• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : دروس قرآنية تخصصية .
              • القسم الفرعي : التفسير .
                    • الموضوع : منهج التفسير الإشاري وأقسامه * .

منهج التفسير الإشاري وأقسامه *

تمهيد

المنهج الإشاري هو أحد المناهج القديمة في التفسير. وقد عُرِف بأسماء متنوّعة، مثل التفسير الباطني، العرفاني، الشهودي، والرمزي، وكل من هذه الأسماء يشير إلى نوع خاص من هذا التفسير. وهناك اختلاف كبير في وجهات النظر بين المفسّرين والمحقّقين بالنسبة إلى هذا المنهج وأنواعه. فهناك من ارتضى بعض أقسامه واستفاد منه، ومنهم من رفضه واعتبره من التأويل والباطن. ولتوضيح هذه المسألة وتمييز المنهج الصحيح من غير الصحيح في التفسير الإشاري لا بدّ من دراسته بصورة دقيقة، وسوف نقوم في هذا الدرس بمناقشة التفسير الإشاري وأنواعه ومعاييره مع ذكر بعض الأمثلة المتعدّدة.

معنى المنهج الإشاري في التفسير

الإشارة لغةً بمعنى العلامة والإيماء والّذي يعني اختيار أمر من الأمور (من القول أو العمل أو الرأي). وقد وردت هذه الكلمة في القرآن، كما في الآية ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾(1) أي اختيار شيء وإرجاع لهم إليه.

أما في الاصطلاح فالإشارة تعني أن يستفاد شيء من الكلام دون أن يكون موضوعاً له. والإشارة قد تكون حسّية كما هو الحال في ألفاظ الإشارة مثل (هذا)، وقد تكون ذهنية كالإشارة للمعنى في الكلام، بحيث لو أراد التصريح به للزمه الكثير من الكلام. ثمّ إنّ الإشارة قد تكون ظاهرة وقد تكون خفيّة.

وعلى هذا يكون المراد من التفسير الإشاري هو ما يطلق على الإشارات الخفيّة الموجودة في آيات القرآن، والّتي تعتمد على أساس العبور من ظواهر القرآن والأخذ بالباطن، أي استخراج وفهم وتوضيح نكتة من الآية لا توجد في ظواهر الآية عن طريق دلالة الإشارة(2).

وبسبب تعدُّد أنواع التفسير الإشاري، كالتفسير الرمزي، العرفاني، الصوفي، الباطني، والشهودي، فقد تنوّعت التعاريف تبعاً لذلك، وهذا ما سيتبين لنا من خلال ما سيأتي.

الواقع التاريخي لهذا المنهج

يرجع تأريخ بعض أقسام التفسير الإشاري كالتفسير الباطني إلى صدر الإسلام، أي إنّ جذور هذا المنهج توجد في أقوال وكلام النبيّ (ص) وأهل البيت عليهم السلام حيث روي عنهم: أنّ القرآن له ظاهر وباطن(3). وقد أشارت بعض الأحاديث إلى هذا النحو من التفسير فقد روي في الحديث: "أنّ كتاب الله عزّ وجلّ على أربعة أشياء: على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق؛ فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء"(4).

وبسبب قبول جميع المسلمين بكون القرآن له باطن عميق، ومعانٍ دقيقة ويحتوي على الإشارات والكنايات، فقد أصبح الطريق مفتوحاً لهذا النوع من التفاسير، حتّى أنّ ابن عربي كتب: فكما أنّ تنزيل أصل القرآن على النبيّ (ص) كان من قبل الله فإنّ تنزيل فهمه على قلوب المؤمنين من قبل الحقّ تعالى.

وقد اهتمّ بعض العرفاء والصوفيه ببعض الأنواع من التفسير الإشاري مثل التفسير الرمزي والشهودي والصوفي والعرفاني فيما بعد، ودوّنوا كتباً متعدّدة في هذا المجال.

واعتبر العلّامة الطباطبائي أنّ بداية هذا المنهج تعود إلى القرن الثاني والثالث الهجري، أي بعد ترجمة الكتب الفلسفية اليونانية إلى اللغة العربية(5).

أهمّ تفاسير الصوفيّة وأهل العرفان

1-تفسير التستري

بدأ التفسير الباطني اعتماداً على تأويل الآيات منذ القرن الثالث على يد أبي محمّد سهل بن عبد الله التستري (200 283ه-). فإنّ له تفسيراً على طريقة الصوفية جمعه أبو بكر محمّد بن أحمد البلديّ، وطبع في مصر سنة 1908.

وكان التستري من كبار العارفين، وقد ذُكرت له كرامات، أقام في البصرة زمناً طويلاً، وتوفي فيها. لم يتعرّض لتفسير جميع القرآن، بل تكلّم عن آيات محدودة ومتفرّقة من كلّ سورة، ونجده أحياناً لا يقتصر على التفسير الإشاري وحده، بل ربّما ذكر المعاني الظاهرة ثمّ يعقّبها بالمعاني الإشارية. ومن ذلك تفسيره للآية ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾(6) حيث يقول بعد ذكره للتفسير الظاهر: وأمّا باطنها، فالجار ذي القربى هو القلب، والجار الجنب هو الطبيعة، والصاحب بالجنب هو العقل المقتدي بالشريعة، وابن السبيل هو الجوارح المطيعة لله(7).

2- حقائق التفسير للسُّلَميّ

ثاني تفاسير الصوفيّة الّتي ظهرت إلى الوجود، تفسير أبي الرحمن السُّلَميّ، المسمّى بـ "حقائق التفسير". هو أبو عبد الرحمن محمّد بن الحسين بن موسى الأزدي السُّلَميّ (330- 412ه-). كان شيخ الصوفيّة ورائدهم بخراسان، وله اليد الأولى في التصوّف، وكان على جانب كبير من العلم بالحديث، أخذ منه الحاكم النيسابوريّ والقشيريّ صاحب التفسير.

وهذا التفسير من أهمّ تفاسير الصوفيّة، ويعدُّ من أمّهات المراجع للتفسير الباطني لمن تأخّر عنه، وهو امتداد للتفسير الصوفيّ الّذي ابتدعه التستري من ذي قبل.

غير أنّ الاقتصار على المعاني الإشاريّة، والإعراض عن المعاني الظاهرة في هذا التفسير، ترك للعلماء مجالاً للطعن عليه، ولقي معارضات شديدة من معاصريه وممّن أتوا بعده، فاتّهم بالابتداع والتحريف، ووضع الأحاديث على الصوفيّة.

فقد حكم بعضهم بأنّ هذا التفسير إذا كان صاحبه يعتقد أنّه تفسير للقرآن فقد كفر، وقال آخر بأنّ فيه وضعاً واختلاقاً، وما روي فيه عن جعفر بن محمّد الصادق (ع) عامّته كذب على جعفر، وقال ثالث بأنّه جاء فيه بمصائب وتأويلات الباطنية(8).

ومن تأويلات السُّلميّ قال في الآية ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾(9)، اقتلوا أنفسكم بمخالفة هواها، أو اخرجوا من دياركم، أي أخرجوا حبّ الدنيا من قلوبكم، ما فعلوه إلّا قليل منهم في العدد، كثير في المعاني وهم أهل التوفيق والولايات الصادقة(10).

وفي قوله تعالى: ﴿فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ﴾(11) يقول: قال جعفر: جعل الحقّ تعالى في قلوب أوليائه رياض أُنسه، فغرس فيها أشجار المعرفة، أصولها ثابتة في أسرارهم، وفروعها قائمة بالحضرة في المشهد، فهم يجنون ثمار الأنس في كلّ أوان...(12)

3-لطائف الإشارات للقشيري

هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوريّ، ولد في نيسابور (376ه-)، طلب العلم فبرع فيه ولا سيّما في الفقه والحديث والأدب والأصول والتفسير، درس على يد عبد الرحمن السُّلَميّ.

وتفسيره هذا امتداد للتفسير الصوفيّ الباطني، معتمداً في أكثر الأحيان على تأويلات قد ينبو عنها ظاهر لفظ الآية الكريمة، وحاول في هذا التفسير أن يبرهن على أنّ كلّ صغيرة وكبيرة في علوم الصوفيّة، فإنّ لها أصلاً في القرآن الّذي ورد فيه مصطلحات للصوفيّة مثل: الذكر والتوكّل والرضا، والوليّ والولاية والحقّ، والظاهر والباطن..

من تفسيراته: يقول عند قوله تعالى: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾(13) يقول: الأمر في الظاهر بتطهير البيت، والإشارة من الآية إلى تطهير القلوب. وتطهير البيت بِصَوْنه عن الأدناس والأوضار، وتطهير القلب بحفظه عن ملاحظة الأجناس والأغيار. وطواف الحجّاج حول البيت معلوم بلسان الشرع، وطواف المعاني معلوم لأهل الحقّ، فقلوب العارفين المعاني فيها طائفة، وقلوب الموحّدين الحقائق فيها عاكفة...(14)

4-كشف الأسرار وعدّة الأبرار (تفسير الميبديّ)

وهو المعروف بتفسير الخواجا عبد الله الأنصاري الّذي وضع هذا التفسير، ثمّ بسطه ووضّح مبانيه المولى أبو الفضل رشيد الدِّين الميبديّ.

والخواجا هو أبو إسماعيل عبد الله بن محمّد بن عليّ بن محمّد الأنصاري الهروي، من ذريّة صاحب النبيّ (ص) أبي أيوب الأنصاري، ولد بهراة (396 481ه-) وقبره مزار مشهود هناك. يُعتبر هذا التفسير من أكبر وأضخم التفاسير الّتي كتبت على الطريقة العرفانيّة الصوفيّة، في عشرة مجلّدات ضخام (باللغة الفارسية).

وكان منهجه السير في ثلاث نوبات: الأولى: في التفسير الظاهري على حدّ الترجمة الظاهريّة، والثانية: في بيان وجوه المعاني والقراءات وأسباب النزول، وبيان الأحكام وذكر الأخبار، والثالثة: في بيان الرموز والإشارات العرفانية(15).

5- تفسير ابن عربي (560- 638ه-).

6- عرائس البيان في حقائق القرآن لأبي محمّد الشيرازي (ت: 666ه-).

7-التأويلات النجمية لنجم الدِّين داية (ت: 654ه-) وأكمله علاء الدِّين السمناني (ت: 736ه-)(16).

المؤاخذات على التفاسير الصوفية والعرفانية

أهمّ ما يؤخذ على هذه التفاسير، هو ابتناؤها على الذوق والسليقة والأذواق والسلائق، بما أنّها أحاسيس شخصيّة، فإنّها تختلف حسب المذاقات ومعطيات الأشخاص ولا تتّفق على معيار عام شامل.

وإن شئت قلت: إنّهم يرون مذاقاتهم في فهم النص، إلهامات وإشراقات لمعت بها خواطرهم أو سوانح وردت عليهم حسب استعداداتهم في تلقّي الفيوضات من الملأ الأعلى.

والإلهام والإلماع، إدراك شخصيّ بحت. وهي تجربة روحية وشخصيّة لا مستند لاعتبارها سوى عند صاحب التجربة فحسب.

ومن ثمّ ترى تفاسير أهل الذوق العرفاني قلّما تتّفق ولو في تفسير آية واحدة على نهج سويّ وعلى تأويل متوازن لا تعريج فيه.. ولا مبرّر له سوى ما نبّهنا عليه أنّها ليست من التفسير ولا من التأويل، وإنّما هي واردات قلبيّة.

مثال على ذلك: نجد القشيري يفسّر البسملة في كلّ سورة غير تفسيرها في سائر السور.. بناءً منه على أنّها آية من كلّ سورة، وكلّ آية هي تجلّ لنعت من نعوته تعالى: ولا تكرار في التجلّي، فيجب أن تكون في كلّ سورة بمعنى غير معناها في سائر السور(17).

العرفان والتصوّف

يمثّل العرفان نظاماً معرفياً متكاملاً، ينطوي على جانبين أساسين: عملي ونظري، وهكذا التصوّف الحقيقي فإنّه ينطوي على هذين الاتّجاهين، ففي الجانب العملي هو التجربة الحقيقيّة للعارف يمارسها عن طريق ترويض النفس، وتنقية القلب وصقله بواسطة المجاهدات الروحيّة، وبهذا يحصل على التقوى والزهد وغيرها من الدرجات الّتي يحصل عليها الصوفي.

وأمّا الجانب النظري فهو يشابه إلى جانب كبير منه العرفان النظري. وهذا التشابه جعل الكثيرين لا يميّزون بين العرفان والتصوّف.

وهذا ما يفرض علينا البحث في تعريف العرفان والتصوّف.

العرفان النظري: هو فرع من فروع المعرفة الإنسانية الّتي تحاول أن تعطي تفسيراً كاملاً عن الوجود ونظامه وتجلّياته ومراتبه، أو فقل: هو بصدد إعطاء رؤية كونية عن المحاور الأساس في عالم الوجود وهي: "الله الإنسان العالَم"، ولذا قيل بأنّه المعرفة الحاصلة عن طريق المشاهدة القلبيّة لا بواسطة العقل، ولا بفضل التجربة الحسّية(18).

أما العملي: فهو عبارة عن طريقة للوصول إلى الحقّ تعالى عن طريق الاشتغال بالمجاهدات والرياضات حتّى يتقوّى الإنسان ويتمكّن من معرفة نفسه لتحريرها من علائقها وقيودها لتتّصل بالخالق تعالى. وهو يحتاج إلى العمل المخلص بأحكام الدِّين.

أمّا التصوّف فهو: منهج وطريقة زاهدة، مبتنية على أساس الشرع وتزكية النفس، والإعراض عن الدنيا من أجل الوصول إلى الحقّ تعالى (وهذا طبعاً بالنسبة إلى الصوفية المقبولة شرعاً).

فالفارق بينهما إذاً هو أنّ العرفان نظرية وسلوك، والتصوّف ظاهرة اجتماعية لا تستبطن التنظير أو الرؤية.

ويستعمل العرفان في كلمات جملة من العرفاء مرادفاً للتصوّف، ولكن يُراد به التصوف كطبقة اجتماعية فارغة من البُعد النظري.

أقسام التفسير الإشاري ونماذجه

ذكرنا سابقاً أنّ التفسير الإشاري ينقسم إلى أقسام مختلفة، فأحياناً يقسّم إلى تفسير إشاري نظري وفيضي، وأخرى إلى تفسير إشاري رمزي وشهودي. وهناك من قسّم التفسير الإشاري إلى باطني غير صحيح وباطني صحيح. ونحن سنتّبع هذا التقسيم.

1-التفسير الإشاري الباطني غير الصحيح

وهنا يقوم المفسّر بتأويل آيات القرآن بالاستفادة من الشهود الباطني، أو من خلال النظريات العرفانية، المنافية لظواهر القرآن وقواعد الاستنباط من الظاهر، ودون مراعاة الضوابط المعروفة للوصول إلى الباطن أو الاستفادة من القرائن النقلية أو العقلية، ومن الواضح أنّ هذه الطريقة تنتهي إلى التفسير بالرأي.

وتنقسم هذه الطريقة إلى عدّة أنواع هي:

أ-منهج التفسير الإشاري الشهودي (الفيضي)

في هذه الطريقة يستفيد المفسّر من طريقة الكشف والشهود العرفاني، والتجلّيات القلبية في تفسير القرآن، متجاوزاً حدود الظواهر.

مثال: ذكر التستري في تفسيره الباطني معنى "بسم الله" فقال: الباء: بهاء الله، والسين: سناء الله، الميم: مجد الله، الله: هو الاسم الأعظم الّذي حوى الأسماء كلّها، وقال بعض الصوفيين في تفسير الآية: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾: الأمر الظاهر بتطهير البيت، والإرشاد من الآية إلى تطهير القلب.. وتطهير القلب بحفظه عن ملاحظة الأجناس والأغيار"(19).

ب- منهج التفسير الإشاري (النظري)

وهنا يقوم المفسّر باستخدام المباني النظرية للعرفان النظري في تفسير آيات القرآن متجاوزاً حدود الظاهر دون وجود أية قرينة عقلية أو نقلية على هذا التأويل.

مثال: نُقل عن الصوفية في تفسير الآية ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُون﴾ قال: نحن خلقناكم بإظهاركم بوجودنا وظهورنا في صوركم. وفي سورة المزمّل ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ قال: واذكر اسم ربّك الّذي هو أنت، أي اعرف نفسك واذكرها ولا تنسها فينساك الله(20).

ج- منهج التفسير الإشاري (الباطني)

أنكر بعضهم ظواهر القرآن والشرع، وقالوا إنّ المقصود الحقيقي للقرآن هو الباطن فقط، بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك فقالوا إنّ ظواهر العبادات والجنّة والنار إشارات إلى أسرار المذهب وأشخاص معيّنين (رؤسائهم).

مثال: قالوا إنّ المقصود من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة والمسجد الحرام أشخاص معيّنين (أئمّة الباطنية) وإنّ معرفة الدِّين تكمن في معرفة ذلك الشخص.

الملاحظات الأساس على هذه المناهج

1-إنّها تقوم على أساس الشهود (حالة روحية للشخص نتيجة الأذكار والتأمُّل) الّذي يمكن أن يشتمل على مصاديق إلهية وشيطانية، ومن الصعب تشخيص الحدود بين المكاشفات الشيطانية والإلهية، ثمّ إنّها لو كانت صحيحة فهي حجّة على أصحابها فقط وبمعونة الإيمان بصاحبها تصبح حجّة على اتباعه.

2-إنّ القرآن الكريم لم ينزل على الصوفيّة فقط ليفسّروه عن طريق مبانيهم، بل نزل لعموم الناس، ولهذا فإنّ ذلك يعتبر من منهج التفسير بالرأي ولا يمكن إقامة البرهان عليه.

3-إنّ هذه الطريقة خارجة عن حدود الدلالة اللفظيّة للقرآن، فهي ليست من باب التفسير بل هي صياغة لآراء ومباني التصوّف والعرفان النظري بقوالب قرآنية.

2-منهج التفسير الباطني الصحيح

أشارت بعض الأحاديث الصادرة عن الرسول (ص) والأئمّة عليهم السلام إلى أنّ للقرآن ظاهراً وباطناً، بل بطوناً متعدّدة، وهذا ما دعا بعض المفسّرين إلى الاهتمام بباطن الآيات بالإضافة إلى التفسير الباطني المعتبر. وقد أيَّد هذا النوع من التفسير الإشاري الصحيح كلّ من الإمام الخميني والعلّامة الطباطبائي، لأنّه لا يتمّ فيه التأكيد على الإشراقات والشهودات القلبية والتأويلات الّتي لا تستند إلى أيّ دليل، ولا يقوم على أساس تحميل المباني النظرية على القرآن، ولا يسلك منهج الباطنية في التأويل.

نماذج من التفسير الباطني الصحيح

1-قال تعالى: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾(21). فقد جاء عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "من حرقٍ أو غرقٍ ثمّ سكت ثمّ قال: "تأويلها الأعظم أن دعاها فاستجابت له"(22).

وفي الحديث عن الإمام الباقر (ع) قال: "من حرقٍ أو غرقٍ، قيل فمن أخرجها من ضلال إلى هدى، قال: تأويلها الأعظم"(23).

إنّ ظاهر الآية المتقدِّمة يتحدّث عن قتل وإحياء الإنسان، فقتل وإحياء أحدهم يعني قتل وإحياء جميع البشر، أمّا تأويلها (الباطني) فهو أهمّ وأعظم، ويأتي ذلك عن طريق إلغاء الخصوصيّة (قتل وإحياء الجسم المادّي) والحصول على قاعدة كلّية تشمل كلّ أنواع الإحياء؛ فإذا ما نجا الإنسان من الضلال وهُدي إلى صراط مستقيم فإنّ روحه سوف تحيا بروح الإيمان والاستجابة لدعوة الحقّ؛ ومثل هذا العمل يعتبر إحياءً لجميع البشر.

وفي الحديث، عن عبد الله بن سنان، عن ذريح المحاربي قال: قلت لأبي عبد الله (ع): إنّ الله أمرني في كتابه بأمر فأحبّ أن أعمله، قال: "وما ذاك"؟ قلت: قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ﴾(24) قال (ع): "ليقضوا تفثهم لقاء الإمام وليوفوا نذورهم تلك المناسك، قال: عبد الله بن سنان فأتيت أبا عبد الله (ع) فقلت: جعلت فداك قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ قال: أخذ الشارب وقصّ الأظفار وما أشبه ذلك، قال: قلت: جعلت فداك إنّ ذريح المحاربيّ حدّثني عنك بأنّك قلت له: ﴿لْيَقْضُوا تَفَثَهُم﴾ لقاء الإمام وليوفوا نذورهم تلك المناسك، فقال: "صدق ذريح وصدقت إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً، ومن يحتمل ما يحتمل ذريح"؟!(25).

2-كتب الإمام الخميني قدس سره في مورد الاستفادة العرفانية والأخلاقية من آيات القرآن فقال: فلو أنّ شخصاً قرأ وتأمّل في المحاورة الّتي جرت بين موسى والخضر، وطبيعة التعامل فيما بينهما وقيام موسى بشدّ رحاله مع سموّ مقام نبوّته طلباً لعلم لم يكن عنده، وكيفية عرضه حاجته على الخضر بالنحو الوارد في الآية الكريمة: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾(26)، وجواب الخضر واعتذارات موسى المتكرّرة، ثمّ استفاد من كلّ ذلك عظمة مقام العلم وبعض آداب تعامل المتعلّم مع المعلّم الّتي قد يصل ما ورد منها في تلك الآيات إلى ما يقرب من العشرين أدباً..، ثمّ قال: إنّ الكثير من استفادات القرآن هي من هذا القبيل(27).

3- ورد في قصّة النبيّ يوسف (ع) أنّ إخوته وفي سبيل إحكام خطّتهم لإبعاد يوسف عن أبيه قالوا لأبيهم: ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(28). ظاهر الآية يحكي عن حياة يوسف ومكر إخوته لإبعاده عن أبيه، في حين أنّ هناك عبرة يمكن استخلاصها من هذه القصّة وهي أنّ المخالفين لطريقة الهداية يحاولون أن يسرقوا أولادكم بحجّة اللعب والقضايا المادّية، فلا بدّ أن تحذروا من ذلك. وهذه المسألة يمكن تطبيقها في كلّ وقت بعد إلغاء الخصوصيات الزمانية والمكانية والأفراد المذكورين في القصّة، واستخراج قاعدة كلّية وعبرة تصلح للجميع، ويمكن أن نجد لهذه القصّة مصاديق كثيرة في الوقت الحاضر، فالمستعمرون وعن طريق استخدام طرق متعدِّدة من اللعب يسعون إلى فصل جيل الشباب عن أمّتهم وإلقائهم في التيه والضياع. فالقرآن لم يقصّ علينا قصص لنتسلّى بها، بل للعبرة.

عن الإمام الرضا (ع) قال: "إنّ رجلاً سأل أبا عبد الله (ع): ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدراسة إلّا غضاضة؟ فقال: لأنّ الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة"(29).

معايير التفسير الإشاري الصحيح

1- الالتفات إلى ظاهر الآية وباطنها في آنٍ واحد، أي يجب عدم إغفال ظاهر الآية في التفسير، فعلى المفسّر أن لا يدّعي بأنّ تفسيره (المعنى الإشاري) هو المراد الوحيد للآية، وهذه الضابطة تستفاد من كلام العلّامة الطباطبائي وغيره.

2-رعاية المناسبة القريبة بين ظاهر الكلام وباطنه؛ أي ينبغي أن لا تكون الدلالة الباطينة أجنبية عن االظواهر، لا مُناسبة بينها وبين اللفظ، فإذا كان معنى التأويل هو المفهوم المنتزع من الكلام، فلا بدّ أن تكون هُناك مناسبة لفظية تستدعي هذا الانتزاع.

3- عدم منافاة التفسير الإشاري للأدلّة القطعية والآيات المحكمة في القرآن.

4- الاستفادة من القرائن المعتبرة العقلية والنقلية (الآيات والروايات).

______________

(*) موقع: "هدى القرآن"

https://www.hodaalquran.com

1- سورة مريم، الآية: 29.

2- دروس في المناهج والاتجاهات التفسيريّة، محمّد علي الرضائي، ص 192، نقلاً عن أصول التفسير وقواعده، خالد عبد الرحمن العكّ، ص 205ـ 206.

3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 92، ص 95.

4- م. ن، ج 92، ص20 وج 78، ص 278.

5- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 1، ص 705.

6- سورة النساء، الآية: 36.

7- تفسير التستري، ص 45، نقلناه عن التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 936.

8- أنظر: م. ن، ج 2، ص 964 965.

9- سورة النساء، الآية: 66.

10- تفسير السُّلَميّ، ص 49، تقلناه عن التفسير والمفسّرون، ج 2، ص 966.

11- سورة الرحمن، الآية: 11.

12- تفسير السُّلَميّ، ص 344، نقلناه عن التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 976.

13- سورة البقرة، الآية: 125.

14- لطائف الإشارات، ج 1، ص 136، نقلاً عن التفسير والمفسّرون، ج 2، ص 969.

15- أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2ـ ص 971 973.

16- أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 984 998.

17- أنظر: م. ن، ج 2، ص 953 954.

18- محاضرات في الأيديولوجية المقارنة، محمّد تقي مصباح اليزدي، ترجمة محمّد عبد المنعم الخاقاني، ص 20 21، دار الحق، قم، ط 1.

19- أنظر: هذه الأمثلة وغيرها بالتفصيل في: دروس في المناهج والاتجاهات التفسيريّة، محمّد علي الرضائي، ص 204 205، والتفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هاذي معرفة، ج 2، ص939 وما بعدها.

20- أنظر هذه الأمثلة وغيرها بالتفصيل في: دروس في المناهج والإتجاهات التفسيريّة، محمّد علي الرضائي، ص 204 205، والتفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 939 وما بعدها.

21- سورة المائدة، الآية: 32.

22- تفسير الصافي، لطف الله الكلبايكاني، ج 2، ص 31، قم، منشورات إسلامي، 1370هـ.

23- م. ن.

24- سورة الحج: الآية: 29.

25- الكافي، ج4، ص549.

26- سورة الكهف، الآية: 66.

27- ﭙرواز درملكوت مشتمل بر آداب الصلاة (رحلة إلى الملكوت ضمن كتاب آداب الصلاة بالفارسية) الإمام الخميني، ج 2، ص 114.

28- سورة يوسف، الآية:12.

29- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 62، ص 15.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2541
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 10 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29