• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : السيرة والمناسبات الخاصة .
              • القسم الفرعي : النبي (ص) وأهل البيت (ع) .
                    • الموضوع : منهاج الإمام السجّاد (عليه السّلام) في التربية الروحية * .

منهاج الإمام السجّاد (عليه السّلام) في التربية الروحية *

آية الله السيد محمّد تقي المدرّسي

 ممّا لا شكّ فيه أنّ أئمة الهدى هم مشاعل الحقِّ للأجيال في كلِّ عصر ومصر، ولكن لأنّ الظروف مختلفة من جيل لآخر، ومن مصر لمصر ثانٍ، ولأنّ الله قد ختم بالمصطفى رسالاته، وبأوصيائه خلفاءه المعصومين، فإنّ حكمته اقتضت أن تكون سيرة كلِّ واحد منهم متميزة بهدى ومنهاج؛ ليكون مجمل سيرهم المتنوعة ذخيرة غنية يرجع الناس إليها ليأخذوا منها ما يتناسب وظروفهم الخاصة.

وكانت سيرة الإمام علي بن الحسين (عليه السّلام) الإيمانيّة هي المنهاج المتناسب كليّاً، وظروف مشابهة لظروفنا في بعض البلاد؛ حيث حبانا الله سبحانه بحالة ثورية تحتاج إلى المزيد من الروح الإيمانيّة حتّى لا تخرج الحركة عن مسارها الديني، ولا تفسد السياسة ومصالحها وحتمياتها النقاء الإيماني الذي يحتاجه العاملون في سبيل الله. فماذا كانت سيرته، وما هو برنامجه؟

أولاً: كان عباد الله المخلصون دعاة إلى الله بسلوكهم قبل أن يكونوا دعاة بألسنتهم، فما أمروا الناس بشيء إلاّ وسبقوهم إليه. وكانت حياة الإمام السجّاد (عليه السّلام) لوحة إيمانيّة نقيّة، وقد قال عنه جابر بن عبد الله الأنصاري الصحابي الشهير: ما رأيت في أولاد الأنبياء شخصاً كعلي بن الحسين (عليه السّلام).

ثانياً: تربية جيل من العلماء الربانيِّين الذين ربّوا بدورهم علماء وثائرين وعبّاداً صالحين. وهكذا تماوجت تعاليم الإمام (عليه السّلام) عبر النفوس الزكية في حلقات مترامية كالصخرة العظيمة تُلقى في بحر واسع.

قال الشيخ المفيد: إنّه روى عنه الفقهاء من العلوم ما لا يحصى كثرة، وحفظ عنه من المواعظ والأدعية، وفضائل القرآن، والحلال والحرام، والمغازي والأيام ما هو مشهور بين العلماء.

وقال ابن شهر آشوب: قلّما يوجد كتاب زهد وموعظة لم يذكر فيه: قال علي بن الحسين، أو قال زين العابدين(1).

وكان شديد الاحترام لطلبة العلوم الذين كانوا يتوافدون عليه في المدينة من أقطار العالم الإسلامي، ويرى أنّهم وصية رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وكان العلماء يستلهمون من سلوكه الهدى والورع قبل أن يتلقّوا من منطقه العلم والمعرفة، ومَنْ لا يستلهم نور الله من تلك الطلعة الربّانيّة، من العين التي تفيض من خشية الله، والجبهة التي عليها ثفنات من أثر السجود، من ذلك اللسان الذي لا يني [لا يفتُر ولا يعجز] يذكر الله (عزّ وجلّ)، وبالتالي من تلك السيرة التي يشع منها نور الله تبارك وتعالى؟

يذكر عبد الله بن الحسن فيقول: كانت اُمّي فاطمة بنت الحسين تأمرني أن أجلس إلى خالي علي بن الحسين (عليه السّلام)، فما جلست إليه قط إلاّ قمت بخير قد أفدته؛ إمّا خشية لله تَحدث في قلبي؛ لما أرى من خشيته لله، أو علم قد استفدته منه(2).

وكانت الفتوحات الإسلاميّة تطوي كلَّ يوم بلداً جديداً، وتضم إلى الجسد الإسلامي عضواً جديداً، ولكنها كانت بحاجة إلى زخم إيماني يصهر مختلف الثقافات والتقاليد والمصالح في بوتقة الاُمّة الواحدة.

وقد تصدّى الإمام زين العابدين (عليه السّلام) وأصحابه وأنصاره لهذه المسؤولية، وبسبل شتّى؛ فقد كان شديد الاحترام للموالي، وهم المنتمون إلى سائر الشعوب التي دخلت في الإسلام بعد فتح البلاد لها، ولمّا تبلغ من المعارف الإلهية نصيباً كافياً.

وكان كثير من الموالي من خيرة أصحاب الإمام (عليه السّلام)؛ إذ كان الإمام (عليه السّلام) يتّبع منهجاً فريداً في زرع القيم الإلهيّة في أفئدة ثلة مختارة منهم؛ حيث كان يشتري العبيد ويتعامل معهم بأفضل طريقة ثمّ يُعتقهم ويزوّدهم بما يوفّر لهم الحياة الكريمة، فيكون كلُّ واحد منهم ركيزة إعلاميّة بين بني قومه.

ولنقرأ معاً أخلاق الإمام (عليه السّلام) في تعامله مع مواليه قبل أن نعرف كيف كان يعتقهم؛ فإنّ تلك الأخلاق الحسنة كانت مدرسة عملية لهم إلى جانب التوجيه المباشر.

روي عن عبد الرزاق (أحد الرواة) أنه قال: جعَلت جارية لعلي بن الحسين (عليه السّلام) تسكب عليه الماء ليتهيّأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجّه، فرفع رأسه إليها، فقالت له الجارية: إنّ الله يقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ (آل عمران/134).

قال: «كظمتُ غيظي».

قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ﴾ (آل عمران/134).

قال لها: «عفا الله عنك».

قالت: ﴿وَالله يُحِبُّ الْمُـحْسِنِينَ﴾ (آل عمران/134).

قال: «اذهبي فأنت حرّة لوجه الله عزّ وجلّ» (3).

هكذا كان يتعامل مع الرقيق الذين اعتبرهم بعض الناس ذلك اليوم أنّ لهم طبيعة غير طبيعة الإنسان، فكيف لا يؤثِّر فيهم ذلك الخُلُق الرفيع؟

ويروي بعضهم القصة التالية التي تعكس مستوىً رفيعاً من الصفح والسماحة والإيثار، تقول الرواية: كان عنده (عليه السّلام) قوم أضياف، فاستعجل خادماً له بشواءٍ كان في التنور، فأقبل به الخادم مسرعاً، فسقط السفود منه على رأس بُنَيٍّ لعلي بن الحسين تحت الدرجة فأصاب رأسه فقتله، فقال عليٌّ للغلام، وقد تحير الغلام واضطرب: «أنتَ حرٌّ؛ فإنّك لم تتعمده»، وأخذ في جهاز ابنه ودفنه(4).

وكان للإمام (عليه السّلام) مولىً يتولّى عمارة ضيعة له، فجاء فأصاب فيها فساداً وتضييعاً كثيراً، فغاظه ما رأى من ذلك وغمّه، فقرع المولى بسوطٍ كان في يده، وندمَ على ذلك، فلمّا انصرف إلى منزله أرسل في طلب المولى، فجاء فوجده عارياً والسوط بين يديه، فظنّ أنّه يريد عقوبته، فاشتدّ خوفه، فقال له علي بن الحسين: «قد كان مني إليك ما لم يتقدّم مني مثلُه، وكانت هفوة وزلّة. خذ ذلك السوط واقتصّ مني».

فقال: يا مولاي، والله إن ظننت إلاّ أنّك تريد عقوبتي، وأنا مستحق للعقوبة، فكيف اقتصُّ منك؟!

قال: «ويحك! اقتصّ».

قال: معاذ الله، أنتَ في حلٍّ وسعة.

فكرّر عليه ذلك مراراً والمولى يتعاظم قوله ويجلله، فلما لم يره يقتص قال له: «أمّا إذا أبيتَ فالضيعة صدقة عليك»(5).

هذه نماذج من الخُلق الكريم الذي اتّسَم به سلوك الإمام (عليه السّلام) مع الموالي.

وقد كان اُسلوب عتق الإمام (عليه السّلام) لهم متميّزاً يرويه التاريخ بجلال وإعجاب؛ فقد روى ابن طاووس في كتاب شهر رمضان المعروف بالإقبال، بسنده عن الإمام الصادق (عليه السّلام) أنّه قال: «كان علي بن الحسين (عليه السّلام) إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمَة. وكان إذا أذنب العبد والأمة يكتب عنده أذنب فلان، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا، ولم يعاقبه، فيجتمع عليه الأدب، حتّى إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله، ثم أظهر الكتاب، ثم قال: يا فلان، فعلت كذا وكذا، ولم اُؤذك، أتذكر ذلك؟

فيقول: بلى يا بن رسول الله (صلّى الله عليه وآله). حتّى يأتي على آخرهم، ويقرّرهم جميعاً، ثمَّ يقوم وسطهم ويقول: ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا علي بن الحسين، إنّ ربك قد أحصى عليك كلَّ ما عملتَ كما أحصيت علينا كلّما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيت إلاّ أحصاها.

وتجد كلّما عملت لديه حاضراً كما وجدنا كلّما عملنا لديك حاضراً، فاعفُ واصفح كما نرجو من المليك العفو، وكما تحبُّ أن يعفو المليك عنك، فاعفُ عنّا تجده عفوّاً وبك رحيماً، ولك غفوراً، ولا يظلم ربك أحداً، كما لديك كتاب ينطق بالحق علينا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما أتيناها.

فاذكر يا علي بن الحسين ذلّ مقامك بين يدي ربك الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال حبة من خردل، ويأتي بها يوم القيامة، وكفى بالله حسيباً وشهيداً، فاعفُ واصفح يعفُ عنك المليك ويصفح؛ فإنّه يقول: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبّونَ أَن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ﴾ (النور/22).

وهو ينادي بذلك على نفسك [نفسه]، ويلقّنهم وهم ينادون معه، وهو واقف بينهم يبكي وينوح، ويقول: ربّ، إنك أمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد عفونا عمّن ظلمنا كما أمرت، فاعفُ عنّا فإنك أولى بذلك منّا ومن المأمورين. إلهي، كرمت فأكرمني إذ كنت من سُؤّالك، وجدت بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم»(6).

ثمَّ يُقبل عليهم فيقول: «قد عفوت عنكم، فهل عفوتم عنّي ما كان منّي إليكم من سوء ملكة؛ فإنّي مليك سوءٍ، لئيمٌ ظالمٌ، مملوكٌ لمليكٍ كريم، جوادٍ عادل، محسنٍ متفضّل؟».

فيقولون: قد عفونا عنك يا سيدنا، وما أسأت.

فيقول لهم: «قولوا: اللهمَّ اعفُ عن علي بن الحسين كما عفا عنّا، فأعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرق».

فيقولون ذلك، فيقول: «اللهمَّ آمين ربّ العالمين. اذهبوا فقد عفوت عنكم، وأعتقت رقابكم رجاءً للعفو عني وعتق رقبتي»، فيعتقهم، فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عمّا في أيدي الناس.

وما من سنة إلاّ وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين رأساً إلى أقل أو أكثر. وكان يقول: «إنّ لله تعالى في كلِّ ليلة من شهر رمضان عند الإفطار سبعين ألف ألف عتيق من النار، كُلّ قد استوجب النار، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه. وإنّي لأحبُّ أن يراني الله وقد أعتقت رقاباً في ملكي في دار الدنيا؛ رجاء أن يعتق رقبتي من النار».

ولقد كان يشتري السودان وما به إليهم من حاجة، يأتي بهم عرفات فيسدُّ بهم تلك الْفُرَج والخلال، فإذا أفاض أمر بعتق رقابهم وجوائز لهم من المال(7).

هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسّلام على محمد وآله الطاهرين

_________________

(*) شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) ـ بتصرّف.

http://alhassanain.org/arabic/?com=content&id=584

(1) في رحاب أئمة أهل البيت 3 / 196.

(2) في رحاب أئمة أهل البيت 3 / 196.

(3) بحار الأنوار 46 / 67.

(4) بحار الأنوار 46 / 99.

(5) بحار الأنوار 46 / 96.

(6) بحار الأنوار 46 / 104.

(7) بحار الأنوار 46 / 103 ـ 105.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2509
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 06 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29