• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : علم التفسير .
                    • الموضوع : القرآن‌ ‌‌‌الكريم‌ ومفهوم الهداية للتي هي أقوم .

القرآن‌ ‌‌‌الكريم‌ ومفهوم الهداية للتي هي أقوم

 بقلم: السيد أحمد الواحدي

ترجمة: الشيخ حسين شحادة

بِسْمِ الله الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

يـقول تـعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [سورة الإسراء: 9].

من الواضح‌ للمتأمل عميقاً في دلالة‌ هذه‌ الآية الكريمة أنها تلفت إلى خـصوصية القرآن الكريم وفرادته في الهـداية للتي هي أقوم لانسجام تشريعاته مع طبيعة الحياة البشرية وأطوارها في مختلف المجالات فنطبع شخصية الإنسان الاجتماعي فرداً‌ وأمّةً بطابع مفاهيمها عن الكون والحياة بلغة تزاوج بين العقيدة والسلوك لبناء المـدينة الفاضلة على قواعد العدل والمساواة والتعاون بتمركز دين القرآن القيم الذي يحمي بقانونه‌ كل‌ الناس من مساوئ التنازع والقطيعة والبغضاء من منطلق أن مفهوم المساواة بين البشر في القرآن الكريم لا يعني قولبة جـميع الناس في قـالب هندسي مربع أو مستطيل، ذلك أن‌ المساواة‌ بهذا المعنى مستحيلة وآيلة للسقوط على حد تعبير الفيلسوف أبو ريحان البيروني: (لو تساووا لهلكوا).

فلا يمكن وعي مفهوم قيمة المساواة في المنظور الإسلامي إلا في ضوء ارتـباط الإنـسان‌ بعقيدة‌ التوحيد التي تمنح المخلوقين كرامة المساواة بانتسابهم وانتمائهم إلى الله عز وجل فالقرآن لا ينظر إلى الإنسان على أنه كيان منعزل بل على أنه جزء من كلّ‌ أكبر‌ ألا‌ وهو-المجتمع والأمة-، وهذه‌ الأمـة‌ تـتوجه‌ صوب غايات وأهداف تسمو على غاياتها نفسها، وهذه الرؤية إلى الوجود الإنساني هي الأقوم والأشمل والأكمل من‌ نظرية‌ المفهوم‌ الغربي الزاعمة أنه لا بديل عن المذهب الفردي‌ إلا‌ المذهب الجماعي. فحينما نـقول إن الإنـسان المـسلم هو جزء من كل، فـلا نـعني بـذلك ما أشار إليه هيغل من‌ تشبيه‌ الإنسان‌ بعضو في جسد يدور حول نفسه، ولا نعني به‌ ما ورد في المفهوم الفاشي من أنـه لا قـيمة للفـرد ولا معنى له إلا بانتسابه إلى مؤسسة‌ أعلى‌ منه‌ ذلك أن العلاقة بين الفـرد وبـين بالكل الذي يسمو على‌ الجماعة‌ ليست علاقة بيولوجية دون المستوى الإنساني...، وليست مجرد علاقة بين خلية وجسد تنتمي إليه هذه‌ الخلـية،‌ كـذلك‌ فـإن هذه العلاقة ليست مقتصرة على علاقة وظيفية اجتماعية تحدد لكـل فرد‌ مهمته‌ لتجعل‌ من الإنسان كائناً آلياً كأنه سجين لمنظومة اقتصادية مادية تصادر إنسانيته وتعمل على‌ سحقه‌ تـحت‌ عـجلاتها المـعدنية التي لا تكف عن امتصاص عرقه طول الحياة، كلا، إن تلك العلاقات‌ لا‌ يـمكن أن تـوجد إلا في أحضان مجتمع يعتبر نفسه هدفاً قائماً بذاته، أي:‌ أنه‌ لا‌ يهدف إلا إلى النمو والقوة... أما المجتمع القرآني فـهو بـمقتضى اعـتبار القرآن الكريم كتاب‌ هداية‌ للتي هي أقوم يبشّر المؤمنين ويسعى- أي: مجتمع التـقوى والهـداية- إلى أهـداف وغايات‌ تسمو‌ على أهدافه الخاصة التي يرسمها الله سبحانه وتعالى، من هنا فإن هذا التسامي في العلاقة بـين‌ الأمـة‌ والإنـسان وبين الله والأمة هي التي تبلور مفهوم المساواة‌ لتجنب‌ المجتمع‌ مخاطر الوقوع في فتنة التـناحر ومـا يترتب عليه من مظالم وعبوديات واضطهاد‌ الإنسان‌ لأخيه‌ الإنسان. وضمن هذه اللفتة نـستطيع تـفهّم المـغزى من فلسفة التفاوت بين‌ الناس‌ والحكمة الموضوعية من وراء تنوّعهم واختلافاتهم ورفع بعضهم فوق بـعض كـشرط موضوعي لضمان‌ استمرار‌ الحياة على التعارف والتفاعل حتى يأخذ كل واحد حظه مـن نـعمة‌ المـشاركة‌ وحتى يساهم الجميع بعمارة الحياة الكريمة‌ على‌ البِر‌ّ والتقوى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [سورة الزخرف:‌ 32]

ولكي لا يتحوّل معنى قسمة المعيشة‌ في‌ الحياة واتخاذ البعض سخرياً إلى مصدر مـن مـصادر البغي والظلم‌ واستعلاء القوى على الضعيف، بادر القرآن‌ الكريم إلى تحصين ظاهرة‌ التفاوت‌ بـين النـاس بمفهومي العدالة والإخاء‌ حيث تنبثق عنهما صورة المساواة بمعناها المتصل بمعنى-الهداية- وإذن فالتأكيد على سموّ الغايات‌ والأهـداف هـو المرتكز لدراسة صدقية‌ الهداية‌ القرآنية‌ للتي هي أقوم‌.

والسـؤال الذى يـفرض نفسه لإبراز شمولية الفكر الإسلامي وكـفاءاته العالية في إسـعاد الإنـسان‌ وعلاج مشكلاته: ما هي خصائص هـذا‌ الفـكر‌ وما‌ هي‌ مقوّماته التي منحت‌ كتابه‌ السماوي صفة الكمال والديمومة والأقومية دون سـائر الأديان؟

بصدد الإجابة عن هذا السؤال لا بد‌ مـن‌ ناحية‌ منهجية من تـحديد-المعيارية الثـابتة- في علم المقارنة بين‌ الأديان‌ مـن‌ جـهة‌ وبينها‌ وبين القوانين الوضعية من جهة ثانية، وفي غياب هذه المعيارية ستظل الأبـحاث والدراسـات عاجزة عن حسم مسألة التـفاضل بـين فـكر وفكر أو بين ديـن‌ وديـن، ولمل‌ء هذه الثغرة بـالذات لا بـد من توضيح مجموعة من القيم الأساسية لبلورة إشكالية هذه المعيارية الغائبة واستحضارها كشرط لوعـي التـمايز بين النظم والشرائع التي‌ عالجت‌ مـركز الإنـسان في هـذا الكـون وقـضايا الأمة وآماله في الحياة.

أوّلاً: مـن الملاحظ أن الإنسان في التطوّر القرآني ليس رقماً عددياً فهو يتأثر ويؤثر في محيطه في‌ عـناء‌ مـن أمره وكبد من نفسه، وقد أثـبتت السـجلات-الحضارية القـديمة والحـديثة-فشل هـذا الإنسان في الاسـتهداء إلى نـمط الحياة العليا التي توفّر له‌ الطمأنينة‌ والأمان، وتنهي عذابه وخوفه‌ وقلقه لافتقاده إلى مرجعية القيم الثابتة التي تـلبي ثـنائية مطالبه الروحية والمادية، وبذلك فإن ضبط هـذه الثـنائية في مـحددات القـرآن الكـريم لتوازن‌ شطري‌ النفس الإنسانية تمثل النموذج‌ الفريد‌ للهداية للتي هي أقوم.

ثانياً: إن وحدة الكائن الإنساني ليست مفروضة عليه من خارج وإنما هي وحدة تنبع من وحدة الوعى الكوني ووحدة العقيدة التي تفرض نفسها بنور الإقناع‌ وليس بقوة القسر والإرغام، والقرآن الكريم إذ يؤسس دعائم هذه الوحدة لا يغفل في تشريعاته العبادية والحياتية عما يهدد وجودها فيسعى إلى نظم المصالح في مـختلف‌ عـلائقها‌ ليحميها من‌ التصادم وبالتالي من التصدع والانهيار، في أجمل صورة لمجتمع وصفة النبي (صلى اللّه عليه وآله‌ وسلم) بقولة: «الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إليه أنفعهم لعياله» [مستدرك الوسائل، ج12، ص391].

ثالثاً: إن الفقه‌ القرآني‌ وهو فقه بنى منظومته عـلى وحـدة الدين والإنسان وقد تمحور بجميع أحكامه على حفظ ‌‌الكرامة‌ الإنسانية تناول الحياة الإنسانية من جميع أطوارها بمنهج الاعتدال والحرص على مواكبة‌ طموحات‌ الإنـسان‌ في عالم متغير وهكذا، فالتشريع القرآني لم يـستنفذ أهدافه وأغراضه من تربية الإنسان‌ وصناعة شخصيته، لماذا؟... لأن النص القرآني لم يكن نصاً وضعياً مغلقاً محدود المجال‌ في هذا التاريخ وهذه‌ الأحداث، وليس من وضع بـشر مـحدود الأفق والنظرة والغايات وإنـما هـو صوت سماوي موحى به من خالق الإنسان الخبير بسرائره كلها، وقد اعترف خبراء التشريع والدساتير بإخفاقهم‌ في صوغ قانون متكامل يستوعب حاجات الإنسانية كلها دون أي إفراط أو تفريط فهل يعي دعاة تـطوير القـرآن أن القرآن ليس في حاجة إلى تطوير وإنما العقل البشري هو الذي‌ يحتاج‌ اليوم إلى تطوير مصادره المعرفية ليدرك شمولية الإسلام وعالميته بعدما قاده غروره وطغيانه إلى أسوأ حالات الفساد والانحطاط.

رابعاً: ولعل العنصر الأهـم مـن هداية القـرآن للتي هي‌ أقوم‌ أن القرآن الكريم قد عالج الواقع الإنساني على أساس التعامل مع الإنسان كما خلقه الله وعـلى أساس الاعتراف بحاجاته الثابتة والمتطوّرة وعلى أساس حماية إنسانيته وحريته‌ فـيما تـشير إليـه الآيات البينات: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [سورة الروم:‌ 30]، ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [سورة البقرة: 286].  

فبمقدار ما يـنسجم التـشريع مـع طاقات الإنسان وقدراته يكتسب له الاستمرار وبمقدار‌ ما‌ يجيب عن أسئلة الإنسان وهواجسه يكتب له‌ الخـلود،‌ وتلك حقيقة لا نجدها في غير الإسلام من الأديان والأفكار والفلسفات من قديم الزمان وحـتى سقوط‌ الرأسمالية‌ والماركسية والوجـودية وغـيرها في عصرنا الحديث، فالقرآن الذي أرشد‌ الإنسان إلى مصالحة الطبيعة والكون والاستفادة من خيرات الوجود والقرآن الذي حث على استخدام العقل‌ والتفكير‌ لاكتشاف أسرار ذاته وأسرار الحياة والقرآن الذي رفع الإنسان‌ إلى‌ مصاف الخلافة الربانية عـلى الأرض، القرآن الذي يملك هذه المواقف من قضايا الإنسان الكبرى جدير به‌ أن‌ يهدي‌ للتي هي أقوم، وجدير به أن يبشّر المؤمنين بالتقدم والازدهار، ولعل‌ في‌ رصيد حركة الواقع التاريخي من سيرة أئمة أهـل البـيت عليهم السلام والصفوة من‌ أصحاب‌ النبي (صلى‌ اللّه عليه وآله وسلم) ما يشهد على قدرة هذا الفكر في بناء الشخصية‌ الهادية‌ المهدية للتي هي أقوم على عين الله ورضاه، فهل تستوى المقارنة والمفاضلة‌ بين‌ نـظم الحـضارة الغربية التي كفرت بالإنسان وجردته من مضمونه الروحي والأخلاقي وبين‌ نظام القرآن الذي تنزّل رحمة للعالمين وبشرى للمؤمنين، وهدى للمتقين ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [سورة الأنعام: 104‌]، بلى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى [سورة النجم:‌ 39-40‌].

هذه‌ الأسس الأولية لمنطلقات التفسير الموضوعي للإنسان قرآنياً قد تمهد لتلمس المعايير الثابتة لعلم المقارنة بين‌ الأديان‌ والفلسفات، وقـد نـحتاج لتـنميط هذه الأسس باستقراء النص القرآني نـفسه حـول‌ عدد‌ من المفاهيم ذات الصلة بموضوع البحث، فالمواءمة بين التشريع القرآني وفطرة الإنسان قد أهّلت إنسان‌ القرآن‌ للشهودية على سائر الأمم اسـتناداً إلى وسـطية الأمـة المعبّرة عن وسطية نظامها‌ ودستورها: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:‌ 143‌]، ولا معنى لنظام يدّعي لنفسه الهداية للتي هي أقوم إلا إذا امتلك‌ فعلاً‌ فرقان هـذه الهـداية وتـمكّن‌ فعلاً‌ من إخراج‌ عقول‌ الناس‌ من الظلمات إلى النور بمصباح التـمييز‌ بين‌ الحق والباطل ويسّر لها سبل استجلاء حقائق الخير والشر من‌ منازع‌ النفس: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [سورة الأنفال 29].

ومع ختم النبوّات بـخاتم‌ النـبيين‌ محمد (صلى اللّه عليه وآله‌ وسلم): ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [سورة الأحـزاب 40]، وبمقتضى‌ الأفق الشامل الكامل لعالمية رسالة الهدى‌ والرحمة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [سورة‌ الأنـبياء 107] ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [سورة الأعراف 158]،

فإن روح‌ الخاتمية‌ العالمية تخفق على مرّ الزمـان بـالفرقان‌ الذي‌ لا‌ يزال‌ قائماً‌ بقيامة الإنسان واستقامته‌ على الرشد والصلاح فيسعى نوره بين يديه بفرقان مـن نفسه: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد: 10‌] وبفرقان‌ موحى به من ربه لا يأتيه الباطل‌ من‌ بين‌ يديه‌ ولا‌ من خـلفه في كـتاب مبين لا يتبدّل؛ لأن أحكامه قد فصلت على قياس شخصية الإنسان الروحية والفكرية: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [سورة النحل: 89]، ﴿وَلا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سورة الأنعام: 59]، يرسم حدود كـل شيء ويـقدّر كل شيء ويعطي لكل ذي‌ حق‌ حقه ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه لإشاعة العـدل في صورة مُثلى وصفها القرآن الكريم بقوله: ﴿لا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُون [سورة البقرة: 279]. ولكن، وانطلاقاً من طبيعة‌ اشـتمال‌ القـرآن عـلى المتشابه والمحكم والظاهر والباطن والعام والخاص والمجمل والمبين، كان لا بد للإنسان على درب‌ الهداية‌ للتي هي أقـوم من فرقان‌ ثالث‌ مبين خبير بحقائق القرآن مجسد لتعاليمه السمحاء لا يفارقه بـحال مـن الأحوال كما يظهر من دلالة حديث الثقلين ودلالة قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [سورة يس‌: 12]. وهو مرآة للكـتاب المـبين الذي لا رطب ولا يابس إلا فيه وكل شيء منعكس في شعاع قلب هذا الإمام المبين فثمة عـلاقة مـوضوعية واضحة بين كتاب العمل وكتاب‌ العلم لقـول النبي الأكـرم (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فى حديث طويل: «إذا التبست عليكم الأمـور كـقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وشاهد مصدق من جعله أمامه قـاده‌ إلى‌ الجنة ومن جعله خلفه سـاقه إلى النـار وهو أوضـح دليـل إلى خـير سبيل ظاهره حكم وباطنه‌ علم لا تـحصى عـجائبه ولا تنقضي غرائبه وهو حبل‌ الله‌ المتين‌ وصراطه المستقيم». إلى آخر الحديث [إرشاد القلوب، ج‏1، ص79]... وإذن فثمة عـلم في القرآن يستدعي حضور العالم به العـارف بجميع مقاصده‌ و‌‌تفاصيله‌ وتـفسيره وتـأويله لإرشاد الناس إلى الحكمة والغاية مـن مـفاهيمه وقيمه‌، وقد نهض النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كأقوى ما يكون النهوض والأئمة بهذه‌ التكاليف بـوصفه المـعلم الأول للقرآن فيما توحي الآية الكريمة: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [سورة الشـعراء: 192-195]، ولكي يعبر هذا القرآن إلى الحياة ويستمر خالداً وعالمياً بخلود الإنسان وبقائه على وجه الأرض كـان لا بـد من الاحتفاظ‌ بموقع مرجعية النبي (صلى اللّه عـليه وآله وسـلم) ومسؤولياته عـن البـلاغ المـبين لتظل هدايته للتي هي أقوم مفتوحة على المستقبل وذلك بوصل ميثاق هذه المرجعية بمرجعية الأمناء على الوحي‌ من‌ بعده مـن أئمـة أهل البيت بوصفهم الراسخين في العـلم والورثـة لمـكنون هـذا العـلم والمصداق الأتم لشـخصية الإمـام المبين في واقع الحياة ليستمر القرآن حياً بالعلم المحفوظ المتوارث المستودع‌ عند‌ أهل الذكر: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [سورة النـحل 43].

وبـذلك تـتبدي الوشـائج العـميقة بـين القرآن الناطق والقرآن‌ الصامت وبين القرآن والعترة وبين الإمام المبين والكتاب المبين، فلو اعتبرنا الكتاب المبين هو القرآن كما هو الحق وكشفنا علائق الصلة المعرفية بين الكـتاب‌ المبين‌ والإمام المبين، صح لنا القول دونما‌ تمحل‌ أو‌ مبالغة إن قلب الإمام المبين هو مرآة اللوح المحفوظ بتوسط القرآن وهو المرآة الناصعة للوح المحفوظ بدليل أن المراد من‌ اللوح‌ المحفوظ‌ أو الكتاب المكنون أو أم الكتاب على اختلاف‌ فـي‌ صـيغة التعبير ما هو إلا خزائن الكتب السماوية ومصدرها ومحضنها، ويؤكد ذلك القرآن الساطع رحمة للعالمين‌ على‌ منهاج‌ أن القرآن يفسّر بعضه بعضاً. فلنصغ خاشعين إلى صوت القرآن‌ يتحدث عن مصادر الهداية للتي هي أقـوم في المجال التكويني والتشريعي.

1- ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [سورة المائدة: 15] ومن المعلوم أنه ما جاءنا شيء غير‌ القرآن.

2- ﴿الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [سورة يوسف: 1] والمشار إليه بـتلك هـو القرآن.

3- ﴿الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ [سورة الحـجر: 1] والقـرآن عطف بيان على الكتاب.

4- ﴿طسم‌ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ[سورة الشعراء: 1-2] وكلمة تلك إشارة إلى القرآن المجيد.

5- ﴿طسم‌ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ[سورة القصص: 1ـ2] والكتاب المبين عطف بيان على القرآن.

6- ﴿حـم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ[سورة الزخرف: 1-4] وفيه تصريح بأن الكتاب المبين هو القرآن العربي غير أم الكتاب‌ وهو ساطع منير.

7- ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ[سورة الدخـان‌: 1-3‌] والمـقصود من الكتاب المبين المنزل في ليلة مباركة، أي: ليلة القدر، هو القرآن لا‌ غيره،‌ وبذلك نستشرف من هذه الآيات البينات أنها قد فسرت الكتاب المبين‌ بالقرآن‌ المجيد‌ في لوح محفوظ والكريم في كـتاب مـكنون بصريح قـوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ[سورة البروج: 21-22] وقوله عز وجل: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ[سورة الواقعة: 77-78]، يتماهى القرآن كـمرآة للوح المحفوظ أو أم الكتاب أو الكتاب المكنون وبمقتضى التطابق‌ بين‌ القرآن الناطق والقرآن الصـامت يضيء قـلب الإمام المبين كمرآة للكتاب المبين‌ وبواسطته كمرآة للوح المحفوظ، وعلى هذا الاقتران‌ نستوفي‌ شروط‌ الهداية للتي هي أقـوم ‌بـالوقوف على مركز‌ الثقل‌ الأكبر فيها وهي الاقتداء بصورة الإمام المبين كمثل أعلى للإنـسان الكـامل مـحور‌ الهداية‌ وموضوعها، فللهداية للتي هي أقوم‌ وجهان؛ الوجه‌ النظري:‌ وهو أم الكتاب المبين نظاماً وتشريعاً. والوجه العملي: هو الإمام المبين قدوة الهداية وعقلها وروحها، وعليه فإن‌ أي‌ انفصال عن كليهما أو أحـدهما سيعرض‌ الهداية لخلل حقيقي فـي‌ الفكر‌ وفي السلوك، وبذلك‌ نرفع‌ أبصارنا الى إشراقة الترابط بين التشريع المعصوم والقيادة المعصومة في عالم لن‌ تستقيم‌ هدايته إلا بطهارة الذات وسمو‌ العقيدة‌ وشمولية الأهداف‌ والغايات، كذلك قال الله‌ تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [سورة الأحزاب 33] لتأكيد‌ دور‌ الإنسان الكامل في تحقيق معنى الهداية‌ ووسيلتها. وقد‌ روى‌ العياشي‌ بإسناده عن أبي جعفر‌ (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [سورة الرعد: 7] أنه قال: (علي الهادي ومـنا‌ الهادي فقلت: فأنت جعلت فداك الهادي قال: صدقت‌ إن‌ القرآن‌ حي‌ لا‌ يموت والآية‌ حية‌ لا تموت فلو كانت الآية إذ نزلت في الأقوام وماتوا ماتت الآية لمات القرآن ولكن‌ هي‌ جارية في الباقين كما جـرت في الماضين).

فها نحن‌ الآن‌ ندّعي‌ لأنفسنا‌ فهم‌ القرآن... غير أننا لا نتساوى في هذا الفهم، فمن هو المؤهل لإخراج الناس من الظلمات إلى النور؟ لا شك أنه العارف بكتاب الهداية حق المعرفة والفاهم حق الفـهم‌ لمـقاصد آياته وظاهرها وباطنها وناسخها ومنسوخها وهو مختص بمن خوطب به ومختص بأوصيائه الأمناء على واقع القرآن وحقيقته: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [سورة فاطر: 32].

وقـد تـضافرت الروايـات الكثيرة على تأكيد هذا المعنى، نذكر‌ منها‌ رواية زيد الشحام قال: (دخل قتادة على أبي جعفر عليه السلام فقال له: أنت فقيه أهـل البـصرة؟ فقال: هكذا يـزعمون فقال (عليه السلام): بلغني أنك تفسر القرآن قال نعم‌ إلى ـ‌ أن قـال: يا قتادة إن كنت‌ قد‌ فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت وإن كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت وأهـلكت، ويـحك يـا قتادة إنما‌ يعرف‌ القرآن من خوطب به‌) [انظر: الكافي، ج‏8، ص311]. و‌لا‌ شك أن هذا الإطـار المنهجي لمفهوم مرجعية الهداية الربانية يتسع بامتداد قيم هذه المرجعية وتألّقها في مختلف مجالات الحياة لتصبح جزءاً بـارزاً مـن مـعالم الهداية في الفكر والسلوك‌ في‌ المسار المبارك لجهود علماء الإسلام، في عـصرنا الحـديث تتجسد الهداية للتي هي أقوم موضوعاً ومنهجاً في قضيتنا المركزية الكبرى وهي وحدة كلمة المسلمين وتـأليف قـلوبهم فـالوحدة الكريمة هي‌ أقوم‌ السبل للنهوض‌ بأعباء الهداية وازدهارها بثقافة التوحيد ذلك أن الهداية كأي مـنظومة مـعرفية لا بد من تكاملها وتتويجها بأسس الولاية الحقة لله ولرسوله وللمؤمنين وهكذا‌ ترتسم‌ آمالنا‌ في الحـاضر والمـستقبل لمـواجهة كل الإعاقات التي تحول دون تواصلنا وارتباطنا بصراط الذين أنعم الله ‌‌عليهم‌ من الأنبياء والأوصياء والتـقاة والأبـرار والصالحين والشهداء وحسن‌ أولئك‌ رفيقاً، وبالرغم من انقسام العالم الإسلامي اليوم، إلا أنه مـوحد بـأصول ثـقافته وموحد بتطلعاته إلى الهداية لاكتشاف المعنى العميق من جوهر العبودية لله وانعكاسها على معنى‌ حريته في الحياة: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سورة سبأ: 46]، والقيام لله هو قيام من أجل‌ سلامة الأرض وأمن الإنسانية جمعاء، فمشروع الهداية للتي هي أقـوم يستبطن مشروع الخلاص والإنقاذ وإخراج العقل من ظلمات الجاهلية إلى نور العلم والمـعرفة كـما يـظهر من صريح‌ الآية‌ التي تلت آية الهداية وهي مفتوحة على روابط التكامل بين مفهوم الأقـوم والأكـمل والأتـم في آية الغدير ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [سورة المـائدة: 3].

وقد اعتبر العلامة الطباطبائي صاحب الميزان أن الهداية العامة للإنسان تجري منسجمة مع القوانين الطبيعية وسنن الحـياة، فـالكائنات كلها تسير نحو السعادة والكمال‌ بما يناسب وجودها بتوسط الفطرة والتكوين: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [سورة طه: 50]. والإنسان أيـضاً أحـد أنـواع هذه الكائنات لا يستثنى من هذا القانون العـام‌، فـلا‌ بد‌ له ليمضي على سنة التكامل‌ من‌ كتاب‌ مبين وإمام مبين يرشدانه إلى الخير والحـق والصـلاح وما أبلغ الآية الكريمة مـن سـورة الأنبياء: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ [سورة الأنبياء: 73] والآية الكريمة من سورة السجدة ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ [سورة السجدة: 24].

والمـستفاد من‌ هاتين الآيتين أن الإمـام فـضلاً عن الإرشاد والهداية الظاهرية يـختص بـنوع من الهداية المعنوية، فهو بواسطة الحقيقة‌ والنور‌ الذي يسعى بين يديه يؤثر في القـلوب والعـقول ليسير بالأمة‌ إلى غايتها مـن الكـمال المـنشود والهداية المرتجاة ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ [سورة الزمر 37]، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت 69].

إلا أن الإنسان من المبتدأ إلى المنتهى هو المـسؤول عـن مصيره وهو‌ المسؤول‌ عن أعماله، لذلك يـتوسل المـؤمنون بمصادر الهـداية ويـضرّعون إلى بارئهم: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة 250] ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [سورة آل عمران 8]، فلا‌ تزال‌ أزمة الحـضارة هي أزمـة هـداية للتي هي أقوم، إنْ عـلى مـستوى الأفراد والمؤسسات‌ أو على‌ مستوى النظرية والتطبيق.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2229
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 04 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28