• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 87 ـ في تفسير سورة الأعلى .

87 ـ في تفسير سورة الأعلى

العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى‏ (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى‏ (5)

1- إنّ القرآن الكريم كما يذكر التنزيه منتسباً إلى الربّ ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ، فإنّه يطلب تنزيه اسمه الكريم أيضاً ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ، وكما أنّه يسند المباركة تارةً إلى ذاته المقدَّسة ﴿تَبَارَكَ اللَّهُ، فإنّه أيضاً يسندها إلى اسمه الكريم ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ؛ ممّا يدلّ على وجود خصوصيّة للألفاظ المنتسبة إليه تعالى، ومن هنا لزم تسبيحها إضافة إلى تسبيح الذات. والدرس العملي من ذلك: أنّ كلّ منتسب إليه خارج ذاته، يكتسب التقديس أيضاً؛ لأنّ قدسه مفاض على كلّ ما سواه فيما لو كان قابلاً للفيض المقدّس.

2- اختلف المفسّرون حول المراد من تسبيح الاسم ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ، إذ المطلوب ـ حسب الفهم الأوّلي ـ هو تسبيح الذات، فقال قوم: أنّه لا مانع من تنزيه الاسم، بمعنى عدم ذكر اسمه تعالى في سياق ذكر من يشرك به؛ كاللات والعزّى، أو ذكر آلهة الكفّار بسوء، ليثير انتقامهم بذكر الله تعالى بما لا يليق به ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، أو ذكر الله تعالى على نحو الابتذال؛ كذكر الغافلين له. والدرس العملي ـ على هذا الوجه ـ: أنّه لا بدّ للعبد الملتفت من توقير الاسم والمسمّى، ومن هنا جاءت التشريعات الخاصّة بظاهر الاسم من عدم اللّمس إلا بطهور، وعدم إجرائه على اللّسان إلا بقلب ملتفت.

3- قيل: إنّ المراد من تسبيح الاسم: تسبيح المسمّى في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله، وفي أسمائه، وفي أحكامه. أمّا تنزيهه في ذاته: فأن يعتقد أنّها ليست من الجواهر والأعراض، وأمّا في صفاته: فأن يعتقد أنّها ليست محدثة، ولا متناهية، ولا ناقصة، وأمّا في أفعاله: فأن يعتقد أنّه مالك مطلق، فلا اعتراض لأحد عليه في أمر من الاُمور، وأمّا في أسمائه: فأن لا يذكر سبحانه إلا بالأسماء التي ورد التوقيف بها، وأمّا في أحكامه: فهو أن يعلم أنّه ما كلّفنا لنفع يعود إليه. والدرس العملي من ذلك كلّه: أنّه كلّما اتّسعت دائرة التقديس الإلهي لدى العبد؛ كلّما عظم تعظيمه لربّه، وسعى في تنزيه ذاته وأفعاله وصفاته أيضاً من شوائب الشرك الجليّة منها والخفيّة.

4- إنّ التعبير بالأعلى في ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى يقارب مضمون التكبير الذي يعني: التنزّه من أن يوصف، ومفاد الأعلى هنا هو التنزّه من أن يحيط به وهم أو خيال، فكانت الآية قريناً لقوله تعالى: ﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا، ومن الملفت قول الإمام الباقر (عليه السلام): إذا قرأت ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فقل: سبحان ربّي الأعلى، وإن كان فيما بينك وبين نفسك، ففيها إشارة إلى صورة من صور الذكر في النفس، فلا ينبغي حصر الذكر بما كان لفظيّاً فقط، ويؤيّد ذلك قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ في‏ نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ.

5- إنّ القرآن كثيراً ما يربط بين الربوبيّة والخالقيّة، وذلك لأنّ الأوّل من سنخ المعقول، إذ إنّ إدراك هذا المقام المنيع يحتاج إلى نفوس قابلة بخلاف الثاني، فإنّ له ارتباطاً بالمحسوس، ومن هنا نرى في دعوة الأنبياء إشارة إلى مبدأ الخالقيّة التي يمكن ملاحظة آثارها في الوجود بأدنى تأمّل، فهذا نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام) يذكر ذلك بقوله: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وقال موسى (عليه السلام): ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏. وأمّا محمّد (ص)، فإنّ أوّل ما اُنزل عليه هو قوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، ومن المعلوم أنّ الالتفات إلى عظمة الخالقيّة، يوجب عمق الخضوع في العبادة، وتزايد الشكر في النعم.

6- إنّ القرآن الكريم بعد ذكر أصل مبدأ الخلقة، يذكر مصاديق لذلك من باب تثبيت أصل الأمر بذكر فروعه، ولتمرين العباد على التجوال في الآفاق والأنفس، فذكر:

- أمراً معنويّاً يتمثّل بقوله: ﴿قَدَّرَ فَهَدى؛ إذ إنّ التقدير في عالم الغيب أمر خفي، والهداية بعد التقدير أيضاً تصرّف خفي فيما خلق.

 - وأمراً مادّياً يتمثّل في قوله: ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى‏ * فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى، فعلف الدوابّ وما يؤول إليه من السماد الأسود، لهو أمر مشهود بالعيان.

7- إنّ المهمّ عند النظر إلى عالم الخلقة، هو الالتفات إلى ما وراءها من اليد الحكيمة، وإلا فما قيمة التوغّل في كشف مجاهيل الوجود من دون ربطها بموجدها ربطاً يوجب الخشوع والإيمان! ومن هنا أشارت الآية ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى إلى تسوية الخلق بعد الإشارة إلى أصل الخلق، وهو أمر يحتاج إلى تأمّل المتأمّلين، ليدركوا التسوية والتنسيق في عالم الخلق، وأشارت الآية ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى إلى الهداية بعد التقدير، وهو أيضاً يحتاج إلى تأمّل ذوي اللّبّ أيضاً! فإنّ الكافر ينسب اهتداء كلّ موجود لغايته التي خُلق من أجلها إلى الطبيعة الصمّاء، والحال أنّ الله تعالى أسند إلى نفسه الهدايتين: التكوينيّة ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىْ، والتشريعية ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ.

8- إنّ القرآن أشار في آيات متعدّدة إلى عدم الاغترار بما تنبت الأرض من زاهي النبات، ومنه ما في هذه السورة في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً، وقوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً؛ ليكون درساً لعدم الاغترار بمجمل متاع الدنيا! فإنّ شهود فنائيّة النبات، لا يحتاج إلى زمن طويل، فيكفي انقضاء فصل ربيع واحد للتحقّق من ذلك. وعليه، فإنّه ينبغي قياس كلّ ما على الأرض ـ ممّا هو زينة لها ـ على ذلك.

﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى‏ (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى‏ (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى‏ (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى‏ (13)

9- لا تخفى المناسبة بين الأمر بالتسبيح، والوعد بالإقراء وعدم الإنساء ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى، واللّذين بهما يتحقّق تمكين القرآن في نفس النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، ممّا يُعلم منه أنّ الالتفات إلى المولى وتنزيهه المذكور في آية سابقة ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى مقدّمة للعناية الخاصّة الموعودة، أضف إلى أنّ حمل همّ الدعوة من موجبات التسديد أيضاً، فهذا اللّطف مرتبط كذلك بآية لاحقة ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى، وهو أنّ الله تعالى يعلم ما يجري في نفس النبي (صلّى الله عليه وآله) من الحرص على تلقّي القرآن الكريم كما أنزله الله تعالى، وهذا ما تُشير إليه الآية الكريمة: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِه.

10- إنّ اللّطف الإلهي مهما كان عظيماً على العبد، إلا إنّه لا بدّ من تحقّق موجبات حفظه أوّلاً، واستمرار الموجب ثانياً، وإلا فما فائدة الإقراء من دون تجنيب صاحبه من النسيان؟! وما فائدة هذا التجنيب إذا لم يكن مستمرّاً؟! فإنّ الله تعالى ـ رغم وعده لحبيبه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) بذلك ـ إلا إنّه علّق ذلك على المشيئة؛ ممّا يجعل العبد يعيش حالة الخوف والرجاء حتى بالنسبة إلى خاتم أنبيائه! ومن هنا عبّرت آية اُخرى بصريح القول: ﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وهذه القاعدة سارية حتى على من أنعم الله تعالى عليه بالخلود في الجنّة؛ إذ يقول تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ، فالمُلاحظ في الآيتين أنّ هناك تأكيداً على حاكميّة الله تعالى على الوجود برمّته وفي كلّ الحالات.

11- إنّ الجهر يُراد به ما كان واضحاً في عالم المحسوسات السمعيّة والبصريّة، فيقابله ما كان خفيّاً في ذلك العالم أيضاً؛ كالمسموعات والمرئيّات التي لا تتناولها الحواس إلا بآلات خاصّة، وتتجلّى عظمة المولى في أنّه يدركها من دون ذلك كلّه. وقد يُراد به ما لم يكن قابلاً للإدراك البشري أصلاً، لعدم قابليّة المخلوق لمواجهة تلك الحقائق، فتتجلّى عظمة المولى في تخصيص نفسه بدائرة من الحقائق استأثرها لنفسه، ولم تخرج منه إلى أحد من خلقه.

12- لو اعتقد العبد بعالميّة المولى المتعال بما خفي ـ حتى على العبد نفسه ـ من الهواجس اللاشعورية التي تنتابه بين وقت وآخر دون أن يشعر هو بها، أضف إلى علمه بما يخفيه شاعراً به كما في قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ؛ فإنّه سيكون مراقباً لجوانحه فضلاً عن جوارحه، فلا يجري حتى في عالم خياله ما لا يرضى به المولى؛ لأنّ ذلك وإن لم يوجب عقاباً؛ إلا إنّه قد يوجب عتاباً يخجل معه العبد المحبّ لربّه! ومن هنا، نعلم عظمة المعصوم الذي يجعل خياله بما يوافق رضا ربّه.

13- إنّ آية ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى فيها إشارة دقيقة إلى معاملة الله تعالى لخلّص أوليائه، فإنّه تعالى لا ييسّر لهم الطريق فحسب، وإنّما ييسّر ذواتهم للطريق، فالعناية الأوّليّة إنّما هي لهم لا للفعل، فيكون في حكم قوله تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، وهناك إشارة اُخرى إلى أنّ مبدأ التيسير هو العبد نفسه، فإذا صار قابلاً للتيسير تيسّر اليسر له، فالتوفيق لا يأتي خارج دائرة العبد نفسه. ومن المناسب هنا القول بأنّ الله تعالى من الممكن أن يكتب التيسير المقدّر دون المفعّل، لتقصير العبد نفسه في تهيئة مقدّمات التيسير من الهمل، فقد رُوي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (اعملوا!.. فكلٌّ مُيسَّر لما خلق له).

14- إنّ الألطاف الإلهيّة الخاصّة تناسبها نون التعظيم عند التكلّم، فقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ و﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ و﴿إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، ومنه التيسير في توفيق دعوة العباد إلى الله تعالى، فقال: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى، فإنّه من أجلّ النعم المعنويّة قياساً إلى النعم المادّيّة.

15- إنّ الآيات السابقة فيها جميع ما ينبغي أن يكون عليه الدعاة إلى الله تعالى، وهي:

- إحراز القابليّة بالتوجّه إلى الله تعالى تحميداً وتنزيهاً.

- التسديد الباطني، ويمثّله الإقراء والتحفّظ من النسيان.

- التسديد الخارجي وتيسير السبل، سواء تصرّفاً في الأشياء؛ كمعاجز الأنبياء (عليهم السلام)، أو الأشخاص؛ كتليين قلوب العباد.

16- إنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) مأمور بتذكير من فيه أرضيّة الهداية والقبول، وإلا ضاع جهده هدراً ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى، فعمره الشريف وطاقته المباركة أجلّ من أن يُصرف لمن لم يكن أهلاً لذلك، ولكن من الممكن القول أيضاً برجحان التذكير حتى مع عدم رجاء الانتفاع به، لأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) متخلّق بأخلاق الله تعالى في إنذار الجميع، فهو الذي أمر موسى (عليه السلام) بتذكير أعتى الخلق قائلاً: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى؛ تعميماً للّطف أو إتماماً للحجّة على الغير.

17- إنّ تقبّل الهداية الإلهيّة تسبقها مرحلة سابقة، تتمثّل في درجة من درجات الخشية من الله تعالى ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى، فهذه الخشية ـ سواء كانت بمعنى الخوف من عذابه أو الخجل من نعمه ـ تجعل العبد يبحث عمّا يخرجه من عقابه أو عتابه، فلا يتوقّع المهتدي أن يحدث الهادي معجزة في نفسه، بل عليه أن يكون كالأرض التي تستقبل البذرة، ثمّ تنميها في نفسها بما آتاها الله تعالى من القابليّة. وعليه، فإنّه ينبغي للدعاة إلى الله تعالى، أن يُحدثوا هذه الأرضيّة في نفوس العباد قبل إثقالهم بالمواعظ.

18- إنّ ﴿الأَشْقَى هنا، يُراد به الشقي، كما هو دأب القرآن الكريم في استعمال صيغة التفضيل في أصل الفضيلة كقوله تعالى: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً، ولكن يمكن القول بوجود درجات للأشقياء، إذ الأشقى هو الكافر المعاند الذي يصلى النار الكبرى في أسفل درجات الجحيم، قياساً إلى نار الدنيا أو قياساً إلى أقلّ عذاب النار، ولكن الشقي الذي هو دون السعيد وأحسن حالاً من الأشقى؛ هو الذي لم يغتنم فرصة العمر، فأمضى حياته في خسر، كما هي حياة معظم الخلق.

19- إنّ من مظاهر شدّة العذاب في الآخرة ـ حتى لغير المخلّدين فيها ـ هي استمراريّة العذاب من دون انقطاع أو إراحة في النار: خلوداً للكفّار، أو أحقاباً لعامّة العصاة، فتذكّر الآية هذه الحالة ﴿لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى؛ أي: إنّهم لا يموتون ولا يحيون حياة طيّبة! والحال أنّ بلاء الدنيا يتخلّله شيء من الفرج والراحة، حتى في أشدّ حالاته، والأشدّ من عذاب النار استمرار الغضب الإلهي على أهل الجحيم ﴿وَالَّذينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى‏ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها، وإلا، فلو كانت الرحمة متخلّلة ومتعاقبة عليهم ـ كما هو الحال في عصاة الدنيا ـ لهان الأمر، ولأمكن للعبد أن يستجدي النجاة في ساعة إقبال الله تعالى عليه.

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى‏ (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى‏ (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى‏ (19)

20- إنّ إطلاق التزكية في قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى يقتضى التنقية الشاملة في كلّ أبعاد الوجود؛ بدءاً من القلب بتفريغه من كلّ شاغل سوى الله تعالى، وانتهاء بالجوارح، وذلك بحملها على كلّ ما يُرضي المولى، وهي مقدّمة للذكر بقول مطلق ليشمل معايشة محضريّة الله تعالى في كلّ آن، ومقدّمة للخضوع الخارجي المتمثّل بالصلاة، كأهمّ علاقة بين العبد وربّه! وبعبارة جامعة: فإنّ هذه الآيات ناظرة إلى تخلية الباطن من الشوائب ﴿تَزَكَّى، وتحليتها بالذكر ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ، وتلبّسه بعد ذلك بالطاعة الفعلية ﴿فَصَلَّى، وبمجموع ذلك، يصل العبد إلى درجة الكمال الذي خُلق من أجله.

21- إنّ لمن صور الغباء؛ تقديم الدنيا على الآخرة: فإنّ نعيمها متعلّق بعالم الحسّ، أي: استمتاع الأبدان، والحال أنّ نعيم الآخرة متعلّق بمتعة الأرواح والأبدان معاً: من النظر إلى وجهه الكريم، والاُنس بالحور العين، أضف إلى إنّ نعيم الدنيا ـ حتى في المحسوسات ـ تتخلّله الآلام والمحن كما هو مشاهد بالوجدان ومتصرّم بالبداهة؛ خلافاً للآخرة ذات النعم الخالدة. والآية الكريمة أشارت للأخيرة منها بقوله: ﴿خَيْرٌ وَأَبْقَى. ومن المعلوم أنّ إدراك هذه المعاني يحتاج إلى بلوغ روحي خاص، وإلا، صار أهل الدنيا جميعاً من أهل الآخرة!

22- إنّ الكتب السماويّة ـ على اختلاف مستوياتها ومستويات من اُنزلت عليهم ـ متّفقة في مبادئ الكمال، فليست هناك اُمّة مستثناة من قواعد السير إلى الله تعالى، فإذا كانت اُمّة موسى وإبراهيم (عليهما السلام) مكلّفة باتباع كلّ ما جاء في هذه السورة نقلاً عن صحفهم ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى؛ فإنّ الاُمّة الشاهدة ـ وهي اُمّة النبي الخاتم (صلّى الله عليه وآله) ـ مكلّفة بطريق أولى بكلّ ما ذُكر فيها؛ لأنّ الحجّة عليها أكمل، والكتاب لها أجمع، ونبيّها (صلّى الله عليه وآله) في رتبة الخاتميّة العظمى!


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2438
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 12 / 29
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28