2 ـ في‌ عهد‌ خلافة‌ ابـیه امیر المؤمنین(علیه السلام): وفي هذا العهد كان الامام الحسن‌ السبط(علیه‌ السلام) ظّلاً لابـیه في كل ما تـتطلبه مـسألة الولاء لامامه خلیفة رسول اللّه(صلی الله علیه وآله)‌، وجندیاً‌ واعیاً مطیعاً لكل أوامره. وقد تجلی دوره هذا علی طول الایام‌ الحاسمة‌، والصراع المریر الذي عاشه والده أمیر المؤمنین(علیه السلام). ومن مهماته المشهودة في تلك‌ الفترة‌:

أ ـ دوره فـي حرب الناكثین المعروفة بحرب الجمل: وهي الحرب التی‌ استعرت‌ في إثر تمرد طلحة والزبیر في البصرة، ورفعهما السلاح بوجه أمیر المؤمنین‌ علي(علیه‌ السلام)‌ بقیادة عائشة. وقد تمثل دور الامام الحسن(علیه السلام) فـیها بـأمرین اساسیین:

أولاً‌: لما توجه أمیر المؤمنین(علیه السلام) إلی ذي قار ونزلها، أرسل الامام‌ الحسن‌ المجتبی(علیه‌ السلام) إلی الكوفة مع عمار بن یاسر وزید بن حومان وقیس بن سعد، لیستنفروا‌ اهلها‌ لمساعدته علی طلحة والزبـیر، وكـان قد أرسل قبلهم وفداً فعارضهم أبو‌ موسی‌ ولم‌ یستجب لطلب أمیر المؤمنین(علیه السلام)، ومضی الحسن بمن معه باتجاه الكوفة، ولمّا دخلوها‌ استقبلهم‌ اهلها‌ فقرأ علیهم كتاب ابیه، ووقف أبـو مـوسی نفس الموقف الذي وقفه‌ مع‌ الوفد الاول، وافتعل حدیثاً عن النبي لیثبط الناس عن مساعدة أمیر المؤمنین، وادّعی أنه‌ سمعه‌ یقول: «ستكون بعدي فتنة القاعد فیها خیر من القائم، والنائم‌ خـیر‌ مـن القـاعد». فرد علیه عمار بن‌ یـاسر‌ وقـال‌: «إذا صـح أنك سمعت رسول اللّه‌ یقول‌ ذلك فقد عناك وحدك، فالزم بیتك. أمّا أنا فأُشهد اللّه أن‌ رسول‌ اللّه قد امر علیّاً بقتال‌ الناكثین‌ وسـمّی لي مـنهم‌ جماعة‌، وامره بقتال القاسطین، وإن‌ شئت‌ لاقیمن لك شـهوداً أن رسـول اللّه قد نهاك وحدك وحذّرك من الدخول‌ فی‌ الفتنة».

ووقف الحسن(علیه السلام)‌ یستنفر الناس فحمد اللّه‌ وصلی‌ علی رسوله ثـم قـال: «أیـها الناس، إنّا جئنا ندعوكم إلی اللّه وكتابه وسنّة رسوله، وإلی‌ افقه‌ مـن تفقه من المسلمین وأعدل‌ من‌ تعدلون‌ وأفضل من تفضلون‌ وأوفی‌ من تبایعون، مَنْ‌ لم‌ یعبه القرآن ولم تجهله السـنّة ولم تـقعد بـه السابقة. ندعوكم إلی من قرّبه‌ اللّه‌ ورسوله قرابتین؛ قرابة الدین وقرابة‌ الرحـم‌، إلی من‌ سبق‌ الناس إلی كل مأثرة‌، إلی من كفی اللّه به رسوله والناس متخاذلون، فقرب منه وهم متباعدون، وصـلی‌ مـعه‌ وهـم مشركون، وقاتل معه وهم‌ منهزمون‌، وبارز‌ معه‌ وهم محجمون، وصدقه‌ وهم یـكذبون، وهـو سـائلكم النصر ویدعوكم إلی الحق ویأمركم بالمسیر إلیه لتؤازروه وتنصروه علی قوم‌ نكثوا‌ ببیعة‌، وقتلوا اهـل الصـلاح مـن أصحابه، ومثلوا‌ بعمّاله‌، ونهبوا‌ بیت‌ ماله. فاشخصوا إلیه رحمكم اللّه».

وفی روایة ثانیة عن جـابر بـن یزید أنه قال: «حدثني تمیم بن جذیم التاجي أن الحسن‌ بن علي(علیه السلام) وعـمار بـن یـاسر قدما الكوفة یستنفران الناس إلی علي(علیه السلام) ومعهما كتابه، فلما فرغا من قراءته قام الحـسن فـرماه الناس بأبصارهم وهم یقولون: اللّهم سدّد‌ منطق‌ ابن بنت نبیّك، فوضع یده عـلی عـمود یـتساند إلیه، وكان علیلاً من شكوی به، فقال: الحمد للّه العزیز الجبار الواحد الاحد القهار الكبیر المـتعال، سـواء‌ منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخف باللیل وسـاربٌ بـالنهار، احـمده علی حسن البلاء وتظاهر النعماء، وعلی ما‌ احببنا‌ وكرهنا من شدة ورخاء، وأشهد‌ أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شـریك له، وأنـّ مـحمداً عبده ورسوله، امتنّ بنبوته واختصه برسالته وأنزل علیه وحیه واصطفاه‌ علی‌ جـمیع خـلقه، وأرسله‌ إلی‌ الانس والجنّ حین عُبدت الاوثان وأُطیع الشیطان وجُحد الرحمن، فصلی اللّه علیه وعلی آله وجزاه افـضل الجـزاء، أما بعد فإني لا اقول لكم إلاّ ما تعرفون؛ إن‌ امیر‌ المؤمنین علي بـن ابـي طالب أرشد اللّه امره وأعزّ نصره بعثني الیـكم یـدعوكم إلی الصـواب والعمل بالكتاب والجهاد فی سبیل اللّه، وإن كان فـي عـاجل ذلك ما تكرهون، فإن‌ في آجله‌ ما تحبّون إن شاء اللّه، ولقد علمتم بأنّ علیّاً صـلی مـع رسول اللّه وحده، وأنه‌ یوم صـدق بـه لفي عـاشرة مـن عـمره، ثم شهد مع‌ رسول‌ اللّه‌ جـمیع مـشاهده، وكان من اجتهاده فی مرضاة اللّه وطاعة رسوله وآثاره الحسنة في الاسلام مـا قـد بلغكم، ‌‌ولم‌ یزل رسول اللّه راضیاً عـنه حتی غمضه بیده وغـسله وحـده والملائكة اعوانه، والفضل‌ ابن‌ عـمه یـنقل إلیه الماء، ثم ادخله حفرته، وأوصاه بقضاء دینه وعداته وغیر ذلك‌ من امـوره، كـل ذلك من منّ اللّه علیه، ثم ـ واللّه ـ مـا دعـا إلی‌ نفسه،‌ ولقـد تـداك الناس علیه تداك الابـل الهـیم عند وردها فبایعوه طائعین، ثم نكث منهم ناكثون بلا حدث احدثه ولا خلاف أتاه حـسداً له وبـغیاً علیه، فعلیكم عبادَ اللّه بتقوی‌ اللّه وطاعته والجـدّ والصـبر والاستعانة بـاللّه، والاسـراع إلی مـا دعاكم إلیه. عصمنا اللّه وإیـّاكم بما عصم به أولیاءه وأهل طاعته، وألهمنا وإیّاكم تقواه وأعاننا وإیّاكم علی جهاد اعدائه‌. واسـتغفر اللّه لی ولكـم».

وبعد جدال طویل وحوار بین عـمار بـن یـاسر والحـسن بـن علي(علیه السلام) مـن جـهة، وبین أبي موسی الاشعري، التفت الحسن(علیه السلام)‌ إلی‌ أبي موسی وقال له: «اعتزل عملنا لا أُمّ لك وتـنحَّ عـن مـنبرنا» وظلّ أبو موسی علی موقفه المتصلّب یـخذّل النـاس ویـوحی إلیـهم بـأن رسـول اللّه قد أمرهم‌ باعتزال‌ هذه الفتنة، حتی جاء مالك الاشتر ودخل القصر وأخرج منه الحرس، هذا وأبو موسی في جدال مع الحسن(علیه السلام) وعمار، فجاءه الغلمان والحرس یـشتدون إلیه وأخبروه‌ بما‌ صنع‌ الاشتر، فخرج من المسجد‌ مذموماً‌ مدحوراً‌، واستجاب الناس لنداء الحسن(علیه السلام) ، وخرج معه إلی البصرة اثنا عشر ألفاً، وكان أمیر المؤمنین قد اخبر بعددهم‌ وهو‌ في‌ ذي قـار كـما جاء في روایة الشعبی‌ عن‌ أبي الطفیل، وأضاف إلی ذلك أبو الطفیل یقول: «واللّه لقد قعدت علی الطریق وأحصیتهم واحداً واحداً فما‌ زادوا‌ رجلاً‌ ولا نقصوا رجلاً».

ثانیاً: شارك الامام الحسن(علیه‌ السلام) في حـرب الجـمل إلی جنب أمیر المؤمنین(علیه السلام)، وحمل رایته وانتصر بها علی الناكثین. ومما‌ أجمع‌ علیه‌ المؤرخون في ذلك أنه «لمّا زحف أمیر المؤمنین في كتیبته الخـضراء‌ التـي‌ جمعت المهاجرین والانصار، وحوله أولاده الحـسن والحـسین ومحمد بن الحنفیة، وكان قد اعطاه الرایة‌، فحمل‌ بها علی أنصار عائشة ومضی یتقدم بها حتی تزعزعت صفوفهم، فقال‌ له‌ الانصار‌: واللّه یا أمیر المـؤمنین لولا مـا جعل اللّه تعالی للحسن والحـسین لمـا قدّمنا‌ علی‌ محمد‌ أحداً من العرب، فقال لهم أمیر المؤمنین: این النجم من الشمس والقمر‌؟ أما إنه قد أغنی وأبلی وله فضله، ولا ینقص فضل صاحبیه علیه‌، وحسب‌ صاحبكم ما انتهت بـه نـعمة اللّه تعالی علیه. فقالوا له: یا أمیر‌ المؤمنین‌، إنّا واللّه لا نجعله كالحسن والحسین، ولا نظلمهما له ولا نظلمه‌ لفضلهما‌ علیه‌ حقه. فقال: این یقع ابني من ابنَيْ بنت رسول اللّه؟»

ب ـ دوره في حرب القاسطین المعروفة بحرب صفین: وهـي حـرب‌ البغاة‌ فـی‌ الشام التي قادها معاویة بن أبي سفیان خروجاً علی خلافة أمیرالمؤمنین(علیه السلام)، وهكذا أیضاً‌ كان‌ دور‌ الامام الحـسن(علیه السلام) فیها كدوره فی حرب الجمل، بل زاد علیه‌؛ حیث قام بـتعبئة المـسلمین للجـهاد وبذل جهده لاحباط مؤامرة التحكیم والاحتجاج علی المنادین به. ونلخص‌ هذا‌ الدور بما یلي:

أولاً: وقف الامام الحسن(علیه السـلام) ‌خـطیباً‌ یعبّئ‌ المسلمین لجهاد القاسطین البغاة بقیادة معاویة بن‌ أبي‌ سفیان‌ فقال: «الحمد للّه لا إلهـ‌ غـیره‌ ولا شـریك له، وإنه ممّا عظم اللّه علیكم من حقّه وأسبغ علیكم‌ من‌ نعمه مالا یحصی ذكره ولا‌ یؤدی‌ شـكره ولا‌ یبلغه‌ قول‌ ولا صفة، ونحن إنّما غضبنا‌ للّه‌ ولكم، وإنه لم یجتمع قوم قطّ عـلی أمر واحد إلاّ اشتدّ‌ امـرهم‌ واسـتحكمت عقدتهم، فاحتشدوا في قتال‌ عدوكم معاویة وجنوده، ولا‌ تتخاذلوا، فإن الخذلان یقطع‌ نیاط‌ القلوب، وإن الاقدام علی الاسنّة نخوة وعصمة. لم یتمنع قوم قطّ‌ إلاّ‌ رفع اللّه عنهم العلّة، وكفاهم‌ حوائج‌ الذلّة، وهداهم‌ إلی‌ معالم الملّة» ثم‌ أنـشد‌:

والصلح تأخذ منه ما رضیت به والحرب یلفیك من أنفاسها جرع ثانیاً: لقد‌ عبّر الامام الحسن(علیه السلام) عن ولائه‌ المطلق‌ لابیه أمیر‌ المؤمنین(علیه‌ السلام)‌ فی محنته هذه، مستخفّاً بإغراء البغاة له بالخلافة دون أبـیه. فـقد روی أن عبید اللّه بن عمر‌ ارسل‌ إلی الحسن بن علي أن لی‌ حاجة‌، وكان‌ إلی‌ جانب معاویة بن‌ أبي‌ سفیان، فلقیه الامام أبو محمد الحسن، فقال له عبید اللّه: «إن أباك قد‌ وتر‌ قریشاً‌ أولاً وآخراً، وقد شـنئه النـاس، فهل‌ لك‌ في‌ خلعه‌ وتتولی‌ أنت هذا الامر؟» فقال له الحسن(علیه السلام): «كلاّ، واللّه لا یكون ذلك أبداً» ومضی یقول: «یابن الخطّاب، واللّه لَكأنّي أنظر‌ إلیك مقتولاً في یومك أو غدك. أما إن الشیطان قد زیـّن لك وخـدعك حتی أخرجك متخلّقاً بالخلوق؛ تری نساء أهل الشام موقفك، وسیصرعك اللّه ویبطحك لوجهك قتیلاً»

ثم انصرف كل منها إلی جهته. ونقل احد الرواة قال: «فو اللّه ما كان إلاّ بیاض ذلك الیوم، حتی قُتل عـبید اللّه وهـو‌ فـي كتیبة رقطاء تدعی الخضریة، وكـان فـي اربـعة آلاف علیهم ثیاب خضر، فمرّ الحسن بن علي(علیه السلام)، وإذا برجل متوسّد برجل‌ قتیل‌ قد ركز رمحه في عینه‌ وربط‌ فرسه برجله، فـقال الحـسن لمـن معه: انظروا مَنْ هذا؟ فإذا رجل من هـمدان، وإذا القـتیل عبید اللّه بن عمر بن‌ الخطاب‌ قد قتله الهمداني في‌ أول‌ اللیل وبات علیه حتی أصبح».

ثالثاً: كان للامام الحسن(علیه السـلام) دور مـشهود فـي الاحتجاج علی من نادی بالتحكیم وقبل به، كاشفاً عن حـقیقة الموقف وما‌ یكمن‌ وراءه من مؤامرة شیطانیة لتفریق جیش أمیر المؤمنین(علیه السلام)، وتمزیقه داخلیّاً. وممّا روی في ذلك أن أمیر المؤمنین(علیه السـلام) بـعد أن أعـیته السبل فی التحذیر من التحكیم وأنه‌ خدعة‌ ومؤامرة، استسلم مكرهاً لرغـبة القـوم، فكانت مهزلة التحكیم التي انتهت بخذلان أبي موسی الاشعري للامام علي(علیه السلام)‌، فساد الاضطراب معسكر أمـیر المـؤمنین(علیه السـلام)، وبدت ظواهر‌ التمزق‌ والتفرق‌ تسود أوساط جیشه، وأخذ كلّ فریق یتبرّأ مـن الاخـر ویـشتمه، فلم یجد الامام علي(علیه السلام) سبیلاً ‌‌لدرء‌ هذه المفسدة وبیان الحقّ وكشف حقیقة التحكیم وبطلانه، إلاّأن یـقدم الامـام الحـسن‌ المجتبی(علیه‌ السلام)‌ لیقوم بهذه المهمة الرسالیة قائلاً له: «قم یا بني فقل في هذین الرجـلین عـبد‌ اللّه بن قیس، وعمرو بن العاص »، فقام الامام السبط خطیباً فقال‌: « أیّها الناس‌، قد اكـثرتم فـي هـذین الرجلین، وإنّما بُعثا لیحكما بالكتاب علی الهوی، فحكما بالهوی علی الكتاب، ومن كان هكذا لم یـُسمَّحكماً ولكـنه محكوم علیه، وقد أخطأ عبد اللّه بن‌ قیس إذ جعلها لعبد اللّه بن عمر، فأخطأ فـي ثـلاث خـصال: واحدة أنه خالف أباه إذ لم یرضه لها، ولا جعله في اهلا لشوری، وأخری أنه لم یستأمره‌ في‌ نفسه، وثـالثة: أنـه لم یجتمع علیها المهاجرون والانصار الذین یعقدون الامارة ویحكمون بها علی الناس، وأمّا الحـكومة فـقد حـكم النبي(صلی الله علیه وآله)سعد بن معاذ، فحكم بما‌ یرضی‌ اللّه به، ولا شك لو خالف لم یرضه رسول اللّه(صلی الله عـلیه وآله).

وبـذلك أظهر الامام السبط حقیقة الموقف، وكشف عن زیف التحكیم، وخطل‌ رأی‌ أبـي مـوسی الاشعري الذي انتخبته الغوغاء من جیش الامام علي(علیه السلام) ومكنته من الموقف دون رویّة وتدبّر، رغم أنه مـعروف بـسوء سریرته.

وهكذا كان الامام الحسن(علیه‌ السلام)‌ سنداً‌ وظهیراً لابیه أمیر المؤمنین(علیه السـلام) إلی آخر‌ لحـظة‌ من‌ حیاته، وكان یعاني مایعانیه أبوه مـن اهـل العـراق ویتألّم لالامه ومحنه، وهو یری معاویة یحوك المؤامرة تـلو الاخـری، ویبثّ مرتزقته في انحاء‌ العراق‌ لتثبیط‌ المسلمین عن أمیرالمؤمنین(علیه السلام)، ویغري القادة والزعماء بالاموال والمـناصب حتی فرق اكثرهم‌ عـنه‌، وأصبح أمیر المؤمنین یتمنی فراقهم بالشهادة فـی سـبیل اللّه، ولطالما بـكی وقـبض عـلی كریمته وهو یقول: «متی یبعث اشقاها‌ فـیخضب‌ هـذه‌ من هذا؟!»، والحسن(علیه السلام) یری كل ذلك‌ وتأخذه الحسرة والالم لما یحیط بأبیه مـن المـتاعب والمحن والفتن.

3 ـ في أیام خلافته(علیه السلام): لقـد‌ أجمع‌ المؤرخون أن خلافته كـانت فـي صبیحة الیوم الذي دفن فیه أمـیر‌ المـؤمنین(علیه‌ السلام)، وبعد الفراغ من إنزال حكم اللّه بقتل ابن ملجم، فقد ضربه ضربة واحـدة‌ قـضت‌ علیه‌ كما اوصاه أمیر المـؤمنین(علیه السـلام)، ثـم تجمع عند الامـام الحـسن(علیه السلام)‌ صبیحة‌ ذلك‌ الیـوم حـشد كبیر من اهل الكوفة غصّ بهم الجامع علی سعته، فوقف خطیباً‌ حیث‌ كان‌ یـقف أمـیر المؤمنین وحوله من بقی من وجـوه المـهاجرین والانصار، فـابتدأ خـطابه فـي مصابه‌ بأبیه الذي اصیب بـه جمیع المسلمین، وقال بعد أن حمد اللّه وصلی‌ علی‌ محمد‌ وآله: «لقد قبض في هذه اللیلة رجل لم یـسبقه الاولون بـعمل ولا‌ یدركه‌ الاخرون بعمل. لقد كان یـجاهد مـع رسـول اللّه فـیقیه بـنفسه، وأینما‌ وجهه‌ رسـول‌ اللّه كـان جبرئیل عن یمینه ومیكائیل عن یساره، فلا یرجع حتی یفتح اللّه علیه،‌ ولقد‌ توفي في اللیلة التـي عـرج فـیها عیسی بن مریم إلی السماء، وقبض‌ فیها‌ یـوشع بـن نـون وصـي مـوسی، ومـا خلف خضراء ولا بیضاء سوی سبعمئة درهم فضلت‌ عن‌ عطائه‌ أراد أن یبتاع فیها خادماً لاهله، وقد أمرني أن أردها إلی‌ بیت‌ المال».

ثم تمثل له أبوه وما كابده في حیاته مـن الالام والمتاعب فاستعبر‌ باكیاً‌، وبكی الناس من حوله حتی ارتفعت الاصوات بالبكاء والنحیب من جمیع‌ انحاء‌ الكوفة، وعاد إلی حدیثه بعد أن‌ استنصت‌ الناس‌، وقال: «أیها الناس، من‌ عرفني فقد عرفني، ومـن لم یـعرفني فأنا الحسن بن علي، وأنا‌ ابن‌ النبي والوصي، وأنا ابن‌ البشیر‌ النذیر والداعی‌ إلی‌ اللّه‌ بإذنه، وأنا ابن السراج المنیر‌، وأنا من اهل البیت الذین كان جبریل ینزل إلیـنا ویـصعد من عندنا‌، وأنا من اهل البیت الذین اذهب‌ اللّه عنهم الرجس وطهرهم‌ تطهیراً‌، وافترض مودتهم علی كل‌ مسلم‌ فقال فی كتابه: (قل لا أسألكم عـلیه أجـراً إلاّ المودّة في القربی‌ ومَنْ‌ یـقترفْ حـسنة نزدْ له فیها‌ حسناً) فاقتراف‌ الحسنة‌ مودتنا اهل البیت» .

وبعد خطابه‌ هذا‌ أقبل الناس یتسابقون إلی بیعته، وتمّت بیعته فی الكوفة والبصرة، كما بایعه‌ اهل‌ الحجاز والیـمن وفـارس وسائر المناطق التی‌ كـانت‌ تـدین بالولاء‌ والبیعة‌ لابیه‌. ولمّا بلغ نبأ‌ البیعة معاویة اجتمع بكبار اعوانه، وشرعوا بحَبْك المؤامرات ورسم الخطط لنقض بیعة الامام الحسن(علیه‌ السلام)‌ وتقویض خلافته. وعندما نستقرئ سیرة‌ الامام‌ الحسن(علیه‌ السلام)ومواقفه‌ إزاء‌ هـذه المـؤامرات والفتن‌ الطخیاء‌، تتجسد أمامنا قمة الفناء فی اللّه سبحانه، واتخاذ مصلحة الاسلام العلیا مقیاساً حاسماً لمواقفه‌ ومواجهاته‌ مضحیاً‌ بكل شيء دون ذلك.

ویمكننا‌ الاشارة‌ إلی‌ ثلاث‌ حالات‌ مثلت‌ كبریات مواقفه الرسالیة المشهودة فـي هـذا السبیل:

أ ـ أن الامـام الحسن(علیه السلام) رأی ابتداءً أن مصلحة الاسلام العلیا تقوم بالتعبئة لحرب الباغیة معاویة بن‌ أبي سفیان، وقد اتخذ الامـام(علیه السلام) قراره هذا بعد مراسلات متبادلة بینه وبین معاویة أتمّ فـیها الحـجّة عـلیه، وردّ علیه محاولاته لاغرائه(علیه السلام) بالاموال والخلافة من بعده قائلاً‌ له‌: «ولك ألاّ تقضی دونك الامور، ولا تعصی في أمر مـن ‌ ‌الامـور أردت بها طاعة اللّه...» وكان آخر ما كتبه الامام(علیه السلام) رادّاً علیه: «أمّا بعد فقد وصـلني كـتابك تـذكر فیه ما ذكرت، وتركت جوابك خشیة البغی علیك وباللّه أعوذ من ذلك، فاتبع الحق تعلم‌ أنـی‌ من أهله وعلی إثم أن‌ أقول‌ فاكذب. والسلام».

ولمّا وصله كتاب الحسن(علیه السـلام) أدرك أن أسالیبه ومغریاته لم تغیّر مـن مـوقفه شیئاً، فكتب إلی جمیع‌ عمّاله‌ فی بلاد الشام: «أمّا‌ بعد، فإني أحمد إلیكم اللّه الذی لا إله غیره، والحمد للّه الذی كفاكم مؤنة عدوّكم وقتلة خلیفتكم. إن اللّه بلطفه وحسن صنیعه أتاح لعلی بن أبی طالب‌ رجلاً‌ من عباده فـاغتاله وقتله، وترك أصحابه متفرقین مختلفین، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم یلتمسون الامان لانفسهم وعشائرهم، فأقبلوا إلیّ حین یأتیكم كتابي هذا بجهدكم وجندكم وحسن عدتكم‌، فقد أصبتم‌ ـ بحمد اللّه ـ الثار وبلغتم الامل، وأهـلك اللّه اهـل البغي والعدوان. والسلام علیكم‌ ورحمة اللّه».

فاجتمعت إلیه الوفود من كل الجهات وسار‌ بهم‌ باتجاه‌ العراق. ویدّعی المؤرخون أنه لمّا بلغ الحسن بن علي خبر مسیره وأنه قد بلغ جسر مـنبج ‌‌تـحرك‌ عند ذلك، وكتب إلی عمّاله یدعوهم إلی التحرك، ونادی منادیه فی‌ الكوفة‌ یدعوهم‌ إلی الاجتماع في المسجد، فأقبل الناس حتی امتلا بهم، فخرج الامام وصعد المنبر‌، فأثنی علی اللّه وصلی علی رسوله، ثم قـال: «لقـد كتب‌ اللّه الجهاد علی خلقه‌ وسمّاه‌ كرهاً، وأوصی المجاهدین بالصبر ووعدهم النصر وجزیل الاجر. ثم قال: أیها الناس، إنكم لستم نائلین ما تحبّونه إلاّ بالصبر علی ما تكرهون، وقد بلغنی أن مـعاویة‌ كـان قـد بلغه أنّا أزمعنا علی المـسیر إلیـه فـتحرك نحونا بجنده، فاخرجوا رحمكم اللّه إلی معسكركم بالنخیلة حتی ننظر وتنظرون ونری وترون».

فسكت الناس ولم یتكلم احد‌ منهم‌ بحرف واحد، فلمّا رأی ذلك منهم عـدي بـن حـاتم قام وقال: «أنا ابن حاتم. سبحان اللّه! ما أقـبح هـذا المقام! ألا تجیبون إمامكم وابن بنت‌ نبیكم‌؟، أین خطباء مضر الذین ألسنتهم كالمخاریق فی الدعة؟ فإذا جد الجد فمراوغون كـالثعالب. أمـا تـخافون مقت اللّه وعیبها وعارها؟» ثم استقبل الامام الحسن بوجهه‌ وقال‌: « أصـاب اللّه بك المراشد وجنبك المكاره، ووفّقك لما تحمد وروده وصدوره. قد سمعنا مقالتك وانتهینا إلی امرك واطعناك فیما قلت وما رأیـت، وهـذا وجـهی‌ إلی‌ معسكري‌ فمن احب أن یوافیني فلیواف‌ » ثم‌ مضی لوجهه وخرج مـن المـسجد فركب دابته، وكانت علی باب الجامع، وأمر غلامه أن یلحقه بما یصلحه، ومضی‌ هو‌ إلی‌ النخیلة.

ثـم قـام قـیس بن سعد‌ بن‌ عبادة الانصاري، ومعقل بن قیس الریاحي، وزیاد بن صـعصعة التـیمي، فـأنّبوا الناس ولاموهم علی تخاذلهم وحرضوهم‌ علی‌ الخروج‌، وكلموا الحسن(علیه السلام) بمثل كلام عدي بـن حـاتم، فـقال لهم: « صدقتم رحمكم اللّه. مازلت أعرفكم بصدق النیة والوفاء والقبول والمودّة والنصیحة، فجزاكم‌ اللّه‌ خـیراً».

وخـرج الناس إلی النخیلة، فلما تكامل‌ عددهم‌ لحق بهم الحسن، واستخلف علی الكوفة المغیرة بـن نـوفل بـن عبد المطلب، وأمره بأن‌ یحرك‌ الناس‌ ویحثهم علی الخروج والالتحاق بالجیش.

ویروی المؤرخون أنـه لمـا تكامل‌ الجیش‌ خرج‌ به الحسن(علیه السلام)، وقد حدده بعضهم بأربعین ألفاً، وبعضهم بـستین وبـأكثر مـن‌ ذلك‌، ولمّا نزل دیر عبدالرحمن أقام به ثلاثة أیام، ودعا عبید اللّه بن العباس‌ وقال‌ له: « یـابن العـم، إني باعث معك اثني عشر ألفاً من‌ فرسان‌ العرب‌ وقرأ مضر، الرجـل مـنهم یـرید الكتیبة، فسر بهم علی الشاطئ حتی تقطع‌ الفرات‌ وتنتهی إلی مسكن، وامض منها حتی تستقبل مـعاویة، فـألن لهـم جانبك‌ وابسط‌ لهم‌ وجهك وافرش لهم جناحك وأدنهم من مجلسك، فإنهم مـن ثـقات أمیر المؤمنین، فإن‌ أنت‌ لقیت معاویة فاحبسه حتی آتیك، فإنی علی إثرك وشیكاً. ولیكن‌ خبرك‌ عـندي‌ كـل یوم».

وأرسل معه قائدین من خیرة المسلمین اخلاصاً وجهاداً ونصیحة فی‌ سـبیل‌ اللّهـ‌، وهما قیس بن سعد بن عبادة، وسـعید بـن قـیس الهمداني، وأمره ألاّ یقطع أمراً دونهما، وأن یستشیرهما فـی جـمیع الامور، وقال له: « إذا‌ أنت لقیت معاویة فلا تقاتله حتی یكون هو البادئ في القـتال، فـإن‌ أُصبت فقیس بن سعد عـلی النـاس، وإن‌ أُصـیب‌ فـالقیادة مـن بعده لسعید بن قیس».

وسار عـبید اللّه بـالناس یقطع الصحاري حتی انتهی إلی الفلّوجة، ومنها‌ إلی‌ مسكن، وكان معاویة قد‌ نـزل‌ فـیها، فنزل‌ عبید‌ اللّه بن العباس بإزائه، وفـی‌ الیوم‌ الثانی وجه مـعاویة بـخیل أغارت علی جیش عبید اللّه فـوقفوا لهـا وردّوها‌ علی‌ أعقابها، وأیقین معاویة تصمیم الحسن(علیه‌ السلام) علی مواصلة القتال‌ بعد‌ أن رفـض العـروض المغریة التي‌ قدمها‌ إلیه فـی رسـائله.

ب ـ رأی الامـام(علیه السلام) أن مدار مـصلحة‌ الاسـلام‌ العلیا بعد خذلان جـیشه له وتفرقه‌ عنه‌، یقوم بعقد‌ معاهدة‌ الصلح مع معاویة بن‌ ابي‌ سفیان؛ وفی هذا السـیاق یـنقل لنا المؤرخون أن معاویة لمّا أرسل خـیله لقـتال‌ الجیش‌ الذي قـوده عـبید اللّه، ردّهـا‌ اهل العراق‌ علی‌ اعـقابها‌، وبمجیء اللیل أرسل‌ معاویة رسالة إلی عبید اللّه جاء فیها أن الحسن قد أرسلني فی الصلح وسلم الامـر‌ لي فإن دخلت فی طاعتی الان تكن‌ مـتبوعاً‌ خـیر‌ لك مـن‌ أن تـكون تابعاً‌ بعد‌ غـد، ولك أن اجـبتني الان أن أعطیك الف الف درهم أعجل لك في هذا الوقت‌ نصفها‌، وعندما أدخل الكوفة ادفع لك النصف الثاني‌.

ویدعی‌ اكثر‌ المـؤرخین‌ أن عـبید اللّه انـسلّ من قاعدته، ودخل عسكر معاویة ومعه بـضعة آلاف مـمن كـانوا مـعه، فـوفی له بـما وعده، وانتبه الناس بدخول النهار، فانتظروا عبید اللّه لیصلي بهم فلم یجدوه، فصلی بهم قیس بن سعد، ولمّا تأكدوا من خبره خطبهم قیس، وذكر عبید اللّه فنال منه، وأمـرهم بالصبر والثبات‌، وعرض علیهم الحرب ومناهضة معاویة مهما كان الحال، فأجابوه لذلك، فنزل عن المنبر ومضی بهم لقتال معاویة، فقابلهم جیشه بقیادة بسر بن ارطاة، وبثّ دعاتة‌ بین‌ أصحاب قیس یـذیعون أن امـیرهم عبید اللّه مع معاویة فی خبائه، والحسن بن علي قد وافق علی الصلح فعَلام تقتلون أنفسكم. وهنا‌ یدّعی المؤرخون أن قیساً قال‌ لاهل‌ العراق: «اختاروا احدی اثنتین: إما القتال بدون إمـام، وإمـّا أن تبایعوا بیعة ضلال» فقالوا بأجمعهم: «بل نقاتل بدون امام» ثم‌ اتجهوا‌ نحوهم واشتبك الفریقان فی‌ معركة‌ ضاریة كانت نتائجها لصالحهم، وتراجع بسر بـمن مـعه إلی معسكراتهم مخذولین مقهورین.

وكان مـوقف عـبید اللّه من جملة العوامل التي تسببت فی تفكك جیش الامام وتخاذله، وفتح‌ ابواب الغدر والخیانة والتسلّل الجماعي، وتذرع ذوی النفوس الضعیفة والقلوب المریضة أن عبید اللّه ابن عـمه واولاهـم بمناصرته والتضحیة فی سـبیله.

كـما كان لغدر عبید اللّه بن‌ العباس‌ فی نفس‌ الامام(علیه السلام) حزن بالغ وأسی مریر؛ لانه فتح الباب لغیره، وتستّر بغدره وخیانته جمیع الطامعین‌ والخونة من اهل العراق، ونشط انصار معاویة فـی نـشر الترهیب‌ والترغیب‌ فی صفوف الجیش، ولم یتركوا وسیلة لصالح معاویة إلاّ واستعملوها، واستمالوا الیهم حتی رؤساء ربیعة ‌‌الذین‌ كانوا حصناً لامیر المؤمنین(علیه السلام) فی صفین وغیرها من المواقف؛ فلقد راسله خالد‌ بن‌ مـعمر‌ احـد زعمائها البـارزین وبایعه عن ربیعة كلّها.

كما راسله وبایعه عثمان بن شرحبیل‌ احد زعماء بني تمیم، وشاعت الخیانة بـین جمیع كتائب الجیش وقبائل الكوفة‌، وأدرك الامام أبو‌ محمد‌ الحسن(علیه السلام) كـل ذلك، وصـارحهم بـالواقع الذي لم یعد یجوز السكوت عنه، فقال: « یا أهل الكوفة، أنتم الذین أكرهتم أبي علی القتال والحكومة ثم اخـتلفتم ‌ ‌عـلیه‌، وقد أتاني أن اهل الشرف منكم قد اتوا معاویة وبایعوه، فحسبی منكم لا تغروني فـی دیـني ونـفسي».

وهنا اطمأن معاویة بأن المعركة لو وقعت بین اهل‌ الشام‌ واهل العراق ستكون لصالحه، وسیكون الحـسن بن علي(علیه السلام) والمخلصون له من جنده خلال أیام معدودات بین قتیل وأسیر تـحت رحمته، وأن السلطة صائرة إلیـه لامـحالة، ولكن‌ استیلاءه‌ علیها بقوة السلاح لا یعطیها الصبغة الشرعیة التی كان یحاول التمویه بها علی الناس، هذا بالاضافة إلی ما قد یحدث من المضاعفات الخطرة التی ستجعله فی ضیق من‌ نتائجها‌، وذلك لو أُصیب الحـسن والحسین خلال المعارك وهما سیدا شباب اهل الجنة، وریحانتا جدهما وأحبّ الخلق إلیه بالنصوص المتواترة التی لا یجهلها أحد من المسلمین.

لذلك‌ ولغیره‌ كان معاویة علی ما یبدو‌ حریصاً‌ علی‌ ألا یتورط مـع الحـسن بن علي(علیه السلام) في الحرب، وإن كان مطمئنّاً لنتائجها، فعرض علیه فكرة الصلح في أولی‌ رسائله‌، وترك له أن یشترط ویطلب مایرید، وراح‌ یردد‌ حدیث الصلح في مجالسه وبین انصاره فی جیش العـراق ویـأمرهم بإشاعته، وكاتب القادة والرؤساء به لیصرف انظارهم عن‌ الحرب‌، ویبثّ بینهم روح التخاذل والاستسلام للامر الواقع.

وكانت‌ فكرة الصلح كما ذكرنا مغلفة بلون ینخدع له الكثیرون من الناس، ویفضلونه علی الحـرب والقـتال؛ فلقد عرضها‌ في رسالته‌ الاولی علی الحسن(علیه السلام) وأشاعها بین اهل العراق، علی ألا‌ یقضی‌ أمراً من الامور بدون رأیه، ولا یعصیه فی أمر أُرید به طاعة اللّه ورسوله، وترك‌ له‌ مع ذلك أن یـقترح مـا یـرید؛ كل ذلك لعلمه بأنها ستلقی‌ بـهذه‌ الصـیاغة‌ قـبولاً من الكثیرین، وسیتبع ذلك انقسام فی صفوف الجیش یضطره إلی الصلح لانه اهون‌ الشرّین‌، كما التجأ والده من قبل للتحكیم والرضا بالاشعري حكماً لاهـل العـراق فـی مقابل ابن‌ العاص‌، لانه اقل خطراً وضرراً مـن المـضي في الحرب، مع انحیاز القسم‌ الاكبر‌ من‌ الجیش إلی جانب فكرة التحكیم التي وضعها معاویة، بعد أن ضاق علیه امره‌ وكـاد‌ أن یـقع اسـیراً بید الاشتر ومن معه من الجنود البواسل.

وبالاضافة‌ إلی‌ أن فكرة الصلح بتلك الشروط ستكون سلاحاً بید الخونة من اهل العراق، ستكون أیضاً عذراً‌ مقبولاً‌ لمعاویة لو كانت الحـرب وأُصـیب الحـسنان وخیار الصحابة عند السواد الاعظم من‌ الناس‌.

وكان الامر كما قـدر مـعاویة؛ فقد ادّت فكرة الصلح بتلك الصیغة إلی التشویش‌ والاضطراب‌ فی‌ صفوف الجیش، وإلی تسلّل عبید اللّه بن العباس وعدد مـن القـادة‌ وزعـماء‌ العشائر إلی معاویة واتّصال بعضهم به عن طریق المراسلة، وكان هو بدوره بـما لدیـه مـن‌ وسائل‌ الاعلام یرسل إلی الحسن بجمیع اخبارهم وتصرفاتهم لیقطع أمله من نتائج الحرب‌، ولا یبقی له خـیار فـی الصـلح، وكان‌ الامر‌ كذلك.

وقال الشیخ المفید فی‌ ارشاده‌ والطبرسي فی اعلام الوری: إن اهل العراق كـتبوا إلی مـعاویة بالسمع والطاعة‌، واستحثّوه علی السیر نحوهم، وضمنوا‌ له تسلیم‌ الحسن‌ إلیه‌ إذا شاء عند دنـوّه مـن مـعسكرهم‌ أو‌ الفتكبه وجاء في علل الشرائع أن معاویة دسّ إلی عمرو‌ بن‌ حریث والاشعث بن قیس وحجار بـن‌ أبـجر وشبث بن ربعي‌ ووعد‌ من یقتل الحسن بمئة الف‌ وقیادة‌ جند من اجـناد الشـام وبـنت من بناته، ولمّا بلغ الحسن ذلك كان‌ لا‌ یخرج بدون لامة حربه، ولا‌ ینزعها‌ حتی في الصلاة‌، وقـد رمـاه احدهم بسهم‌ وهو‌ یصلي فلم یثبت فیه.

ولا شك أن معاویة أراد من اغتیال الامـام‌ الحـسن(علیه‌ السـلام) علی ید العراقیین أن یسلم‌ له‌ الامر، ویخلو‌ له‌ الجو بدون قتال إذا‌ تعذر الصلح، حتی لا یـتحمل مـسؤولیة قـتله وقتل آله وانصاره تجاه الرأی العام الاسلامی‌، الذي لا یغفر له عملاً من‌ هذا‌ القبیل‌ مهما‌ كـانت‌ الظـروف.

ولم‌ یكن الامام أبو محمد الحسن(علیه السلام) یفكر بصلح معاویة ولا بمهادنته، غیر أنه بعد أن‌ تـكدّست‌ لدیـه‌ الاخبار عن تفكك جیشه، وانحیاز اكثر‌ القادة‌ لجانب‌ معاویة‌، أراد‌ أن یختبر نوایاهم ویـمتحن عـزیمتهم، فوقف بمن كان معه فی ساباط، ولوّح لهـم مـن بـعید بالصلح وجمع الكلمة فقال: «فو اللّه إني لارجـو‌ أن أكـون انصح خلق اللّه لخلقه، وما اصبحت محتملاً علی احد ضغینة ولا مریداً له سوءاً ولا غائلة. ألا وإن مـا تـكرهون فی الجماعة خیر لكم مـمّا تـحبون‌ فی‌ الفـرقة. ألا وإنـي نـاظر لكم خیراً من نظركم لانفسكم، فـلا تـخالفوا امری ولا تردّوا عليّ رأیي. غفر اللّه لی ولكم وأرشدني وإیّاكم لما فیه محبته ورضـاه».

وهـنا تنقّح لدی الامام(علیه السلام) موضوع مصلحة الاسـلام العلیا بدفع اعظم الضـررین، أولهـما: الاستمرار بحرب خاسرة لا محالة فـیها‌ فـناؤه‌ وفناء اهل بیته وبقیة الصفوة‌ الصالحة‌ من اصحاب رسول اللّه(صلی الله علیه وآله) واصـحاب أمـیرالمؤمنین(علیه السلام) واصحابه هو(علیه السلام)، وهـم حـفظة القـرآن وسنة رسول اللّه(صلی الله عـلیه وآله)، والذابون‌ عن‌ العترة الطـاهرة، والدعـاة‌ الامناء‌ إلی ولایتهم وقیادتهم، والثانیة: القبول بالصلح وحقن دماء اهل بیت النبوة والعصمة وبقیة الصـفوة الصـالحة من شیعتهم؛ لیحملوا لواء الدعوة لال محمد(صلی الله عـلیه وآلهـ)، ویصدعوا‌ بـالحق‌ أمـام مـحاولات تضییعه وتحریف وتزویر دیـن اللّه وسنة رسوله(صلی الله علیه وآله)، لیتّصل حبلهم بحبل الاجیال اللاحقة، ولتصل إلیها معالم الدین الحق، ولتـدرك حـق اهل البیت(علیهم‌ السلام)‌ وباطل اعدائهم‌.

وهـكذا اضـطر الامـام الحـسن(علیه السـلام) للصلح، وكان نـصّ كـتاب الصلح بینه وبین معاویة بن‌ أبی سفیان كالاتي:

«هذا ما اصطلح علیه الحسن‌ بن‌ علي‌ بـن أبـي طـالب ومعاویة بن أبي سفیان. صالحه علی:

 * أن یـعمل فـیهم بـكتاب ‌‌اللّه وسـنة نـبیه محمد(صلی الله علیه وآله) وسیرة الخلفاء الصالحین.

 * لیس‌ لمعاویة‌ بن‌ أبي سفیان أن یعهد لاحد من بعده عهداً، بل یكون الامر من بعده شوری‌ بین المسلمین.

*  أن الناس آمنون حـیث كانوا من ارض اللّه‌؛ فی شامهم وعراقهم‌ وتهامهم‌ وحجازهم.

*  أن اصحاب علی وشیعته آمنون علی أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وعلی معاویة بن أبي سفیان بذلك عهد اللّه ومیثاقه، وما أخذ اللّه علی احد مـن‌ خـلقه بالوفاء بما أعطی اللّه من نفسه.

 * أنه لا یبغی للحسن بن علي ولا لاخیه الحسین ولا لاحد من اهل بیت النبي(صلی الله علیه وآله) غائلة سراً ولا‌ علانیة‌، ولا یخیف احداً منهم في افق من الافـاق.

شـهد علی ذلك عبد اللّه بن نوفل بن الحارث وعمر بن أبی سلمة وفلان وفلان.

ثم ردّ‌ الحسن‌ بن علی هذا الكتاب إلی معاویة مع رُسل من قـِبَله لیـشهدوا علیه بما فی هذا الكـتاب»

ج ـ وجـد الامام(علیه السلام) أن علیه ـ في سبیل‌ بیان‌ الاسباب والعلل التی ألجأته إلی عقد معاهدة الصلح مع معاویة بن أبي سفیان ـ أن یكشف الحقائق ویظهر الحق لتتمّ الحـجة البـالغة في إدراك حقیقة المصلحة الاسـلامیة العـلیا الكامنة‌ فی‌ هذا‌ الصلح. وقد تواصلت بیاناته‌ وخطاباته‌ فی‌ هذا السبیل إلی آخر لحظة من لحظات حیاته الشریفة وممّا یروی في ذلك أن سلیم بن قیس قال: « قام‌ الحسن‌ بن علي بن أبـي طـالب(علیه السلام) علی المنبر‌ حین‌ اجتمع مع معاویة، فحمد اللّه واثنی علیه، ثم قال: أیها الناس، إن معاویة زعم أنی‌ رأیته‌ للخلافة‌ أهلاً ولم أرَ نفسی لها أهلاً، وكذب معاویة، أنا اولی الناس بالناس فی كـتاب اللّه وعـلی لسان نـبيّ اللّه، فأُقسم باللّه لو أن الناس بایعوني‌ وأطاعوني‌ ونصروني‌، لاعطتهم السماء قطرها والارض بركتها، ولما طمعتم فیها یا‌ معاویة‌، ولقد قـال رسول اللّه(صلی الله علیه وآله): ما ولّت أُمّة أمرها رجلاً قطّ وفیهم‌ مـن‌ هـو‌ اعـلم منه، إلاّ لم یزل امرهم یذهب سفالاً حتی یرجعوا إلی‌ ملّة‌ عبدة‌ العجل. وقد ترك بنو اسرائیل هارون واعـتكفوا ‌ ‌عـلی العجل وهم یعلمون أنّ هارون‌ خلیفة‌ موسی‌، وقد تركت الامّة علیّاً(علیه السلام) وقـد سـمعوا رسـول اللّه(صلی الله علیه وآله) یقول‌ لعلي‌: أنت منّي بمنزلة هارون من موسی غیر النبوة، فلا نـبي بعدي‌. وقد‌ هرب رسول اللّه(صلی الله علیه وآله) من قومه وهو یدعوهم إلی اللّه حتی فـرّ‌ إلی‌ الغار، ولو وجد عـلیهم اعـواناً ما هرب منهم، ولو وجدت أنا‌ أعواناً‌ ما‌ بایعتك یا معاویة. وقد جعل اللّه هارون فی سعة حین استضعفوه وكادوا یقتلونه، ولم‌ یجد علیهم أعواناً. وقد جعل اللّه النبی فی سعة حین فرّ‌ مـن‌ قومه‌ لمّا لم یجد أعواناً علیهم، كذلك أنا وأبی فی سعة من اللّه حین تركتنا‌ الامّة‌ وبایعت‌ غیرنا ولم نجد اعواناً. وإنما هي السنن والامثال یتبع بعضها بعضاً‌.

أیها الناس، إنكم لو التمستم فیما بـین المـشرق والمغرب لم تجدوا رجلاً من ولد‌ النبي‌ غیري وغیر أخي».

وعن حنان بن سدیر عن أبیه‌ سدیر‌ عن أبیه عن أبی سعید عقیصا قال‌: «لما‌ صالح الحسن بن علي بن أبي طـالب‌ مـعاویة‌ بن أبي سفیان، دخل علیه الناس فلامه بعضهم علی بیعته، فقال(علیه‌ السلام)‌: ویحكم! ماتدرون ما‌ عملت‌. واللّه‌ لَلّذی‌ عملت‌ لشیعتي خیر ممّا طلعت علیه الشمس‌ أو‌ غربت. ألا تعلمون أنی إمـامكم، ومـفترض الطاعة علیكم، واحد‌ سیدی‌ شباب اهل الجنة بنصٍّ من رسول‌ اللّه علیّ؟! قالوا‌: بلی. قال: أما‌ علمتم أنّ الخضر لما خرق السفینة وأقام الجدار وقتل الغلام كان ذلك سخطاً‌ لموسی‌ بـن عـمران(علیه السـلام)، إذ‌ خفی‌ علیه‌ وجه الحكمة فـي‌ ذلك، وكـان ذلك عند‌ اللّه‌ تعالی ذكره حكمة وصواباً؟ أما علمتم أنه ما منّا أحد إلاّ یقع في‌ عنقه‌ بیعة لطاغیة زمانه إلاّ القائم‌ (عج)‌؟ الذی یـصلّی‌ خـلفه‌ روح اللّه عیسی بن‌ مریم(علیه السلام)، فإن اللّه عزوجل یخفی ولادتـه ویـغیب شخصه لئلاّ یكون لاحد فی عنقه‌ بیعة‌ إذا خرج. ذاك التاسع من‌ ولد‌ أخي‌ الحسین‌ ابن‌ سیدة الاماء، یطیل‌ اللّه عمره فی غیبته، ثـم یـظهره بـقدرته فی صورة شاب دون اربعین سنة، ذلك‌ لیعلم‌ أن‌ اللّه علی كـل شیء قدیر».

عن‌ زید‌ بن‌ وهب‌ الجهني قال: « لما طُعن الحسن بن علي(علیه السلام) بالمدائن أتیته وهو مـتوجّع، فـقلت: مـا تری یابن رسول اللّه، فإنّ الناس متحیرون؟ فقال: أری ـ واللّه ـ أن معاویة خیر لی من هـؤلاء. یـزعمون أنهم لي شیعة. ابتغوا قتلی وانتهبوا ثقلي واخذوا مالي. واللّه لئن آخذ من معاویة‌ عهداً‌ أحقن به دمي وأومـن بـه فـي اهلي، خیر من أن یقتلوني فتضیع اهل بیتي واهلي. واللّه لو قاتلت معاویة لاخذوا بـعنقی حـتی یـدفعوني إلیه سلماً. واللّه‌ لئن‌ أُسالمه وأنا عزیز خیر من أن یقتلني وأنا اسیر، أو یمنّ عـليّ فـیكون سـنّة علی بنی هاشم آخر الدهر، ولمعاویة لا‌ یزال‌ یمن بها وعقبه علی الحیّ‌ منّا‌ والمـیت. قـال: قلت: تترك یابن رسول اللّه شیعتك كالغنم لیس لها راع؟! قال: وما أصنع یا أخـا جـهینة‌؟ إنـی واللّه اعلم بأمر‌ قد‌ أدّی به إلیّ ثقاته؛ أنّ أمیر المؤمنین(علیه السلام) قال لي ذات یوم وقد رآنـی فـرحاً: یا حسن، أتفرح؟! كیف بك إذا رأیت أباك قتیلاً؟ كیف‌ بك إذا ولی هذا الامر بـنو اُمـیة؟ وأمـیرها الرحب البلعوم، الواسع الاعفجاج، یأكل ولا یشبع، یموت ولیس له فی السماء ناصر ولا في الارض عاذر، ثمّ‌ یـستولی عـلی‌ غربها وشرقها، یدین له العباد ویطول ملكه، یستنّ بسنن اهل البدع والضلال، ویـُمیت الحـق‌ وسـنّة رسول اللّه(صلی الله علیه وآله)، یقسم المال فی اهل‌ ولایته‌، ویمنعه من هو أحق به، ویـذلّ فـي مـلكه المؤمن، ویقوی فی سلطانه الفاسق، ویجعل ‌‌المال‌ بین انصاره دولاً، ویتخذ عباد اللّه خـولاً، یـدرس في سلطانه الحق‌، ویظهر‌ الباطل، ویقتل من ناواه علی الحق، ویدین من والاه علی الباطل».

ویروی أیـضاً أنـه بعد أن تمّ التوقیع علی الصلح، قدم معاویة‌ إلی الكوفة للاجتماع بالامام‌ الحسن(علیه‌ السـلام)، حـیث ارتقی معاویة المنبر لیعلن ـ متحدیاً كل المـواثیق والعـهود والاعـراف ـ أنه یسحق بقدمیه كل الشروط التي صـالح الحـسن علیها، وخاطب الناس المحتشدة فی مسجد الكوفة قائلاً‌: « واللّه إنی ما قاتلتكم لتصلّوا، ولا لتـصوموا، ولا لتـحجّوا، ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قـاتلتكم لاتـأمّر علیكم، وقـد أعـطاني اللّه ذلكـ‌، وانتم له كارهون. ألا وإن كلّ دم أصیب في هـذه الفـتنة فهو مطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدمیّ هاتین».

وهنا تململ اصحاب الامـام الحـسن(علیه السلام)‌ وأتباعه‌، وتجرأوا علیه ووصفوه بـمذلّ المؤمنین، فصبر سلام اللّه عـلیه صـبراً جمیلاً، وطفق یبیّن لهم الحـقائق التـی خفیت عنهم فی اجواء الانفعال والعاطفة والغضب الذي اعتراهم من‌ تحدي‌ معاویة لهم، ونـقضه لوثـیقة الصلح وتوهینه للامام الحسن(علیه السـلام) واصـحابه.

ومـمّا روی عنه(علیه السلام) أنـه قـال لبشیر الهمداني عندما لامـه عـلی الصلح: «لستُ مُذلاًّ للمؤمنین‌، ولكني‌ معزّهم. ما أردتُ لمصالحتي‌ إلاّ‌ أن‌ أدفع عنكم القتل، عـندما رأیـت تباطؤ اصحابي ونكولهم عن القتال».

قـال(علیه السـلام) ذلك لبشیر هـذا، لانـه كـان‌ أول‌ المرتعدین‌ من القتال. وقـال لمالك بن ضمرة عندما‌ كلّمه‌ بشأن الوثیقة: « إني خشیت أن یُجتثّ المسلمون عن وجه الارض، فأردت أن یـكون للدیـن داع».

وقال مخاطباً أبا سعید:یا أبـا سـعید، عـلّة مـصالحتی‌ لمـعاویة علّة مصالحة رسـول اللّه (صلی الله علیه وآله) لبني ضمرة وبني اشجع ولاهل مكة حین انصرف من الحدیبیة».

وقال له حجر بن عـدي، وكـان وجـهاً من وجوه‌ صحابة‌ رسول اللّه(صلی الله علیه وآلهـ)وصحابة عـلی وابـنه الحـسن(علیهما السـلام)، عـندما خاطب الامام الحسن(علیه السلام) بعد‌ أن‌ سمع‌ كلام معاویة علی المنبر وهو یتنصّل من كل الشروط التی وقعها مع‌ الامام(علیه‌ السلام)‌: « أما واللّه، لقد وددت أنك متّ فی ذلك، ومـتنا معك، ثم‌ لم‌ نَرَ هذا الیوم، فإنّا رجعنا راغمین بما كرهنا، ورجعوا مسرورین بما أحبّوا‌ »، إلاّ أن الامام أرسل إلیه بعد انصرافه إلی بیته وقال له: « إنی‌ قد سمعت كلامك في مجلس معاویة، ولیـس كـل إنسان یحب ما تحبّ ولا‌ رأیه‌ كرأیك، وإني لم أفعل ما فعلت إلاّ إبقاءً علیكم»

وعن‌ الاعمش‌ عن سالم بن أبي الجعد قال: «حدثنی رجل منّا قال: أتیت الحسن‌ بن‌ علی(علیه السـلام) فـقلت: یابن رسول اللّه؛ أذللت رقابنا، وجعلتنا‌ معشر‌ الشیعة‌ عبیداً. مابقی معك رجل. قال: وممَّ ذلك؟ قال: قلت: بتسلیمك‌ الامر‌ لهذا الطاغیة، قال: واللّه ما سلّمت الامر إلیـه إلاّ أنـی‌ لم‌ أجد انصاراً، ولو وجدت انـصاراً لقـاتلته لیلي ونهاري حتی یحكم اللّه بینی وبینه، ولكنّی‌ عرفت‌ اهل الكوفة وبلوتهم، ولا یصلح لي منهم من كان فاسداً؛ إنهم‌ لا وفاء لهم ولا ذمّة فی قول‌ ولا‌ فعل‌، إنـهم لمـختلفون، ویقولون لنا إن‌ قـلوبهم‌ مـعنا، وإنّ سیوفهم لمشهورة علینا. قال: وهو یكلمني إذ تنخع‌ الدم‌، فدعا بطست فحمل من‌ بین‌ یدیه ملیء‌ مما‌ خرج‌ من جوفه من الدم. فقلت‌ له‌: ما هذا یابن رسول اللّه؟ إنّی لاراك وجعاً! قـال‌: أجـلْ، دسّ إلیّ هذا الطاغیة‌ مَن سقانی سمّاً، فقد‌ وقع علی كبدي وهو یخرج‌ قطعاً‌ كما تری».

ولقد أشار الامام محمد الباقر(علیه السلام) إلی هذه‌ المصلحة‌ الاسلامیة العلیا في صلح الامام‌ الحـسن(علیه‌ السـلام)‌ مع مـعاویة بن‌ أبي‌ سفیان بقوله: واللّه‌، لَلّذي صنعه الحسن بن علي(علیه السلام) كان خیراً لهذه الامة ممّا طلعت عـلیه‌ الشمس.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2150
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 06 / 23
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19