• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 90 ـ في تفسير سورة البلد .

90 ـ في تفسير سورة البلد

العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)﴾

1 ـ إن القسم الوارد في هذه السورة والمسبوق بـ (لا) النافية يمكن تفسيره بوجوه، وهي تسري على سائر الموارد المشابهة، ومن هذه الوجوه:

 * إن نفي القسم  ـ الوارد في هذه السورة ـ هو نفي حقيقي، بمعنى: أن الله تعالى لا يقسم ببلد مثل مكة والنبي (صلّى الله عليه وآله) فيها مهدور الدم مباح العرض، فإن مكة ـ على شرافتها ـ لا يُقسم بها وهذا حال النبي (صلّى الله عليه وآله) فيها، وعلى هذا التقدير فإن نفي القسم فيه كمال التعظيم للنبي (صلّى الله عليه وآله).

* إن الأمر في المُقسم عليه ـ بناء على النفي حقيقة ـ إنما هو على درجة من الانكشاف حذف لا يحتاج معه إلى القسم.

 * إن القسم على حقيقته، وتكون (لا) للتأكيد، كما جاء في ثمانية موارد اُخرى من القرآن الكريم، ومعناه على هذا التقدير: (إنني أقسم بهذا البلد وأنت مقيم وحالّ فيه)؛ أي: إن هذه البقعة على شرافتها تستحق القسم بها لشرافة اُخرى متمثلة في إقامة النبي (صلّى الله عليه وآله) فيها، فعاد الأمر تعظيماً له أيضاً.

2 ـ إنْ جعلنا المراد بـ ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ خصوص إبراهيم الخليل وولده إسماعيل (عليهما السلام) ـ ليناسب ذكر مكة في صدر السورة ـ فإن السورة تكون فيها إشارة لرموز التوحيد البشرية المتمثلة: بإبراهيم ﴿وَوَالِدٍ وإسماعيل ﴿وَمَا وَلَدَ والنبي الخاتم ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وإشارة إلى رموز التوحيد المادية: كمكة المكرمة ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، ولا يخفى ما في مجموع القرآن الكريم من كثير الثناء على باني الكعبة وولده وزوجته، فإن الله تعالى شكور لمَن صار له حق على توحيده في الأرض! والملاحظ هنا أن الله تعالى ذكر الوالد بتعبير النكرة للتعظيم، والولد بتعبير (ما) عدولاً عن (من) للدلالة على التعجب، وهذا بدوره دليل على علو شأنهما أيضاً كقوله تعالى: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [آل عمران: 36].

3 ـ إن القرآن الكريم يهيّئ العباد لتحمّل شيء من العناء طوال فترة عيشهم في هذه الحياة الدنيا، فلا يُفاجأ العبد بما يلاقيه من مشقة؛ لأنه سوف يجني ثمار أتعابه كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق: 6] وفي هذه السورة دلالة على أن الإنسان وكأنه خُلق في المشقة والتعب مبالغة لوصف الحالة ـ وهذه المشقة لازمت خلقته حين كان في بطن أمه إلى حين ولادته؛ حيث ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ثم ﴿وَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف: 15] ولازمَته هذه المشقة في جميع مراحل حياته المختلفة: ككسبه للعيش، ومواجهته لإيذاء الغير إلى حين موته. ومن المعلوم أن علمه بملازمة المشقة له طوال عمره من موجبات الانقطاع إلى الله تعالى؛ الذي بيده رفع الشدائد أو تخفيف وقْعها عليه.

4 ـ يرى البعض أن الكبَد المشار إليه في قوله تعالى: ﴿فِي كَبَدٍ بمعنى الاستواء والاستقامة، فيكون معنى الآية مماثلاً لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4] وهذا المعنى يناسب ما سنتناوله في الآيات اللاحقة من بيان وجوه الاستقامة في الخلق: من خلقة العين، واللسان، والشفة، وهو ما يناسب أيضاً دعوة العباد للمراقبة ـ بعد رؤية هذا الخلق البديع ـ بقوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ وللإنفاق في سبيله شكراً على هذه النعم بقوله: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [البلد: 13-14].

5 ـ إن من وجوه المقابلة بين الدنيا والآخرة هو: أن الله تعالى خلق الإنسان في الدنيا ملازماً للمشقة والتعب، والحال أنه خلق الراحة والأمان في الآخرة بفارق: أن مشقة الدنيا فانية زائلة بالموت، وراحة الآخرة باقية أبدية بالخلود؛ فأي عاقل لا يشتري الراحة الأبدية بالمشقة الفانية؟! فالحق في المقام ما قيل من أنه لو كانت الدنيا ذهباً فانياً والآخرة خزفاً باقياً؛ لكانت الآخرة خيراً من الدنيا، فكيف والدنيا خزف فإن والآخرة ذهب باقٍ!

6 ـ إن القرآن الكريم أورد في هذه السورة ذكر مَن ينفق مالاً كثيراً لُبداً حذف ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا وهؤلاء على أقسام:

* منهم من ينفق ماله رياءً فيناسبه القول: بأن الله تعالى يراه، ويرى عمله، والنية التي صدرت منها الأعمال رياءً ونحوها ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ؟!

* ومنهم مَن ينفق ماله في محاربة الدعوة الإلهية وإيذاء النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) فيناسبه القول: بأن الله تعالى قادر على أخذه وطمس ماله ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟!

* ومنهم مَن ينفق ماله وهو يمنّ على الله تعالى بأن جعله للفقراء والمساكين، كالذي قال في زمان النبي (صلّى الله عليه وآله): (لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات، منذ دخلت في دين محمد) فيناسبه القول: بأن الله تعالى هو صاحب المنّة العظمى عليه، حيث جعل ﴿لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ.

7 ـ إن القرآن الكريم مليء بالآيات الداعية للرجوع إلى النفس، لحمْلها على الالتفات إلى عالم الغيب لما يوجبه ذلك من الانقطاع إلى الله تعالى باطناً، ومراقبة السلوك ظاهراً؛ ومن هذه الآيات قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى [العلق: 14] ومنها أيضاً: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] ومنها ما ورد في هذه السورة كقوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ فإن الله تعالى يرى العبد في كل تقلباته، أضف إلى كونه في قبضة الله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فكون الإنسان في شدة وتعب  يوجب له الخشوع الباطني، وهو مدعاة ـ إن لم يكن ملازماً ـ للخضوع والخشوع الخارجي.

8 ـ إن المشكلة في كل مَن انحرف عن طريق الهداية هو أنه رأى الوجود من خلال نفسه، فلم يعتقد بحقائقه إلا بقدر ما صوّره لنفسه، وأنكر منها ما بنى هو على إنكاره مكابرة من دون برهان قاطع، ومن هنا أنكرت الآيتان عليهم قائلة ﴿أَيَحْسَبُ مرتين.

 وعليه، فإن الخلاص ممّا هم فيه يكون بتغيير هذا الحسبان على وفق ما يريده المولى، الذي يرى العبد من ناحية ويقدر عليه من ناحية اُخرى، والملفت أن هؤلاء بحسبانهم أنكروا أمرين واضحين لكل ذي لب: الأول أنه لا يراه أحد والثاني أنه لا يقدر عليه أحد؛ فيا له من حسبان سخيف!

﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)﴾

9 ـ إن الآيات الكريمة تشير في أكثر من سبعين مورداً للجعل في عالم المحسوس وغيره، ومنه ما في هذه السورة من ذِكر موارد الجعل فقال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ وعدّاه إلى أكثر مظهر من مظاهر قدرته، إلا أن القضية لا تنتهي عند الجعل والمجعول ـ فذاك شأن الربوبية ـ وإنما المهم فيمَن يدرك هذا الجعل ويحوّله إلى أداة للاعتبار، والإحساس بمنّة الجاعل وقدرته، وهذا هو المطلوب من شأن العبودية.

10 ـ لا يحتاج العبد لمعرفة عظيم منّة الله تعالى إلى السفر في الآفاق، أو الغوص في أعماق النفس، بل يكفي أن ينظر إلى ما في بدنه، وعلى الخصوص إلى الآيات الباهرة التي أودعها الله تعالى في رأسه من ﴿عَيْنَيْنِ وعجائبها، فهي بالإضافة إلى أنها أداة الإبصار، فهي أيضاً وسيلة لنقل الأحاسيس والعواطف، بل التأثير الروحي كما هو معروف ﴿وَلِسَانًا يؤدي من الأغراض ما يُبهر من: المضغ، والنطق، وترطيب الطعام، ومن ﴿شَفَتَيْنِ بهما قوام النطق، فهي آخر مخارج الحروف بعد الحلق وفضاء الفم. ولا يخفى أن عملية النطق باللسان والشفتين من أعقد العمليات في الوجود، لما يصاحبها من التفكير غير المحسوس ثم التعبير عنه بالمحسوس؛ وبمجموع العمليتين انتقلت المعارف البشرية بكل صورها.

وبعبارة جامعة يمكن القول: بأن التأمل في الوجود الإنساني مادةً وروحاً، محقق للسير الآفاقي والأنفسي معاً.

11 ـ إن الله تعالى كثيراً ما يؤكد على حقيقة الهداية الباطنية، فمنها ما في قوله تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس: 8] ومنها ما في هذه السورة حيث يقول تعالى: ﴿وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ولا يخفى ما في كلمة ﴿النَّجْدَيْنِ من لطف، حيث تدل على الطريق المرتفع، فأصل الطريق يمهد السلوك لسالكه، فكيف إذا كان مرتفعاً وواضح المعالم! والسر في التأكيد على هذه الحقيقة: هو أن لا يحتجّ أحد بعدم وجود مذكِّر له عند ارتكاب ما يعرفه من القبائح بالفطرة: كالكذب والظلم وأشباهه، إذ إن استنكار الضمير من أفصح المحتجّين في باطن كل إنسان!

12 ـ لا تخفى المناسبة بين العينين والشفتين من ناحية، والنجدين من ناحية اُخرى، فإن الله تعالى كما جعل أدوات تحكّم في الباطن متمثلة بالمعرفة الوجدانية للخير والشر؛ فإنه جعل أيضاً أدوات تحكّم في الظاهر من العينين اللتين بإمكانهما غضّ البصر، والشفتين اللتين بإمكانهما حبس اللسان من دون مشقة زائدة. وعليه فإنه لا عذر لمَن أطلق بصره ولسانه، سواء في حرام أو فضول.

13 ـ إن المطلوب من العبد في هذه الحياة أن يقتحم العقبات ـ وهو الدخول في الشيء بسرعة ـ والمتحقق من خلال تجاوز هوى النفس ومشتهياتها، فكما أن البِرّ لا يُنال إلا بالإنفاق ممّا يحبه العبد؛ فكذلك الأمر بالنسبة إلى اقتحام موانع السير إلى الله تعالى؛ فإنه لا يتم إلا في موارد العمل بما يشق على النفس مثل ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ وهو ممّا قد يستلزم المال الكثير، والإنفاق عند القحط ﴿إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ بفارق:

أن في الأول: تخليص إنسان بكامله من قيد الرق.

وفي الثاني: تخليصه من خصوص الجوع.

وقد بلغ الأمر من الأهمية إلى درجة عبّر عنه القرآن الكريم: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ الذي لا يُستعمل إلا في موارد يصعب على العباد استيعاب حقائقها، فكان ما خفي عنهم من الجزاء ممّا لا يمكن تصوّره!

14 ـ إن المؤمن عندما يريد أن ينفق مالاً في سبيل الله تعالى أو يُطعم طعاماً في حبه؛ فإنه ينظر إلى الأقرب لمرضاته تعالى في جزئيات ذلك العمل القربي.

وبعبارة اُخرى: هو حريص على اختيار أفضل المصاديق لذلك العنوان العام، وفي هذه الآيات دلالة على بعض العناوين المرجحة بعد إحراز أصل الحاجة، فمنها:

 * اليتم ﴿يَتِيمًا لما يعانيه من آلام فقْد مَن كان يرعاه.

 * القرب النسبي ﴿ذَا مَقْرَبَةٍ.

 * شدة الفقر ﴿ذَا مَتْرَبَةٍ وكأنه التصق بالتراب لشدة فقره.

 * اختيار الأيام التي تعظم فيها الحاجة كأيام المجاعة ﴿فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ.

15 ـ إن الآيات بظاهرها ناظرة إلى فكّ الرقاب وإطعام البطون في دائرة المحسوس ويُعدّ ذلك اقتحاماً للعقبة، مع الالتفات إلى أن الآيات لم تقيّد المُنفَق عليهم بقيد الإيمان أو الإسلام، فكيف إذا كان الأمر في دائرة المعقول، أي: مَن فكّ رقبة عبد مسلم آبق من النار، أو هدى مؤمناً ضالاً فأطعمه من طعام عالم المعنى، أو تكفّل يتيماً من يتامى آل محمد (صلّى الله عليه وآله)؛ فأي جزاء ينتظر مثل هذا العبد يوم القيامة؟! ويؤيد هذا المعنى ما ورد في الخبر: (أن الله تعالى أوحى إلى موسى: حببني إلى خلقي وحبب خلقي إلى، قال: يا رب كيف أفعل؟ قال: ذكّرهم آلائي ونعمائي ليحبوني، فلإن ترد آبقاً عن بابي، أو ضالاً عن فنائي أفضل لك من عبادة مائة سنة بصيام نهارها، وقيام ليلها، قال موسى (عليه السلام): ومن هذا العبد الآبق منك؟.. قال: العاصي المتمرد).

﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)﴾.

16 ـ إن الإنفاق ـ وخاصة في أيام الشدة ـ مظهر من مظاهر اقتحام العقبة وهو يتعلّق بجوارح العبد في عالم الأفعال، وهناك مظهر آخر لاقتحامها يتعلّق بجوانحه ـ أي بنفسه ـ يتمثل في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ وهذه المرتبة الباطنية أرقى من المرتبة الخارجية؛ لأن أفعال الجوارح تصدر عن حركات الجوانح، ولعله من هنا عطف عليه بأداة (ثم) للدلالة هنا على التراخي في الرتبة لا في الزمان؛ وعليه فإنه لا بد من البناء الباطني بموازاة العمل الخارجي من:

 * الإيمان الَّذِينَ آمَنُوا إذ مع عدم وجود البنية الاعتقادية الصحيحة لا مجال للتكامل أبداً.

 * امتلاك حالة باطنية من الحرص على تكامل العباد ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ تتمثل بالتواصي بالصبر سواء في مجال: البلاء، أو الطاعة، أو الصبر عن الحرام.

 * الشفقة على الخلق تتمثل بالتواصي بالمرحمة فيما بينهم ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ليجمع بذلك أداء حق الخالق والمخلوق كما في سورة العصر: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 3] ومن مصاديق الحق هو التواصي بالمرحمة.

17 ـ جرت عادة القرآن الكريم على ذكر العمل الصالح معطوفاً على الإيمان، ولكن في هذه السورة عدل إلى ذكر التواصي بالصبر وبالمرحمة ولا غرابة في ذلك! إذ إنه بمجموعهما يتحقق العمل الصالح ندباً كان أو فرضاً، بالإضافة إلى وجود مزيّتين إضافيتين في التعبير بالتواصي بالصبر والمرحمة ألا وهما:

 * أن بهذا التواصي يتحقق شيوع العمل الصالح في المجتمع.

 * أن بهذا التواصي يحقق الأساس الثابت للعمل الصالح: فمَن تحلّى بالصبر، وتحسس حالة المرحمة تجاه العباد؛ كان ذلك مدعاة للعمل الصالح.

18 ـ إن التكامل في المجتمع الإيماني لا يتم بعمل طائفة منهم بوظيفته من توصية الآخرين فحسب، لينقسم الناس بعدها إلى واعظ وسامع للموعظة، وإنما المطلوب هي هذه الحالة من تبادل الوصية ﴿وَتَوَاصَوْا بمعنى أن يكون كل واحد منهم واعظاً ومتعظاً في وقت واحد، وذلك لاعتراء الغفلة والسهو جميع البشر إلا مَن عصمه الله تعالى، ومن المعلوم أنه بهذا التواصي تتحول الأفعال إلى حالات، ثم إلى عادات، ثم إلى ملكات؛ وهي قمة المراد.

19 ـ إن الله تعالى من خلال كتابه الكريم يُعلّم العباد أسلوب الدعوة إليه، فهو رغم أنه مالك كل شيء ومليكه، وله الحق أن يطلب من عباده التعبّد بأوامره ونواهيه إلا أنه يتوّدد إليهم بصنوف الحديث، وفي هذه السورة صور من أساليب التأثير على العباد فيذكر لهم:

 * المصاديق بدلاً من الدعوة العامة المبهمة، فذكَر العتق والإنفاق في يوم مجاعة، وعلى خصوص الأيتام من ذوي القربي، وعلى المساكين مدقعي الفقر.

 * ما يثير شكرهم الموجب للتعلق بخالقهم وذلك من خلال خلقة العين، واللسان، والشفتين.

 * ما يوجب التفات غير المؤمنين إليهم، وذلك عندما عمّم الدعوة إلى الخير بما يشمل غير المسلمين كالعتق لهم، والإنفاق عليهم.

 * ما لا يوجب استعلاء طبقة خاصة على أنهم الوعاظ وأن غيرهم دونهم بدرجة، فكان الأمر بالتواصي بالصبر.

 * ما فيه صلاح معاشهم في الدنيا أيضاً لئلا تنحصر همّتهم في الآخرة فحسب، فكان الأمر بالتواصي بالمرحمة!

20 ـ إن عامة الناس يرون اليُمن والشؤم في أمور باطلة كطيران الغراب وما شابه ذلك، والآيات الأخيرة من هذه السورة المباركة تريد أن تثبت ذلك بما يتعلق بخواتيم الأمور في الدار الآخرة فإن ﴿أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ هم مَن اجتازوا الصراط بسلام، و ﴿أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَن كانوا على خلاف ذلك وكلاهما يتحددان في دار الدنيا على قصرها، ومن المعلوم أن اللؤم والشؤم متلازمان، كما أن الكرم واليُمن كذلك، وهو ما يُفهم من هذا الحوار الذي جرى مع سلمان المحمدي عندما قيل له: مَن أنت، وما قيمتك؟! فقال: (أمّا أوّلي وأوّلُك فنطفة قذرة، وأمّا آخري وآخرك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة، ونصبت الموازين: فمن ثقلت موازينه فهو الكريم، ومن خفت موازينه فهو اللئيم).

21 ـ إن آية العذاب في هذه السورة لم تفصّل في أنواعه، ولكن يكفي للردع عنها أنها استعملت النار بصيغة النكرة للدلالة على تعظيمها! أضف إلى ذكر ما يزيد في عذابها عذاباً ألا وهو أن هذه النار مطبقة عليهم من جهة العلو أيضاً، إذ صار التعبير بـ ﴿عَلَيْهِمْ فكان في حكم قوله تعالى: ﴿أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف: 29].

وعليه، فإن إحساس المُعذَّب بالنار بأنه لا مجال للفرار منها يزيده عذاباً وإيلاماً، أضف إليها تحقق ذلك الخلود الذي طالما ذُكر جزاء للكافرين المكذبين بآيات الله تعالى.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2428
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 11 / 28
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28