• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : الكلمة في القرآن ( القسم الثاني ) .

الكلمة في القرآن ( القسم الثاني )

مقاربات في المجال الدلالي والوظيفي

غالب حسن

الوحي انواع واصناف

قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ)، وهذا وحي الهام.

قال تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ)، وهو وحي تسخير.

قال تعالى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) ويعني الوسواس.

قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ)، وهو وحي الى الامم بواسطة الانبياء.

قال تعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ)، يقال بواسطة اللوح المحفوظ.

قال تعالى: (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا)، اي جبلها على قانونها.

وابرز الامثلة على التكليم من وراء حجاب في اثنين من الانبياء عليهم السلام، هما:

أ ـ موسى عليه السلام، قال تعالى (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً).

و(تكليما) في الآية لغرض التوكيد ليس الا(1).

ب ـ خاتم النبيين محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حيث ثبت في النقل، ان الله تبارك وتعالى كلم محمداً في ليلة الاسراء والمعراج.

والتكليم بواسطة الملك شائع مع الانبياء، وعلى الاخص خاتمهم وسيدهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً).

قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

قال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ).

قال تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ).

فالذي يستفاد من هذه الآيات ان التكلم كان بواسطة الملك، وهو جبرائيل ـ عليه السلام ـ ويسمى في بعض الآيات بـ (الرُّوحُ الأَمِينُ) و(بِرُوحِ الْقُدُسِ).

قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)(2).

ومن المؤكد ان تكليم الله أنبياءه ليس لغرض السجال وانما لهدف البناء، ومن أجل التأسيس الحق، وفي قوله تعالى: (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً)، انما يفيد التوكيد، وقد حدّث الله موسى من وراء طورسينين، والتكليم من وراء حجاب لا يعني ان هناك عازلاً مادياً خفياً بل هناك احاطة من الله بكل ما يجري. واختصاص موسى بهذا التكليم على نحو التوكيد روعي فيه عناد القوم الذين نزل فيهم.

ان تكليم الله لانبيائه انما في سياق تأسيس الحقائق أو في سياق الكشف عنها، ولذا فان الكلمة في هذا المضمار تنصرف لما اصّله الله في الخلق.

قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)(3).

فهذا التخاطب بين الله وموسى ـ عليه السلام ـ شيد علماً واقعياً عقيدياً، ولم يكن هونوع من الحوار السجالي، وبعد ان سرت (الكلمة) في ذات موسى باعتبارها واقعاً متجسداً، تمت عملية الاصطفاء لحمل هذه الامانة.

قال تعالى: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ...)(4).

ان اندكاك الجبل بتلك الصورة ربما هو التعبير عن ذلك التوكيد الوارد في تكليم الله لموسى عليه السلام..

(وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً).

اي ان هذا التكليم المؤكد قد عُبر عنه بهذا التحقيق المؤكد. وبذلك تتقادم مسيرة التوافق بحل التماهي بل الامتزاج التام بين كلمة الله من جهة والحق أو الواقع من جهة اخرى، وهذا ما سنجد مصاديقه الثرية بعد حين.

آيات تكليم الله لانبيائه ورُسله ـ عليهم السلام ـ جاءت كالتالي:

1 ـ الاعراف: 142، 144، (مكية).

2 ـ الشورى: 51، (مكية).

3 ـ البقرة: 253، (مدنية).

4 ـ النساء: 164، (مدنية).

طابع التعريف (بالكلمة) باعتبارها تجسيداً للواقع الذي [الاعراف] لقد غلب على المكية يتضح بكل جلاء [الشورى] يريده الله تعالى وللحقائق الموضوعية وفي تتولى مهمة اضافية في الموضوع تلك اهمية [البقرة] تقسيمات التكليم بشهادة الترديد، نزلت رداً على تساؤلات اليهود لعدم ورود [النساء] التكليم على صعيد التفضيل، و موسى في الآية (162) في سياق مجموعة من الانبياء، ومن مجموع هذه الآيات العظيمة، يمكننا ان نصقل هيكلية موفية منطقية عن موضوع التكليم هذا، تعريفاً،وكيفية، وتطبيقاً،وهدفاً، وهذا يحتاج الى جهود علمائية متضافرة. ولكن نظرة متفحصة الى الآيات قد تحملنا على تماس مع طابع تعريفي هذا [الاعراف: 143، 144، الشورى: 51].

 [البقرة: 253] (التكليم)، طابع تعريفي ذي نزعة عملية وتوضيحية وتثقيفية، أما في الآية تشير الى ان [النساء: 164] فانها تتصل باستحقاقات هذا قمة التكليم واخيراً، فان الآية هذا التكليم هو فمة الحقيقة الكونية على ضوء ما عرفنا من قصة الجبل.

وتأتي الكتب السماوية مصداقاً (للكلمة) في استعمالاتها القرا نية.

قال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ)(5). أي القرآن الكريم أو ما جاء منه من آيات.

قال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(6)، أي التوراة.

قال تعالى: (...يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ)(7)، أي القرآن.

قال تعالى: (مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)(8)، التوراة.

قال تعالى: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(9).

هذه الآيات الخمس تكشف عن ان احدى مصاديق الكلمة في القرآن الكريم هوالكتاب الالهي، والتوراة، القرآن أمثلة على هذا المعنى الجميل، ومن القضايا البارزة فيالطرح القرآني هنا هو موقف اليهود من كلام الله.

انه التحريف...

يذكر المفسرون ان هذا التحريف يكون بطريقين:

الاول: سوء التأويل.

الثاني: التغيير والتبديل.

والتحريف من الطراز الاول يبقي على النص ولكن يتلاعب بمحتواه فيصرفه عن معناه الحقيقي مستفيداً من غموض أو ابهام أو اجمال أو اي سبب آخر، بل ربما يبلغ المحتوى القمة في الموضوع، والابانة، ورغم ذلك يتأتى التحريف على لسان القاصرمسبقاً، لان النية معقودة على هذا العمل. والتحريف من الطراز الثاني يكون باجراء تغيّرات داخل النص بتقديم او تأخير او احلال كلمة بدل الاخرى.!! أي يكون في بنية النص.

وفي تصوري ان كلا التعبيرين لا يحققان الغرض المطلوب من الآية أو من منطوق التحريف بالثقل العلمي الرصين.

ان تحريف الكلم الوارد في هذه الآيات عناية لسانية راقية، تشير الى انشاء نص جديد مغاير، انها ليست تأويلاً أو تقديماً وتأخيراً في وحدات النص، بل هو انشاء واقع حاذف ومغاير، استتباعاً لنص جديد، انقلاب في التصورات والعقائد والاحكام والقيم والاخلاق، مع الاخذ بنظر الاعتبار ان النص القرآني هو الواقع الحق.

هذا هو تحريف الكلم كما نفهمه من جو الآيات التي ورد فيها...

جاء بعد نقض الميثاق [تحريف الكلم الرباني/ قرآناً أو توراة ]ان هذا النص الجديد الاكبر اي التوحيد، وكل ذلك يخلق اتجاهاً منحرفاً في وضع النص من اجل واقع مخدوم باسباب باطلة، ومما يؤكد هذا التصور هو المستحق الرهيب الذي يترتب على عملية التحريف هذه (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ...).

ان النسيان هنا ليس غفلة أو سهواً،بل ممارسه جديدة تخالف ما أنزله الله تعالى، انهم مارسوا اطواراً وانماط سلوك خلاف شرع الله سبحانه وتعالى، وليس النسيان هنا امحاء صورة معينة في الذهن لعلّة أو اخرى، بل هو تشبع الذهن بصورة مغايرة مع توهج الصورة الاساسية في الذاكرة باعتبارها واضحاً يجب ان يزول في نية القوم. ونلتقي باشارات كثيرة تؤكد هذا المعنى لتحريف (كَلِمَةُ اللَّهِ) أو الكلم، ولعل الصياغة القرآنية التي تقول (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) تعطي هذا اللون من التصور، ففي كتب التفسير، (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) أي كلام الله (مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) أي من بعد ان وَضعه الله مواضعة، أي وهذا البيان هو جوهر المعنى ولكن لا يصيبه [فرض فروضه واحل حلاله وحرم حرامه...بالصميم، أن (من بعد مواضعه)، تعني في الغاية القصوى، ذلك الواقع الحق، وتحريفه ايجاد الواقع المزيف، فان تغيير حكم الله في الزنا ونقله من حد الرجم الى اربعين جلدة، انما هو انشاء واقع فاسد على الارض بدل واقع هو الحق.

ان دراسة اجواء الآيات في موضوع تحريف الكلم تكشف بوضوح عن هذا المعنى للتحريف، فالآية (1) من سورة المائدة مسبوقة بتفصيل الميثاق الذي اخذه الله على بني اسرائيل لكن القوم حذفوه بواقع آخر.

يقول الله تعالى في ذلك: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ...)(10).

يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(11).

يقول تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً * مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)(12).

ان اليهود يحرفون، حرّفوا النصوص بخلق واقع زائف، يتناقض ويتضاد مع الواقع الحق الذي جاء به موسى ومحمد، حرّفوا النصوص الالهية بتوليد نصوص لا اساس لهامن الوحي، فأدت الى واقع منخور من داخله على صعيد الحقيقة، وكل نص من صنع عوامل تكون خفية في كثير من الاحيان، ولا يسلم من هذا إلاّ النص الالهي أي كلمة الله سبحانه وتعالى، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق ترى ما هي عوامل خلق النص اليهودي المنحرف؟!

الكفر برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والحقد على الانسان، والركون الى الكذب وممارسة الباطل وحب الذات والتراث الدموي... كل هذه وغيرها هي عوامل النص الجديد، عوامل خلقه وبعثه ; لان النص لا يأتي من فراغ، وكل نص يولد نظيره على امتداد الهوية الاولى، والكفر برسالة محمد أوجدت في ضمائرهم وروحهم بنىً متوالية من الانكار والجحود.

وفي الحقيقة ان طبيعة النص المنحرف، المصنوع، لم تكن برهانية ابداً، بل هي مجردروح عاتبة، اعتمدت المخالفة/ العند، لكي تصنع مقابل نص، مما يستدعي واقعاً مقابل واقع، فهو ليس نصاً سجالياً، وانما نص يزاحم آخر على مساحة الفعل، لمجرد تحجيم حركة لم تكن مرغوبة لدى هذا الفريق من البشر الذي اشتهر بقتل الانبياء.

قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(13).

قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(14).

اعتقد ان عدم تكليم الله لهؤلاء يوم القيامة تعبير مجازي عن حرمانهم من رحمته التي وسعت كل شيء ومن لطفه الذي سبق عدله، ولعل جو الآية يفيد ذلك ويصب في هذا الفضاء خاصة قوله تعالى: (...وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ).

اولاً ـ الانسان هو الذي يصنع التاريخ، وصناعته هذه خاضعة في طرف منها للقوانين التي تنظم الكون والحياة والمجتمع، وترتب النتائج على اسبابها أو مقدماتها يدخل في اطار القضاء الالهي، ولذا فان صناعة التاريخ بقدر ما تتصل بارادة الانسان ومسؤوليته لهاعلاقة من جهة اخرى بقضاء الله تبارك وتعالى، فالتاريخ افراز للارادة البشرية باتجاه القانون الذي عملت بموجبه وفي ضوئه أو من معاني الكلمة في القرآن الكريم قضاء الله في مسيرة التاريخ بالمعنى السابق.

قال تعالى: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى)(15).

اي قضاء الله في تأخير العذاب الى يوم القيامة، وهذا القضاء المحدد بهذه الهوية ينطوي على فكرة دقيقة، مؤداها ان التاريخ امكانية مفتوحة، أو ان الانسان حرية سارية المفعول. قالوا في التفسير (اي لولا قضاء الله بتأخير العذاب عنهم ووقت مسمى لهلاكهم لكان العذاب واقعاً بهم، وكما قال القراء بتعبير اوضح، ولولا كلمة واجل مسمى لكان لزاماً أي لكان العذاب لازماً لهم)(16).

وهذا التفسير يثبت المعنى المباشر للآية، ويهمل قيمة الزمن المفتوح الذي يختزن تاريخية صحيحة رائعة، فان تأخير العذاب تفعيل للوجود وتفعيل للتاريخ عبر الانسان،بل هو توكيد للمسؤولية الانسانية الكبرى. قال تعالى: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(17). قالوا في التفسير (اي لولا قضاء الله بتاخير الجزاء الى يوم القيامة لعجل عقابهم في الدنيا باختلافهم في الدين).

مرة اخرى نلتقي بهذا الاجمال الغريب للزمن! قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)(18). جاء في تفسير مجمع البيان (اي لولا خبر الله السابق بانه يؤخر الجزاء الى يوم القيامة لما عَلِمَفي ذلك من المصلحة... لعجل الثواب والعقاب لاجله، وقيل معناه: لفصل الامر على التحام بين المؤمنين والكافرين بنجاة هؤلاء وهلاك اولئك...). وهذا التفسير يقترب من احترام الزمن، ويلمح من بعيد بامكانية التاريخ، مع العلم ان الامكانية هنا ليست بالمعنى الفلسفي المجرد، بل بمعنى الصيرورة الواقعة فعلاً.

قال تعالى: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)(19). قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)، وقال تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ)(20).

قال في المجمع: اي سبق الوعد منا لعبادنا الذين بعثناهم الى الخلق انهم هم المنصورون في الدنيا والاخرة.

ان نقطة الضعف في التفسيرات السابقة اهمال (الزمن) في صلته الواضحة بقضاء الله تعالى الذي هو كلمة الله ـ عزّ وجلّ ـ في مسيرة الانسان، فان تأجيل العذاب وتأخير الثواب ولو تفحصنا هذا الزمن من خلال الآيات الكريمة [زمن] والجزاء الى يوم القيامة يؤول الى لاتضح لنا انه زمن (مفتوح) اي قابل للتناقضات والصراعات والحركة، ولذلك لا نقصد ابداً هنا الزمن بالمعنى الفلسفي، بل هو الزمن الذي يأتلف في بحره قطبان مهمان جوهريان، هما:

الاول: الحرية.

الثاني: المسؤولية.

ان الاشارة القرا نية المؤكدة على الاختلاف باتصال حيوي ومباشر بكلمة الله، وتصبح كل هذا المرتب عبر زمن يمتد منذ ان خلق الله الانسان حتى قيام الساعة. ان هذا الانثيال بالحقائق على شكل شبكة متداخلة، انما يجزر مفهوم التاريخ باعتباره افرازاًحيوياً حقيقياً للحرية والمسؤولية.

ان اختزال (كلمة الله) في هذه الآيات باحدى مصاديق قضاء الله ليس صحيحاً وليس هو نهاية الايضاح، بل هو البداية التي تطل بنا مدى اوسع، وهو هنا الزمن المفتوح.

ان تأخير العقاب يتيح الفرصة لتجليات هذا العقاب على ساحة الحياة، كما ان تأخير الثواب يتيح الفرصة لتجليات هذا الثواب، ومن خلال هذه التجليات يتحقق ذلك المرتب العظيم، اي الحرية والمسؤولية. ليس من ريب ان السبق هنا قانون رباني وجد فرصة تنفيذه على الارض.

ان قضاء الله (كلمته) في هذه الآيات تعطي هذا المعنى للتاريخ، ولكي تتضح الصورة اكثر فستعرف الآيات التالية التي هي تطبيق عملي لهذا القضاء القانوني السنني في بحرالحياة...

قال تعالى: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ).

قال تعالى: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ).

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

ثانياً ـ لو ان الله تعالى قضى بالعقاب حال ممارسة الاثم، العقاب السريع الملازم في ذات اللحظة، اي لو كان هناك اتحاد زمني بين الخطيئة والعقاب لانتفى التاريخ، وتحولت الحياة الى صرخة عابرة، لحظة لا تحمل اي معنى أو هدف، ولانهار عالم السنن الاجتماعية، فان النفس الانسانية ليست ومضة من مسيرة التكوين، بل هي تجليات ضخمة من الفعل والترك، الاقدام والاحجام، المغامرة والمراجعة، الاثم والتوبة، العصيان والطاعة، والتاريخ صورة ضد الصراع القائم بين هذه الاستقطابات داخل الذات الانسانية، واستقطابات اخرى هائلة تتحكم في حركة النفس، لا يمكن ان تجد مصداقهاالفعلي على ساحة الحياة إلاّ في قسمة من الزمن، ومن هنا تأجل عذاب الله وجزاؤه، فان هذا الزمن ضروري كي تثبت الذات الانسانية وجودها، وتؤكد قدرتها على اتخاذ القرار. ونقصد هنا الجزاء النهائي والثواب الابدي، اي الجنة والنار، والا بمساحتيهما المرقومتين على نحو آني سريع لا شك فيها فى ضوء آيات الكتاب الكريم، وهما ساحتان لا يعطلان توتر تلكم الاقطاب ابداً، فان مثل هذه القراءات السريعة الآنية قد تزيد من توترهاواشتداد تجاذباتها. (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)، اي تكون من عوامل تاًسيس التاريخ.

ان التطابق اللحظي بين الدنيا والاخرة يعدم التاريخ...فالعقاب المؤجل هو جهنم والعياذ بالله... الثواب المؤجل هو الجنة ان شاء الله... اذن الدنيا قدر... ولابد ان يخوض الانسان قدره... فهناك تاريخ... قال تعالى: (وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (21).

ثالثاً ـ الآيات السابقة كشفت لنا عن قضاء/ سنة ربانية جوهرية، تقضي بأن هناك زمناً ينبغي ان يخوض الانسان غماره الصعب: (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ)، والكلمة السابقة هي هذا الزمن الصعب، والسبق هنا ليس زمنياً وانما هو سبق بالرتبة، والتعبير السليم هو ان هناك قضاءً مبرماً، فالعقاب والثواب / الجنة والنار /مؤجلان كي تتحقق فاعليتهما على الارض اولاً اي كما يتحقق زمن مطلوب، تلك هي حكمة الله جل وعلا، وليس من ريب هناك عقاب دنيوي وثواب دنيوي، انهما على الارض التي هي محل الابتلاء. وهذان الجزاءان السريعان الآنيان لا يعطلان توتر اقطاب النفس المتصارعة ولا يحذفان عوامل صناعة التاريخ، بل هما في خدمة الزمن الحتمي، يوتران تلكم الاقطاب ويفعلان حركة التاريخ، الامر الذي يجذر حقيقة الزمن الحتمي،ويشجعان الانسان على المعنى في المغامرة. هذا السبق العظيم تترشح منه دائرتان طوليتان مهمتان.

 المصادر :

ــــــــــــــــــــــ

(1) وسنأتي على كلام آخر في الآية.

(2) البقرة، الآية 253.

(3) الاعراف، الآية 143.

(4) الاعراف، الآية 144.

(5) التوبة، الآية 6.

(6) المائدة، الآية 13.

(7) المائدة، الآية 41.

(8) النساء، الآية 46.

(9) البقرة، الآية 75.

(10) المائدة، الآية 12، 13.

(11) المائدة، الآية 41.

(12) النساء، الآية 44 ـ 46.

(13) البقرة، الآية 74.

(14) آل عمران، الآية: 77.

(15) طه، الآية: 129.

(16) صفوة التفاسير، ج 2ص 251.

(17) يونس، الآية 19.

(18) هود، الآية 110.

(19) فصلت، الآية 45.

(20) الصافات، الآيات 171 ـ 173.

(21) الشورى، الآية 21.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=409
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 03 / 04
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19