• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : مؤلفات الدار ونتاجاتها .
              • القسم الفرعي : مقالات المنتسبين والأعضاء .
                    • الموضوع : المعجزة الابتدائية والمقترحة .

المعجزة الابتدائية والمقترحة

بقلم: سماحة الشيخ أحمد عبدالله التِماوي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وبارك وسلّم على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين، واللّعنة الدائمة على أعدائهم إلى يوم الدين.

من المباحث المهمّة، والتي تعتبر مفتاحاً لفهم أدوار النبوّة، وكذا فهم القرآن، ممّا تترتّب عليه العقيدة الصالحة بالأنبياء (عليهم السلام) هو بحث المعجزات.

وههنا نسلّط البحث مختصراً في المعجزة الابتدائية والمقترحة، والتي تفتح باباً لفهم ما ورد في الثقلين من معجزات الأنبياء (عليهم السلام)، والفوارق بين المعجزات.

عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): لأيّ علّة أعطى الله عزّ وجلّ أنبياءه ورسله وأعطاكم المعجزة؟ فقال: «ليكون دليلاً على صدق من أتى به والمعجزة علامة لله لا يعطيها إلّا أنبياءه ورسله وحججه ليعرف به صدق الصادق من كذب الكاذب» [علل الشرائع، للشيخ الصدوق، ج1، باب100، ح1].

تعريف المعجزة

قال العلّامة الحلّي في شرح كلام ابن نوبخت (رحمه الله) في تعريف المعجزة أنّها: «أمر خارق للعاد، مقرون بالتحدّي. فالأمر يتناول غير المعتاد والمنع من المعتاد، والخارق للعادة فصل يميّز به عن غيره، والاقتران بالتحدّي ليتميّز به عن الكرامات. وقد يُزاد في الحدّ، مع عدم المعارضة ليتميّز به عن السحر والشعبذة» [شرح الياقوت، المسألة الثانية في النبوات، مصورة مخطوطة، ورقة150].

قال السيّد المرتضى في رسائله في حدّ المعجزة وشرحه: «المعجزة: الفعل الناقض للعادة يتحدّى به الظاهر في زمان التكليف لتصديق مدّعٍ في دعواه. وقيل: أمر خارق للعادة مقرون بالتحدّي مع عدم المعارضة. قلنا: [أمر] لأنّ المعجزة قد تكون بالمعتاد، وقد تكون منعاً من المعتاد. وقلنا: [مقرون بالتحدّي] لئلا يتحد الطالب معجزة غير حجّة لنفيه، وليتميّز عن الارهاص والكرامات. قلنا: [مع عدم المعارضة] ليتميّز عن السحر والشعبدة». [رسائل السيّد المرتضى، ج2، ص283].

قال الخواجة الطوسي (رحمه الله): «ثبوت ما ليس بمعتاد أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوى». [كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، المقصد الرابع في النبوّة، المسألة الرابعة].

قال العلّامة في شرحه: «نعني بالمعجز: ثبوت ما ليس بمعتاد أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوى، لأنّ الثبوت والنفي سواء في الإعجاز فإنّه لا فرق بين قلب العصا حيّة وبين منع القادر على رفع أصغر الأشياء. وشرطنا خرق العادة لأنّ فعل المعتاد أو نفيه لا يدلّ على الصدق. وقلنا مع مطابقة الدعوى لأنّ من يدّعي النبوّة ويسند معجزته إلى إبراء الأعمى فيحصل له الصمم مع عدم برء العمى لا يكون صادقاً». [المصدر السابق].

هذا، وقد ذُكرت شروط للإعجاز، ولكون الفعل أو القول معجزة، وذكرت صفات صاحب المعجزة، وما تثبته، وغير ذلك من أبحاث كثيرة، أعرضنا عن إيرادها بغية الاختصار، ومن أرادها فليراجع الكتب المطوّلة ممّا سطّره الأعلام.

أقسام المعجزة

يمكن تقسيم المعجزة باعتبارٍ مّا إلى:

1ـ المعجزة الملازمة للنبوّة.

2ـ المعجزة المقترحة.

1ـ المعجزة (الابتدائية) الملازمة للنبوّة

وهي المعجزة التي يؤيّد الله بها رسوله ونبيّه ابتداءً، أو إذا طُلب منه علامة ودليلاً على صدق نبوّته، كبعض معجزات موسى (عليه السلام)، كما في قوله تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشعراء، 63]، وقوله تعالى: ﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [القصص، 31 و32]، وغيرها من الآيات الكريمة.

وكبعض معجزات السيّد المسيح (عليه السلام)، كما في قوله تعالى: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران، 49].

ولا أروع ولا أبهر ولا أجمل من معجزة النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وهي القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء، 88].

2ـ المعجزة المقترحة

وهي المعجزة التي يأتي بها النبيّ بناءً على طلب خاصّ لفعل معيّن، وهي كثير: كشقّ القمر، وسأل سائل بعذاب واقع، والناقة، ونزول المائدة، وعذاب الظُلَّة، وتفجير الأرض ينبوعاً.

* قال تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ [المعارج، 1].

ورد في سبب نزولها أنّه: لمّا كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بغدير خمّ نادى الناس، فاجتمعوا، فأخذ بيد عليّ (عليه السلام)، فقال: «مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه»، فشاع ذلك، وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحارث بن نعمان الفهريّ، فأتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على ناقة له، حتى أتى الأبطح، فنزل عن ناقته، فأناخها، وعقلها، ثمّ أتى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وهو في ملأٍ من أصحابه، فقال: يا محمّد، أمرتنا عن الله، أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنّك رسول الله، فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلّي خمساً، فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصوم شهراً، فقبلناه منك، وأمرتنا أن نحجّ البيت فقبلناه، ثمّ لم ترضَ بهذا حتى رفعتَ بضبعَي ابن عمّك، ففضّلته علينا، فقلتَ: مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، وهذا شيء منك أم من الله تعالى؟

فقال: «والذي لا إله إلّا هو، إنّه من أمر الله»، فولّى الحارث بن نعمان، يريد راحلته وهو يقول: اللّهمّ إن كان ما يقوله محمّد حقّاً، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم. فما وصل إليها، حتى رماه الله بحجر، فسقط على هامته، وخرج من دبره، فقتله، وأنزل الله تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾ [المعارج، 1-2]. [عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار، لابن البطريق، الفصل الرابع عشر، ص101].

* ورد أنّ أبا لهب (لعنه الله) قال: لأفضحنّك [يا محمّد] في هذه اللّيلة بالقمر وشقّه وإنزاله إلى الأرض [...]. قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): «امض يا عليّ فيما أمرتك واستعذ بالله من الجاهلين». ثمّ هرول أمير المؤمنين من الصفا إلى المشعرين، ونادى وأسمع بالدعاء، فما استتمّ كلامه حتى كادت الأرض أن تسيخ بأهلها والسماء أن تقع، فقالوا: يا محمّد لقد أعجزك شقّ القمر أتيتنا بسحرك لتفتنا فيه، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): «هان عليكم بما دعوت به فإنّ السماء والأرض لا يهون عليهما بذلك ولا يطيقان سماعه، فقوموا بأجمعكم وانظروا إلى القمر». قال: ثمّ إنّ القمر انشقّ نصفين نصفاً وقع على الصفا ونصفاً وقع على المشعرين، فأضاءت داخل مكّة وأوديتها وصاح المنافقون: أهلكنا محمّد بسحره، يا محمّد افعل ما شئت فلن نؤمن بك ولا بما جئتنا به.

ثمّ رجع القمر إلى منزله من الفلك وأصبح الناس يلوم بعضهم بعضاً ويقولون برأيهم: والله لنؤمننّ بمحمّد ولنقاتلنّكم معه مؤمنين فقد سقطت الحجّة وتبيَّن الأعذار وأنزل في ذلك اليوم سورة أبي لهب واتصلت به.

فقال: أنّ محمّداً فعل ما قلته له في تأليفه له في هذا الكلام لِيَشنَعني به [الهداية الكبرى، للحضيني، ص72].

وغيرها الكثير من المعجزات المقترحة، والتي سيأتي بعضها في العنوان اللاحق.

مفترقات القسمين

وكلا القسمين يشتركان في كونهما ممّا هو خارق للعادة، تماماً كما مرَّ البحث.

ويختلفان في أمور:

الأوّل: أنّ المعجزة الملازمة للنبوّة والتي تكون ضرورية معه أينما وجد لا يلزم من إنكارها استحقاق العذاب، بخلاف القسم الثاني.

وذلك أنّ مفاد ومُبتغى القسم الأوّل هو الهداية والمعجزة في هذا القسم مؤيّد لدعوى النبوّة، وكاشف عن حقانية دعوته في اتّصاله بالله سبحانه (عليه السلام) إذ لو كان في القسم الأوّل تهديد بالعذاب وتخويف عند عدم تصديقها فإنّ ذلك خلاف إرسال الرسل، وفيه نفي الغرض، إذ غرضهم تقريبهم لحضرة الحقّ سبحانه وتعالى، لا خلافه.

وأمّا القسم الثاني فهو مقترَح من الأعداء كطلب شقّ القمر، وسأل سائل بعذاب واقع، والناقة، ونزول المائدة، وعذاب الظُلَّة، وتفجير الأرض ينبوعاً، وغيرها الكثير.

فلطلبهم ثمّ إنكارهم يعني جحودهم للحق وكراهتهم له بعد إيقانهم بصحّة الدعوى. وعليه فيستحقّون العذاب.

الثاني: يفترق القسمان من حيث الجهة الداعوية: ومعنى ذلك: أنّ القسم الأوّل إنّما كان الداعي فيه هو إثبات حقّانية الدعوة للنبيّ، وإثبات كونه قادراً على خرق العادة.

وأمّا القسم الثاني ففيه الإنذار للكافرين أيضاً مقرون بوقت الإعجاز، ولذا استُحقّ العذاب بعد الجحود.

قال تعالى على لسان قوم ثمود لنبيّه صالح (عليه السلام): ﴿مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء،  154 - 157].

الثالث: أنّ القسم الأوّل ملازم ضروريّ مع النبيّ، وأنّ له القوّة في إعمال الإعجاز متى شاء بإذن الله تعالى، وبيده مقاليد قوانين الطبيعة فيخرقها كيف يشاء، وقت يشاء، كيفما يشاء، كلّ ذلك يكون متى ما اقتضت المصلحة لإثبات حقانية النبوّة؛ كفلق البحر، وإطعام الخلق الكثير بطعام قليل، وتسبيح الحصى، وغيرها الكثير.

وبالجملة: فكلّما دُعي النبيّ لإثبات حقّانية دعوته فإنّه يكون قادراً بأتمّ قدرة على فعل المعجزة.

وأمّا القسم الثاني: فليس كلّ مقترَح يمكن أن يأتي به النبيّ، وهذا على فهْمين:

1ـ إمّا لخروج الشيء عن قدرته تخصّصاً، بمعنى أنّ هذا الفعل لا يكون إلّا من قبل الله حصراً، كما لو طُلب من النبيّ الإخبار ببعض المغيّبات، والتي تكون من العلم المستأثر له تعالى والذي لا يطّلع عليه أحد كائناً مَن كان، كما قال سبحانه: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف، 188].

فالغيب الذي نُفي في الآية هو العلم بالغيب المستأثر، لا الغيب الذي شأنه أن يطلعَ اللهُ عليه النبيّ.

2ـ وإمّا لعدم الإذن فيه: كما قال سبحانه على لسانه نبيّه (صلّى الله عليه وآله): ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [يونس، 15 و16].

الرابع: أنّ القسم الأوّل فيه القدرة على إتيان الفعل المعجز، فليس فيه أمر محال.

وأمّا القسم الثاني: ففي بعض الطلب من الكافرين للمعجز طلبٌ لفعل معجز (محال) (إمّا ذاتاً وإمّا وقوعاً)، ومثال المحال الذاتيّ:

قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ [النساء، 153].

فرؤية الله تعالى محال ذاتاً فضلاً عن الوقوع؛ إذ الرؤية إحاطة الرائي بالمرئيّ، وإحاطة المتناهي باللامتناهيّ محال ذاتاً.

مضافاً إلى استلزام الجسمية، والكون في المكان، وغير ذلك مما يجلُّ الله عنه، لما في ذلك من تحديده وحاجته، وتشبيهه بصفات المخلوقين. ومثله ما يأتي في الخامس من طلب الكافرين الإتيان بالله والملائكة قبيلاً.

وأمّا المحال الوقوعيّ: كالجمع بين النقيضين، أو إدخال الكبير في الصغير، ومثاله:

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: أيقدر أن يدخل الأرض في بيضة ولا يصغِّر الأرض ولا يكبِّر البيضة؟ فقال: ويلك، إنّ الله لا يوصف بالعجز ومن أقدر ممّن يلطِّف الأرض ويعظِّم البيضة» [التوحيد، للصدوق، باب القدرة، ح11].

وفي أخرى: «إنّ الله لا يُنسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون» [المصدر السابق، ح10].

فهنا أعطى الإمام سيّد الموحدين (عليه السلام) ثلاث ضوابط مهمّة في فهم التوحيد الصفاتيّ والأفعاليّ:

الأولى: إنّ الله تعالى تامّ القدرة، وأنّ له من القدرة أعلاها وأسناها، بحيث لا يقاربها ولا يخالطها عجز البتّة.

الثانية: إنّ متعلّق القدرة هو كلّ أمر ممكن، بمعنى: أنّ كل أمر ممكن أن يوجد فهو داخل تحت دائرة القدرة الإلهية، وأمّا ما لا يمكن أن يوجد إمّا ذاتاً كوجود شريك الباري، أو وقوعاً كما في الرواية، فهو غير داخل في دائرة القدرة.

وهذا لا يعني تحديد القدرة الإلهية، بل كما يقال: إنّ الإشكال ليس في الفاعل وإنّما في القابل، بمعنى: أنّ المشكلة في القابل نفسه بحيث هو في حاقّ نفسه وذاته لا يمكن أن يكون، كجمع النقيضين، أو أنّه وقوعاً لا يمكن أن يقع لوجود المانع الوقوعي الذي منشأه ذاتيّ، كما في صغر البيضة وعدم تحمّلها لكبر الدنيا.

فإن قيل: إنّ الله تعالى قادر على أن يرفع المانع، ويوجد الشيء، فيكون إعجازاً، كقصّة ميلاد السيّد المسيح (عليه السلام) من غير أب، وخلق آدم من غير أب وأمّ، وإصلاح سارة، وكون زكريا (عليه السلام) قادراً على الاستيلاد مع كبر سنّه وعقر زوجته، وكذا كبر سنّ إبراهيم (عليه السلام)، فهذا دليل على أنّ الله قادر، ولا يكون المحال الوقوعيّ ممّا ذكرتم.

قلت: أمّا أنّ الله تعالى قادر وتامّ القادرية فلا إشكال فيه، وإنّما في كون الشيء إمّا محالاً أو لا.

وما ذُكر ليس من المحال في شيء أصلاً، نعم هو رفع للمانع، ورفعُ المانع لا يلازم المحال.

وكلامنا في المحال الوقوعيّ الذي منشأه ذاتيّ، كإدخال الدنيا الكبيرة بما هي كبيرة في البيضة الصغيرة بما هي صغيرة، فوقوعاً لا يقع.

لأنّ المانع إمّا ذاتي وإمّا وقوعيّ، أو قُل: إمّا ثبوتيّ وإمّا إثباتي:

أمّا الذاتيّ فيجعل من الشيء محالاً ذاتياً كالجمع بين النقيضين.

وأمّا الوقوعيّ والإثباتيّ فإنّه وإن كان يمكن أن يكون واقعاً إلا أنّ للمانع تأثيراً من الوقوع، نظير الولادة من غير أب.

هذا، وإن كان يمكن أن يقال: إنّ هذه الرواية إنّما أشارت إلى المحال الذاتيّ فقط وليس الوقوعيّ، كيف ذلك؟

إنّ الصغير بما هو صغير لا يمكن أن يتحمّل الكبير بما هو كبير، كالواحد الذي هو بما هو واحد لا يمكن أن يكون اثنين بما هو اثنين.

والأمر صحيح، فإنّ الرواية يمكن النظر إليها من عدّة جهات، ولولا اختلاف الجهات لبطلت الفلسفة كما يُقال.

الثالثة: قوله (عليه السلام) في آخر الرواية: «ومن أقدر ممّن يلطِّف الأرض ويعظِّم البيضة».

ومفادها: أنّه لا قادر ولا أقدر منه على مثل هذه الفعل، ولذا جاء قوله (عليه السلام) بصيغة الإنكار على المتكلّم، فهو القاهر على عباده، والقادر على تلطيف الأرض العظيمة وجعلها صغيرة، وتعظيم البيضة الصغيرة وجعلها عظيمة.

الخامس: أنّ القسم الثاني لمّا كان من طلب الكافرين، فإنّ طلبهم للمعجزة الفلانية يكون بحسب تصوّراتهم الساذجة، فلربّما كان بعض طلبهم لفعل ما ـ بحسب تصوّرهم ـ معجزة ـ في وقتهم ـ ولكن مع تقدّم العلم فيمكن أن يُؤتى بأعظم منه.

وبعبارة أخرى: إنّ بعض طلب الكافرين ليس شيئاً من الإعجاز إلى تصوّرهم الساذج والبليد من أنّه معجزة وهو ليس كذلك في واقعه. ومثاله:

قال تعالى على لسانهم: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ [النساء، 90 - 94].

فلو فجَّر النبيّ ينبوعاً من الأرض فما أدرى القوم بأنّه ليس في مكان بعيد أو قريب من له ينبوع خاصّ به!

وكذا لو كان له جنّة وحدائق غنَّاء يقتات منها، ويتنعّم فيها أو يكون له بيت من زخرف وقصور، فقد كان لمن قبل النبيّ جنّات من نخيل وأعناب كقوم سبأ، إذ حكى الله عنهم: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ [سبأ، 15].

وأمّا الإتيان بالله فهو ممّا ذكر سابقاً؛ أي: أنّه من المحال الذاتيّ.

وأمّا الإتيان بالملائكة فلربّما كان لابدّ من إذن الله فيه، وليس يأذن الله تعالى بالشيء بحسب أهواء الكافرين، ودليل ذلك ما في آخر الآيات: ﴿أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ [النساء، 90 - 94].

 

﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ [النمل، 59]


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2464
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 03 / 13
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19