• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : علوم القرآن الكريم .
                    • الموضوع : مزايا القُرآن البيانية* .

مزايا القُرآن البيانية*

سماحة آية الله العظمى الشيخ جعفر السبحاني

حيث إنه لا يسع المقام الإتيان بجميع ما ذكره المحققون عن مزايا القرآن البيانية، نأتي ببعض هذه المزايا.

1- الصراحة في بيان الحقائق

إنّ الصراحة إحدى الميزات الّتي يتصف بها القرآن الكريم، وتظهر بوضوح في آياته. فمن ذلك صراحته في التنديد بالوثنية، والطعن في الأصنام المعبودة يومذاك، ودعوته إلى تحطيمها.

يقول سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوب﴾ [الحج:72].

إنّ الصراحة وليدة الشجاعة المختمرة بالإيمان، في حين أنّ السكوت عن الحق، أو التلوّن والتحفظ في الحديث، دليلٌ على جُبْن القائل وعدم اعتقاده بالقول الّذي يلقيه على الناس، وتخوّفه من المستمعين.

غير انّ هذا الكتاب المعجز، منزّه عن هذه الوصمات. فهذا هتافه في أُذن الكافرين، يقول: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِي دِين﴾ [سورة الكافرون].

هذه هي سيرة الأنبياء العظام، فهم يمتلكون الصراحة في البيان، ويمتازون بها عن غيرهم، فيعلنون الحقائق، بلا تتعتع ولا تحفّظ. هذا هو إبراهيم الخليل بطل التوحد يندد بعمل عبدة الأصنام بقوله: ﴿أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ * أُفّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء:66-67].

قل لي بربِّك، هل تجدُ كلاماً أصرح وأمتن وأبلغ في التنديد بمن يتحذ ولياً غير الله من قوله سبحانه: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتا ًوَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون﴾ [العنكبوت:41].

وليست الصراحة ميزة القرآن في مجال المعارف والعقائد فحسب، بل هي سارية أيضاً في مجال العلاقات السياسية، فها هو يقول: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة:16].

هذه إلمامَةٌ عابرة في تبيين هذه الميزة تُعْرِب عن إيمان القائل وإذعانه بما يقول ويطرح في مختلف المجالات والأصعدة.

2- علوّ الجهة المنزل منها القرآن

ومن مزايا بيان القرآن، تَكَلُّمه من موقع الاستعلاء وتحدّثه بلسان من يملك الأمر كلّه، ومن بيده ملكوت السموات والأرض، وفي قبضته كلُّ شيء. فهو في مخاطباته ومجادلاته وأَوامره ونواهيه، وفي وعده ووعيده، وفي أمثاله وقصصه، وفي مواعظه ونُذُره، يتَّسم بالعلو الشامخ، ويتصدر المقام الرفيع الّذي لا يُنال، ويتحدث إلى الناس حديث من يملك كل شيء، ومن يقول على كل شيء، ومن يُدَبّر ويُقَدّر، دون أن يقف أحد أمام سلطانه، فاستمع لقوله سبحانه:

﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ (المُلْك:1-4).

وقوله سبحانه: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (المُلْك: 13-14).

وقوله سبحانه: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ (يونس:31-32)

3- العفّة والاحتشام

امتاز القرآن المجيد في تعابيره بالنزاهة والعفة، مع أنّه ظهر في بيئة لا تعرف للعفَّة مفهوماً، فلا تجد فيه تعبيراً سيئاً، ومَنْهجاً ركيكاً، يخالف الأدب حتى في سرده لقصة غرامية، هي قصة يوسف وزُلَيْخاء، قِصَّةُ عشق امرأة حسنة فاتنة، لفتى طاهر جميل، يُخْجِل وجهُهُ القَمرَ.

إنّ الكاتب في حقل القصص عندما يسرد أمثال هذه القصة الغرامية، لا يملك زمام قلمه، ويخرج عن النزاهة والعفة، ولكن القرآن قد شرح تلك القصة وصوّرها ووضع خطوطها الغرامية بدقة فائقة في البيان، مع وافر الاحتشام والاتزان.

فعندما يعرض اجتماع هذه المرأة الجميلة، مع ذاك الشاب الطاهر، واختلاءهما في بيتها، وتعلّقها به، يشرح تلك الواقعة من غير أن يثير الغريزة الجنسية الحيوانية، لئلا يناقض هدفه الّذي لأجله جاء بها ويقول: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُون﴾ (يوسف:23).

ففي هذه الآية تتجلى عفة القرآن واحتشامه من جهات:

أوّلاً: استعمل كلمة «راود»، وهي تستعمل في الإصرار على الطلب مع اللّين والعطف، فكأنّ زليخا طلبت من يوسف ما طلبت بإصرار وحنان.

وثانياً: لم يصرّح باسم المرأة، حفظاً لكرامتها، وإنّما عبّر عنها بقوله: ﴿الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا﴾، مشيراً إضافة إلى ذلك إلى قوة الضغط وشدّة سيطرتها على يوسف، فزمام أمره بيدها، ولا مجال للهروب والتخلص منها، لأنّه في بيتها.

وثالثاً: قالت الآية: ﴿وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ﴾، إعراباً عن أَنّ يوسف لم يجد باباً للفرار، وكانت مقدمات الاستسلام مهيأة.

ورابعاً: وقالت الآية: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾، وهذه كناية عن دعوتها إيّاه إلى التلذذ الجنسي، لكن بكناية فائقة، فإنّ هَيْتَ لك، اسم فعل بمعنى هَلمّ.

خامساً: أجاب يوسف طلبها بقوله: ﴿مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾، أي أعوذ بالله معاذاً. فيعرب عن أنّ يوسف لم يعرف خيانة، ولم يَدُرْ بخلده أنْ يخون صاحبه (العزيز) ومُنْعِمَه ومربّيه، في امرأته. والضمير في «إنّه»، يرجع إلى «العزيز». ولأجل ذلك بعدما اتّضحت الحقيقة، وبانت خيانة الامرأة، أرسل يوسف من أعماق زنزانته إلى الملك، ووزيره «العزيز»، بقوله: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ (يوسف:52) [لاحظ: الميزان، ج 11، ص 215].

وفي القصة مسرحية غرامية أُخرى هي دعوة امرأة العزيز، نِسْوَةَ أَشرافِ المدينة إلى مأدُبة ليقفن على بهاء جمال هذا الفتى، وأَنّ التعلق به ليس أَمْراً اختيارياً، بل كل من رآه يتعلق فؤاده به في أول لقاء. ويحكيه القرآن بقوله: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ (يوسف:30-31).

أنظر إلى العفة والاحتشام في التعبير عن جمال يوسف حيث قال: ﴿أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾.

كل ذلك يعرب عن أنّ القصة سُردت على أساس الدعوة إلى العفة والعبرة، والانصراف عن الانهماك في الشهوات. فهل يستطيع إنسان أُمِّي، غير متعلم، ترعرع بين شعب متوحش، أن يعرض تلك المسرحية الغرامية، ولا يخرج عن حدود العفة ونطاق النزاهة؟ كلا، لا.

هذه بعض الميزات الموجودة في بيان القرآن الكريم، والممعن في الذكر الحكيم يجد له ميزات كثيرة سامية يستنتج من مجموعها أنّ هذا الكتاب ليس نتاج وإبداع إنسان أُمّي ولد ونشأَ في أُمّة متقهقرة، بل هو كتاب إلهي نزل على ضميره وقلبه; (لِيَكُونَ مِنَ المُنْذِرينَ) اقتباس من قوله سبحانه: ﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ [اقتباس من قوله سبحانه: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ (الشعراء:193-194)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) الإلهيات، آية الله جعفر السبحاني، موقع مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)، ج3، ص331-336.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2373
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 06 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28