• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : علم التفسير .
                    • الموضوع : الإتجاهات الحديثة في التفسير .

الإتجاهات الحديثة في التفسير

عبد الجبار الرفاعي

تمهيد تاريخي

احتل القرآن الكريم مكانة متميزة في ترشيد مسار التفكير الإسلامي، وبناء مقومات الحضارة الإسلامية، وتوجيه التجربة التاريخية للأمة، بدرجة لا يرقى إليها أي كتاب سماوي أو أرضي آخر في حياة البشرية. فالكتب السماوية الماضية كانت عرضة للضياع والتحريف، وتراكم الشروح والتأويلات المضطربة المتناقضة، ولذلك عجزت عن اداء وظيفتها في هداية البشرية واخراجها من الظلمات الى النور، فلبثت مجتمعاتها في حالة سكون تكرر ذاتها قروناً عديدة، ولم تحقق تلك المجتمعات أية خطوة الى الأمام الا بعد ان تحررت من سلطة النصوص المحرفة ومفهوماتها التعطيلية.

بينما تجلى أثر النص القرآني بوضوح في إعادة تشكيل العقل، وارساء أُسس منهجية قويمة للتفكير الصحيح، فبعد نزول القرآن استفاق وعي العقل وأبصر العالم بمنظور بديل، تبدى فيه الإنسان والكون في صورة مغايرة للصورة الملتبسة التي ظل العقل أسيراً لها احقاباً متمادية، واصبح هذا الوعي اطار المنهج مختلف في معرفة العالم وصياغة الرؤى والمواقف المحددة أزاء مشكلاته وقضاياه. وعلى ضوء هذا الوعي انجز الإنسان المسلم عناصر ومقومات حضارة عظمى، قدمت للبشرية عطاءً هائلاً في شتى الميادين، واعادت للعقل المهمة التي اناطها الله تعالى به.

فالانجاز الحضاري للبشرية المتمثل بهذه الثروة المتراكمة من العلوم والمعارف والفنون، انما هو ثمرة لمعطيات سيادة التفكير العقلي، الذي هو أدق تعبير للمنهج الذي بشّر به القرآن، هذا المنهج الذي تأسس على نفي الجهل والضلال وكل ما من شأنه تزييف الوعي وإبعاد الإنسان عن الرشد والصواب.

وكانت حالات الازدهار والانحطاط في مسار الحضارة الإسلامية أجلى تعبير لمستوى تجسيد المنهج القرآني في التفكير، فحين تلقى الجيل الأول القرآن بصدق، وتوثـقت وشائج ارتباطهم به، استطاع اولئك النفر القليل، الذين كانوا مشتتين في الجزيرة العربية، من احراز مكاسب وانتصارات، لا يمكن ان تحققها أية أمة أخرى بنفس القدر من الامكانات المادية والعسكرية، فاكتسحوا الامبراطوريات الكبرى في العالم وقتئذ، وامسى العالم من تخوم اوروبا الى الصين في قبضتهم في سنوات معدودة. فيما فقدَ المسلمون بعد قرون مساحات شاسعة من ديارهم، واستحالوا الى ركام مبعثر، عُرف باسم (الرجل المريض)، لما هجروا منهج القرآن في تفكيرهم، وابتعدوا عنه في سلوكهم. وتلك سنّة جارية، فانه متى ما نهلت الأمة من معين القرآن وجسدته في افكارها وحياتها، فانها تستلهم روح الهداية، وتختزن فعالية حضارية متدفقة، بينما تتلاشى امكانات نهوضها، ويتبلد وعيها وتنضب فعاليتها، عندما تهجر القرآن.

آفاق التفسير

لم يستأثر كتاب من الكتب السماوية باهتمام اتباعه مثلما استأثر القرآن الكريم، فقد كان القرآن ولما يزل هو المنهل الذي استقت منه المعارف الإسلامية بأسرها، حتى ان العلوم الإسلامية بمختلف حقولها، فضلاً عن الدراسات الخاصة بالقرآن، تلتقي بمجموعها في العودة الى النص القرآني والاستناد اليه في بيان مفهوماتها، أو الاستدلال عليها، أو تبريرها وشرعنتها من خلال تقويل هذا النص وتأويله.

ولهذا كانت الكتابات في حقول التفسير وعلوم القرآن والدراسات القرآنية من أغزر الحقول التي تعاطاها المؤلفون والدارسون على مر العصور(1)، فربما لا نجد احداً لم يسهم بذلك على الاقل ولو برسالة صغيرة، مهما كان اهتمامه وتخصصه، بل سعى الكثير من الباحثين القدماء الى اكتشاف أو خلق وشائج عضوية بين مختلف المعارف والقرآن الكريم، وهذا ما نلاحظه بجلاء في التفسير خاصة، فان المتكلم حاول ان يحوِّل النص القرآني الى نص كلامي ويسقط عليه قوالب التفكير الكلامي، وهكذا فعل الفيلسوف، والفقيه، والمحدِّث، والبلاغي، والصوفي والعارف، وغيرهم، فأضحى التفسير ميداناً واسعاً تتمظهرفيه تيارات الفكر الإسلامي في مختلف العصور، وصار النص القرآني يتشكل في وعي الباحثين في صور مختلفة، ويتلون فهمه بألوان متنوعة، تبعاً لتنوع البيئة والمحيط الخاص للمفسر، ونمط ثقافته واهتماماته، وذوقه الشخصي. فقاد ذلك الى تنامي ركام هائل من التأويلات والانطباعات الذهنية، والثقافات السائدة في مختلف الأزمان، في مدونات التفسير، بنحو باتت فيه هذه المدونات مرآة للعصر الذي أُلفت فيه، تحكي همومه وتطلعاته، وآماله، وتصوراته، وتصوّر قضاياه ومسائله بمختلف أبعادها. وربما اغرق البعض مدلولات الآيات بمفاهيم لا تتصل بأهداف القرآن وتتنافى مع وظيفته، فاستحالت آياته الى ملتقى للعلوم الغريبة، (حتى آل الأمر الى تفسير الآيات بحساب الجمل ورد الكلمات الى الزبر والبينات والحروف النورانية والظلمانية وغير ذلك)(2) حسب تعبير العلامة الطباطبائي، وهام البعض وغاص بباء البسملة وصاد الصراط (3)، حسب قول السيد جمال الدين الحسيني المعروف بالافغاني.

___________________

 (1) حدثني المرحوم عبد الحميد العلوجي رئيس تحرير مجلة المورد: انه جمع ما يقارب مليوني عنوان كتاب ومقالة في الدراسات القرآنية، مما كُتب بمختلف اللغات، منذ عام 1952 إلى عام 1992، وهو يعد لموسوعته في الدراسات القرآنية (الخزانة القرآنية)، لكنه غادرالحياة قبل ان ترى هذه الموسوعة الببليوغرافية النور.

(2) السيد محمد حسين الطباطبائي.الميزان في تفسير القرآن، بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1411 هـ ـ 1991م، ج 1: ص 10.

 (3) قدري قلعجي. ثلاثة من أعلام الحرية: جمال الدين الافغاني ـ محمدعبده ـ سعد زغلول. بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1994 م،ص 20.

 

القرآن يفسره الزمان

يتفق المصلحون من علماء الأمة في العصر الحديث على ان ايقاظ الامة واستنهاضها لن يتحقق من دون

العودة الى القرآن الكريم والتمسك به، ويشدد هؤلاء العلماء على ضرورة وعي القرآن وعياً جديداً يتحرر من ترسبات التأويلات المتنوعة التي حجبت النص القرآني، وحالت بينه وبين انارة وجدان المسلم.

وقد وجد هؤلاء المصلحون ان دعوتهم لاعادة النظر في تفسير القرآن، والعمل على صياغة تفسير حديث يبررها ـ مضافاً الى ما تقدم، من اصطباغ التفسير وتلونه بالأفق الذهني للمفسر ـ ان الأُطر التقليدية للتفسير لا تتسع لتحولات العصر ومستجداته واستفهاماته، والقرآن كتاب لا يختص بزمان دون زمان، ولا يُعنى بمشكلات قوم دون سواهم، (لأن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غض الى يوم القيامة )(1) كما قال الامام الرضا عليه السلام.

كما ان المكاسب التي جناها العلم الحديث في اكتشاف عالم الطبيعة، والتعرف بصورة ادق على سنن النفس والمجتمع، وتطور البحث في مجال علم اللغة والدلالة، ستساهم في التعرف على مداليل آيات القرآن بصورة أجلى وأدق، لأن القرآن الكريم يهدف الى البناء الأمثل للاجتماع البشري، ولذلك يعالج في مساحة واسعة منه سنن هذا الاجتماع، فيلتقي القرآن مع العلم فيبلغ النموذج السليم للاجتماع البشري(2) مضافاً الى ان معطيات العلم يمكن توظيف بعضها، خاصة العلوم الإنسانية، في استكناه شيء من مداليل النص القرآني.

وبتعبير آخر ان بموازاة كتاب الوحي القرآني هناك كتاب ثاني هو كتاب الطبيعة الذي يتضمن ظواهر الوجود الكوني كافة (فالقرآن العظيم والكون البديع كلاهما يدل على الآخر ويرشد اليه، ويقود الى قواعده وسننه، فالقرآن يقود الى الكون، والكون أيضاً يقود الى القرآن )(3)، وهذا يعني وجود تناغم واتساق بين نواميس الطبيعة وسنن الاجتماع البشري من جهة ومعطيات القرآن الكريم ومدلولاته من جهة اخرى، وان الابعاد الغائبة والمداليل الخفية في كتاب الوحي ستتجلى بالتدريج تبعاً لما يتجلى في كتاب الكون

____________________

 (1) محمد باقر المجلسي. بحار الأنوار. ج 92: ص 15.

 (2) الشهيد مرتضى المطهري. التعرف على القرآن. ترجمة: محمد جواد المهري.طهران: 1982 م، ص 26.

 (3) د. طه جابر العلواني. الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون.القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي،1417 ه ـ 1996، ص 15.

 

وما يزخر به من ظواهر، ولعل في الحديث المنقول عن ابن عباس (ان القرآن يفسره الزمان )(1) ما يثبت هذه الحقيقة.

غير ان ذلك لا يتحقق وفق عملية دمج تبسيطية، مثلما تفتعل ذلك بعض الكتابات التي تبالغ في توظيف معطيات العلم وفرضياته، وتسعى لقراءة النص القرآني قراءة عاجلة، تسرف في الافتراض والشطط، وانما يتوقف ذلك على اكتشاف (العلاقة المنهجية بين الناظم المنهجي لآيات القرآن من ناحية، وبين السنن والقوانين المبثوثة في الوجود من ناحية ثانية، مع الناظم المنهجي الذي يربط بينهما)(2).

روّاد الإتجاهات الحديثة

يتفق الدارسون على ان السيد جمال الدين الحسيني المعروف بالافغاني كان أول من دعا الى اعادة النظر في مناهج التفسير القديمة، ومهدَ للاتجاهات الحديثة في تفسير القرآن، لأنّ مشروعه الاحيائي استند الى القرآن كمرجعية يصدر عنها في دراسة واقع المسلمين، والتبصر بمشكلاته وأمراضه، وفي تحديد الوسائل والأدوات اللازمة لتقويم هذا الواقع، وبناء المقومات اللازمة لايقاظه ونهوضه.

وكان جمال الدين أول مفكر مسلم في العصر الحديث يؤكد بصراحة ان السبيل الوحيد لنجاة المسلمين هو العمل بأحكام القرآن وتطبيقها في الحياة(3)، ويرى ان بعث الأمة واستنهاضها لن يتحقق من دون (بعث القرآن، وبعث تعاليمه الصحيحة بين الجمهور وشرحها على وجهها الثابت، من حيث يأخذ بها الى مافيه سعادتهم دنيا وآخرة )(4).

وقد تنبه جمال الدين باكراً الى العلة التي أقعدت المسلمين عن صياغة تفسير للقرآن يوائم مستجدات الزمان ويستجيب لرهانات العصر، فصرح ان هذه العلة تكمن بتقديس التفاسير الكثيرة التي تراكمت حول النص القرآني، عبرمختلف عصور الحضارة الإسلامية، وتشبّعت بملابسات الزمان والمكان، وعقيدة المفسر، ورؤيته، المنبثقة من بيئته الخاصة، وما تمور به من اسئلة ومعارف لا تتجاوز الفضاء الداخلي للبيئة. فحين يتعامل البعض مع رأي المفسركما يتعامل مع الوحي، يتحول هذا الرأي الى نص ثانٍ يطمس

_____________________

 (1) ذكر هذا الحديث الشيخ جعفرالسبحاني في كتابه: مفاهيم القرآن. ج 1:ص 19. عن كتاب: النواة في حقل الحياة.لمفتي الموصل الشيخ العبيدين.

 (2) د. طه العلواني. مصدر سابق. ص 18.

 (3) جمال الدين الأفغاني. الأعمال الكاملة. تحقيق: د. محمد عمارة. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر،1981 م، ج 2: ص 67.

 (4) عبد القادر المغربي. جمال الدين الأفغاني: ذكريات وأحاديث. القاهرة: دارالمعارف، 1948 م، ص 27.

 

النص القرآني، ويحول دون استنطاقه واستيحاء دلالاته المتجددة، التي لا تنضب ابداً، فان القرآن كما يقول الإمام علي عليه السلام (بحر لا ينزفه المستنزفون، وعيون لاينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون )(1).

لقد حذر جمال الدين بشدة من الخلط بين النص القرآني (وما تراكم عليه، وتجمع حوله من آراء الرجال واستنباطاتهم ونظرياتهم) ووضع حداً فاصلاً بين آراء الرجال هذه والنص القرآني، وبلور منهجاً واضحاً للتعاطي مع الثاني(كوحي) والأول الذي (نستأنس به كرأي) فحسب. من هنا يجب ان نميز رأيا لمفسر بدقة (ولا نحمله على اكفنا مع القرآن )(2).

ولم يتوقف جمال الدين عند هذا الحد، بل عمل على تطبيق منهجه هذا على الآيات الكريمة التي كان يستهل بها مقالاته في مجلة (العروة الوثقى) والتي تعالج قضايا الأمة وهمومها، كقضية التخلف والانحطاط الحضاري، وغلبة الاستعمار وهيمنته على ديار الإسلام. والعجز النفسي وذبول العزيمة، والانبهار وعقدة الحقارة حيال الآخر.

وحينما نطالع مجموعة أعداد العروة الوثقى يلوح لنا اسلوب جديد في التفسير انتهجه جمال الدين، لا نرى ما يماثله لدى من سبقه أو عاصره من المفسرين، ذلك ان جمال الدين سعى لاستلهام الرؤية السياسية والموقف من الاحداث من روح القرآن الكريم، وهكذا كرر هذه التجربة في كل مسألة اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية، تناولها في مقالاته، فقد تصدّرت مقالات جمال الدين في العروة الوثقى آيات قرآنية، وتدلّت المفاهيم والرؤى المنبثة في كل مقال من معين الآية التي يستهله بها، وما يتصل بها من آيات تضيء مدلول تلك الآية، فصار المقال تفسيراً باسلوب مختلف للآية، تفسيراً لا يتورط في نقض وابرام اقوال المفسرين، ولا يستغرق في متاهات لفظية لا تتصل بالحياة، ولايفتعل مشاغل فكرية تبتعد عن هدف القرآن في هداية الإنسان، وانما هو تفسير اجتماعي يقنن موقف المواطن والأمة حيال القضايا الحياتية المتنوعة، ويصوغ رؤية سديدة من منظور القرآن، فمثلاً افتتح مجلة العروة الوثقى بقوله تعالى (ربنا عليك توكلنا واليك انبنا واليك المصير)(3)، وصدّر المقال الذي يليه بالآية الكريمة (سنّة الله في الذين

_____________________

 (1) الامام علي بن أبي طالب. نهج البلاغة. جمعه: الشريف الرضي. خطبة 198 (في صفة القرآن ) فقرة 28.

 (2) عبد القادر المغربي. مصدر سابق.ص 61.

 (3) لاحظ الموارد الأخرى في: العروة الوثقى.الصفحات 63، 79، 107، 155،156، 162، 166، 337.

 (13 ـ 21) جمال الدين الأفغاني، ومحمدعبده. العروة الوثقى. بيروت: دار الكتاب العربي، ص 53، 70، 128، 152، 169،182، 145، 120.

 

خلوا من قبل ولن تجد لسنّة الله تبديلا)، حين تناول (ماضي الأمة وحاضرها وعلاج عللها)(1)، وفي

معرض حديثه عن (انحطاط المسلمين وسكونهم وسبب ذلك) افتتح مقاله بالآية (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)(2)، وفي مقال (رجال الدولة وبطانة الملوك) بدأ بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا..)(3)، وأورد الآية (ألم، أحسب الناس ان يُتركوا ان يقولوا آمنا وهم لايفتنون) في كلامه عن (امتحان الله للمؤمنين )(4)، ولما بحث (سنن الله في الأمم وتطبيقها على المسلمين) جاء بالآية (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)(5)، وعندما بحث اثر الخوف في هزيمة الأمة وذوبانها، تحت عنوان (الجبن)، ذكر الآية (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة، قل ان الموت الذي تفرون منه فانه ملاقيكم)(6). وفي بيان موقف (الامة وسلطة الحاكم المستبد) استوحى قوله تعالى (وما ظلمهم الله ولكن كانوا انفسهم يظلمون)(7)، وعندما حاول ايقاد (روح الأمل وطلب المجد) لدى الامة استلهم مادته من (انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون..ومن يقنط من رحمة ربه إلاّ الضالون)(8).

هكذا دأب جمال الدين على استيحاء روح القرآن واستلهام معالجاته لمشكلات الامة وأمراضها (9)، فباشر بذلك تجربة رائدة في رسم أصول (التفسير الإجتماعي للقرآن)، وتدشين أسسه في خطابه النهضوي.

_____________________

 (1) محمد عبده. الاعمال الكاملة. دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة. بيروت:المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ج 1:ص 589.

 (2) المصدر السابق. ص 28.

 (3) محمد رشيد رضا. تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار.بيروت: دارالمعرفة، ج 1: ص 17.

 (4) محمد البشير الابراهيمي. (خصائص التفسير الباديسي). تصدير لكتاب تفسير ابن باديس. بيروت: دار الكتب العلمية،1995 م، ص 20.

 (5) توفيق محمد شاهين. (تعريف بالامام عبد الحميد بن باديس). نفس المعطيات السابقة، ص 13.

 (6) أسعد جيلاني. أبو الأعلى المودودي: فكره ودعوته. ترجمة: د. سمير عبدالحميد ابراهيم. لاهور: 1978 م، ص 234.

 (7) اسماعيل الحسني. نظرية المقاصد عند الامام محمد الطاهر بن عاشور.فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي،1995، ص 91.

 (8) السيد محمد حسين الطهراني. مهرتابان (بالفارسية). ص 41.

 (9) السيد الشهيد محمد باقر الصدر.المدرسة القرآنية. بيروت: دار التعارف للمطبوعات، 1981 م، ص 18.

 

واستأنف لاحقاً تلميذه الشيخ محمد عبده الامتداد بتجربة استاذه، في اسلوب التعامل مع تراث المفسرين، ومنهجه في الكشف عن المداليل الاجتماعية للذكر الحكيم، وهو ما يتجلى في رسالة سياسية بعث بها محمد عبده إلى أحد أعضاء جمعية العروة الوثقى، يكتب فيها (وحاذر النظر إلى وجوه التفاسير إلا لفهم لفظ مفرد غاب عنك مراد العرب منه، أو ارتباط مفرد بآخر خفي عليك متصله، ثم اذهب إلى ما يشخصك القرآن إليه، واحمل بنفسك على ما يُحمل عليه، وضم إلى ذلك مطالعة السيرة النبوية، واقفاً عند الصحيح المعقول، حاجزاً عينيك عن الضعيف والمبذول )(1). واقتفى التلميذ عبده خطى الاستاذ في تفسيره، و(طبق فيه منهج استاذه الأفغاني)(2). وتحدث بصراحة في مقدمة دروسه في التفسير التي قررها تلميذه السيد محمد رشيد رضا، عن ان التفسير الذي يرمي اليه (هو فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة )(3). وأوضح ان التفاسير السابقة ابتعد الكثير منها عن مقصد الكتاب الكريم، عبر استغراقها في مباحث البلاغة والاعراب، وتتبع القصص، وغريب القرآن، والأحكام الشرعية، وعلم الكلام، والمواعظ والرقائق، والاشارات الصوفية.

وأورد محمد عبده تساؤلاً يتكرر في عصره والعصر الذي تلاه، ويتلخص في قول البعض، بانه (لا حاجة إلى التفسير والنظر في القرآن، لأن الأئمة السابقين نظروا في الكتاب والسنة، واستنبطوا الأحكام منهما، فما علينا إلاّ أن ننظر في كتبهم ونستغني بها)(4). ثم أجاب بصيغة استفهام استنكاري، بأن هذا الزعم (لو صح لكان طلب التفسير عبثاً، يضيع به الوقت سدى، وهو مخالف لاجماع الأمة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى آخر واحد من المؤمنين، ولا أدري كيف يخطر هذا على بال مسلم ؟ !)(5). وشدد على ان المخاطب في القرآن هم أفراد النوع الإنساني في كل زمان، والقرآن أنزل لهداية هذا النوع،(فهل يعقل انه يرضى منا بأن لا نفهم قوله هذا، ونكتفي بالنظر في قول ناظر نظر فيه، لم يأتنا من الله وحي بوجوب اتباعه لا جملة ولا تفصيلا؟! )، واردف هذا الاستفهام بنفي قال فيه: (كلا، إنه يجب على كل واحد من الناس أن يفهم آيات الكتاب بقدر طاقته، لا فرق بين عالم وجاهل )(6).

وفي محاولات التفسير اللاحقة حرص المصلحون من علماء الدين على ترسيخ صلة الأمة بالقرآن، وباشروا تجارب رائدة في التفسير، اتخذوا كتاب الله تعالى فيها محوراً لخطابهم الاصلاحي، ووظفوا

____________________

 (1) أبو حامد الغزالي. جواهر القرآن.ص 30.

 (2) الفخر الرازي. التفسير الكبير. (سورة الاعراف، الآية 54) ومواضع أخرى.

 (3) بدر الدين الزركشي. البرهان فيعلوم القرآن. ج 2: ص 154 ـ 155،181.

 (4) جلال الدين السيوطي. الاتقان فيعلوم القرآن. ج 2: ص 125 ـ 129.

 (5) طنطاوي جوهري. الجواهر فيتفسير القرآن. ج 1: ص 2 ـ 3.

 (6) د. محمود البستاني. القواعد البلاغية في ضوء المنهج الإسلامي. ص 14.

 

تعاليمه في مقولاتهم، واهتموا باحياء مصطلحاته ومفهوماته، وصرح الكثير منهم بعجز التفاسير السابقة عن تلبية متطلبات الأمة المتنوعة. وحرصوا جميعاً على تدريس التفسير، وتدوينه ببيان ينتفع به كل الناس، لأنهم وجدوا ان إحياء الأمة غير ممكن مالم يستند إلى بعث القرآن، واشاعة تعاليمه وأفكاره. فاقترنت دعواتهم باستلهام روح القرآن، وفهم قضايا الأمة في ضوء توجيهاته على الدوام. حتى ان المجاهد الشيخ عبدالحميد بن باديس (آثر البدء بتفسيره درساً تسمعه الجماهير، فتتعجل من الاهتداء به، ما يتعجله المريض المنهك من الدواء، وما يتعجله المسافر العجلان من الزاد)(1)، وعكف عليه إلى ان ختمه في خمس وعشرين سنة، فاحتفلت الجزائر احتفالاً بهيجاً عام 1357 هـ بمناسبة ختمه لتفسير القرآن. وقد ضاق المستعمر الفرنسي ذرعاً بروح المقاومة، والوعي الجديد، الذي أججته دروس بن باديس التفسيرية في الأمة، وكان بن باديس قد تنبأ بانفجار الثورة على المستعمر الغازي، (فعبأ لها الجهود، وأشار إلى جبال أوراس الحصينة، وقال لابنائه وطلابه: من هنا تبدأ الثورة.. وبايع بعضهم فرداً فرداً، استعداد للتعبئة ولاعلان الجهاد الإسلامي والحرب ضد فرنسا، ولكن المنية عاجلته )(2).

وكان الشيخ أبو الأعلى المودودي يعمل على تفسير القرآن، وهو في غمرة مهامه في العمل في سبيل الله، فأمضى ثلاثين عاماً من حياته في اعداد تفسيره (تفهيم القرآن )، ولم تثنه العوائق المتنوعة كالسجن وملاحقة السلطة عن أداء هذه المهمة (3). وهكذا امضى الشيخ محمد الطاهر بن عاشور خمسين عاماً كاملة في تأليف تفسيره (التحرير والتنوير)(4).

اما السيد محمد حسين الطباطبائي فقد أنفق ثماني عشرة سنة تقريباً في تدريس وتدوين تفسيره (الميزان في تفسير القرآن )(5).

ودشن السيد الشهيد محمد باقر الصدر حركته في مناهضة الاستبداد، بسلسلة دروس في التفسير ألقاها على طلاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف بدأها ببيان الثغرات المنهجية في الاتجاه التجزيئي السائد والمتوارث للتفسير، وأوضح (ان قروناً من الزمن متراكمة مرت بعد تفاسير الطبري والرازي والشيخ الطوسي، لم يحقق فيها الفكر الإسلامي مكاسب حقيقية جديدة، وظل التفسير ثابتاً لا يتغير إلاّ قليلاً خلال

___________________

 (1) د. عفت محمد الشرقاوي. اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث. ص 278.

 (2) دائرة المعارف الإسلامية (مادة التفسير). ص 368 ـ 374.

 (3) د. عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ). التفسير البياني للقرآن. القاهرة:دار المعارف: ص 10 ـ 11.

 (4) د. محمد عبد الله دراز. النبأ العظيم.الكويت: دار القلم، ص 155.

 (5) نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم. صدر عن دار الشروق، في 560ص، سنة 1996 م.

 

تلك القرون، على الرغم من ألوان التغير التي حفلت بها الحياة في مختلف الميادين ) (1).

وخلص الشهيد الصدر إلى ضرورة تبني اتجاه جديد في التفسير، يتحرر فيه التفسير من الحالة التكرارية، التي اقعدته عن التطور والنمو، ويخلص النص القرآني من الآراء والافكار المختلفة التي راكمها المفسرون حول هذا النص، فأبعدته عن الواقع.

الاتجاهات الحديثة

تنوعت اتجاهات التفسير في القرن الأخير، وظهرت في اطار كل واحد من هذه الاتجاهات اجتهادات متعددة، عبرت عن نفسها بآراء وتسميات، عادة ماتلتقي بمحور مشترك، تتوحد فيه أصولها ومنطلقاتها وغاياتها، وان كانت لا تتوحد في ادوات استنطاق النص، وأساليب صياغة المفاهيم القرآنية.

وفي مراجعة سريعة لمدونات التفسير والدراسات القرآنية الحديثة، يمكن استخلاص ابرز الاتجاهات التي ترسمها المفسرون في أعمالهم. مع العلم ان بعض مدونات التفسير يلتقي في ثناياها عدة اتجاهات يستند اليها المفسر في معالجة النص واستكناه دلالاته. وفيما يلي اشارات موجزة تعرف بهذه الاتجاهات في التفسير:

1 ـ التفسير العلمي:

يعتمد هذا اللون من التفسير على تحكيم الفرضيات والنظريات والقوانين العلمية في معاني آيات الكتاب الكريم، وبذل محاولات تأويلية تتجاوز المدلول الظاهر للآية أحياناً، بغية القول بتطابق مدلولها مع معطيات العلم الحديث.

وترتد هذه النزعة إلى عدة قرون تسبق العصر الحديث، كما نلاحظ لدى الغزالي في (جواهر القرآن )(2)، والفخر الرازي في (التفسير الكبير)(3)،والزركشي في (البرهان في علوم القرآن )(4)، والسيوطي في (الاتقان في علوم القرآن )(5)، وغيرهم.

لكن تعرف المسلمين على مكاسب العلوم الحديثة ومنجزاتها الواسعة، أوجد أرضية جديدة للتفسير العلمي، فعمد بعض المفسرين إلى اقتباس معطيات العلم وتطبيقها على النص القرآني، وكانت أقدم محاولة في هذا المضمار في العصر الحديث لمحمد بن أحمد الاسكندراني الطبيب من أهل القرن الثالث عشر الهجري، ____________________

 (1) المصدر السابق. ص 5.

 (2) محمد عزة دروزة. القرآن المجيد. بيروت: المكتبة العصرية، ص 199 ـ204.

 (3) محمد المبارك. من منهل الأدب الخالد. بيروت: دار الفكر، ص 6 ـ 8.

 (4) سيد قطب. التصوير الفني في القرآن.القاهرة: دار الشروق، ص 34 ـ 35.

 (5) أمين الخولي. (مادة التفسير ) في:دائرة المعارف الإسلامية. ج 5:ص 368ـ369.

 

ومؤلف كتاب (كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية ) المطبوع في القاهرة سنة 1297 هـ.

ثم ظهرت الكثير من المؤلفات بمرور الزمن في التفسير العلمي، غير ان اشهر هذه المؤلفات وأوسعها، هو (الجواهر في تفسير القرآن الكريم ) للشيخ طنطاوي جوهري، الذي مزج فيه ـ كما يقول ـ الآيات القرآنية بالعجائب الكونية والبدائع الأرضية، وجعل آيات الوحي مطابقة لعجائب الصنع، وكان يرمى إلى ان يكون كتابه هذا (داعياً حثيثاً إلى درس العوالم العلوية والسفلية، وليقو من من هذه الأمة مَنْ يفوقون الفرنجة، في الزراعة، والطب، والمعادن، والحساب، والهندسة، والفلك، وغيرها من العلوم والصناعات )(1).

وبالرغم من ان تفسير طنطاوي جوهري اشتمل على مباحث واشارات عديدة تعالج مشكلات التخلف، وتدعو إلى مقاومة الاستعمار، والثورة ضد الاحتلال، ومناهضة الاستبداد، الا ان النزعة العلمية طغت على هذا التفسير، فاستغرق صاحبه في اقتباس الفرضيات والحقائق العلمية، وتطبيقها على الآيات القرآنية، بمناسبة أو غير مناسبة، مما أثار حفيظة الكثير من الدارسين، الذين رأوا في طريقة طنطاوي جوهري اسرافاً ومبالغة مفرطة في مزج فروض العلم واحتمالاته وقوانينه بمعاني القرآن. فظهر تيار يعارض هذا الاسلوب في التفسير، ويحذر بشدة من التفسير العلمي للقرآن.

غير ان الكثير من المفسرين في العصر الحديث أفاد من نتائج الاكتشافات العلمية، ففسروا بعض الآيات التي تتحدث عن الظواهر الطبيعية على ضوء هذه الاكتشافات. وصدرت مجموعة دراسات تعالج قضية الاعجاز العلمي وتسعى للاستعانة بشيء من معطيات العلوم الحديثة في البرهان على اعجاز القرآن.

2 ـ التفسير الأدبي:

ظلت البلاغة القديمة تتناول النص القرآني تناولاً جزئياً، يهتم بالخصائص الدلالية والجمالية للكلمة والجملة والفقرة، من دون ان يتعدى ذلك لتحليل الخصائص المفهومية والفنية للنص بتمامه، من خلال تشخيص النسيج العضوي الذي تنتظم في سياقه الفقرات بمجموعها، فتشكل وحدة موضوعية، تشي بدلالات اضافية لا يحكيها التناول الجزئي للنص، مضافاً إلى ان محاولة استجلاء الصورة الفنية للنص بملاحظة جمله وفقراته كوحدات مستقلة غيرمترابطة، سوف لن يؤدي إلى خفاء تلك الصورة فحسب، وانما يعكس لنا دلالات مبعثرة وصوراً مشتتة، بمثابة ما يرتسم من صور في المرآة المهشمة،(فمثلاً لو تناولنا سورة الكهف وأخضعناها للتناول الجزئي، لما خرجنا بأكثرمن آيات أو جُمل متناثرة، منفصل بعضها عن البعض الآخر، على نحو الأعضاء المنفصلة عن جسم الإنسان، كاليد أو الوجه أو الصدر لكننا لو اخضعناها للتناول الكلي لخرجنا بنتيجة اخرى، هي مواجهتنا لنص فني متناسق الأجزاء على

__________________

 (1) د. محمد ابراهيم شريف. اتجاهات التجديد في تفسير القرآن في مصر.ص 597.

 

نحو التناسق الذي نلحظه في تركيبة الجسم البشري، أو سائر الأجسام والأشكال الطبيعية )(1).

وعلى هذا الضوء انتهج جماعة من المفسرين في العصر الحديث منهجاً جديداً في التفسير الأدبي للقرآن، يستند إلى استجلاء الوحدة الموضوعية والوشائج العضوية التي تربط الآيات والسور القرآنية.

وقد بدأت بذور هذا الاتجاه في التفسير تظهر في تفسير محمد عبده ومحمد رشيد رضا ومحمد مصطفى المراغي، لكن جهودهم في هذا الصدد لا تتعدى الاشارات واللمحات العابرة (2).

اما الولادة الحقيقية للتفسير الادبي الحديث، وتبلور أصوله النظرية، وتدشين تلك الاصول في تجارب تفسيرية، فقد تبلورت على يد الشيخ أمين الخولي وتلامذته، حيث أصلَ أمين الخولي بعض المرتكزات المنهجية لهذا الاتجاه في بحثه الذي كتبه تعليقاً على مادة (التفسير ) في (دائرة المعارف الإسلامية )(3). ثم توسع في بيانه في بحوث أخرى، وتمثلت تلميذته الدكتورة بنت الشاطي شيئاً من هذه المرتكزات في كتابها (التفسير البياني للقرآن الكريم )، وأوردت مستخلصاً في مطلع كتابها لضوابط التفسير التي رسمها أستاذها واستندت اليها في تفسيرها، بما يلي:

1 ـ الأصل في المنهج: التناول الموضوعي لما يراد فهمه من القرآن، ويبدأ بجمع كل ما في الكتاب من سور وآيات في الموضوع المدروس.

2 ـ في فهم ما حول النص: ترتب الآيات فيه على حسب نزولها، لمعرفة ظروف الزمان والمكان، كما يستأنس بالمرويات في أسباب النزول من حيث هي قرائن لابست نزول الآية.

3 ـ في فهم دلالات الألفاظ: تلتمس الدلالة اللغوية الأصيلة، التي تعطي حس العربية للمادة في مختلف استعمالاتها الحسية والمجازية، ثم يخلص الدلالة القرآنية باستقراء كل ما في القرآن من صيغ اللفظ، وتدبر سياقها الخاص في الآية والسورة، وسياقها العام في القرآن كله.

4 ـ في فهم أسرار التعبير: يُحتكم إلى سياق النص في القرآن، بالالتزام بما يحتمله نصّاً وروحاً. وتعرض عليه أقوال المفسرين، فيقبل منها ما يقبله النص، ويتحاشى ما أقحِم على كتب التفسير من مدسوس الاسرائيليات، وشوائب الأهواء المذهبية، وبدع التأويل (4).

ويمكن ان نلحظ تجربة رائدة في التفسير الأدبي تسبق محاولة بنت الشاطي بما يزيد على ربع قرن، ظهرت للمرة الأولى في دروس التفسير التي ألقاها العلامة الشيخ محمد عبد الله درّاز على طلاب كلية أصول الدين بالجامع الازهر، في أوائل العقد الرابع من القرن العشرين.

_____________________

 (1) د. محمد احمد خلف الله. الفن القصصي في القرآن. ص 1.

 (2) د. محمد عبد الله درّاز. دستورالاخلاق في القرآن. ص 8 ـ 10.

 (3) السيد الشهيد محمد باقر الصدر.المدرسة القرآنية. ص 22.

 (4) المصدر السابق. ص 23 ـ 24.

 

وقدّم الشيخ درّاز في دروسه التفسيرية اسلوباً آخر في التفسير الأدبي لا يتطابق مع اسلوب الشيخ أمين الخولي، وان كان يتفق معه في السعي لاكتشاف الوحدة الموضوعية والنسيج العضوي في الآيات. فقد لمحنا اهتمام الخولي بمعالجة موضوع قرآني معين، وصياغة موقف القرآن أزاءه، عبر تتبع موارده في القرآن، واستقراء دلالات اللفظ في ضوء استعمالاته المختلفة في الآيات، بينما نجد درّاز يفتش عن الترابط العضوي في السورة ذاتها، لانها ذات (بُنية متماسكة، قد بُنيت من المقاصد الكلية على أسس وأصول، وأقيم على كل أصل منها شُعب وفصول، وامتد من كل شعبة منها فروع تقصر أو تطول، فلا تزال تنتقل بين أجزائها كما تنتقل بين حُجُرات وأفنية، في بنيان واحد، قد وضع رسمه مرة واحدة... بل انها تلتحم كما تلتحم الأعضاء في جسم الإنسان، فبين كل قطعة وجارتها رباط موضعي من أنفسهما، كما يلتقي العظمان عند المفصل، ومن فوقهما تمتد شبكة من الوشائج تحيط بهما عن كثب، كما يشتبك العضوان بالشرايين والعروق والأعصاب، ومن وراء ذلك كلّه يسري في جملة السورة اتجاه معين، وتؤدي بمجموعها غرضاً خاصاً، كما يأخذ الجسم قواماً واحداً،ويتعاون بجملته على أداء غرض واحد، مع اختلاف وظائفه العضوية ).(1)

وبعد ما يزيد على نصف قرن. طبق منهج درّاز في التفسير الشيخ محمدالغزالي في كتابه (نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم ) (2)، الذي اهتم فيه بدارسة الوحدة الموضوعية في كل سورة، وحاول ان يكتشف الأواصر بين مستهل السورة ووسطها وختامها، ويوضح ما خفي من دلالات مشتركة وراء المدلول الخاص للآيات، متوكئاً على تجربة الشيخ دراز في كتابه (النبأ العظيم )،عندما تناول سورة البقرة، وهي أطول سورة في القرآن، فجعل منها باقة واحدة ملونة نضيدة (3).

ولم يقتصر هذا اللون من التفسير على الأعمال المذكورة، وانما ترسم منهجة غير واحد، من المفسرين في العصر الحديث، ومن هؤلاء الاستاذ محمد عزة دروزه صاحب (التفسير الحديث ) الذي رتبه على أساس تاريخ النزول، فاعتبر ان الفهم الأمثل للقرآن يستند إلى ملاحظة السياق والتناسب والترابط بين الفصول والمجموعات القرآنية، لأنّ أخذ القرآن آية آية أو عبارة عبارة أو كلمة كلمة، يؤدي إلى التشويش على صحة التفهم والتدبر والاحاطة، أو على حقيقة ومدى الهدف القرآني(4).

وفي عام 1960 نشر الأستاذ محمد المبارك دراسة أدبية لنصوص القرآن تحت عنوان (من منهل الأدب الخالد)، تضمنت طريقته في التفسير الأدبي لبعض السور القرآنية، من خلال النظرة الشاملة التي تنظم

______________________

 (1) المصدر السابق. ص 27.

 (2 ـ 4) المدرسة القرآنية. ص 28،29، 27، 19.

 

الآيات كلها، دون الاكتفاء بدراسة الآيات منفصلة، لأن النظر إلى الآيات بمجموعها يقودنا إلى استخلاص الخصائص والسمات الفكرية والفنية المشتركة في مختلف الآيات،التي لا تتبدى إلاّ بالتناول الكلي للسورة. فالتناول الكلي يضيء لنا الفكرة العامة للسورة، ويوضح ما تضمنته من أفكار، ويكشف ما بين هذه الأفكار من صلة ويربطها بما تضمنه القرآن من مفاهيم وأفكار(1).

وقد كان للشهيد سيد قطب دور رائد في انتهاج اسلوب متميز في التفسير الأدبي، افتتح فيه حقلاً آخر يعالج وحدة التصوير والتعبير في نصوص القرآن، واقترحه لأول مرة في مقال نشره في مجلة المقتطف عام 1939 تحت عنوان (التصوير الفني في القرآن)، وبعد خمس سنوات أي في عام 1944 أصدر كتاباً يحمل العنوان ذاته، تناول فيه التناسق في التعبير والتصوير في القرآن، وحاول ان لا يتوقف عند خصائص النصوص المفردة، بل تجاوزها إلى ادراك الخصائص العامة، واقتناص السمات المطردة، والطريقة الموحدة في التعبير عن جميع الاغراض في الكتاب الكريم.(2)

3 ـ التفسير الموضوعي:

التفسير الموضوعي مصطلح في التفسير ذاع في العصر الحديث، وتداوله الباحثون في الدراسات القرآنية في أكثر من معنى، تتوحّد هذه المعاني في جمع المفسر للآيات في موضوع معين، ثم استخلاص رؤية القرآن حيال هذا الموضوع منها.

وقد تناول أمين الخولي هذه المسألة في معالجته لضوابط التفسير الأدبي الذي دعا اليه، واوضح ان ترتيب القرآن في المصحف لم يلتزم بوحدة الموضوع، كما لم يلتزم بالترتيب الزمني لظهور الآيات، وانما تحدث عن الموضوع الواحد في سياقات متعددة، ومناسبات متنوعة. وهذا يقتضي ان يفسرالقرآن موضوعاً موضوعاً لا قطعة قطعة ولا سورة سورة، وان تجمع الآيات الخاصة بالموضوع الواحد، ويعرف ترتيبها الزمني، ومناسباتها وملابساتها الحافة بها(3).

غير ان الدكتورة بنت الشاطي التي استهلت كتابها (التفسير البياني) بمقدمة حددت فيها النهج الذي تسير عليه في تفسيرها، وشددت على انه المنهج الذي تعلمته من الشيخ أمين الخولي، طبقت مجموعة الضوابط التي رسمها استاذها للتفسير، ما خلا فكرة الموضوع، فانها لم ترتبط في تفسيرها بفكرة الموضوع التي شدد الخولي في دعوته اليها، واعتبرها واحدة من الأصول الاساسية في التفسير الأدبي الذي اقترحه (4).

ووجد في تلامذة أمين الخولي من يلتزم بفكرته في مراعاة وحدة الموضوع في التفسير الأدبي، وهو الدكتور محمد أحمد خلف الله، الذي تقدم برسالة دكتوراة سنة 1947 حول (الفن القصصي في القرآن )، واستهلها بالقول: ان السبب الذي دفعه لأن يجعل القرآن ميدان أبحاثه، يرجع إلى نوع من الاستهواء، غرسه في نفسه استاذه الخولي، عن النهج الأدبي في فهم القرآن وتفسيره (5).

_____________________

 (1 ـ 5) المدرسة القرآنية. ص 28،29، 27، 19.

 

إلاّ ان هذه الرسالة، أثارت احتجاجات واسعة، وسجالات عنيفة وقتئذ، بسبب تبني صاحبها لآراء غريبة في القصص القرآني، يخالف بها المشهور لدى المفسرين.

وصدرت نماذج تمثل محاولات متفاوته، لدراسة موضوع معين من منظورالقرآن، تناول مؤلفوها النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والقضائي وغير ذلك، مثل كتاب (الدستور القرآني في شؤون الحياة ) لمحمد عزة دروزة، و(تفسير آيات الربا) لسيد قطب، و (المجتمع الإسلامي كما تنظمه سورة النساء) لمحمد محمد المدني، و (القرآن والمجتمع ) لمحمود شلتوت، وسلسلة (مفاهيم القرآن ) لجعفر سبحاني، وغيرها.

لكن النموذج المتميز من هذه النماذج، والذي حاز قصب السبق في تشييد بناء نظري قرآني متين، هو كتاب ( دستور الأخلاق في القرآن ) للشيخ محمد عبد الله درّاز، الذي قدّمه كاطروحة دكتوراة بجامعة السوربون نهاية عام 1947، واتبع فيه نظاماً منطقياً لاستكشاف دلالات الآيات، وبالتالي استخلاص الشريعة الأخلاقية من القرآن في مجموعه (1).

ومع شيوع عنوان التفسير الموضوعي، واهتمام بعض الدارسين به، واتخاذهم له كعنوان لأبحاثهم القرآنية، لكنا نلحظ اضطراباً في طرائق دراسته، فقد أسمى البعض أية محاولة للتكديس العددي للآيات في قضية مشتركة تفسيراً موضوعياً، واصطلح آخرون على كل محاولة لانتزاع مفهوم قرآني من بضعة آيات هذه التسمية.

ويعود هذا الالتباس إلى عدم تجلي الأصول النظرية لهذا النوع من التفسير إلاّ في وقت متأخر عن معظم المحاولات المارة الذكر.

فقد تبلورت الصياغة النظرية لمنهج التفسير الموضوعي في دروس التفسير التي ألقاها السيد الشهيد محمد باقر الصدر عام 1979 على طلاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف، وحدّد فيها بوضوح سمات هذا التفسير وطريقة تناوله للنص، وصلته بالحياة البشرية وما تحفل به من أفكار وأنشطة ومواقف. فأوضح ان هذا اللون من التفسير يتيح للمفسر التواصل مع التجربة البشرية، واستيعاب معطياتها المتنوعة، والصعود منها إلى النص، بمعنى ان التفسيرالموضوعي (يبدأ من الواقع وينتهي إلى القرآن، لا انه يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن، فتكون عملية التفسير منعزلة عن الواقع، ومنفصلة عن تراث التجربة البشرية، بل هذه العملية تبدأ من الواقع وتنتهي بالقرآن، بوصفه القيِّم والمصدرالذي تحدد على ضوئه الاتجاهات الربانية بالنسبة إلى ذلك الواقع )(2). وبذلك يتحقق نحو من الاندماج والتلاحم العضوي بين النص والواقع، وتتاح للمفسر امكانات، تغتني وتتسع باتساع التجربة البشرية، وما يلابسها من منعطفات

____________________

 (1 ـ 2) المدرسة القرآنية. ص 28،29، 27، 19.

 

وتحولات، وما تنجزه من مكاسب في شتى المجالات. من هنا كان التفسيرالموضوعي قادراً على ان يتطور، وينمو، لأن التجربة البشرية تتطور وتنمو باستمرار، وبذلك تساهم في اثرائه على الدوام (1).

كما صرح الشهيد الصدر بأن التفسير الموضوعي لا يهدف إلى اجراء تبسيطي يتمثل بتحشيد كمي لطائفة من الآيات في موضوع واحد، واستظهار المدلولات التفصيلية لها، ثم القيام بعملية دمج مبسط بين تلك المدلولات، وانماهو محاولة لاستخلاص المركب النظري، والتوصل إلى ما وراء المدلول اللغوي واللفظي التفصيلي، بغية استلهام (أوجه الارتباط بين هذه المدلولات التفصيلية، والوصول إلى مركب نظري قرآني، وهذا المركب النظري يحتل في اطاره كل واحد من تلك المدلولات التفصيلية موقعه المناسب، وهذا ما نسميه بلغة اليوم بالنظرية، يصل إلى نظرية قرآنية عن النبوة، نظرية قرآنية عن المذهب الاقتصادي، نظرية قرآنية عن سنن التاريخ، وهكذا)(2).

ويمكن استخلاص ضوابط التفسير الموضوعي تبعاً لرؤية الشهيد الصدر بالآتي:

أ ـ انتخاب موضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أوالكونية (3).

ب ـ استقراء كل ما يتصل بهذا الموضوع في القرآن الكريم من آيات.(4)

ج ـ استيعاب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل، وما قدمه الفكر الإنساني من حلول، وما طرحه التطبيق التاريخي من اسئلة، ومن نقاط فراغ. أي البدء من واقع الحياة البشرية، وحمل التجربة البشرية إلى القرآن، والتوحيد بينهما، لا بمعنى تحميل هذه التجربة على القرآن، وتأويل النص طبقاً لها، وانما بمعنى ان المفسر يقوم بعملية يوحّد فيها بين التجربة والنص في سياق بحث واحد، لكي يستخرج نتيجة هذا السياق ويستنطق موقف القرآن تجاه هذه التجربة (5).

د ـ استخلاص أوجه الارتباط بين المدلولات التفصيلية للآيات، وتحليل ودمج وتركيب المدلولات، بغية الوصول إلى مركب نظري قرآني(6)، تنتظم في اطاره المدلولات التفصيلية باتساق متناغم (7).

على هذا الضوء يكتسب التفسير الموضوعي معنى، لا تندرج تحته الكثيرمن المحاولات التي عدها مؤلفوها نماذج لهذا التفسير، لأنها لم تبلغ أو لم تهتدِ  للنظرية القرآنية، وتوقفت عند صياغة المفهوم القرآني فحسب.

4 ـ التفسير الاجتماعي:

تناول المفسرون في العصر الحديث مشكلات الحضارة، والانحطاط والتخلف، وتفشي الامية، والجهل،

___________________

 (1 ـ 6) المدرسة القرآنية. ص 28،29، 27، 19.

 (7) للتعرف على اسس المنهج النظريلدى الشهيد الصدر، لاحظ مقالنا: (منهج التأصيل النظري في فكر الامام الصدر).في كتاب: محمد باقر الصدر: دراسات فيحياته وفكره. لندن: دار الإسلام، 1996،ص 127 ـ 147.

 

والمرض، والفقر، ومصادرة الحريات، والظلم والاستبداد، وغياب الدور الاجتماعي للمرأة، وغيرها من الابعاد الغائبة في معظم آثار السابقين.

واقترن ذلك بالدعوة لتحرير التفسير من الاستغراق في المباحث اللغوية، وسرد آراء الفرق، والافتراضات البعيدة عن روح القرآن.

وكانت السمة المميزة لخطاب المصلحين في هذا العصر، تتمثل باحياء دورالقرآن في حياة الامة، واستلهام رؤيته حيال المشكلات والهموم الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية للمواطن، كي يعود القرآن من جديد لتوجيه المجتمع، والحضور الفاعل في دنيا الناس.

وقد استفاق وعي نخبة من العلماء على افكار السيد جمال الدين، الذي اهتم بالتعامل مع القرآن الكريم من منظور اجتماعي، وحرص على استجلاء معالجات القرآن وتدبيراته وسننه في الاجتماع البشري، كما يتبدى لنا من مراجعة مقالاته في مجلة (العروة الوثقى)، فمثلاً خصّ جمال الدين مسألة التفسير السُّنني باكثر من مقال، مضافاً الى الاشارات والتطبيقات السننية في تمام كتاباته. فقد كتب موضوعاً بعنوان (سنن الله في الأمم وتطبيقها على المسلمين) كشف فيه عن قوانين النهوض والانحطاط في الاجتماع البشري، وحث على ضرورة ادراك الامة ووعيها الدقيق لهذه القوانين، اذا ما ارادت المساهمة في صناعة التاريخ (1).

وفي فترة لاحقة سعى تلميذه محمد عبدة لتطوير هذا المنحى في فكراستاذه، فتوسع في بيان جذور السنن في القرآن الكريم في تفسيره، ولم يقتصرمحمد عبده على ذلك، بل دعا لتدوين علم جديد يعنى بفقه السُّنن. ووجد ان تخلف المسلمين اليوم يبرر تدوين مثل هذا العلم، فمثلما بررت حاجات الامة في الماضي تدوين علوم اصول الدين والفقه وغيرهما، فان المتطلبات الجديدة تقضي ببناء علم السُّنن (2).

وفيما بعد وجد فقه السنن تطبيقات ناضجة له في اعمال مالك بن نبي، التي عالجت مشكلات الحضارة والعوامل النفسية والاجتماعية لتطور الامم وانحطاطها(3). وهكذا تحدث الشهيد مرتضى المطهري عن المصير المشترك للأمة وسنن اعتلائها وسقوطها في القرآن الكريم، وبيّن شمول هذه السنن ودوامها متى ما توفرت اسبابها وشروطها(4). واستخلص الشهيد الصدر اشكال السنن التاريخية في القرآن، وحلل

_________________

 (1) جمال الدين الافغاني. الأعمال الكاملة. ج 2: ص 55 ـ 60.

 (2) محمد هيشور. سنن القرآن في قيام الحضارة وسقوطها. القاهرة: المعهدالعالمي للفكر الإسلامي، 1996م، ص 9.

 (3) المصدر السابق. ص 124 ـ 131.(صدرت مؤلفات مالك بن نبي في سلسلة تحت عنوان: مشكلات الحضارة).

 (4) لاحظ كتابي: المجتمع والتاريخ،وفلسفة التاريخ، للشهيد مرتضى مطهري.

 

في سياق بحثه عن نماذجها عناصر المجتمع في القرآن وموقع الدين في هذه العناصر، وانتهى الى صياغة قوانين الثورة في ضوء ما يقرره التفسير السنني(1).

كذلك عالج اشهر المفسرين في العصر الحديث مشكلات الاجتماع الإسلامي، في ضوء ما يشي به النص القرآني، وحرصوا على استنطاق الآيات القرآنية واستكشاف رؤية القرآن ومعالجاته لهذه المشكلات.

كما يتجلى ذلك في تفسير (التحرير والتنوير) للشيخ محمد الطاهر بن عاشور الذي عمل فيه على استيحاء مقاصد القرآن واهدافه، وهي المقاصد التي خصص لها المقدمة الرابعة من المقدمات العشر الممهدة لتفسيره، ودعا فيها المفسر الى استقراء المقاصد وبيانها في التفسير، والقارئ الى طلب المقاصد عوض الوقوف الجامد عند الجزئي من معاني والفاظ القرآن (2).

اما تفسير (تفهيم القرآن) للشيخ أبي الاعلى المودودي فقد تلون بطبيعة الحياة الحركية لمؤلفه، وغدا بمثابة سجل لجهاده الدؤوب، وانماط العوائق والاستفهامات التي اكتنفت حركته. ولعل ذلك هو الذي جعل المودودي يشير في مقدمة تفسيره، الى ان الإنسان انما يستطيع ان يتدبر القرآن ويفهمه فهماً سليماً، في الوقت الذي ينهض فيه ويبدأ الدعوة الى الله، وهنا سينال تربية تقوده الى سلوك خاص، يصطلح عليه المودودي (السلوك القرآني)، ويتسم هذا السلوك بوفرة المنازل في رحلة السالك، اذ يلتقي في كل مرحلة من رحلته بآيات وسور تنبئه انه نزل في هذه المرحلة، فتفيض عليه ما يلزمه من زاد(3).

وبموازاة التجارب المذكورة في التفسير، نطالع تجربة رائدة جسدت النموذج الأمثل للتفسير الاجتماعي، نهض بها السيد محمود الطالقاني في ايران، فمنذ عام 1939 تقريباً شرع الطالقاني بدروس لتفسير القرآن، ولم يقتصر على تلك الدروس، وانما انطلق في مواعظه وخطبه على المنبر من القرآن، وتوكأ في دعوته لاقامة القسط والعدل، وشجب الطغيان والظلم، على مفاهيم القرآن. فاصطبغ التفسير لدى الطالقاني بصبغة المقاومة والثورة ومناهضة الاستبداد، مما أثار حفيظة البعض الذين فوجئوا بتوظيفه للقرآن في بعث الحياة واستنهاض المجتمع، لأن هؤلاء ألفوا القرآن يوظّف في حالات موت الإنسان، او دفنه، اوتلقينه تحت الثرى، او اقامة العزاء عليه، فاقترن الكتاب الكريم لديهم بالموت والاموات، ولم يألفوا أية صلة له بالحياة والاحياء، حسب تعبير السيد الطالقاني(4).

ويبدو المدلول الاجتماعي للقرآن بأجلى صورة في تفسير (الكاشف) للشيخ محمد جواد مغنية، الذي قال

__________________________

 (1) المدرسة القرآنية. ص 39ـ238.

 (2) محمد الطاهر بن عاشور. التحريروالتنوير. ج 1:ص 38 ـ 45.

 (3) اسعد جيلاني. ابو الأعلى المودودي.ص 242 ـ 270.

 (4) بهاء الدين خرمشاهي. تفسير وتفاسير جديد (بالفارسية). طهران: انتشارات كيهان، 1364ش، ص 135 ـ148.

 

عن تفسيره (حاولت ان أُطبّق آيات القرآن على حياتنا، واربطها بأفعالنا ما استطعت )(1). واشبعه

بالمشاغل والهموم اليومية للمجتمع، وعبّر عن رؤية القرآن حيالها ببيان ميسر يفهمه كل أحد، ولم يتكلف فيه لغة خاصة بالنخبة، ولهذا كان تفسير (الكاشف ) من أوفر التفاسير حظاً من الانتشار بين القراء.

بقي ان نقول ان هذه الاشارات العاجلة، لم تهدف الى رصد الآثار الهامة في التفسير، وانما ارادت ان تعرف بأبرز الاتجاهات الحديثة في التفسير فاقتبست امثلة وألمحت الى بعض التفاسير باجمال.

كما انها ليست بصدد نقد وتقويم التفاسير او الاتجاهات الحديثة في التفسير، وانما توخت الالمام بشيء من بواعث نشأة هذه الاتجاهات ومسارها، حسب ما يتطلبه التمهيد لدراسة بعض أنواع التفسير الجديدة التي يضمها هذا العدد.

______________________

 (1) محمد جواد مغنية، تجارب محمدجواد مغنية. بيروت: دار الجواد، ص 141.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=286
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2008 / 11 / 12
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19