• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : علوم القرآن الكريم .
                    • الموضوع : فكرة النظم بين وجوه الإعجاز* ـ القسم الأوّل ـ .

فكرة النظم بين وجوه الإعجاز* ـ القسم الأوّل ـ

عيسى متقي زاده / أستاذ مساعد في جامعة العلامة الطباطبائي

يبدو أن فكرة النظم كانت أبرز وجوه الإعجاز عند العلماء، وقف بعضهم طويلاً عندها وخاصة عبد القاهر الجرجاني الذي صنّف لذلك كتابه «دلائل‌ الإعجاز‌« وجاء العلماء بعده يفسرون طريقته ويشرحونها.

«والقرآن يوجد له من العـذوبة فـي حس السامع، والهشاشة في نفسه وما يتحلى به من الرونق والبهجة التي يباين بها سائر الكلام حتى يكون‌ له‌ هذا الصنيع في القلوب والتأثير في النفوس فتصطلح من أجله الألسـن على أنه كلام لا يشبهه كلام، وتحصر الأقوال عن معارضته وتتقطع به الأطماع‌ عنها‌، بما لا بدّ له من سبب، بوجوده يجب له هذا الحكم، وبحصوله يستحق هذا الوصـف وقـد استقرينا أوصافه الخارجية عنه وأسبابه النابتة منه فلم نجد شيئًا منها يثبت على النظر‌، أو‌ يستقيم في القياس، ويطرد على المعايير‌ فوجب‌ أن يكون ذلك المعنى مطلوبًا من ذاته،  ومستقصى من جـهة نـفسه، فـدل النظر على أنّ السبب له والعـلة فـيه، أن أجـناس‌ الكلام‌ مختلفة‌،  ومراتبها في نسبة البيان متفاوتة، ودرجاتها في البلاغة‌ متباينة‌ غير متساوية، فمنها البليغ الرصين الجزل ومنها الفصيح القريب السـهل، ومـنها الجـائز الطلق الرسل، فحازت بلاغة القرآن من كل‌ قـسم‌ مـن‌ هذه الأقسام حصة، انتظم لها نوع من الكلام يجمع صفتي‌ الفخامة والعذوبة.

وصار القرآن معجزًا، لأنه جاء بأفصح الألفـاظ، فـي أحـسن نظوم التأليف، مضمنا أصح المعاني. والاتيان بمثل‌ القرآن‌ المشتمل‌ على تلك الصفات أمر تعجز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قدرهم‌،  فانقطع‌ الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته، لأن القرآن يضع كـل نـوع مـن الألفاظ الأخص به، الذي تسقط‌ البلاغة‌ بسقوطه‌«. (الخطابي، 22)

معنى النظم لغة واصـطلاحًا

جـاء في أساس البلاغة للزمخشري: نظمت‌ الدر‌ ونظمته‌، ودر منظوم ومنظم، وقد انتظم، وتنظيم، وتناظم، وله نظم منه، ونظام ونـظم.

ومـن المـجاز‌ نظم‌ الكلام‌، وهذا نظم حسن، وانتظم كلامه وأمره، وليس لأمره نظام، إذا لم تـستقم طـريقته.

وتـقول‌: هذه‌ أمور عظام لو كان لها نظام، ورمى صيدًا فانتظمه بسهم وطعنه فانتظم ساقيه‌ أو‌ جـنبيه‌.

وفـي لسـان العرب لابن منظور: «النظم: التأليف، ونظمه نظمًا ونظامًا، ونظمه فانتظم وتنظّم ونظمت‌ اللؤلؤ‌ أي جمعته فـي السـلك، والتنظيم مثله، ومنه نظمت الشعر ونظمته، ونظم الأمر على المثل‌، وكل‌ شي‌ء قـرنته بـآخر، أو ضـممت بعضه الى بعض فقد نظمته، والنظم المنظوم وصف بالمصدر، والنظم‌ ما‌ نظمته من لولوء وخرز وغـيرهما.

والنـظام: ما نظمت فيه الشي‌ء من خيط‌ وغيره‌، والنظام‌ الخيط الذي ينظم به اللؤلؤ، وكل خـيط يـنظم بـه لؤلؤ أو غيره فهو نظام، وجمعه‌ نظم‌ وهو‌ في الأصل مصدر، والانتظام الاتساق...

وفي القاموس المحيط لأبـي طـاهر الفيروزآبادي: «النظم‌ » التأليف‌، وضم شي‌ء الى شي‌ء آخر،  ونظم اللؤلؤ ينظمه نظمًا ونظامًا، ونـظمه-بـتشديد الظـاء-ألفه وجمعه في‌ سلك‌ فانتظم.

والنظام: كل خيط ينظم به لؤلؤ ونحوه.

وفي المعجم الوسيط: «نـظم‌ » الأشـياء‌ نـظما: ألفها، وضم بعضها الى بعض، واللؤلؤ‌ ونحوه‌ جعله‌ في سلك ونحوه، ويقال: نظم الخـواص الخـوص‌ ضفره».

وانتظم الشي‌ء تألف واتسق، يقال: نظمه فانتظم، ويقال: انتظم أمره استقام، والأشياء جمعها‌،  وضم‌ بـعضها الى بـعض، وتناظمت الأشياء‌ تضامت‌ وتلاصقت.

والنظام‌ الخيط‌ ينظم‌ فيه اللؤلؤ وغيره، والترتيب والاتساق، ويـقال‌ نـظام‌ الأمر قوامه وعماده،  والطريقة: يقال: ما زال على نـظام واحـد.

ويقال نظم‌ القرآن‌: عبارته التي تشتمل عـليها المـصاحف صيغة‌ ولغة، والنظيم، المنظوم، ومن‌ كل‌ شي‌ء ما تناسقت أجزاؤه على نسق‌ واحـد، يـقال: نظم من اللؤلؤ (ج) نُظُم بضم النـون والظـاء...

فالمعنى اللغـوي المـشترك هـو‌ ضم‌ الشي‌ء الى الشي‌ء، وتنسيقه على نـسق‌ واحـد‌، كما تضم حبات‌ اللؤلؤ‌ بعضها الى بعض في‌ سلك‌ ونحوه. (انيس، مادة النظم) وهـو أسـاس المعنى الذي ذهب إليه عبد القاهر الجـرجاني في‌ كتابه‌ «دلائل الإعجاز».

فـالنظم عـنده أن تضع‌ كلامك‌ الوضع الذي‌ تـقتضيه‌ عـلوم‌ النحو، وتعمل على قوانينه‌ وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، وتـحفظ الرسـوم التي رسمت لك فلا تخل‌ بـشي‌ء‌ مـنها.

ثـم يضرب الأمثلة التـي تـوضح‌ ما‌ ذهب‌ إليه‌ مـن‌ مـعنى النظم، ومدى‌ ارتباطه‌ بقواعد النحو.

فينظر الى وجوه الخبر نحو: زيد منطلق، وزيد ينطلق، ويـنطلق زيـد ومنطلق زيد، وزيد‌ المنطلق‌، والمنطلق‌ زيـد، وزيـد هو المـنطلق، وزيـد هـو منطلق‌ وفي‌ الشرط‌ والجـزاء‌ نحو‌: إن‌ تخرج أخرج، وإن خرجت خرجت، وإن تخرج وأنا خارج.

وينظر في الحروف التي تشترك فـي مـعنى، ثم ينفرد كل منها بخصوصية فـي ذلك المعنى فـيضع كـلاً مـن‌ ذلك في خاص مـعناه. نـحو أن تجي‌ء «بما» في نفي الحال، و«بلا» إذا أردت نفي الاستقبال، و«بإن» فيما يترجح بين أن يكون وألا يكون، و«بإذا» فـيما عـلم أنـه كائن.

وينظر‌ في‌ الجمل، فيعرف موضع الفـصل فـيها مـن مـوضع الوصـل، ومـوضع أو من موضع أم، وموضع لكن من موضع بل، ويتصرف في التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير، وفي الحذف والتكرار،  والإضمار والإظهار‌، فيضع‌ كلاً من ذلك مكانه، ويستعمله على الصحة، وعلى مـا ينبغي له.

ثم يقرر أنه لا يوجد شي‌ء يرجع صوابه إن كان صوابًا، وخطؤه‌ إن‌ كان خطأ الى النظم ويدخل‌ تحت‌ هذا الاسم إلاّ وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه، ووضع فـي حـقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه واستعمل‌ في‌ غير ما ينبغي له‌ فلا‌ ترى كلامًا قد وصف بصحة نظم أو فساده، أو وصف بمزية وفضل فيه إلا وأنت تجد مرجع ذلك الى مـعاني النـحو وأحكامه، ووجدته يدخل في أصل من أصوله، ويتصل بباب‌ من‌ أبوابه». (الجرجاني، 36)

فكرة النظم قبل عبد القاهر الجرجاني

عجز العرب عن الإتيان بـمثل القـرآن في عصر الرسول والصحابة الكـرام، وظـلّ الشعور بالعجز يملأ صدورهم، وصدور من جاؤوا بعدهم.

وحين‌ بعدت‌ الشقة بين‌ الأعراب الخلص الذين استقامت ألسنتهم، وبعدت عن نطاق اللحن والدخيل- وبين المـسلمين فـي العصر العباسي ظهرت الحـاجة‌ المـلحة لكثير منهم الى فهم أساليب القرآن، فكانوا يسألون عما يشتبهون‌ فيه‌ منها‌، يسألون علماءهم وعارفيهم باللغة، وبأسرار دلالات الكلمات، وبلاغة التراكيب، حرصًا منهم على قداسة قرآنهم، ومعرفة محتوياته من ‌‌أسرار‌ البلاغة والبـيان.

ومـن ذلك ما رواه أبو عبيده قال: أرسل الى الفضل بن‌ الربيع‌ في‌ الخروج إليه سنة ثمان وثمانين ومائة، فقدمت الى بغداد، واستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت عليه‌.ثم دخل رجل في زي الكتاب له هيئة، فـأجلسه الى جـانبي، وقال لي‌: إنّي كنت مشتاقًا إليك‌، وقد‌ سألت عن مسألة، أفتأذن لي أن أعرفك إياها، فقلت: هات، فقال: قال اللّه عزّ وجـل:

﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾ (الصافات، 65) وإنما يقع الوعد والإيعاد بما عرف مـثله وهـذا لم يـعرف‌، فقلت: إنّما كلّم اللّه تعالى العرب على قدر كلامهم.أما سمعت قول امرئ القيس:

أيقتلني والمشرفي مضاجعي***ومـسنونة‌ ‌زرق كـأنياب أغوال

وهم لم يروا الغول قط، ولكنهم لما كان أمر الغول‌ يهولهم‌ أو عدوا بـه فـاستحسن الفـضل ذلك، واستحسنه السائل، وعزمت من ذلك اليوم أن أضع كتابًا في القرآن، في مثل هذا وأشباهه،  وما يـحتاج إليه من علمه، فلمّا رجعت الى البصرة‌ عملت‌ كتابي، الذي سميته«المجاز». (ياقوت، 851/91) «وكتاب أبـي عبيدة ليس من كـتب إعـجاز القرآن، لأنه ليس فيه دفاع عن القرآن ولا كلام عن إعجازه، وإنما هو كتاب في‌ بيان‌ المعاني القرآنية، وتأييدها بكلام العرب.

ومعنى المجاز عنده لغوي، من جاز يجوز عبر، والمجاز المعبر، أو الطـريق الى فهم المعاني القرآنية عند ظهور الحاجة الى هذا الفهم.

ولكنه على كل‌ حال‌ محاولة كشفت الغموض عن كثير‌ من‌ آيات‌ التنزيل، بعد أن شاع اللحن،  وكثر الدخيل، واختلط العرب بغيرهم من الأعاجم، وخـيف على عربية القرآن الخالصة. وأبو عبيدة بمجازه فتح‌ الطريق‌ لدراسات‌ بلاغية تهدف الى بيان الإعجاز القرآني عن طريق‌ نظمه‌ وتأليفه، وإن كان هو نفسه لم يعرض لبيان أسرار الإعجاز. (فتحي، 53)

وكان الجاحظ الذي أداه إحساسه العـميق بـروعة‌ النظم‌، وما‌ يكسبه الكلام من الرونق والحيوية، والنضرة والروعة الى أن يصبح‌ في معاصريه، أن إعجاز القرآن في نظمه، وألف في ذلك كتابًا وكرّر في مواضع من كتاباته هذا الرأي‌ من‌ مثل‌ قوله: «فـي كـتابنا المنزل الذي يدلنا على أنه صدق نظمه البديع‌ الذي‌ لا يقدر على مثله العباد».(الجاحظ، 4/90)

هذا الكتاب الذي سمّاه «نظم القرآن» قد فقد مع‌ مرّ‌ الزمن‌. وكما يبدو عن ذكره في كـتابه الحـيوان أن كـتاب نظم القرآن قد‌ يكون‌ ضـمنه‌ كـثيرًا مـن لمحات القرآن المعجزة عن طريق النظم.

ويفرق الجاحظ بين نظم القرآن وتأليفه‌ ونظم‌ سائر‌ الكلام وتأليفه فليس يعرف فروق النظر واخـتلاف البـحث إلا مـن عرف المزاوج من المنثور‌، والخطب‌ من الرسائل، وحـتى يـعرف العجز العارض من العجز الذي هو صفة في الذات‌.

فإذا‌ عرف‌ صنوف التأليف عرف مباينة نظم القرآن لسائر الكلام، ثـم لم يـكتف بـذلك حتى يعرف‌ عجزه‌ وعجز أمثاله.

ويذكر أمثلة لألفاظ منتقاة مـختارة، لتتناسب مع المواقف المختلفة. وهي تعتبر‌ من‌ جزئيات‌ النظم، مثل: ويقال: فلان أحمق، فإذا قالوا: مائق فليس يـريدون ذلك المـعنى بـعينه، وكذلك إذا‌ قالوا‌: أنوك، وكذلك إذا قالوا: رفيع، ويقولون: فلان سليم الصدر، ثـم يـقولون: غبي‌، ثم‌ يقولون‌: أبله وكذلك إذا قالوا: معتوه ومسلوب، وأشباه ذلك، وهذا المأخذ يجري في الطبقات كلها مـن‌ جـود‌ وبـخل‌، وصلاح وفساد، ونقصان ورجحان. (الجاحظ، 1/250) فلكل كلمة مع صاحبتها مقام، فإذا‌ انـتقلت‌ مـن مـوضع الى موضع آخر أشعرت بالدلالة الجديدة.

فكرة النظم عند الجاحظ فكرة لفظية تعتمد على حـسن‌ الصـوغ. وكـمال التركيب، ودقة تأليف اللفظ، وجمال نظمه، ولا عجب فقد كان‌ شغوفًا‌ بجودة اللفظ وحسنه وبـهاء رونـقه حتى قدمه‌ على المعنى‌، فيقول: «المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي‌ والعربي‌ والبـدوي والقـروي، وإنـما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء‌، وفي‌ صحة الطبع، وجودة السـبك». (الجـاحظ‌، 3‌/131)

وننتقل الى أحد‌ العلماء‌ الكبار في القرن الثالث الهجري والذي‌ اشتهر‌ بالمهارة اللغـوية والذوق الرفـيع عـند النظر في كتاب اللّه.

«فالقرآن قد شرفه‌ اللّه‌ وكرمه، وسماه روحًا ورحمة، وشفاء وهدى‌ ونورًا، وقـطع مـنه بمعجز‌ التأليف‌ أطماع الكائدين، وأبانه بعجيب النظم‌ عن‌ حيل المتكلفين وجعله مـتلوًا لا يـمل على طول التلاوة، ومسموعًا لا تمجه الآذان‌، وغضًا‌ لا يخلق على كثرة الرد‌، وعجيبًا‌ لا‌ تنقضي عجائبه، ومفيدًا‌ لا‌ تنقطع فـوائده.

ونـسخ بـه‌ سالف‌ الكتب، وجمع الكثير من معانيه في القليل من لفظه، وذلك معنى قـول رسـول (صلى‌ اللّه‌ عليه وآله) «أوتيت جوامع الكلم».(ابن‌ قتيبه‌، 3 و4)

يذكر ابن‌ قتيبة‌ في‌ باب الاستعارة قوله تـعالى‌:

﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾

فيقول: أي قصدنا لأعمالهم‌، وعـمدنا‌ لهـا، والأصل أن من أراد القدوم‌ الى موضع‌ عمد‌ له وقـصده، والهـباء المنثور‌: ما‌ رأيته في شعاع الشمس الداخـل مـن كوة البيت، والهباء المنبث: ما سطع من سنابك الخيل وإنما‌ أراد‌ أنا‌ أبطلناه، كـما أن هـذا مبطل لا يلمس‌ ولا‌ ينتفع‌ به‌.

ويـقول‌ فـي‌ باب الحـذف: وهـو أن تـحذف المضاف وتقيم المضاف إليه مقامه، وتـجعل الفـعل له، كقوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا (يوسف، 82) أي سل أهلها.

﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ(البقرة، 93) أي حبّه، وكقوله:

﴿إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ(الاسـراء، 75) أي ضـعف عذاب الحياة وضعف عذاب المـمات، وقـوله:

﴿مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ(محمد، 13) أخرجك‌ أهلها‌، وقوله:

﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ(سـبأ، 33) أي: مـكرهم في اللّيل والنهار. (ابن قـتيبه، 261)

ونـأتي الى عـالم من علماء المـعتزلة ومـمّن ألفوا في إعجاز القـرآن وهـو الرماني الذي‌ ألّف‌ رسالته «النكت في إعجاز القرآن».

بدأ الرماني رسالته ببيان وجوه الإعـجاز والبـلاغة.

فالبلاغة عنده على ثلاث طبقات، وهـي عـشرة أقسام: الإيـجاز، والتـشبيه والاسـتعارة‌، والتلاؤم‌، والفواصل، والتجانس، والتـصريف، والتضمين، والمبالغة‌، وحسن‌ البيان.(الرماني، 70-71) ثم يبدأ بذكر هذه الأقسام قسمًا قسمًا:

والتشبيه عنده: هـو العـقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخـر فـي حـس‌ أو‌ عـقل، فـهو تشبيه حسي‌، وتـشبيه‌ عـقلي إذن، وسمّي الأول تشبيها حقيقة، والثاني تشبيها بلاغة وهو يأتي على وجوه.

منها: إخراج ما لا تقع عليه الحـاسة الى مـا تـقع عليه، كتشبيه أعمال الكفار بالسراب في قـوله‌ تـعالى‌:

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا (النور، 39)

ويعلق على ذلك التشبيه بأن الطرفين اجتمعا في بطلان المتوهم مع شدة الحاجة وعظم‌ الفاقة‌، ولو قيل‌ «يحسبه الرائي ماء» ثـم يظهر أنه على خلاف ما قدر لكان بليغًا، وأبلغ منه لفظ القرآن، لأن‌ الظمآن أشد حرصًا عليه وتعلق قلبه به، ثم بعد هذه الخيبة‌ حصل‌ على الحساب الذي يصيره الى عذاب الأبـد فـي النار. وتشبيه أعمال الكفار بالسراب من حسن التشبيه، فكيف إذا ‌‌تضمن‌ مع ذلك حسن النظام وعذوبة اللفظ وكثرة الفائدة وصحة الدلالة» (الرماني، 47) وبعد‌ التفصيلات‌ في‌ التشبيه انتقل الرماني الى الاستعارة:

والاستعارة عـنده تـعليق العبارة على غير ما وضعت له في‌ أصل اللغة على جهة النقل للإبانة،  وفرق بينها وبين التشبيه بأن الكلمات فيه‌ تظل لها معانيها الحـقيقية‌ بـخلاف‌ كلمات الاستعارة، فانها تدل على مـا لم توضع له في اللغة.

و يمثل بكثير من آيات القرآن كقوله تعالى:

﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ(الحجر، 94) حقيقته: فبلغ ما تؤمر به، والاستعارة أبلغ من‌ الحقيقة، لأن الصـدع بـالأمر لا بد له من تأثير كـتأثير صـدع الزجاجة، والتبليغ قد يصعب حتى لا يكون له تأثير فيصير بمنزلة ما لم يقع، والمعنى الذي يجمعهما الإيصال، إلا أن‌ الإيصال‌ الذي له تأثير كصدع الزجاجة أبلغ، ومثله الآية الكريمة:

﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (المدثر، 11)

فذرني مـستعار وحـقيقته ذر عقابي ومن خلقت وحيدًا بترك مسألتي فيه، إلا أنه أخرج لتفخيم‌ الوعيد‌ مخرج ذرني وإياه، لأنه أبلغ، وإن كان اللّه تعالى لا يجوز عليه المنع وإنّما صار أبلغ، لأنه لا منزلة من العقاب إلاّ وما يـقدر اللّه عـليه منها أعـظم وهذا‌ أعظم‌ ما يكون من الزجر، ومن المؤكد أن نظم القرآن على صفته تلك هو الذي أوحى الرماني بـما ذهب إليه ويتحدث عن التلاؤم، وهو نقيض التنافر، والتلاؤم عنده تـعديل الحـروف‌ فـي‌ التأليف‌، والتأليف على ثلاثة أوجه، متنافر‌ ومتلائم‌ في‌ الطبقة الوسطى، ومتلائم في الطبقة العليا.

فالمتنافر ثقيل على ‌ ‌اللسـان، معجوج في الآذان، والملائم في الطبقة الوسطى تدخل فيه بلاغة البلغاء‌، والمتلائم‌ في‌ الطـبقة العـليا هـو القرآن الكريم كله. وفائدة التلاؤم‌ حسن‌ الكلام في السمع،  وسهولته في اللفظ وتقبل المعنى له فـي النفس لما يرد عليها من حسن الصورة وطريق الدلالة‌،  ومثل‌ ذلك‌ مثل قـرارة الكتاب في أحسن مـا يـكون من الخط والحرف‌، وقرارته في أقبح ما يكون من الحرف والخط، فذلك متفاوت في الصورة وإن كانت المعاني واحدة.(الرماني، 97‌)

وفي‌ القرن‌ الرابع نجد عالمًا تدور آراؤه في دائرة آراء الرماني وهو الخطابي‌ فـقد‌ ألّف رسالة «في بيان إعجاز القرآن» أرجعه الى البلاغة، وذهب الى أن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبها‌ في‌ نسبة‌ التبيان متفاوته، ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية، فمنها البليغ الرصين الجزل‌ ومنها‌ الفصيح‌ القريب السهل، ومـنها الجـائز الطلق الرسل.

فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه، والثاني أوسطه‌ وأقصده‌، والثالث‌ أدناه وأقربه، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من‌ كل‌ نوع من أنواعها شـعبة، فـانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع‌ صفتي‌ الفخامة‌ والعذوبة، وهما على الانفراد في نعوتها كالمتضادين لأن العذوبة نتاج السهولة، والجزالة والمتانة في‌ الكلام‌ تعالجان نوعًا من الوعورة فـكان اجـتماع الأمرين في نظمه مع نبو كل منهما‌ على الآخر‌ فضيلة خص بها القرآن سيرها اللّه بلطيف قدرته من أمره، ليكون آية بينة، ودلالة على صحة‌ ما دعا إليه من أمـر ديـنه.(الخـطابي، 32)

والقرآن معجز عنده لأنه‌ جـاء‌ بـأفصح‌ الألفـاظ في أحسن نظوم مضمنًا أصح المعاني، من توحيد له عزت قدرته، وتنزيه له في‌ صفاته‌، ودعا‌ الى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته من تحليل وتـحريم،  وحـظر وإبـاحة، ومن وعظ‌ وتقويم‌ وأمر بمعروف، ونهي عن مـنكر، وإرشـاد الى محاسن الأخلاق،  وزجر عن مساوئها واضعًا كل شي‌ء موضعه‌ الذي‌ لا يرى شي‌ء أولي منه، ولا يري في صورة العقل أمر أليـق‌ مـنه‌.(فـتحي، 46)

وبلاغة القرآن تجمع بين كل‌ هذه‌ الأساليب‌ جمعًا لا يتاح للبـشر مثله، لتصور معرفتهم‌ بأسماء‌ اللغة ومواصفاتها، وعمودها وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام‌ مـوضعه‌ الأخـص الأشـكل به، الذي إذا‌ أبدل‌ مكانه غيره‌ جاء‌ منه‌ تبدل المعنى الذي يفسد به الكـلام‌، أو‌ كـان به ذهاب الرونق الذي يختل معه البيان.(المرجع نفسه، 56)

والخطابي‌ بذلك‌ لا يوضح إعجاز القرآن على وجه‌ الذي نـرجوه، إنـّه كـان‌ يكتفي‌ بتقرير أساليب الكلام الجيد، ليجعل‌ بلاغة‌ القرآن تجمع بينها جمعًا لا يـتاح للبـشر مـثله، وهو تقرير أبلغ ما نصفه‌ به‌ أنه لم يتعمق في مدلول‌ وجه‌ الإعجاز‌ البلاغي لا مـن‌ حـيث‌ النـظم، ولا من حيث‌ ما‌ يستتبعه من وجوه المعاني والبيان.

ونأتي الى أحد أعلام المتكلمين على مـذهب الأشـاعرة وهو‌ أبو‌ بكر محمد بن الطيب الباقلاني وقد‌ عقد‌ فصلاً تحدث‌ فيه‌ عـن‌ وجـوه الإعـجاز القرآني، التي‌ يتضمن الإعجاز البلاغي.

يقول الباقلاني في الإعجاز البلاغي: «إنّه بديع النظم، عـجيب التـأليف، متناه في‌ البلاغة‌ الى الحد الذي يعلم عجز الخلق‌ عنه‌، والذي‌ أطلقه‌ العلماء‌ هو على هـذه‌ الجـملة‌، فالذي يشتمل عليه بديع نظمه، المتضمن للإعجاز. وجوه:

منها: ما يرجع الى الجملة، وذلك أن نظم‌ القرآن‌ على تـصرف وجوهه، وتباين مذاهبه، خارج عن المعهود‌ من‌ نظام‌ جميع‌ كلامهم‌، ومباين‌ للمـألوف مـن تـرتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به، ويتميز به، دون أساليب المعتاد من كلامهم، والمتأمل للقرآن يرى أنه خـارج عـن أصـناف كلام العرب، مخالف لأساليب خطابهم‌، وأنه معجز، وتلك خصوصية ترجع الى جملة القـرآن، وتـمييز خاص في جميعه.(الباقلاني، 53)

ومنها أن كلام العرب لا يشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والتصرف البديع والمعاني اللطـيفة،  والفـوائد الغريزة‌، والحكم‌ الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، على هذا الطـول،  وإنـما تنسب الى حكيمهم، كلمات معدودة، وألفاظ قليلة، وإلى شـاعرهـم قـصائد محصورة، يقع فيها كثير من الاختلاف، وتـشملها‌ ألوان‌ من التعمل والتكلف.

ومنها: أن عجيب نظمه، وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين على ما يـتصرف إليـه من الوجوه التي يتصرف مـنها مـن‌ ذكر‌ قـصص ومـواعيظ واحـتجاج، وحكم وأحكام‌، وإعذار‌ وإنذار، ووعد ووعـيد، وتـبشير وتخويف وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة، وشيم رفيعة، وسير مأثورة، وغير ذلك من الوجـوه التـي يشتمل عليها. (المصدر نفسه، 53)

ومن‌ تـأمل‌ نظم القرآن وجد جـميع‌ مـا‌ يتصرف فيه من الوجوه السـالفة الذكـر على حد واحد في حسن النظم، وبديع التأليف والرصف، لا يتفاوت ولا ينحظ عن المـنزلة العـليا.

والإعجاز كذلك مدرك في الآيـات الطـويلة والقـصيرة على حد‌ سـواء، مـدرك فيما يذكر من القـصة الواحـدة في المواقف المختلفة، ومن هنا فهو نهاية البلاغة، ولا يقدر عليه البشر.

ومنها: أن كلام الفـصحاء يـتفاوت تفاوتًا بينًا في الفصل والوصل، والعـلو‌ والنـزول‌ ممّا يـنقسم‌ إليـه الخـطاب عند النظم، وينصرف فـيه القول عند الضم والجمع ولكن القرآن على اختلاف فنونه، وما ينصرف‌ فيه من الوجوه الكـثيرة يـجعل المختلف كالمؤتلف والمتباين كالمتناسب، وهذا أمـر‌ عـجيب‌، تـبين‌ بـه الفـصاحة، وتظهر به البـلاغة ويـخرج به الكلام عن حد العادة، ويتجاوز العرف. (المصدر نفسه، 93)

ومنها ‌‌أن‌ نظم القرآن وقع موقعًا فـي البـلاغة يـخرج عن عادة كلام الجن، كما يخرج‌ عـن‌ عـادة‌ كـلام الإنـس، فـهم يـعجزون عن الاتيان بمثله كعجزنا، ويقصرون دونه كقصورنا، قال تعالى:

﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (الاسراء‌، 88)

ومـنها:أن الذي ينقسم عليه الخطاب من البسط والاقتصار، والجمع والتفريق، والاستعارة والتصريح، والتجوز والتحقيق، وغيره من الوجوه التي توجد في كلامهم، موجود في القرآن، ممّا يتجاوز حدود كلامهم المعتاد‌ بينهم، في الفـصاحة والإبـداع والبلاغة.

ومنها أن المعاني التي تضمنها القرآن في أصل وضع الشريعة والأحكام والاحتجاجات في أصل الدين، والرد على الملحدين، على تلك الألفاظ البديعية وموافقة بعضها بعضًا في‌ اللطف‌ والبراعة، مما يـتعذر على البشر ويمتنع. لأن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة أيسر من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة، فإذا برع اللفظ في المعنى البارع، كان ألطف وأعجب مـن أن يـوجد‌ اللفظ‌ البارع في المعنى المـتداول المـتكرر، فإذا أضيف التصرف البديع الى ما سبق، وكانت الألفاظ وفق معانيها، والمعاني وفق ألفاظها فالبراعة أظهر والفصاحة أتم. (المصدر السابق، 73)

وواضح مما سبق‌ أن‌ البـاقلاني لم يـزد في كتابه عن شـرحه أو قـل بعبارة أدق عن محاولة شرحه لما قاله الجاحظ من جمال النظم القرآني وما قاله الرماني من أنه-دون غيره من‌ بلاغة‌ البلغاء‌-في المرتبة الرفيعة من البلاغة‌ والبيان‌. ومضى‌ يرد تفسير هـذه المـرتبة بوجود البديع التي عدّها ابن المعتز وقدامة وأبو أحمد العسكري وغيرهم، كما ردّ تفسيرها بوجود البلاغة التي‌ ذكرها‌ الرماني‌، إلا أن يلاحظ في ذلك كله النظم وروعة‌ التأليف‌، فالمدار قبل كل شي على الصـياغة والنـظم. ولعلنا لا تـبعد إذا قلنا إنه أول من هاجم في قوة نظرية‌ إعجاز‌ القرآن‌ عن طريق تصوير ما فيه من وجوه البـديع، وأيضًا وجوه‌ البلاغة التي أحصاها الرماني. ومن هنا تأتي أهميته، إذ أعـدّ للبـحث عـن أسرار في نظم القرآن من شأنها‌ حين‌ توضّح‌ توضيحًا دقيقًا أن تقف الناس على إعجازه، وإن كنا نلاحظ-فـي‌ ‌ ‌الوقـت‌ نفسه-أنه لم يستطع أن يصور شيئًا من هذه الاسرار، إذ ظلت الفكرة عنده غامضة، وظـلت‌ مـستورة‌ فـي‌ ضباب كثيف. (شوقي ضيف، 114)

وأخيرًا فلم يستطع الباقلاني على النحو الذي‌ سبق‌ ذكره‌ أن يحدد مـفهوم النظم تحديدًا تندرج تحته كل آيات القرآن الكريم، طويلها وقصيرها، على الرغم‌ مـن‌ أنه أطنب وأطال فـي كـثير من وجوه الإعجاز، ولم يلبث أن عقد لنفي الشعر‌ عن‌ القرآن فصلاً وتلاه بفصل آخر ينفي فيه السجع‌ عنه، ومردّدًا ما ذكره الرماني‌ من‌ أن‌ الفواصل بلاغة والأسجاع عيب. إذ الفواصل تتبع المعنى أمـا السجع فيتبعه المعنى، ثم يتحدث‌ عن‌ وجوه البلاغة العشرة التي تحدث عنها الرماني في رسالته «النكت في إعجاز القرآن‌» وكأنه‌ رأي‌ فيها ما رآه في وجوه البديع التي رفض أن تكون من البـراهين على إعجاز القرآن‌، إذ‌ هي داخلة في نطاق القدرة البشرية، ويعيب على من يزعم أن الإعجاز‌ يؤخذ‌ من‌ تلك الوجوه. (فتحي، 66)

وأمّا أبو الحسن عبد الجبار الأسد آبادي قاضي قضاة الدولة البويهية‌ بـإيران‌ وأكـبر‌ أعلام المعتزلة في عصره، فقد عقد في كتابه فصلين في أولهما رأي‌ أستاذه‌ أبي هاشم الجبّائي في الفصاحة، وفي ثانيهما عرض رأيه الخاص في الوجه الذي يقع له التفاضل‌ في‌ فـصاحة الكـلام.

«قال شيخنا أبو هاشم: إنّما يكون الكلام فصيحًا لجزالة لفظه‌ وحسن‌ معناه، ولا بدّ من اعتبار الأمرين، لأنه‌ لو‌ كان‌ جزل اللفظ ركيك المعنى لم يعدّ فصيحًا‌، فإذن‌ يجب أن يكون جامعًا لهـذين الأمـرين. وليـس فصاحة الكلام بأن يكون له نـظم‌ مـخصوص‌، لأن الخـطيب عندهم قد يكون‌ أفصح‌ من الشاعر‌، والنظم‌ مختلف‌، إذا إريد بالنظم اختلاف الطريقة، وقد‌ يكون‌ النظم واحدًا وتقع المزية في الفصاحة، فـالمعتبر مـا ذكـرناه، لأنه الذي يتبين‌ في‌ كل نظم وكل طريقة، وإنـّما يـختص‌ النظم بأن يقع لبعض‌ الفصحاء‌: يسبق إليه، ثم يساويه فيه‌ غيره‌ من الفصحاء، فيساويه في ذلك النظم، ومن يفضل عـليه يـفضله فـي ذلك النظم‌ ».(عبد‌ الجبار، 199)

وكلام أبي هاشم‌ صريح‌ في‌ أن النظم لا‌ يـصلح‌ أن يكون مفسرًا لفصاحة‌ الكلام‌، لأن النظم قد يكون واحدًا، ويفضل أديب صاحبه فيه، وكأنه يرد بذلك على الجاحظ‌ وأمـثاله‌ الذيـن يـرجعون إعجاز القرآن الى نظمه‌ وطريقته‌، ويقول إنه‌ لا‌ يوجد‌ في الكلام إلا اللفظ‌ والمـعنى ولا ثـالث لهما، وإذن فلا بدّ أن يكون الفصاحة راجعة إليهما بحيث يكون اللفظ‌ جزلا‌ً والمعنى حسنًا، ويزيد عبد الجـبار الفـكرة‌ وضـوحًا».(شوقي‌ ضيف‌، 115‌-116)

ويقول عبد‌ الجبار‌ معقبًا على كلام أستاذه: «إنّ العادة لم تـجر بـأن يـختص واحد بنظم دون غيره، فصارت الطرق‌ التي‌ عليها‌ يقع نظم الكلام الفصيح معتادة، كما أن‌ قـدر‌ الفـصاحة‌ معتاد‌، فلا‌ بدّ‌ من مزية فيهما. ولذلك لا يصح عندنا أن يكون اختصاص القرآن بطريقة في النـظم دون الفـصاحة التي هي جزالة اللفظ وحسن المعني. ومتى قال القائل: إنّي وإن‌ اعتبرت طـريقة النـظم فـلا بد من اعتبار المزية في الفصاحة فقد عاد الى ما أردناه».(عبد الجبار، 199)

وأكبر الظـن أن عـبد الجبار إنّما يقصد في ردّ فكرة النظم عند‌ الباقلاني‌ وأضرابه من الأشعرية الذين كـانوا يـذهبون مـذهبه، وكأنه هو والجبّائي يقفان مع الرمّاني في محاولته بسط بلاغة الألفاظ والمعاني وتبيين وجوهها. وربـما كـانت الفكرتان تتقابلان عند المعتزلة والأشعرية طول‌ القرن‌ الرابع، وقد مثّل المعتزلة كـل مـن الرّمـّاني وأبي هاشم الجبّائي وعبد الجبار بينما مثّل الأشعرية الباقلاني. وكان عبد الجبار دقيق النظر، نـافذ البـصيرة‌ فـأحس‌ أن في فكرة أستاذه الجبائي‌ نقصًا‌، لأنه لم يلاحظ صورة تركيب الكلام، وهي أسـاسية فـي بلاغة العبارة وفصاحتها فعقد فصلاً تاليًا صوّر فيه رأيه في العلة التي بها يتفاضل الكلام‌ فـي‌ فـصاحته. (شوقي ضيف، 116‌)

اعلم‌ أنّ الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر فـي الكـلام بالضمّ على طريقة مخصوصة، ولا بدّ مع الضـم مـن أن يـكون لكل كلمة صفة، وقد يجوز في هـذه الصـفة‌ أن‌ تكون بالمواصفة التي تتناول الضم، وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه، وقد تـكون بـالموقع. وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابـع، لأنـه إما أمـا تـعتبر فـيه الكلمة، أو حركاتها، أو موقعها‌. ولا‌ بدّ من‌ هـذا الاعـتبار في كل كلمة. ثم لا بد من اعتبار مثله في الكلمات، إذا انضم بـعضها الى بعض، لأنه قد يكون لها عـند الانضمام صفة، وكذلك لكـيفية إعـرابها‌ وحركاتها‌ وموقعها‌. فعلى هذا الوجـه الذي ذكـرناه إنما تظهر مزية الفصاحة بهذه الوجوه دون ما عداها. فإن قال قائل‌:‌‌ فقد‌ قـلتم إن فـي جملة ما يدخل في الفـصاحة حـسن المعنى فهل اعتبرتموه؟ قيل له: إن‌ المـعاني‌ وأن‌ كان لا بدّ منها فـلا تـظهر فيه المزية... ولذلك نجد المعبرين عن المعنى الواحد يكون‌ أحدهما أفصح من الآخر والمعنى مـتفق.. عـلى أنا نعلم أن المعاني لا يقع‌ فيها تـزايد. فـإذن يجب‌ أن يـكون الذي يعتبر التزايد عنده الألفاظ التـي يعبر بما عنها.

فإذا صحت هذه الجملة فالذي تظهر به المزية ليس إلا الإبدال (الاختيار) الذي بـه تـختص الكلمات أو التقدم والتأخير الذي يختص‌ الموقع أو الحـركات التـي تـختص الإعـراب فـبذلك تقع المباينة بـين الكـلام». (عبد الجبار، 119) وعبد الجبار بتفسيره للفصاحة على هذا النحو يلتقي مع الأشعرية في قولهم بالنظم، لا بـالمعنى العـام الذي‌ فهمه‌ الجبائي، هو مطلق الأسلوب كأسلوب الشـعر وأسـلوب الخـطابة ونـحو ذلك، وإنـما بـالمعنى الخاص الذي يراد به أسلوب بليغ معين أو بعبارة أخرى طريقة أدائه في التعبير.

وحقًا إنّ الباقلاني لم‌ يستطع‌ أن يبين عن شي‌ء من هذا المعنى، ولكنه هو وأمثاله من الأشـعرية إنما كانوا يريدونه وعجزوا عن بيانه. والمهم أن عبد الجبار يودع بين أيدينا الآن مفاتيح النغم التي‌ استمد‌ عبد القاهر من توقيعه عليها كتابه «دلائل الإعجاز» (شوقي ضيف، 117)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) المصدر: http://www.ensani.ir


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2367
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 05 / 31
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28