• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : علم التفسير .
                    • الموضوع : المذهب التاريخي في القرآن .

المذهب التاريخي في القرآن

الشيخ محمد مهدي الآصفي

فلسفة التاريخ:علم حديث بالمعنى المنهجي المطروح اليوم في الثقافة المعاصرة.ومهما قيل في الجذور التاريخية لهذا العلم فإن هذا العلم بالمنهجية المعاصرة أمر جديد في ثقافة الإنسان.

هذا العلم يعنى باكتشاف القوانين الحاكمة على التاريخ, لتقنينه واكتشاف العلاقة بين حوادثه.

ولئن كان هذا العلم أمراً جديداً,في الثقافة الإنسانية, فإننا نجد أن القرآن الكريم يطرح أفكاراً, وآراءً وقوانين محددة في هذا المجال, ومن الممكن تجميع هذه الأفكار, والتصورات, والقوانين وتنظيمها واستخراج المذهب القرآني في التاريخ منها.

تمهيد

في تفسير وفهم التاريخ أمامنا ثلاثة اتجاهات علمية معاصرة نقف وقفة قصيرة عند كل واحد منها, ليتسنى لنا الانطلاق منها ـ في هذا التمهيد ـ إلى معرفة المذهب التأريخي في القرآن.

الإتجاه الأول: ينفي إمكان فهم وتفسير التاريخ على أساس قانون العليّة, وينفي وجود الحتمية العليّة في التاريخ بالقوة والوضوح اللذينِ نجدهما في الفيزياء والميكانيك مثلاً من دون أن ينفي أصحاب هذا الإتجاه قانون العليّة رأساً في التاريخ.

وإنما يعتقدون أن حضور (إرادة الإنسان) في ساحة الحضارة والتاريخ, بما تمتلك هذه الإرادة من حرية القرار, والإختيار, تحجم دور قانون العليّة, وتقلل من حجم الحتمية والتعميم, في مساحة التاريخ.

الإتجاه الثاني: يفسر أحداث التاريخ بنفس الطريقة التي يفسر بها عالم الفيزياء والميكانيك قضايا الفيزياء والميكانيك, ويعتقد أصحاب هذا الإتجاه أن الحتمية العلية تحكم التاريخ كما تحكم الفيزياء وبنفس الوضوح والقوة.

الإتجاه الثالث: يعترف بحضور وحاكمية إرادة الإنسان في التاريخ كما يعترف بحاكمية قانون العلية في التاريخ ويعتقد أصحاب هذا الإتجاه إننا يمكن أن نفهم التاريخ من خلال هذين العاملين دون أن يقلل أحدهما من قيمة الآخر...دون أن يأخذوا بنظر الإعتبار دور الرعاية الإلهية للتاريخ والإنسان.

وإليك تفصيل هذه الاتجاهات:

الإتجاه الأول

أصحاب هذا الإتجاه ينفون علاقة العلية والسببية في حركة التاريخ, ويعتقدون أن من غير الممكن أن يخضع الحدث التاريخي والحضاري والإجتماعي لقانون العلية بنفس الطريقة التي تخضع لها قضية فيزياوية أو ميكانيكية لقانون العلية, بما في هذا القانون من الحتمية والتعميم.

ففي حقل الفيزياء, يمكننا أن نعمم نتائج كل تجربة في ظروف وأسباب مشابهة على امتداد المكان والزمان, كما يمكننا أن نحكم بحتمية هذه النتائج في الظروف المشابهة, فحين يثبت لنا بالتجربة غليان الماء,عندما ترتفع درجة حرارته إلى مائة درجة مئوية عند مستوى البحر يمكننا أن نعمم نتيجة هذه التجربة على الحالات المشابهة الأخرى كما يمكننا أن نحكم بحتمية هذه الحالة (الغليان) في الحالات المتشابهة.

وهذان  الأصلان (الحتمية والعلية) تابعان لقانون العلية, وفي الفيزياء والميكانيك كما في سائر العلوم المادية التجريبية يجري قانون العلية بوضوح وقوة.

أما في مساحة الحضارة, والمجتمع والتاريخ..فلا يمكن أن نحكم بجريان قانون العلية بنفس القوة والوضوح, وذلك لأن حضور العنصر الإنساني في مساحة التاريخ وحرية إرادة الإنسان وحرية إختياره وقراره يحجم دور قانون العلية, ويقلل من قيمته في حركة التاريخ وبالتالي فإننا لا نستطيع أن نفهم التاريخ بصورة واضحة بموجب قانون العلية, كما نفهم الفيزياء مثلاً, ولا يمكن أن نتنبأ بالمستقبل ونكتشف مجاهيل التاريخ بموجب قانون العلية كما نفهم ذلك في الميكانيك والفيزياء, وذلك لأن التاريخ مسرح واسع لحركة الإنسان وحرية إرادته, وقراره وهذا ما يجعل للتاريخ صفة متميزة وخاصة.

يقول كارل د.بوبر في كتابthe poverty of historicism (إن النظرية القائلة بأننا نستطيع أن نأخذ التعميم من الفيزياء ونستعمله في التاريخ والحضارة , والاجتماع تؤدي نفي حركة التكامل في المجتمع)(1) .

ثم يقول في موضع آخر من كتابه:

(والفيزياء تستفيد من التجربة, وعن طريق التجربة يستطيع هذا العلم أن يعرف طريقة إيجاد الحالات المتشابهة من الأوضاع المتشابهة, وأوضح أن ذلك يتوقف على الفكرة التالية: في الأوضاع والظروف المتشابهة تتكون الظواهر المشابهة.

يقول أصحاب المذهب التاريخي أن هذه الطريقة لا يمكن الاستفادة منها في علم الاجتماع, وعلى فرض إمكانية تطبيق هذه القاعدة (التجربة) في دورة خاصة فلا يمكن نقل التجربة من دورة إلى دورة أخرى)(2) .

ويقول أدوارد هالت كار في التعليق على نظريتي توينبي واشبنكلر:

تعتمد نظرية إشبنكلر وتوينبي على أساس وحدة التاريخ والعلم (يقصد العلوم الطبيعية القائمة على التجربة والتعميم)..وهذه الوحدة بين التاريخ والعلم وحدة كاذبة ولا أساس لها من الصحة ولا يمكن إجراء الأحكام التي تجري في العلم (العلوم الطبيعية) على التاريخ بالشكل الدقيق..فإن الظاهرة العلمية تتكرر كلما تكررت نفس الظروف وذلك لأن العناصر التي تتكون منها الظاهرة العلمية (الطبيعية) عناصر فاقدة للإرادة والشعور تجاه الماضي والعناصر الأخرى...بعكس الظاهرة التاريخية فإن العناصر التي تتكون منها هذه الظاهرة تتمتع بالشعور والإرادة وهذه العناصر تعرف نهاية الدورة من بدايتها فلا يمكن أن تتكرر الدورة السابقة(3).

والمحصل من استقراء أطراف هذه النظرية أن القائلين بها ينفون حاكمية مبدأ العلية في حركة التاريخ, بالشكل التفصيلي والدقيق الذي يجري بموجبه هذا المبدأ, في حقول الفيزياء والميكانيك وسائر العلوم التجريبية, وينفون إمكانية التنبؤ بأحداث التاريخ والمستقبل كما نتنبأ بأوضاع الكواكب, والنجوم والشمس, والقمر مثلاً..والسبب في ذلك هو وجود العنصر الإنساني في مجرى التاريخ والتعقيدات التي ترافق حضور الإنسان في حركة التاريخ, مما يجعل التطبيق لقانون العلية والتنبؤ بالأحداث المستقبلية بموجب هذا القانون عسيراً جداً(4).

الإتجاه الثاني

يتجه بإتجاه معاكس للإتجاه الأول ويؤمن بأن التاريخ ليس بدعاً في أمور هذا الكون, ويخضع لقانون العلية والسببية بالدقة, كما تخضع سائر الأشياء في حقل الفيزياء, ويجري فيه التعميم والحتمية, كما يجري في القيزياء والعلوم التجريبية الأخرى.

وحركة التاريخ في هذه النظرية لا تزيد على الآلية التي يتحكم فيها قانون العلية بشكل مطلق, ولا يوجد ثمة عامل آخر غير عامل الحتمية العلية وعجلة التاريخ تتحرك كما تتحرك عجلة أي جهاز ميكانيكي, بموجب قوانين حتمية,غير أن التعميم والحتمية تجري في حقل الحياة الاجتماعية والتاريخ وليس في حقل الميكانيك.

ونلاحظ في هذا التصور غياب العنصر الإنساني, وارادته وحريته واختياره بشكل كامل,فإن الإنسان يجري في ضمن هذا الجهاز الواسع بصورة آلية دون أن يملك اختياراً لنفسه في الحركة والسكون, ودون أن يملك إرادة في تقرير مصيره.

إن الإنسان في هذه النظرية يتحرك ويجري بموجب قوانين حتمية, دون أن يستطيع التحكم فيها أو يستخدم إرادته ضمنها.

ومن رواد هذه النظرية من الغرب مونتسكيو مؤلف كتا(روح القوانين) وإشبنكلر في كتابه الكبير(5)عن تدهور الحضارة الغربية وتوينبي في كتابه (مطالعة في التاريخ).

يقول (إدوارد هالت كار) في كتابه المجتمع الجديد:(6)

(هناك صلة مباشرة وعلاقة قوية بين الماضي والحاضر على أساس التأثير والتأثر, والفعل والانفعال, ولا يمكن فصل الماضي عن الحاضر والمستقبل, ونحن مدينون في هذا التصور الجديد للتاريخ, للإتجاه العلمي الجديد الذي يبحث في العلوم عن القوانين والأصول القابلة للتعميم).

يقول مونتسكيو في مقدمة كتابه(روح القوانين):

(أنا في هذا الكتاب شرحت الاصول فقط,ولاحظت مواضيع كثيرة تنطبق بصورة تلقائية على هذه الأصول ومن هذا الانطباق القهري اكتشفتُ ان التاريخ ليس إلا معطيات ونتائج هذه الأصول والقوانين).

ثم يقول أدوارد هالت كار بعد ذلك:

(كان إشبنكلر يعتقد بأن الحضارة الإنسانية تتبع بصورة دقيقة قوانين العلية السببية وتخضع لها..وهذه القوانين هي التي تقرر بصورة دقيقة مصير الحضارة والبشرية والنظام الذي يتبعه إشبنكلر في استدلاله من الاستحكام والقوة بمكان لا يمكن رفضه والتشكيك فيه في حدود المباني التي يتبعها صاحب النظرية)(7).

ومن هذا المنطلق يمكن التنبؤ بالمستقبل وحركة التاريخ والحضارة, والماركسية, وإن لم تكن تؤمن بقانون العلية بالشكل الذي نؤمن به نحن في الفلسفة, لكنها تؤمن بهذا القانون, على طريقة جديدة(هي طريقة الاطروحة والطباق والتركيب) إلا أنها تنتهي إلى نفس النتيجة من إمكان التنبؤ بالمستقبل, وفهم مستقبل الحضارة من خلال قانون التناقض والصراع الطبقي, وقد حدد ماركس المراحل الخمس للتاريخ من خلال هذا التصور للتاريخ ومهما يكن المنطلق الذي يفسر العلماء من خلاله التاريخ: قانون العلية بشكله الفلسفي المألوف وقانون الاطروحة والطّباق والتركيب فإن حركة التاريخ تكتسب في هذه النظرية الصفة الحتمية, وهي التي يطلق عليها عادة في هذه المدارس الفكرية (الحتمية التاريخية).

المذهب التاريخي عند دوركهايم

ومن العلماء الذين يذهبون إلى الحتمية التاريخية في حركة التاريخ ويؤمنون بحاكمية المجتمع الحتمية, على حياة الفرد وعدم قدرة الفرد على الإنفلات من سلطان المجتمع, هو آميل دوركهايم العالم الاجتماعي الفرنسي الشهير..فهو يؤمن بأن الأمور والشؤون الاجتماعية من معطيات الحياة الاجتماعية وليست حصيلة فكر وإرادة الأفراد, ويعتقد بأن الشؤون الاجتماعية ذات ثلاث خصال دائماً, وهي الخارجية ـ والحتمية ـ والتعميم, فهي (خارجية) لأنها تفرض على الفرد من خارج وجود الفرد (من المجتمع) وهي موجودة في

المجتمع قبل وجود الفرد, ويتقبل الفرد هذه المعطيات الاجتماعية ويستقبلها بتأثير المجتمع..والعادات والأعراف والتقاليد, والأخلاق الاجتماعية من جملة هذه الأمور.

وهي(حتمية) لأنها تفرض على الفرد فرضاً ولا يملك الفرد الخيار في قبولها ورفضها, وتطبع ضمائر, وأحاسيس, ومشاعر وعواطف, وأفكار, وتصورات الأفراد بطابعها الخاص.

وهي (عمومية) لأنها حتمية, وتنطبق على كل الأفراد في الظروف والحالات المتشابهة(8).

يقول أنتوني كيد نز في دراسته الجديدة عن (دوركهايم).

(من الملاحظات التي أوردها الأساتذة الذين ناقشوا رسالة دوركهايم للدكتوراه أن دوركهايم يعتبر العامل الاجتماعي هو العامل الوحيد لتكامل الأخلاق.

والمجتمع عند دوركهايم جزء من الطبيعة فلا بد أن يخضع علم الاجتماع لنفس الأصول التي تخضع لها العلوم الطبيعية.

ويقول دوركهايم في رسالته للدكتوراه عن مونتسكيو: (إن (كنت) استطاع أن يتجاوز معطيات عصره والمتقدمين عليه من العلماء.. فلم يكن يتيسر بعد لمونتسكيو شيء جديد في هذا الحقل إلا القول بأن القوانين الحاكمة على المجتمع لا تختلف عن القوانين الحاكمة على القوانين الطبيعية, ولا تختلف طريقة اكتشاف القوانين الاجتماعية عن طريقة اكتشاف القوانين الطبيعية في الطبيعة..وهذا الجديد اكتشفه كنت)(9).

(ويبلغ دوركهايم أقصى ما يمكن أن يقال بهذا الصدد, فيقول:

(إن القضايا الاجتماعية ما هي إلا (أشياء): (things) ولربما يكون هذا المعنى هو أكثر المفاهيم التي طرحها دوركهايم في كتابه (قواعد علم الاجتماع) إثارة للنقاش والجدل.

واعتبار القضايا الاجتماعية (أشياء) بمعنى أن تجريدها الكامل..أمر لا بد منه لكن نستطيع أن نفهم القضايا الاجتماعية مستقلة عن كل فرد في هذه الحالة فقط, نستطيع أن نخضع المجتمع لدراسة موضوعية, إنّ أهم خصيصة في (الأشياء) هو أنها لا تتبع إرادة شخص, إننا إذا دفعنا الكرسي يندفع كما نريد ولكن مقاومة الكرسي النسبية تدل على أنها (المقاومة) خارجة عن حيز الإرادة ولا تتبع إرادة شخص من الأشخاص.

وهذه الحقيقة تنطبق على القضايا الاجتماعية تماماً, إلا أنها ليست كالكرسي من القضايا المرئية والمحسوسة, فإن القضايا الاجتماعية توجد دائماً خارج الأفراد وتضغط على الأفراد وتقيدهم.

فإن كل إنسان يولد في مجتمع قد تحدد شكله ونظامه وطبيعته من قبل ولادته, ولم يكن للفرد دور في تحديد شكل, ونظام وطبيعة المجتمع من قبل, ومن الطبيعي أن يحدد للفرد في هذا الحال شكله ولونه الخاص, ولربما تمر على المجتمع قرون طويلة لا يتغير فيها شكل المجتمع, وتعيش أجيال من الناس في هذا المجتمع, وعليه فإن الفرد لا يزيد على أن يكون جزءاً من كل كبير واسع الأطراف وليس في الإمكان أن نفهم خواص الكل من خواص كل فرد من أفراده, ويحاول دوركهايم أن يقرّب هذا المفهوم بالتمثيل بالعناصر والتركيبات الكيمياوية, فالخصائص التي يتميز بها كل من الأوكسجين والهيدروجين لا توجد في قطرة الماء التي تتركب منهما..ولقطرة الماء خصائصها التي تختلف تماماً عن خصائص العناصر التي تشكلها وكذلك المجتمع بالنسبة إلى العناصر البشرية التي تشكلها (10) ولهذا النحو من الفهم يفهم دوركهايم المجتمع والتاريخ, ويعتبر القضايا الاجتماعية بالصراحة (أشياء) خارجة عن نطاق إرادة الفرد, كما هي حالة (الأشياء) في الفيزياء ويعتبر الفرد محكوماً بهذا النظام وليس له من سلطان أو حاكمية على التاريخ والمجتمع.

الإنتقاص من قيمة الإنسان من الحتميات التاريخية

وبطبيعة الحال فإن النظريات الحتمية تنتقص من قيمة الإنسان وتلغي دوره في صناعة التاريخ, فإن التاريخ والحضارة والمجتمع يتكون بموجب قوانين حتمية تجري بمعزل عن إرادة الإنسان ورغبته وتتحرك كما تتحرك الأشياء ـ كما يقول دوركهايم ـ خارج دائرة إرادة الإنسان ويتولد الإنسان ويفتح عينيه على مجتمع أخذ صورته وشكله ونظامه من قبل أن يولد الإنسان, فلا يكون له إذن دور يُذكر في صناعة هذا المجتمع, ويجري ويتحرك ويتطور بموجب قوانين حتمية, بمعزل عن إرادته, بينما نجد أن للمجتمع والتاريخ دوراً في صياغة ذهنية الإنسان, وتكوين أخلاقه, وتقاليده وثقافته وعقائده.

وهكذا تتطرف نظرية الحتمية التاريخية في الانتقاص من قيمة الإنسان ودوره في صناعة التاريخ والحضارة والمجتمع, إلى حد إلغاء فاعلية إرادة الإنسان (الفرد) في التاريخ والمجتمع, بينما يبالغ أصحاب النظرية الأولى في تعقيد دور الفرد في المجتمع والتاريخ إلى حد إلغاء إمكانية التنبؤ بالمستقبل, والانتقاص من قيمة العلية في التاريخ, أو رفض جريان الحتمية والتعميم الجاريتين في الفيزياء والميكانيك في حقل التاريخ والمجتمع.

الإتجاه الثالث

والإتجاه الثالث في النظريات المادية لا يلغي دور الإرادة ولا قانون العلية ويؤمن بهذا وذاك, ويسهم العنصر الإنساني في بناء التاريخ في الوقت الذي لا ينفي الحتمية العلية والتعميم العليّ وتعتقد بازدواجية العامل المحرك للتاريخ (قانون العلية) بآليتها المعروفة وإرادة الإنسان وحريته في اتخاذ القرار.

هذه النظرية تقيّم حركة التاريخ على أساسين فقط وتـنفي حضور الرعاية والمشيئة الإلهية في التاريخ , وتفهم هذه الحركة على أنها حصيلة التفاعل القائم بين إرادة الإنسان وقانون العلية وبالتالي تكون حركة التاريخ خاضعة لإرادة الإنسان في استطاعة الإنسان أن يوجّه الحتمية العلية بالشكل الذي يريد, ويكون (الإنسان)هو العامل المهيمن في هذه الحركة..ولكن من دون حضور (للمشيئة الإلهية) ورعاية الله لحركة التاريخ, وقد يؤمنون بشكل أو بآخر بالله تعالى وبأن الله تعالى هو خالق هذا الكون وما فيه من سنن وقوانين, ولكن ينفون حضور المشيئة والرعاية الإلهية في حركة التاريخ كعامل أساسي ورئيسي في تحرك التاريخ.

وهذا هو المنطلق اليهودي المعروف الذي يقول عنه القرآن الكريم (وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) (المائدة/64)(11).

هذه هي أهم الإتجاهات المادية المعاصرة في حركة التاريخ ونقصد بالمادية كل النظريات ذات التوجه المادي في التاريخ سواء كان أصحابها يؤمنون بالله تعالى كاليهود أو ينفون وجود الله عز وجلّ.

وهذه الإتجاهات كما شرحناها ثلاثة:

1 ـ التشكيك في قيمة ودور قانون العليّة في حركة التاريخ.

2 ـ التشكيك في دور الإنسان في حركة التاريخ.

3 ـ الاعتراف بدور قانون العليّة ودور الإنسان معاً في حركة التاريخ, من دون الاعتراف بدور الرعاية الإلهية في حركة التاريخ, وفيما يلي نحاول أن نكتشف أصول المذهب التاريخي في القرآن الكريم.

المذهب التاريخي في القرآن

ليس القرآن الكريم كتاباً في الفلسفة يعنى بدراسة المسائل الفلسفية والتاريخية بصورة مشروحة..وإنما هو كتاب دعوة وهداية وتشريع..ولكننا نستطيع أن نستخرج من ثنايا

آيات كتاب الله الأصول العامة للتفكير بشكل دقيق.

وعندما نستعرض الآيات القرآنية نجد خطوطاً واضحة تمكننا من رسم مجمل المذهب القرآني في حركة التاريخ.

إنّ المذهب الإسلامي في تفسير التاريخ يقيّم التاريخ على ثلاثة أسس وليس أساسين فقط ويؤمن بأن بناء التاريخ لا يمكن أن يقوم على أساسين فقط ولا يمكن أن نفسر حركة التاريخ على أساس (قانون العليّة) (وإرادة الإنسان) فقط من دون أن نأخذ المشيئة الإلهية ورعاية الله تعالى عاملاً أساسياً في حركة التاريخ بنظر الاعتبار.

وهذه الأسس هي:

1 ـ قانون العليّة .

2 ـ حرية إرادة الأنسان.

3 ـ الرعاية الإلهية.

وفيما يلي نفصل هذا الإجمال:

1ـ قانون العليّة في التاريخ (السنن الإلهية)

الحياة الاجتماعية والحضارة البشرية والتاريخ ليست بدعاً من الأمور في هذا الكون كما قلنا سابقاً ولا يمكن أن نستثني شيئاً في هذا الكون من قانون العليّة, ونتائج هذا القانون دائماً نتائج حتمية لا يمكن أن تتخلف عن أسبابها وظروفها وهذه النتائج تعم كل الحالات المشابهة وتتكرر كلما تكررت الأسباب والظروف المؤدية إلى وجودها..ومعنى ذلك أن كل أصول قانون العليّة من (الحتمية والتعميم والمسانخة) تجري في الحقل الحضاري والتاريخي كما تجري في حقول المادة.

والظاهرة الحضارية لا تختلف عن الظاهرة المادية في أنها تخضع لنفس القوانين والأصول التي تخضع لها الظاهرة المادية,فإن قانون العليّة لا يقبل استثناء ولا يمكن أن تحدث ثغرة أو خلل في تطبيق هذا القانون في المجتمع أو في غير المجتمع من هذا الكون.

فالحياة الاجتماعية والتاريخ إذن يسيران بموجب نظام وقانون دقيق وبنفس الدقة التي تجري قانون العليّة في الفيزياء.

والأحداث الاجتماعية الكبيرة والصغيرة والانقلابات والثورات والركود والحركة والفشل والنجاح والنصر والهزيمة والغنى والفقر والقوة والضعف والهلاك والسقوط وولادة الحضارات ونموها وغير ذلك من مظاهر الحركة الاجتماعية لا تحدث بصورة عفوية كما تتصور ذلك بعض المذاهب التاريخية.

وإنما يجري ذلك كله بموجب قوانين وسنن إلهية ثابتة كما أن الحاضر ليس مفصولاً عن الماضي وإنما هو نتيجة حتمية للماضي ولا يمكن تفكيك أجزاء الحضارة البشرية الواقعة على امتداد الزمان بعضها عن بعض, فكل جزء يرتبط بالجزء الذي قبله وبعده ارتباطاً قوياً وكل جزء حصيلة الأجزاء السابقة ومادة للأجزاء اللاّحقة..وهكذا ..فإن الحضارت البشرية على امتداد التاريخ ليست قطعاً وشرائح حضارية متقطعة ومتفككة, وليست الشرائح المعاصرة غريبة عن الشرائح السابقة كما ليست الشرائح الحضارية المقبلة مفصولة عن الشريحة الحاضرة والشرائح الماضية.

وهذه الشرائح والمقاطع الحضارية الممتدة على امتداد التاريخ مرتبطة ببعض بقانون العليّة, وكما لا يمكن أن يحدث شيء بصورة عفوية في حقول الفيزياء والكيمياء والميكانيك, وكذلك لا يمكن أن يحدث حدث اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي بصورة عفوية وإنما يحدث ذلك جميعاً بموجب سنن وقوانين ثابتة تماماً كما يحدث في حقول المادة.

التأثيرات السطحية والعمودية على الشريحة الحضارية

ولنأخذ شريحة من شرائح الحضارة الإنسانية للدراسة..نجد أن هناك نوعين من التأثيرات على هذه الشريحة تتقّوم بهما:

النوع الأول: التأثيرات المتقابلة (السطحية) بين أجزاء وعناصر هذه الشريحة الحضارية في مقطع زماني واحد فالمدرسة مثلاً لها تأثير متقابل على المدرسة في شريحة حضارية واحدة وهذه التأثيرات المتقابلة والتفاعلات القائمة بين أجزاء وعناصر الشريحة الحضارية الواحدة لها دور في بناء وصياغة هذه الشريحة الحضارية.

والنوع الثاني: التأثيرات (العميقة) و (العمودية)على الامتداد التاريخي البعيد والقريب على هذه الشريحة الحضارية.وهذا النوع من التأثير يتقّوم به بسلسلة من العلل والأسباب والمؤثرات المختلفة التي كان لها الدور في بناء وصياغة هذه الشريحة الحضارية على الامتداد الطويل من التاريخ..وهذه العوامل والمؤثرات الممتدة على عمود الزمان والتي تساهم في فواصل زمانية مختلفة في بناء وصياغة هذه الشريحة الحضارية..هي (التاريخ).

فأية شريحة حضارية إذن لا تتكون بصورة عفوية منفصلة عن العوامل والمؤثرات المقارنة والعوامل والمؤثرات التاريخية ولا يمكن فهمها بمعزل عن هذين النوعين من المؤثرات.

والمجتمع البشري كأي شيء آخر من هذا الكون يخضع لقانون العليّ (الأسباب والمسببات) بكل تفاصيل هذا القانون.

وقانون العليّة (الأسباب والمسببات) يجري في الحقل الاجتماعي والحضاري كما يجري في حقل الفيزياء والميكانيك(12) في هذا الكون.

القرآن يفتح أفقاً فكرياً جديداً أمام العلم

وهذا الفهم للمجتمع وللحضارة شيء جديد في تاريخ الفكر الإنساني..والقرآن الكريم كما سوف نرى أول كتاب يفتح هذا الأفق الفكري الجديد أمام العلماء.

وفي تاريخ الفكر الإسلامي نلتقي لأول مرة هذا اللون من الفهم العلمي للمجتمع والحضارة..ونعرف أن الحضارة البشرية تخضع لسلسلة من العلل والقوانين وتتبع قوانيناً وأصولاً يسميها القرآن الكريم بـ (السنن الإلهية) ونعرف أن هذه ثابتة لا تتبدل في حياة الإنسان (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) ونستطيع أن نقول إن أول من استطاع ان يستخرج جملة من هذه السنن ويخضعها لدراسة علمية منظمة من علماء المسلمين هو عبد الرحمن بن خلدون المؤرخ والمفكر الأفريقي المغربي المعروف فقد استطاع ابن خلدون أن يتجاوز السطحية التي كانت تتصف بها الدراسات التاريخية والحضارية من قبل واستطاع أن يكتشف الأصول والقوانين التي تتبعها الحضارة والمجتمع أو كما يقول هو(العمران البشري) واستطاع أن يكشف إن العمران البشري ليس بدعاً من الأشياء في هذا الكون,وإنما هو أيضاً كأي شيء آخر يخضع لقانون العليّة (الأسباب والمسببات) وبغير هذه الصورة لا نستطيع ان نفهم المجتمع والحضارة الإنسانية.

السّنن الإلهية

يشير القرآن الكريم بشكل خاص إلى هذه المسألة ويؤكد بأن الحضارة الإنسانية في ولادتها ونموها ونضجها وضعفها وانتكاسها وسقوطها وموتها تتبع قوانين وسنناً إلهية ثابتة.

ويؤكد بأن أمثال هذه الأحداث لا تحدث بصورة عفوية وإنما تحدث بموجب سنن وقوانين وأن هذه السنن هي من الله تعالى وأنها سنن ثابتة لا تتبدل ولا تتغير.

وينظر إليها القرآن نظرة أوسع وأشمل من النظرة المادية التي ينظر بها أصحاب التوجهات المادية التاريخية.

 

حتميّة السّنن التاريخية:

والسنة كما يقول الراغب(13) [الطريقة ( وسنة الله) طريقة حكمته] فهي القوانين والأصول الإلهية التي تجري عليه مشيئة الله تعالى في خلقه, وهذه القوانين حتمية لا تتبدل. والقرآن الكريم يعبّر عن هذه الحتمية بطرق مختلفة كقوله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ) الأنفال /38.

وهكذا سنة ماضية وقانون نافذ لا يتخلف ولا يسلم منه أحد يقول البيضاوي في تفسير هذه الآية الكريمة [وإن يعودوا إلى قتاله (رسول الله) فقد مضت سنة الأولين الذين تحربوا على الأنبياء بالتدمير كما جرى على أهل بدر فليتوقعوا مثل ذلك)(14).

ويقول تعالى (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً) الأحزاب /38.

وهكذا قدر مقدور لا مفر منه كما جرت هذه السنة الإلهية في الذين خلوا من قبل.

(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) فاطر /43.

فسوف لا تحل بهم إلا سنة الله في الأولين وهي سنة ثابتة لا سبيل إلى تبديلها وتحويلها.

الرؤية التوحيدية لسنن الله:

والقرآن الكريم ينظر إلى هذه السنن والقوانين والأصول الثابتة في حركة التاريخ من خلال نظرية الشمولية في (التوحيد) وينسب هذه السنن إلى الله تعالى جميعاً وينفي أن تكون هذه السنن تجري بمعزل عن مشيئة الله أو خارجة عن إرادة الله تعالى. انظر الآيات الواردة في الذكر الحكيم.

وهذه هي الميزة الأولى للرؤية الإسلامية إلى السنن والقوانين عن الرؤية المادية.

علاقة الجزاء بالعمل في سنن الله:

وهذه السنن تشتمل على نوع من العلاقات بين العمل والجزاء لا تخضع للحسابات المادية فإن التصور المادي لقانون العليّة في التاريخ وللعلاقة السببية بين مسلسل الأحداث في التاريخ لا يزيد على تصور العلاقة المحسوسة بين الأحداث كالعلاقة بين العرض والطلب في السوق وبين أسعار البضائع.

وأما علاقة الجزاء بالعمل فهو من العلاقة السببية غير المحسوسة وغير المفهومة بالرؤية المادية للتاريخ. والقرآن الكريم يلفت نظرنا إلى هذا النوع من العلاقة والإرتباط في التاريخ.

(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ) فاطر/43.

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) الأنفال/25.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) فاطر/44.

(وَلَوْ قَاتَلَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) الفتح/22-23.

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) آل عمران/139.

(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) النمل /52.

 (إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) العنكبوت /34.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الأعراف /96.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) الطلاق/2.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) الطلاق/ 4.

هذه العلاقة الحتمية وغير المرئية بين الفعل والجزاء مما يخفى على الذهنية المادية, والقرآن الكريم يسلّط الضوء على هذا النوع من العلائق بين الفعل والجزاء ويصفها بصفة الحتمية التي لا سبيل إلى تبديلها وتحويلها.

سنن الله في التاريخ مرآة لحاضر الإنسان ومستقبله:

ثم يلفت القرآن نظر الإنسان إلى هذه السنن الإلهية الثابتة في التاريخ ليتخذ منها مرآة ينظر من خلالها إلى نفسه وحياته وعصره.

إنّ التاريخ عندما يكون شتاتاً من الأحداث المتفرقة التي تتجمع وتتفرق بصورة اعتباطية, ومن دون قانون وسنة..تفقد الشفافية التي تمكن الإنسان أن ينظر من خلالها إلى نفسه وعصره وأمته ولكن عندما يكون التاريخ مجموعة من السنن والقوانين الثابتة فإن بإمكان الإنسان أن ينظر من خلال مرآة التاريخ إلى نفسه وعصره ويقوم من خلال هذه المرآة نفسه ومجتمعه.

إنّ سرد التاريخ في القرآن الكريم يتم من خلال تكريس الأصول والقوانين الثابتة في حركة التاريخ.

القرآن يعرض من هذه الصورة المقننة من التاريخ ليجعل منها مرآة للناس أن ينظروا إلى أنفسهم وعصرهم من خلالها ثم يؤكد بصورة متكررة الدعوة إلى النظر إلى هذه المرآة والاتعاظ والعبرة وأن يعدل الإنسان سلوكه وعمله من خلال النظر إلى هذه المرآة.

ولنقرأ هذه الآيات المباركات في مواضيع مختلفة من كتاب الله.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) محمد/10.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ الْمَثُلاتُ) الرعد6.

(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) النمل 52

فالخطاب هنا للأمة وليس للفرد, والسنن والقوانين التي تذكرها هذه الآيات سنن جارية في حياة الأمم والجماعات.

(وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً) الإسراء/4-80.

وهذه الآيات المباركات جديرة بالكثير من التأمل لفهم سنن الله تعالى في حياة الإنسان.

فالخطاب هنا للأمة وليس للفرد والسنن والقوانين التي تذكرها هذه الآيات سنن جارية في حياة الأمم والجماعات.

ولنتأمل مرة ثانية في هذه الفقرات من آيات الله.

(وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً).

بعد كل فساد واستكبار ينذرهم الله بعذاب وخراب.

(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا) بعد الفساد والاستكبار الأول (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) وسلّط الله عليهم رجالاً أشداء ليقتلوهم وليأسروهم ولينفذوا إلى داخل بيوتهم وليذلوهم في عقر دورهم.

ثم تؤكد الآية الكريمة بشكل حاسم أن هذه النتيجة مصير حتمي لبني إسرائيل ووعد قاطع نافذ لله تعالى (وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً) لا يتخلف ولا يتغير والقرآن هنا يحدثنا عن أعمق أعماق قوانين وسنن الله تعالى في الكون والمجتمع, ثم إذا ندم بنو إسرائيل وتابوا إلى الله تعالى أعاد الله تعالى إليهم رحمته وبركاته ومكنهم من أعدائهم ونصرهم عليهم وأمدهم بالأموال والبنين..وهذا قضاء آخر وقانون آخر وسنة أخرى لله تعالى ثابتة أيضاً لا تتخلف ولا تتبدل.

(ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً).

ثم يأتي القضاء العام والقانون والحكم الإلهي الثابت في بني إسرائيل وفي كل الأمم .

(إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا).

(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ) وعاد بنو إسرائيل من جديد, نتيجة الترف إلى الطغيان والاستكبار والإستعلاء سلّط الله تعالى عليهم من جديد أعداءهم, ليهلكوهم وليذلوهم كما فعل بهم أعداؤهم أول مرة.

ثم إذا عدتم إلى الله من جديد وتبتم وأقلعتم عن المعاصي والذنوب فـ (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) وهذه فقرة أخرى من السنن الإلهية من هذا المقطع القرآني..ولكن (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) إن عدتم إلى الطغيان والإستعلاء على وجه الأرض عاد الله عليهم بالعذاب والتنكيل والإذلال.

أرأيت كيف ينطق القرآن بالسنن الإلهية الحاسمة والنافذة والمستمرة .. ( وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا).

ولنستمر مع القرآن الكريم شوطاً آخر من التأمل في سنن الله تعالى في حياة الإنسان.

(فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون) لنحل /34.

(وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) الإسراء/16-17.

 (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الأعراف/96.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) يونس /13.

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) الأنعام/123.

والآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة وكلها ينطق بهذا الفهم العلمي الدقيق للتاريخ: سنن وقوانين وأصول ثابتة للتاريخ والحياة.

ولا سقط أمة ولا يهتك ولا يكون مفر ولا هزيمة ولا إنتكاسة ولا ازدهار ونمو ونضج إلا بموجب قوانين وسنن إلهية ثابتة.

وهذه السنن كلها لله تعالى أوجدها بمشيئته وحكمته وهدى إليها عباده.

أصل وحدة الأمّة في القرآن

في الوقت الذي يقرر القرآن الكريم قدرة الإنسان على الإختيار والإرادة وتقرير المصير بشكل تام يقرر القرآن الكريم أصلاً هاماً في حياة الأمم في التاريخ وهو (وحدة شخصية الأمة) وهذه الوحدة في نسيج الأمة والمجتمع تأتي على بعدين:

1 ـ البعد الأفقي.

2 ـ والبعد العمودي.

1 ـ البعد الأفقي: ففي البعد الأفقي لا يمكن أن يعزل الفرد الذي يعيش في مجتمع ما نفسه عن عواقب وتبعات سيئات قومه مهما صلح أمره.

يقول تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الانفال/25.

وقد ينسب القرآن الكريم عمل فرد واحد من الناس إلى الأمة جميعاً إذا كانت الأمة راضية بذلك العمل.

يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام:

(أيها الناس إنما يجمع الناس الرضى والسخط, وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم الله بالعذاب كما عموه بالرضى فقال سبحانه (فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ) فما كان إلا أن خارت أرضهم بالخسفة)(15).

وكلام الإمام عليه السلام كلام دقيق فإن الرضى بالجريمة في الوسط الاجتماعي نحو من المشاركة في ذلك العمل, وإن كانت ممارسة الجريمة من طائفة من المجتمع ولكن الآخرين لما أعلنوا رضاهم منها بالسكوت عنها كان سكوتهم عنها بحكم الإقرار لها والمشاركة فيها, وذلك أن الجرائم الكبيرة المعلنة تختلف عن الجرائم الفردية التي يرتكبها الناس في الخفاء, فإن المجرم لا يتمكن من ممارسة الجرائم الكبيرة أمام الملأ ويتحدى بها مشاعر الأمة, لولا أن يدعمه الآخرون بالتأييد والرضا والتشجيع.

وعند ذلك فلا يكون المجرم وحده فإنما يمثل تلك الجريمة, وإنما يشاركه فيها الراضون الذين دعموه وأعانوه بالرضا والتأييد والسكوت .

2 ـ البعد العمودي:

ويعتبر القرآن الكريم الأمة في عمرها الزمني وامتدادها التاريخي قطعة واحدة متصلة ومترابطة, يعتبر الجيل السابق مادة وأساساً لبناء الجيل الحاضر ويكون الجيل الحاضر  حصيلة لعمل الجيل السابق, وينسب القرآن الكريم عمل الجيل السابق عندما يحظى برضى الجيل الحاضر إلى الجيل الحاضر.

يقول تعالى (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ * الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) آل عمرن/181 –183.

وهؤلاء الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء هم من اليهود الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وآله, والله تعالى ينسب إليهم جرائم آبائهم في قتل الأنبياء (وقتلهم الأنبياء).

وعندما طلبوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يأتيهم بقربان تأكله النار أمر الله تعالى نبيه (ص) أن يحاججهم ويقول لهم (قد جائكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فَلِمَ قتلتموهم إن كنتم صادقين) علماً بأن القوم الذين طلبوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يأتيهم بقربان تأكله النار لم يقتلوا نبياً.

ومؤاخذة الحاضرين وعتابهم بأعمال أسلافهم مذكورة في القرآن الكريم في أكثر من موضع, ولهذه المؤاخذة والعتاب رغم أنهم لم يرتكبوا شيئاً مغزى اجتماعي نعرفه جيداً, إذا عرفنا أبعاد التصور الإسلامي للتاريخ والحضارة ..فإن هذه المؤاخذة لا تتم إلا عندما يرضى الخلف بفعل السلف ولا يتبرأ منه ويدافع عنه وهذه هي الوشيجة والصلة القائمة بين الأجيال من أمة واحدة والتي تربط الأجيال من أمة واحدة وحضارة واحدة بعضها ..ببعض.

فإذا انقطعت هذه الصلة بين الأجيال من أمة واحدة فإنها ستتحول من أمة إلى أمة أخرى وتنقلب من حضارة إلى أخرى فلا تكون بين جيل وآخر صلة أو علاقة ولا مسؤولية ولا مؤاخذة ولا عناء. ومادامت الأمة والحضارة قائمة فإن الحب والبغض والولاء والبراء واحد لا يتغير..وولاء الآباء ينتقل إلى الأبناء وبراءة الآباء تنتقل إلى الأبناء ومحاسبة الأبناء ومؤاخذتهم على جرائم آبائهم تتم على هذا الأساس, ثم نلقي نظرة ثانية على حالة وحدة الولاء والبراءة هذه بين الأجيال فترى أن السلف هو المسؤول عن ولاء وبراءة أبنائهم وانحرافهم وزيفهم وانتمائهم إلى محور الباطل والطاغوت أو في أن يرفع ذلك مسؤولية الأبناء عن انتمائهم إلى محور الشرك والطاغوت ودون أن يسلب ذلك

حرية إرادة الأبناء على تقرير مصيرهم بشكل مستقل عن الآباء, كما سوف نتحدث عن ذلك إن شاء الله في العنصر الثاني من عناصر النظرية الإسلامية في التاريخ..فإن الآباء لا شك يمهدون أرضية خصبة للإنحراف والشرك والفساد للجيل اللاّحق ويغذون الجيل الذي يأتي من بعدهم بشكل غير مرئي بالفكر والحضارة الجاهلية وينقلون فكرهم وأخلاقهم وأعرافهم وتصوراتهم إلى الجيل الذي يأتي من بعدهم وهذا هو البعد غير المرئي للحضارة.

ونلاحظ بشكل أكثر وضوحاً هذا التصور القرآني للتاريخ والصلة الوثيقة القائمة بين الأجيال من أمة واحدة وحضارة واحدة في دعاء نوح عليه السلام بهلاك قومه (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً) نوح/26 –27 .

فالجيل الذي تمرد على الله تعالى ورسوله من قوم نوح لا يلدون إلا فاجراً وكفاراً ,وهذه الحضارة والأمة الجاهلية لا تغذي من بعدها من الأجيال إلا الشر والفساد والفجور والكفر.

ولعل الآية الكريمة تلقي ضوءً على هذه الحقيقة (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً) الأعراف /58 .

وبهذه الصورة نرى أن القرآن الكريم يربط الحاضر بالماضي والماضي بالحاضر من أمة واحدة في المسؤولية والمحاسبة والمؤاخذة, فالجيل الحاضر مسؤول عن سلفه والسلف مسؤول عن الخلف, وهذه الآيات المباركات تكشف إلى حد بعيد أبعاد التصور الإسلامي في النسيج الاجتماعي والتاريخي المترابط للأمة الواحدة, وحكومة قانون العليّة في التاريخ والمجتمع وتأثير كل جيل في الأجيال التي تليه في الخير والشر.

 

المصادر :

ـــــــــــــــــــــــــ

(1) الترجمة الفارسية :أحمد آرام ص18 .

(2) المصدر السابق.

(3) المجتمع الجديد /أدوارد هالت كار/ص11 ترجمة محسن تلاش.

(4) ولا يعني ذلك إنهم ينكرون أصل العليّة في الحدث التاريخي, وإتما يعتقدون أن طريقة عمل قانون العلية في الحضارة والتاريخ تختلف عنها في الفيزياء والميكانيك.

(5) ترجمه إلى العربية احمد الشيباني.

(6) المجتمع الجديد ادوارد هالت كار ص9/12 من اترجمة الفارسية محسن تلاش.

(7) المجتمع الجديد / ادوارد هالت كار ترجمة محسن تلاش ص10 .

(8) المدخل إلى التصور الإسلامي قسم المجتمع والتاريخ للشهيد المطهري ص329 /330 الاصل الفارسي.

(9) دوركهايم تأليف انتوني كيد نز الترجمة الفارسية للكتاب ص31 ترجمة يوسف أبا ذري.

(10) دوركهايم تأليف انتوني كيدنز الترجمة الفارسية ص31 /32

(11) نستظهر من الآية الكريمة إن اليهود كانوا يقصدون من الغلما يقابل البسط وما يقابل الفاعلية والتأثير.

(12) مع فارق نذكره قريباً.

(13) مفردات الراغب 245 .

(14) تفسير البيضاوي 240 .

(15) نهج البلاغة د.صبحي صالح, خطبة 201 ص 319.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=415
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 03 / 08
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18