• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الأخلاق في القرآن .
                    • الموضوع : تزكیة النفس من منظور الثقلین التوبة و الإنابة (2) .

تزكیة النفس من منظور الثقلین التوبة و الإنابة (2)

 آية الله العظمى السید كاظم الحائري "دام ظله"

‌‌‌إن البعض یقول فی المقام: إن التجرّد للخیر دأب الملائكة المقرّبین، والتجرد‌ للشر‌ دون‌ التلافی سـجیّة الشـیاطین، والرجـوع إلی الخیر بعد الوقوع في الشر ضرورة الادمیّین؛ فالمتجرّد للخیر‌ ملك مقرّب عند الملك الدیّان، والمـتجرد للشرّ شیطان، والمتلافي للشر بالرجوع‌ إلی الخیر بالحقیقة انسان‌، كما صدر ذلك من أبینا آدم (علیه السلام) فقد ازدوجت فـي طـینة الانسان شائبتان واصطحبت فیه سجیتان، وكل عبد مصحّح نسبه إما إلی المَلَك أو إلی آدم أو إلی الشیطان‌، فالتائب قد أقام البرهان علی صحة نسبه إلی آدم بملازمة حدّ الانسان، والمصرّ علی الطغیان مسجّل علی نفسه بنسب الشیطان، ولقـد قرع آدم(علیه السلام) سنّ الندم وتندّم علی‌ ما‌ سبق منه وتقدّم، فمن اتخذه قدوة في الذنب دون التوبة فقد زلّت به القدم، فأمّا تصحیح النسب بالتجرد لمحض الخیر إلی الملائكة فخارج عن حیّز الامـكان؛ فـإن‌ الشر‌ معجون مع الخیر فی طینة آدم عجناً محكماً لا یخلصه إلاّ إحدی النارین: نار الندم أو نار جهنّم، فإحراق النار ضروري في تخلیص جوهر الانسان عن خبائث‌ الشیطان‌. وإلیك الان اختیار أهون الشرّین والمـبادرة إلی أخـفّ النارین قبل أن یطوی بساط الاختیار، ویساق إلی دار الاضطرار إمّا إلی الجنة أو إلی النار.

أقول‌: كل‌ ما ذكره هذا القائل صحیح‌ عدا‌ افتراض‌ أن التمحّض للخیر خارج بالنسبة للانسان عن حیّز الامكان فإنّ هـذه الفـكرة ناتجة عن مذهبه ـ بما هو من أهل‌ التسنن‌ ـ من إنكار العصمة. أما نحن فنؤمن بمبدأ‌ العصمة‌ للمعصومین وهم متمحّضون فی الخیر، بل نری أن بامكان غیر المعصومین بالذات أن یتمحّضوا أیـضا فـی الخـیر اقتداءً‌ بالمعصومین(علیهم‌ السلام)‌، ولم یجعل اللّه المـعصومین إلاّ قـدوة للانـام وأمر اللّه‌ الناس تعالی بالاقتداء بهم. قال عزّ من قائل: ﴿لقد كان لكم فی رسول اللّه أسوة حسنة‌ لمن‌ كان‌ یرجو اللّه والیـوم الاخـر وذكـر اللّه كثیراً﴾.

وما ظنّك بإنسان‌ تنزّه‌ عن شرب المـاء عـلی عطشه الذی لا یتصوّر ولا یطاق، لا لحرمة شرب الماء ولا‌ لكراهته‌، بل ولا لاجل الایثار؛ فإن ترك العباس(علیه السلام) لشرب الماء علی‌ المشرعة‌ لم یـكن فـیه ایثار علی الحسین(علیه السلام) وأهل بیته، بل لاجل مجرّد المـواساة لامام‌ زمانه‌ وأهل‌ بیته وقال: «هذا الحسین وارد المنون وتشربین بارد المعین تالله ماهذا فعال دین» ‌، فبالله علیك هـل تـحتمل بـشأن هذا الانسان أن یكون قد عصی اّه طرفة‌ عین‌؟

وما ظنّك بامرأة ـ وهـي زیـنب الكبری(علیها السلام) ـ أُثكلت في یوم واحد‌ باولادها‌ واخوتها وسائر عشیرتها، وأُسرت وحُملت مع نسائها علی الاقـتاب، ومـررن عـلی‌ مقتل‌ الحسین(علیه‌ السلام)والاصحاب، فنظرت إلی إمام زمانها عليّ بن الحسین(علیه السلام)تكاد نفسه تـخرج مـن شـدة المصاب‌، فقالت ـ مسلّیة لامامها منجیةً له عن الموت ـ: «ما لی‌ أراك‌ تجود‌ بنفسك یا بـقیّة جـدّی وأبـی وإخوتی؟»، وأخذت تسلّیه وتذكر له أنه سیأتي‌ جمع‌ لا‌ تعرفهم فراعنة هذه الاُمّة، وهم معروفون فـي أهـل السماوات أنهم یجمعون‌ هذه‌ الاعضاء المتفرّقة فیوارونها وهذه الجسوم المضرّجة، وینصبون لهذا الطـفّ عـلماً لقـبر ابیك سید الشهداء لا‌ یدرس‌ أثره ولا یعفو رسمه علی كرور اللیالی والایام، إلی أن ذكرت‌ له‌ عـلیه السـلام حدیث أُمّ أَیمن، وعن‌ هذا‌ الطریق‌ أنجت إمام زمانها من الموت فبالله‌ عـلیك‌ هـل تـحتمل بامرأة كهذه أنها عصت اللّه طرفة عین؟ وأما ما اشتهر‌ من‌ انحصار المعصومین فی هذه الاُمـّة‌ فـی‌ أربعة عشر‌، فلعل‌ المقصود الذین خُلِقوا معصومین دون الذي‌ عصموا‌ أنفسهم بحول اللّه اقـتداءً بـهم.

وفـي ختام حدیثنا عن ضرورة‌ التوبة‌ نشیر إلی كلمتین نقلتا عن بعض‌ السلف أو عن بعض‌ العارفین‌، وهـما وإن لم أرهـما‌ مـنتهیین‌ إلی إمام معصوم فیهما عظة وعبرة، ونشیر ایضاً إلی روایة لم أرها‌ إلاّ‌ في نقل الغـزّالي، ولكـن‌ فیها‌ أیضاً‌ عظة وعبرة:

1 ـ روی عن‌ بعض‌ السلف أنه قال: ما من عبد یعصی إلاّ استأذن مكانه مـن الارض أنـ‌ یخسف به، واستأذن سقفه من السماء‌ أن‌ یسقط علیه‌ كسفاً‌، فیقول اللّه تـعالی للارض‌ والسماء كفّا عن عبدي وأمهلاه؛ فإنكما لم تـخلقاه ولو خـلقتماه لرحـمتماه. لعله یتوب‌ إلیّ‌ فأغفر له، لعلّه یستبدل صـالحاً‌ فـأبدله‌ حسنات‌، فذلك‌ معنی قوله تعالی‌: ﴿إن اللّه یمسك السموات والارض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد مـن بـعده﴾

2 ـ روی عن بعض العارفین أنه قـال‌: إن اللّه‌ تـعالی‌ إلی‌ عـبده سرّین یسرّهما إلیه علی سبیل الالهـام: أحـدهما إذا خرج من بطن أُمّه یقول له: عبدي قد أخرجتك إلی الدنیا طاهراً نظیفاً واسـتودعتك عـمرك وأتمنتك‌ علیه، فانظر كیف تحفظ الامـانة وانظر كیف تلقاني، والثـاني عـند خروج روحه یقول: عبدي مـاذا صـنعت في أمانتي عندك، هل حفظتها حتی تلقاني علی العهد‌ فألقاك‌ علی الوفاء أو أضـعتها فـألقاك بالمطالبة والعقاب؟ وإلیه الاشارة بـقوله تـعالی: (أوفـوا بعهدي أُفِ بـعهدكم) ، وبـقوله تعالی: ﴿والذین هم لامـاناتهم وعـهدهم راعون﴾

3 ـ عن النبي(صلی الله علیه وآله): «ما من یوم طلع فجره ولا لیلة غاب شفقها إلاّ ومـلكان یـتجاوبان بأربعة أصوات، یقول أحدهما‌: یالیت هـذا الخـلق لم یُخلقوا‌، ویـقول الاخـر: یـالیتهم اذ خُلقوا علموا لماذا خـُلقوا، فیقول الاخر: ویالیتهم اذ لم یعلموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا، وفي‌ بعض‌ الروایات: ویالیتهم إذ‌ لم‌ یـعلموا لمـاذا خلقوا تجالسوا فتذاكروا ما علموا.

فـیقول الاخـر: ویـالیتهم اذ لم یـعملوا بـما علموا تابوا مـما عـملوا».

مقدمة التوبة:

قد‌ یقال‌: إن مقدّمة التوبة هی الیقظة؛ وذلك أن الانسان بفطرته السلیمة مجبول علی التوحید وعـلی آثـار التـوحید التي لا تكون إلاّ الخیر والصلاح، وكل ذنب صـدر مـن العـبد‌ كـان‌ غـباراً عـلی‌ تلك الفطرة وإخماداً لنورها ورَیناً علیها، ولا تحصل التوبة إلاّ بالتیقظ بالرجوع إلی الاهتداء بنور الفطرة ومسح‌ الغبار.

والشاهد القرآني علی كون التوحید بجمیع ما له‌ من‌ اغصان‌ الخیر وأوراقـه وثماره أمراً فطریاً للبشر، وأن مخالفة ذلك مخالفة للفطرة، عدّة آیات من قبیل ‌‌قوله‌ تعالی:

1 ـ ﴿فأقم وجهك للدین حنیفاً فطرة اللّه التي فطر‌ الناس‌ علیها‌ لا تبدیل لخلق اللّه ذلك الدین القیّم ولكن أكثر الناس لا یـعلمون﴾.

2 ـ  ﴿فـإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولّوا فإنما هم‌ في شقاق فسیكفیكهم اللّه‌ وهو‌ السمیع العلیم * صبغة اللّه ومن أحسن من اللّه صبغة ونحن له عابدون﴾

3 ـ ﴿وإذ أخذ ربّك من بني آدم مـن ظـهورهم ذرّیتهم وأشهدهم علی أنفسهم ألست‌ بربّكم قالوا بلی شهدنا أن تقولوا یوم القیامة انّا كنّا عن هذا غافلین * أو تقولوا إنّما أشرك أباؤنا من قـبل وكـنا ذریّة من بعدهم أفتُهلكنا بـما فـعل المبطلون﴾

سواء‌ فسّرنا هذه الایة ابتداء بمسألة الفطرة، أو فسّرناها بما یبدو من ظاهرها من مسألة عالم الذّر، فإنه علی الثاني ایضاً تدل علی أنّ التـوحید صـار بسبب ما جری‌ فـی‌ عـالم الذّر فطرّیاً، وإلاّ فما قیمة عهد نسیه المتعهّد وكیف یحتجّ به علیه؟

وقد ورد في الحدیث عن النبي(صلی الله علیه وآله): «كل مولود یولد‌ علی‌ الفطرة حتی یكون ابواه یهوّدانه وینصّرانه»

فكل انحراف عـن هـذه الفطرة بالذنب لا یمكن أن یتوب العبد منه قبل تیقّظه ورجوعه ولو بمقدار ناقص إلی تلك الفطرة‌، وهذا‌ ما قد نسمّیه بالیقظة.

والیقظة‌ هي احد التفسیرین للقیام في قوله تعالی: ﴿قل إنما أعظكم بـواحدة أن تـقوموا لله مثنی وفـرادی ثم تتفكروا ما بصاحبكم‌ من‌ جنّة‌ إن هو إلاّ نذیر لكم بین یدی عذاب‌ شدید﴾‌، فالقیام هنا قد یـفسّر بالمعنی العام للقیام في سبیل العمل لله تعالی، ولعل الانسب عندئذ أن یـكون‌ قـوله‌: ﴿مـا بصاحبكم من جنّة﴾ بیاناً لمتعلق التفكیر، أي تفكروا‌ حتی تعرفوا ما بصاحبكم من جنّة، حتی تتضح لكم طـریقة ‌العـمل في سبیل اللّه، واخری یفسّر‌ بمعنی‌ القومة‌ من السُبات وهي الیقظة من سِنة الغـفلة، كـما فـسّره بذلك‌ العارف‌ المعروف بعبد اللّه الانصاري(17)، ولعل الانسب عندئذ أن یكون قوله: ﴿ثم تتفكروا﴾ هو موطن الوقـف‌ في‌ الایة‌ ویكون قوله:«ما بصاحبكم من جنّة» كلاماً مستقلاً، والمعنی عندئذ أن الیقظة‌ تكون‌ بالقیام مـن سـِنة الغفلة ثم التفكر.

وعلی أیة حال فالیقظة تكون بعدة‌ أسباب‌ منها‌ مایلي:

اولاً ـ ملاحظة نعم اللّه سبحانه وتعالی التي لا تحصی، فأوّل‌ النعم ببعض المعانی هو الوجود إذ هو الارضیة التي تنبنی علیها باقي‌ النـعم،‌ وببعض‌ المعاني هو الهدایة إلی الایمان لانّ الایمان أشرف من كل شيء، وببعض المعاني هو‌ العقل إذ لولاه لما كان مجال للایمان ولا للالتذاذ الكامل بالنعم الاخری، وسائر‌ النعم‌ التي تأتي بعد هذه الامور لا تـحصی. قـال اللّه تعالی:

1 ـ ﴿وأسبغ‌ علیكم نعمه ظاهرة وباطنة﴾

2 ـ ﴿وإن تعّدوا نعمة اللّه‌ لا‌ تحصوها﴾

وتتجلّی النعم عند لحظ المحرومین منها أو لحظ ذوی العاهات والبلاء، ولیس‌ من‌ الصدف‌ ما نراه من أن القرآن العظیم یشیر إلی نعم اللّه فـی مـواضع‌ لا‌ تحصی من القرآن، وأخصّ بالذكر سورة النحل التي هي لعلها أكثر السور في التركیز علی‌ نعم‌ اللّه وآلائه، فتأثیر تذكر النعم الالهیة علی حصول الیقظة واضح؛ لانه‌ یثیر حالة الشكر مـن نـاحیة التي هي‌ مصدر‌ وجوب‌ الطاعة عقلاً، ویخلق في النفوس الحبّ‌ لله‌ سبحانه وتعالی من ناحیة اخری الذي هي المصدر العاطفي للطاعة.

وقد‌ ورد‌ عن الصادق(علیه السلام) أنه قال‌: «ما أحبّ‌ اللّه‌ مـن‌ عـصاه» ثم تمثلّ:

تعصي‌ الاله‌ وأنـت تـظهر حـبّه

هذا محال في الفعال بدیع

لو كان‌ حبّك‌ صادقاً لاطعته

إن المحبّ لمن‌ یحبّ مطیع»

وورد‌ في‌ الحدیث أنه أوحی اللّه تعالی‌ إلی‌ موسی(علیه السـلام): «أحـببني وحـبّبني إلی خلقي. قال موسی: یاربّ، إنك‌ لتعلم أنه لیـس أحـد أحبّ‌ إليّ‌ منك،‌ فكیف لی بقلوب‌ العباد‌؟ فأوحی اللّه الیه‌: فذكرهم نعمي وآلائي فإنهم لا یذكرون منّي إلاّ خیراً».

ولسنا الان هنا‌ بصدد‌ ذكر نـعم اللّه التـي لا تـحصی‌، ولكننا نذكر‌ كإشارة‌ إلی‌ ذلك مقطعاً قرآنیاً رائعاً‌ من سورة النـحل وهو قوله سبحانه وتعالی: ﴿خلق السموات والارض بالحق تعالی عمّا یشركون‌ * خلق الانسان من نظفة فإذا‌ هو‌ خصیم‌ مـبین‌ * والانـعام خـلقها لكم‌ فیها‌ دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فیها جَمال حین تـریحون وحـین تسرحون * وتحمل أثقالكم إلی‌ بلد‌ لم‌ تكونوا بالغیه إلاّ بشقّ الانفس إن ربكم‌ لرؤوف‌ رحیم*‌ والخیل‌ والبغال‌ والحـمیر‌ لتـركبوها وزیـنة ویخلق مالا تعلمون﴾ والجملة الاخیرة تشیر علی الاكثر إلی مركوبات الیوم من قـبیل السـیّارات والطـائرات ونحوها * وعلی اللّه قصد السبیل وكأن هذا اشارة إلی‌ نعمة الایمان ومنها جائر وكأن هـذا إشـارة إلی وجـود السبل المنحرفة والتحذیر منها ولو شاء لهداكم أجمعین وكأن هذا إشارة إلی عدم الهدایة بالجبر التـي تـسقط الهدایة عن قیمتها ﴿هو‌ الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شـجر فـیه تـُسیمون * ینبت لكم به الزرع والزیتون والنخیل والاعناب ومن كلّ الثمرات إن في ذلك لایة لقوم یتفكرون‌ * وسـخّر لكـم اللیل والنهار والشمس والقمر والنجومُ مسخّرات بأمره إن في ذلك لایات لقوم یعقلون * وما ذرأ لكـم فـی الارض مـختلفاً ألوانه‌ إن‌ في ذلك لایة لقوم یذّكرون﴾‌ ویجلب‌ الانتباه الاشارة تحت الایات الثلاث الاخیرة إلی أن هذه آیـات لقـوم یتفكرون ـ یعقلون ـ یذكرون، فهذه نعم من ناحیة وآیات وعلامات علی‌ وجود‌ اللّه وحـكمته ووجـوب شـكره‌ من‌ ناحیة اخری ﴿وهو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحماً طرّیاً وتستخرجوا منه حلیة تلبسونها وتـری الفـُلك مـواخر فیه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * وألقی في الارض رواسی أن‌ تمید‌ بـكم وأنـهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون* وعلامات وبالنجم هم یهتدون * أفمن یخلق كمن لا یخلق أفلا تذكرون﴾ وهذه الایة الاخـیرة یـتجلّی مغزاها حینما نعلم أن المشركین آنئذ لم یكونوا ینسبون‌ الخلق‌ إلی أصنامهم‌، بل كانوا یـعترفون بـأن الخلق للّه تعالی ﴿وإن تعدّوا نعمة اللّه لا تحصوها إن اللّه‌ لغـفور رحـیم﴾

وحـاصل الكلام أن ما في السموات والارض‌ من‌ النـعم‌ مـسخّرات لخدمة البشر.

ولا بدّ من الالتفات أیضاً إلی عجزنا عن شكر اللّه تبارك وتعالی‌؛ ‌‌لان‌ الشـكر یـعنی مقابلة نعمة المنعم بشيء یـقدّمه المـنعَم علیه إلی المـنعم مـما یـملكه‌ هو‌ مجازاة‌ لنعمه، ولو بأن یكتفی بـبسمة شـفة او شُكر لسان إن لم یكن قادراً علی‌ مجازاته بالمال أو بسائر الخدمات، أما أن یقدّم المـنعَم عـلیه شیئاً من‌ النعم التي أخذها مـن‌ المنعم‌ وهو ما زال مـلكاً للمـنعم فلا یعدّ شكراً؛ لانه كـان ومـا زال ملكاً للمنعم ولم یكن من قبل المنعم علیه مستقلاً، فالعبد كیف یشكر ربّه بـشكر لسـان أو بمدح‌ وثناء او بطاعة وعبادة، فـی حـین أن هـذا كله لا یكون إلاّ بـما هـو ملك لله تعالی لا له، وهو سـبحانه وتـعالی یستوجب شكراً علی الشكر. وقد ورد فی‌ مناجاة‌ الشاكرین: «فكیف لي بتحصیل الشكر وشكري ایاك یـفتقر الي شـكر، فكلّما قلت لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقـول لك الحـمد»، وفی الحـدیث عـن الصـادق(علیه السلام) قال: «فیما‌ أوحـی اللّه عزّ وجلّ الی موسی(علیه السلام): یا موسی، اشكرنی حق شكری، فقال: یاربّ، وكیف اشكرك حق شـكرك ولیـس من شكر أشكرك به إلاّ‌ وأنت‌ أنـعمت بـه عـليّ؟ قـال: یـا موسی، الان شكرتني حـین عـلمت أن ذلك منّي».

وقد ورد فی الدعاء الذي یقرأ بعد صلاة زیارة الامام الرضا(علیه‌ السلام)‌: «لا تُحمد یا سیدي إلاّ‌ بتوفیق‌ مـنك‌ یـقتضی حـمداً، ولا تشكر علی اصغر منّة إلاّ استوجبت بها شـكراً؛ فـمتی تـحصی نـعماؤك یـا إلهـی وتُجازی آلاؤك یا‌ مولاي وتكافأ‌ صنائعك یا سیدي، ومن نعمك یحمد الحامدون‌ ومن‌ شكرك یشكر الشاكرون.

ومنها ـ معرفة عِظَم الجنایة التی ارتكبناها لدی المعصیة وخطرها، وقد قیل إن ذلك‌ یـكون‌ بأمور‌ ثلاثة: بتعظیم الحقّ جل وعلا، ومعرفة النفس، وتصدیق الوعید.

أما تعظیم الحق جل وعلا فهذا ما یوجب فهم عظمة المعصیة؛ لان عظمة‌ المعصیة‌ تكون‌ بتناسب عظمة المولی الذي عصاه العبد، وقـد ورد عـن‌ الصادق(علیه‌ السلام) قال: «قال رسول اللّه(صلی الله علیه وآله): من عرف اللّه وعظّمه منع فاه‌ من‌ الكلام‌ طبعاً المقصود الكلام الذی لا یعنیه، وبطنه من الطعام والمقصود هو‌ الصوم‌ أو‌ عدم التخمة، وعفی نـفسه بـالصیام والقیام. قالوا: بآبائنا وأُمّهاتنا یارسول اللّه‌ هؤلاء‌ أولیاء‌ اللّه. قال: إن إولیاء اللّه سكتوا فكان سكوتهم ذكراً، ونظروا فكان‌ نظرهم‌ عبرة، ونطقوا فكان نطقهم حكمة، ومـشوا فـكان مشیهم بین الناس بركة‌. لولا‌ الاجـال التـی قد كتب اللّه علیهم لم تقّر أرواحهم فی اجسادهم خوفاً من العقاب‌ وشوقاً‌ الی الثواب»

ومما یشیر إلی أن العاصي یجب أن یلتفت إلی‌ عظمة‌ من‌ عصاه ما ورد فی دعـاء ابـی حمزة: «انا الذي عصیت جـبّار السـماء.

وأما‌ معرفة النفس فلو عرف الانسان خسّة نفسه وفقره الذاتي واحتیاجه الكامل إلی‌ اللّه‌ سبحانه‌ وتعالی، التفت إلی عِظم الذنب أكثر فأكثر واتجه إلی التوبة بشكل اقوی.

ومن‌ الروایات‌ الطریفة الواردة بشأن النـفس مـا روی عن رسول اللّه (صلی الله علیه وآله)‌ وهو‌ ما یلي:

دخل علی رسول اللّه(صلی الله علیه وآله) رجل اسمه مجاشع فقال: «یارسول اللّه،‌ كیف الطریق إلی معرفة الحقِّ: فقال(صلی الله علیه وآله): معرفة النفس‌، فقال: یـارسول اللّه، فـكیف الطریق‌ إلی موافقة‌ الحق؟ قال: مخالفة النفس، فقال‌: یا رسول اللّه، فكیف الطریق إلی رضا الحق؟ قال: سخط‌ النفس فقال: یـا رسول‌ اللّه‌، فكیف‌ الطریق‌ إلی‌ وصل الحق؟ قال: هجر النفس‌، فـقال: یـا رسـول اللّه، فكیف الطریق إلی طاعة الحق؟ قال‌: عصیان النفس، فقال: یا رسول اللّه، فكیف‌ الطریق إلی ذكر الحق؟ قال‌: نسیان النـفس‌، فـقال: یا رسول اللّه، فكیف الطریق إلی‌ قرب‌ الحق؟ قال: التباعد‌ عن‌ النفس‌، فقال: یـا‌ رسـول اللّه، فـكیف‌ الطریق‌ إلی أُنس الحق؟ قال: الوحشة من النفس، فقال: یا رسول‌ اللّه‌، فكیف الطریق إلی ذلك‌؟ قـال الاستعانة‌ بالحق‌ علی‌ النفس»

وتصدیق‌ ذیل الحدیث وهو ضرورة الاستعانة بالحق علی النـفس وارد في قوله تعالی: ﴿ولولا فـضل‌ اللّه علیكم ورحمته ما زكا منكم من‌ أحد‌ أبداً﴾

وأما تصدیق الوعید‌ فلولاه‌ لم یكن أحد یطیع اللّه ولا أحد یتوب الی اللّه إلاّ المعصوم أو من یتلو تلوّ‌ العصمة‌، فعلینا أن نلتفت إلی عذاب اللّه فی‌ الاخرة‌ ونقیسه‌ إلی‌ عذاب‌ الدنـیا‌ الذي لا یعتبر بالنسبة لذاك عذاباً اصلاً، ونخاطب ربّنا بقولنا: «انت تعلم ضعفي عن قلیل من بلاء الدنیا وعقوباتها وما یجری فیها من المكاره علی‌ أهلها، علی أن ذلك بلاء ومكروه قلیل مكثه یسیر بقاؤه قـصیر مـدّته، فكیف احتمالي لبلاء الاخرة وجلیل وقوع المكاره فیها وهو بلاء تطول مدّته ویدوم مقامه ولا یخفّف‌ عن‌ أهله؛ لانه لا یكون الاّ عن غضبك وانتقامك وسخطك وهذا ما لا تقوم له السماوات والارض»

وقد ورد فـي الحـدیث عن الصادق(علیه السلام): «إن ناركم‌ هذه‌ جزء من سبعین جزءاً من نار جهنّم، وقد أُطفئت سبعین مرّة بالماء ثم التهبت، ولولا ذلك ما استطاع أدميّ أن یطفئها‌، وإنّه لیؤتی بها یوم القیامة‌ حـتی‌ تـوضع علی النار فتصرخ صرخة لا یبقی ملك مقّرب ولا نبیّ مرسل إلاّ جثا علی ركبتیه فزعاً من صرختها»

اقول: أظنّ‌ أن‌ النار الصارخة هی نار‌ جهنم‌ كما یشهد لذلك قوله تعالی: ﴿إذا رأتهم مـن مـكان بـعید﴾ وقد فسّر بمسیرة سنة(32) ﴿سـمعوا لهـا تـغیّظاً وزفیراً﴾

وفي حدیث مفصّل یصف جبرئیل نار جهنّم لرسول اللّه(صلی‌ الله‌ علیه وآله)أكتفی هنا بذكر جملة واحدة منها وهی قوله: «لو أن مـثل خـرق إبـرة خرج منها علی أهل الارض لاحترقوا عن آخرهم»

والروایـات فـي أوصاف عذاب جهنم‌ كثیرة‌ لا تحصی‌، وقد نسلّي أنفسنا عن كل واحدة منها بأنه خبر واحد یحتمل الصدق والكذب، ولكـن‌ مـاذا نـفعل بتواترها المعنوي أو الاجمالي؟ ثم ماذا نفعل بالقرآن‌ الذي‌ هو‌ مـلیء بذكر أوصاف عذاب جهنم بما یقشعرّ جلد الانسان من مجرد سماعه، ولولا آیة واحدة لكفت ‌‌وهی‌ قوله تعالی: ﴿كـلما نـضجت جـلودهم بدّلناهم جلوداً غیرها لیذوقوا العذاب﴾، وقد قالوا‌ إن‌ الجلد‌ هو مـركز الاحـساس بالالم ولیس اللحم، ولذا لو غرزت جلدك بابرة تحسّ بالالم حینما‌ تخرق الابرة جلدك، ثم لا تحسّ بالالم بـتعمق الابـرة فـی لحمك، وقد اعتاد جبّارُو الدنیا‌ باختیار‌ سائر التعذیبات علی التعذیب بالنار، لان النـار تـنهي المـعذَّب وتمیته فیستریح من العذاب، ولكن نار جهنم لا تنهي المعذّب ولا تمیته بل الجلد یتبدل مـتی نـضج الجـلد السابق، وقد قال اللّه تعالی: ﴿لا یقضی علیهم فیموتوا﴾

وإنّي أختم الحدیث عن مسألة الوعید هـنا بـروایة واحدة تامّة سنداً، وهی ما ورد عن ابي بصیر عن الصادق(علیه السلام) قال‌: «مـا خـلق اللّه خـلقاً إلاّ جعل له فی الجنّة منزلاً وفی النار منزلاً، فإذا سكن أهل الجنة في الجنة وأهـل النـار في النار نادی مناد: یا أهل الجنة‌ أشرفوا‌، فیشرفون علی النار وترفع لهـم مـنازلهم فـیها، ثم یقال لهم: هذه منازلكم التي لو عصیتم اللّه دخلتموها. قال: فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهـل‌ الجـنة‌ فی ذلك الیوم فرحاً لما صرف عنهم من العذاب، ثم ینادی مناد: یـا أهـل النـار ارفعوا رؤوسكم، فیرفعون رؤوسهم فینظرون الی منازلهم فی الجنة وما فیها‌ من‌ النعیم‌ فیقال لهم: هـذه مـنازلكم‌ التـی‌ لو‌ أطعتم ربّكم دخلتموها. قال: فلو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار حـزناً، فـیورث هؤلاء منازل هؤلاء، ویورث‌ هؤلاء‌ منازل‌ هؤلاء، وذلك قول اللّه: ﴿اولئك هم‌ الوارثون‌ * الذین یرثون الفردوس هم فیها خـالدون﴾»

اقـول: إن هذه الروایة تدل علی أن الجنة لها‌ علوّ‌ مكاني‌ علی جهنم، وكأنه یـشیر إلی ذلك أیـضاً قوله تعالی‌: ﴿إنّ الذین كذّبوا بآیاتنا واسـتكبروا عـنها لا تـُفتّح لهم أبواب السماء ولا یدخلون الجنة حتی یـلج‌ الجـمل‌ في‌ سَمّ الخیاط وكذلك نجزی المجرمین﴾

ومنها ـ مطالعة الزیادة‌ والنقصان‌ الواقعین فیما مـضی مـن عمره؛ كی یتحّسر علی مـاحصل مـنه من نـقصان ویـسعی فـي عدم‌ تضییع‌ ما‌ بقی من عـمره ویـتدارك ما فاته في الماضی.

وقد ورد‌ في‌ هذا‌ المضمون حدیث شریف عن الامـام زیـن العابدین(علیه السلام) قال: «كان أمیر المـؤمنین(علیه‌ السلام)‌ یقول‌: إنما الدهـر ثـلاثة ایام أنت فیما بینهنّ: مـضی أمـس بما فیه فلا‌ یرجع‌ أبداً، فإن كنت عملت فیه خیراً لم تحزن لذهابه وفـرحت بـما أسلفته‌ منه‌، وإن كنت قد فـرّطت فـیه فـحسرتك شدیدة لذهابه وتـفریطك فـیه، وأنت فی یومك‌ الذیـ‌ أصـبحت فیه من غد فی غِرّة ولا تدری لعلك لا تبلغه، وإن‌ بلغته‌ لعل‌ حظك فیه التـفریط مـثل حظّك في الامس الماضي عنك، فـیوم مـن الثلاثة قـد مـضی‌ انـت‌ فیه مفرّط، ویوم تـنتظره لست أنت منه علی یقین من ترك‌ التفریط‌، وإنما هو یومك الذی أصبحت فیه، وقد یـنبغی لك إن عـقلت وفكرت فیما فرّطت‌ فی‌ الامس‌ المـاضی مـما فـاتك فـیه مـن حسنات ألاّ تكون أكـتسبتها، ومـن سیئات‌ أن‌ لا تكون أقصرت عنها، وأنت مع هذا مع استقبال غد علی غیر ثقة من أنـ‌ تـبلغه‌، وعـلی یقین من اكتساب حسنة أو مرتدع عن سـیئة مـحبطة، فـأنت‌ مـن یـومك الذی تـستقبل علی مثل یومك‌ الذی‌ استدبرت‌، فاعمل عمل رجل لیس یأمل من‌ الایام‌ إلاّ یومه الذی أصبح فیه ولیلته، فاعمل أو دع واللّه المعین علی‌ ذلك»

نعم من لم‌ یطالع‌ زیادة ما‌ مـضی‌ من‌ عمره ونقصانه كان دائماً مغبوناً؛ لانه‌ سوف لن یتدارك ما كان له من النقص ولا یتوفق لجعل یومه‌ خیراً‌ من أمسه، وقد ورد بسند‌ تامّ عن هشام بن‌ سالم‌ عن الصادق(علیه السلام) انـه قـال‌: «من استوی یوماه فهو مغبون، ومن كان آخر یومیه خیرهما فهو مغبوط‌، ومن كان آخر یومیه شرّهما‌ فهو‌ ملعون‌، ومن لم‌ یر‌ الزیادة فی نفسه فهو‌ إلی‌ النقصان، ومـن كـان الی النقصان فالموت خیر له من الحیاة».

وأیضاً‌ ورد عن الصادق(علیه السلام) أنه قال‌: «المغبون من‌ غبن‌ عمره‌ ساعة بعد ساعة»

وأیضاً ورد عن الصادق(علیه السلام) أنـه روی عـن علي بن ابي طالب(علیه السـلام أنـه‌ قال‌: «لا خیر في العیش إلاّ‌ لرجلین‌: رجل‌ یزداد‌ فی كل یوم‌ خیراً‌، ورجل یتدارك منیته بالتوبة».

... من فيض هذه الروايات وهذا العرض القرآني العظيم نصل لنتيجة مفادها أن العناد والإبتعاد عن قدس الله تبارك وتعالى فيه العذاب وأليم العقاب، واما القرب منه وسؤاله المغفرة والتوبة علينا بشرط إلتزامها لتكون توبة نصوحة فيه كل الخير والبركة لنا، نسأل الله العلي القدير أن يتلطف بنا في كل لحظات حياتنا وسكناتها، إنه سميع للدعاء مجيب والحمدلله رب العالمين.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2152
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 06 / 29
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28