• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : القرآن والمجتمع .
                    • الموضوع : الضمان الاجتماعي بين عليّ (عليه السلام) والقرآن .

الضمان الاجتماعي بين عليّ (عليه السلام) والقرآن

الشيخ محمّد علي التسخيري

مقدّمة:

رُبَّما كان من نافلةِ القول الحديث عن أنّ عليّاً هو ربيب القرآن والمُتشبّع به، إلى حدّ التجسيدِ الكامل.. فكلّ الدلائل والأقوال والأفعال والصفات تَحْكِي هذه الحقيقة.

فَلَسنا إذن بصدَد بيانِها فهي أوضحُ من الشمس، وإنّما نُريد التركيز على جانب منها، لنَخلَص منه إلى التصوّر الإسلامي العام فيما يَرتبط به.

وهذا الجانب هو موضوع (الضمان الاجتماعي) الذي طَرحَهُ القرآن لأوّل مرّة، في تاريخ البشريّة، بهذا الشكل المُتكامل، ووضّحه رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وشَرَحَه الإمام أميرُ المؤمنين (عليه السّلام)، وطَبّقَهُ في حكومَتِه الفريدة، والتي ظلّت البشريّة تَتَحَسّر على مَثِيلَتِها عِبْر القرون.

واقع المشكلة الاقتصاديّة:

هذا ولمّا كان الإسلام دين الواقع والفطرة، فهو لا يعمل على إغفال الحقائق الخارجيّة، ومنها حقيقة الإنسان وفطرته إلاّ أنّه يسعى بكلّ جدٍّ للارتفاع بمُستوى الواقع إلى الشكل الأمثل المطلوب.

وبناءً على هذا نَجد الإسلام يُلاحظ ـ في تَصوّره للوضع الاقتصادي السليم ـ واقع الإنسان ودوافِعَه، وواقع الساحة التي يعيشُها، ومِن ثمّ يُخطّط لإسعاد المُجتمع في هذا المجال ضمن تخطِيطه العام الأوسع منه.

وإذ لم نكُن بصدَد إعطاء النظريّة الإسلاميّة في هذا الموضوع، فلا أقلّ من الإشارة إلى إطارها العام.

وما نَتَصَوّره أنّ الإسلام حدّد المشكلة الأساسيّة ثمّ سعى لإعطاء الحلّ الجذري، وهذه المشكلة يُمكن أنْ تَتَلَخّص في أمرين.

الأوّل: الكفر بالنِّعَم الإلهيّة وعدَم شُكرها باستثمارها الاستثمار المَطلُوب، وإهدار الطاقات والمَنابع الطبيعيّة التي سخّرها الله تعالى للإنسان.

الثاني: الظلم في توزيع الثروة، والاعتداء على حقوق الأفراد فيها، والعمل على حجبِها عن القيام بدورها الاجتماعي المطلوب.

والقرآن الكريم يُؤكّد كلّ حقيقة من هاتين الحقيقتَين، في شتّى الموارِد، وربّما جَمَعَها كما في الآيات الشريفة، من سورة إبراهيم عليه السّلام حيث يقول:

(قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ*اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ*وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ*وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(1).

والملاحظ في هذا النص القرآني الشريف:

أنّه يُمهّد لطرح المُشكلة بذِكر العناصر العقائديّة، (عبوديّة الله، والإيمان بالتوحيد والمَعاد والرزق الإلهي).. والعناصر السلوكيّة الإيمانيّة (الصلاة) ،وحقيقة التسخير الكوني للإنسان، ثمّ ينطلق للحديث عن الاحتياجات الإنسانيّة كَكُل، فيُؤكّد بأنّ الله تعالى أودَع في الطبيعة ما يَسُدّها بشكلٍ دقيق، إلاّ أنّ الإنسان نفسه يُبْتَلَى بِعُنْصُري (الظلم والكُفر) ممّا يمنع تحقيق السير الطبيعي للبشريّة إلى أهدافها المنشودة.

وعلى هذا الغِرار يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): متأفِّفَاً من زمنٍ لا يَزْدَاد الخيرُ فيه إلاّ إدباراً ولا الشرُّ فيه إلاّ إقبالاً ولا الشيطان في هلاك الناس إلاّ طمعاً وهي تعابير مختلفة عن المجتمع المنحرف عن خطّ الإسلام، يقول (عليه السّلام):

(اضرِب بِطَرفِك حَيثُ شِئتَ من الناس، فَهَل تَبصِر إلاّ فقيراً يُكابِد فَقْراً، أو غَنِيّاً بَدّل نعمةَ اللهِ كُفراً، أو غَنِيّاً اتّخَذَ البُخلَ بِحَق اللهِ وَفرا) (2)، إنّهما الفقر والكُفر بعَينِهِما وهُما السبب في هَلاك المُجتمع.

علاج المشكلة:

وعلى هذا فإنّ العلاج الأساس للمشاكِل الاقتصاديّة يَكمُن في:

1- تَنمِية الإنتاج والاستفادة القُصوى من النِعَم الإلهيّة.

2- تحقيق العدالة الاجتماعيّة والقِسط.

وربّما كانت آية سورة الحديد أوضح بيان قُرآني على هذه الحقيقة إذ يقول تعالى:

(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(3).

فالحديد من النِعَم الإلهيّة، والقسط سبيل العدالة الاجتماعيّة، والمُتَّقُون هُم أُولئك الذين استفادوا من الطبيعة خَير استفادة، وسَلَكُوا طريق التقوى والعدالة بأفضَلِ سُلوك يقول أمير المؤمنين عليه السّلام:

(واعلموا عبَاد الله، أنّ المُتّقين ذهبوا بعاجِل الدنيا وآجِل الآخرة، فشَارَكوا أهلَ الدنيا في دنياهُم ولم يُشارِكوا أهلَ الدنيا في آخِرَتِهم، سكَنوا الدنيا بأفضَل ما سُكِنَت، واكَلُوها بأفضَل ما أُكِلَت، فَحَضَوا من الدنيا بما حَضِيَ بهِ المُترَفُون، وأخَذوا مِنها ما أخَذَهُ الجَبَابِرَة المُتَكَبّرُون ثُمّ انقَلَبُوا عًنْهَا بالزادِ المُبلَغ والمَتْجَر الرابح) (4).

والتجارة في رأيه تصُبّ في مَصبِّ التَنمِية فيَقول مُوصِيَاً مالِكاً الأشتر: (واستَوصِى بالتجّار وذَوِي الصناعات، وأُوصِى بِهِم خَيراً، المُقيم مِنهُم، والمُضطَرِب بِمَاِله، والمُتَرَفِّق بِبَدَنِه، فإنّهم مَوادُّ- المُنافع وأسبَاب المَرافق) (5).

مقوِّمَان للقِسط الإسلامي:

وإذا كانت فِكرة تَنمِية الإنتاج واضحة المَعالِم، بشكلٍ إجمالي، فإنّ فِكرَة العدالة الاجتماعيّة تَبقى غامِضة؛ لأنّها تّتْبَع الكثير من التصَوّرات عن واقع الإنسان وتركيبهُ، وعن علاقَتِه بالطبيعة، وعن أُسلوب تَحقِيقِ التوازن في إشباعِ نَوَازِعِهِ، وعن القِيَم والمَباني العمليّة المقبولة في حياتِه وغير ذلك.

الأمر الذي يَتَطَلّب التفصيل، ومن هنا نَجِد الإسلام عندما يطرَح دعوته للعدالة الاجتماعيّة يوضِّح مقصودَه بالتفصيل من خلال مفاهيمه، وأحكامه، ونظمه الاقتصاديّة، فالتركيز إذن يتم على خطوط العدالة وإنْ كانت فكرة تنمية الإنتاج تنال شيئاً مِن نصيبِها في التوضيح.

فما هي مقوِّمات العدالة الاجتماعيّة في التصوّر الإسلامي.

الظاهر من استقراء أبعاد هذا التصوّر، هو أنّ العدالة الاجتماعيّة (من زاويتها الاقتصاديّة) تَنبني على أساسَين رئيسيَّين

هما:

الأوّل: التكافل الاقتصادي.

الثاني: التوازن في مستويات المعيشة.

وهُما العنصران اللذان شَرَحهُما المرحوم الشهيد الإمام الصدر في كتابه القيِّم (اقتصادنا) وبيَّن أبعادهما بشكل رائع وحصر المقوّمات بهما والحقُّ معه في هذا الحصر.

أمّا التكافل الاقتصادي: فهو دعوة القرآن الدائمة في الموارد العديدة، فالإنفاق يسير مع الصلاة جَنْباً إلى جنب وكفالة اليتيم والمسكين وذوي الحاجة في طليعة الصفات الفضيلة التي يدعو إليها، وحقُّ السائل والمحروم حقٌّ معلوم في منطقهِ الإلهي، بل يعتبُر القرآن المال من قِوام المجتمع فإذا حاول سفيه التفريط به منعه المجتمع (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماًً)(النساء: 5) (6).

وحينئذٍ فلا يُتصوّر والحال هذه أنْ يُصاب عضو من المجتمع بالحاجة والشلل في حين يتكدّس العلاج لدى عضوٍ آخر.

يقول تعالى:

(مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ) (الحشر:7)(7).

إلى غيرِ ذلك من النصوص الشريفة التي لسنا بصدَد استقصائِها، أمّا علي (عليه السّلام) فهو يركِّز في كثير من الموارد على هذه الحقيقة والنص الذي ذكرناه سابقاً يؤكّدها، ويقول في موضع آخر: (إنّ الله فرض في أموالِ الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلاّ بما مُتِّع بهِ غنيّ، والله تعالى سائلُهم عن ذلك) (8).

ويقول في وصف الأنبياء: (وكانوا قوماً مُستَضعَفِين، قد اختبَرَهُم الله بالمَخْمَصَة وابتلاهم بالمَجْهَدة وامتَحَنَهُم بالمَخَاوف، ومخّضَهُم بالمَكارِه، فلا تعتبروا الرضا والسخط بالمال والولد جهلاً بمواقع الفتنة، والاختبار في موضع الغنى والاقتدار، فقد قال سبحانه وتعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ*نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ)).

فإنّ الله سبحانه يَخْتَبِر عباده المُستَكبرين في أنفسهم بأوليائه المُستضعفين في أعينهم (9).

والفرد مسؤول عن الآخرين وكذلك الدولة متكفّلة لسدِّ النقص.

يقول (عليه السّلام): (فمَن آتاهُ الله مالاً، فليَصل بهِ القرابة، وليُحسِن منهُ الضيافة، وليفكَّ به الأسير والعاني، وليُعطِ منه الفقير والغارم، وليَصبِّر نفسه على الحقوق) (10).

ثمّ يقول: (وقد علِمتم أنّهُ لا ينبغي أنْ يكون الوالي على الفروج، والدماء، والمَغانِم، والأحكام، وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالِهم نهمَتُه، ولا الجاهل فيَضلَِّهُم بِجَهلِه) (11).

ويقول لمالك الأشتر: (ثُمَّ الله الله في الطبَقَة السُّفلى من الذين لا حيلة لهُم من المساكين والمحتاجين، وأهل البوسي والزمني، فإنّ في هذه الطبقة قانِعاً ومُعتراً، واحفظ اللهَ ما استَحفَظَك مِن حقِّه فِيهم، واجعل لهم قِسماً من بيت مالِك، وقِسماً من غِلاّت صَوافي الإسلام في كلِّ بلد فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى) (12).

كما أعلن عن الاتّجاه الإسلامي لمَنح العمل على المادّة الابتدائيّة أو شِبهِهَا (كما يُؤخَذ في الحرب) للعامل نفسه ولهذه القاعدة تأثيرها إلى حدٍّ ما حتّى في المجال الآخر (العمل على غير المادّة الابتدائيّة) فيقول (عليه السّلام) لأحد أصحابه وقد جاءهُ يطلُب مالاً.

(إنّ هذا المال ليس لي ولا لك، وإنّما هو فَيء للمُسلمين، وجَلْبَ أسيافهم فإنْ شَرَكتَهُم في حربِهم كان لكَ مثل حظِّهِم وإلاّ فجَنَاة أيديِهم لا تكون لغير أفواهِهِم) (13).

وقد عَمَل على توفير أقصى حدٍّ مِن الأمن الاجتماعي، الذي يُساعد للغاية على تحقيق الأهداف الإسلاميّة في المجال الاقتصادي، وذلك عِبر تطبيق نظام العقوبات الصارم بحقِّ عمليِّات الاغتيال الاقتصادي، والسرقة، وقَطع الطريق، والرِّبا والاحتكار، والكنز، والقمار، وإهدار الثرَوَات، وراح يُعلِن أنّه سَيَسْتَرجِع أموال الأُمّة حتّى ولو تُزُوّجَت بها النساء.

كما طرح فكرة التسوية في العطاء في الأموال العامّة، التي يشتَرِك فيها المسلمون، وكانت هذه خطوة ثوريّة أزعَجَت الكثير من ذوي التكبُّر والأشراف، فراحوا يتوسَّلون بمُختلف الوسائل ليَعدِل عن هذه السياسة، إلاّ أنّهُ كان يُجيبَهُم دائماً بالنفي.

كما عَمِل (عليه السّلام) على منع تركّز الثروة في طبقة معيَّنة، وربّما توسَّع في مسألة الزكَوَات إذ وَرَدَ عنه (عليه السّلام) في رواية صحيحة، (أنّه وضع على الخيل العِتاق الراعية في كلِّ فرس في كلِّ عام دينارين، وجعل على البراذين ديناراً وهكذا تَتَابَعت خُطُواته على هذا السبيل).

وهناك تفصيلات في موضُوع التكافل لا تَتَحمّلُها هذه المقالة المختصرة إلاّ إنّنا نُشير إلى الاتّفاق التام لفقهاء المسلمين، على أنّ كلّ فرد مسلم يكفل الحاجات الضروريّة لأخيه المسلم أينما كان، فمَنْعُها بِمَعْنى (منع الماعون).

أمّا الدولة فالرأي السائد هو أنّها تضمن أيضاً الحاجات الطبيعيّة للفرد، من خِلال ما تَملُكُه من ثرَوَات وأنفال، ولا مجال هنا للتفصيل.

وأمّا التوازن في مستويات المعيشة، فنَلمَح له جانِبَين رئيسين:

احدهما: الضغط على المستويات الرفيعة لتَهبِط إلى المستويات الطبيعيّة من المَعيشة.

والثاني: العمل على الارتفاع بالمستويات الهابِطة لتقرب من المستويات الطبيعيّة أيضاً.

وبهذا يتَحقَّق المطلوب من التوازن.

فمهما ارتفع الدخل أو انخفض نتيجة عوامل يقرّها الإسلام في كثير من الأحيان، كالتجارة والإبداع والإحياء وأمثال ذلك، إلا أنّه يجب أنْ لا يُحدِّد مستوى الدخل مستوى المعيشة نفسها، وإنّما عليه أنْ يُساهم في تحقيق التوازن بينها، ولا نُريد من التوازن بين المستويات وحْدََها. كلاّ فإنّ ذلك أمرٌ لا يصرُّ عليه الإسلام وإنّما يندب إليه.

وإنّما المراد الوصول إلى حالة يكون التفاوت فيها بين مستويات المعيشة تفاوت درجة لا تفاوت طبقه، (كما يعبِّر المرحوم الشهيد الصدر رحمه الله تعالى) والتعبير الشرعي لهذهِ الحالة يُعرف من الاتجاهين الشرعيّين التاليَين:

الأوّل: تحريم الإسراف والتبذير والإتراف والبطر وهذا ما أكّدَته نُصوص كثيرة مُتواترة.

الثاني: لزوم تحقيق مستوى الغِنى لكلِّ فرد في المجتمع الإسلامي وهذا ما أكّدَته نُصوص كثيرة أيضاً منها:

ما عن محّمد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عُمَير، عن سعيد بن غزوان، عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال:

(تعطيه من الزكاة حتّى تُغنِيه) (14).

وعن عبد الله بن جعفر عن أبيه أنّ عليّاً (عليه السّلام) كان يقول:

(يُعطى المُستدينون من الصدقة والزكاة دَينَهُم كلَّ ما بَلَغ إذا استدانوا في غير سَرََف...) (15).

فإذا هَبَطَت الفئات المُتمكِّنة ماليّاً إلى مُستوى عدَم الإسراف، وارتقت الفئات المسحوقة ماليّاً إلى حدِّ الغِنى لم يَعُد الفارق بين المستَوَيَيْن فارقاً كبيرا،ً أي فارقاً طَبَقيّاً، وإنّما يُعبّر حينئذٍ عن حالةٍ محفِّزة للفئات الفقيرة، لتعمل على الارتقاء ومضاعَفة مُستوى الدخل، ممّا يُمكنها من القرب من مستويات معيشة الأغنياء.

وعلى أيِّ حال فإنّ المُتَتَبِّع لنصوص القرآن الكريم ونصوص نهج البلاغة يجِد

تأكيداً على هذه الحالة.

فالقرآن الكريم يشنُّ حرباً على الترف والمُترفين والإسراف والمُسرفين وكلَّ حالات البَطَر ومُظَاهِره.

يقول تعالى مثلاً:

(كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا)(الأعراف:31) (16).

(وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ)(يونس:83) (17).

(وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ)(غافر:43) (18).

(وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)(هود:116) (19).

(وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)(الإسراء:16) (20).

(حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ)(المؤمنون:64) (21).

(وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا)(القصص:58) (22).

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ)(الأنفال:47) (23).

ويقول عليّ (عليه السّلام) في كتابهِ إلى زياد:

(فدَع الإسراف مُقتَصِداً، واذكر في اليوم غَداً، وامسك من المال بقَدر ضرورَتِك، وقدِّم الفضلَ ليَومِ حاجَتك، أترجو أنْ يُعطيك الله أجر المُتواضِعين وأنتَ عندهُ من المتكبِّرين، وتَطمَع وأنتَ مُتَمِّرغ في النعيم، تَمْنَعُه الضعيف والأرملة ، أنْ يُوجب لكَ ثوابَ المُتَصَدِّقين، وإنّما المرء مُجْزَى بِما أسلف، وقادِم على ما قدَّم) (24).

ويتحدَّث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيقول عنه:

(ولقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يأكل على الأرض، ويَجلس جِلسة العبلا، ويَخصِف بِيده نعلَه، ويرفع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويَردِف خَلفه، ويكون الستر على باب بيته، فتكون فيه التصاوير فيقول: يا فلانة – لإحدى زوجاته – غيّبِيه عنّي، فإنّي إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها) (25).

ويتحدّث عن الأنبياء فيقول عنهم: بأنّهم كانوا قوماً مستضعفين (26).

وكان هو في القمّة من حيث بساطة مستوى المعيشة وهو القائل:

(فو الله ما كَنزْتُ من دنياكم تِبراً، ولا ادّخرت من غنائِمها وفراً ولا أعددت لبالي ثوبي طِمراً، ولا حِزت من أرضها شِبراً...

وأيمَ الله – يميناً لا استثني فيها بمشيئة الله، لأروّضَنّ نفسي رياضةً تَهشُّ مَعها إلى

القرض إذا قدَرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعنّ مُقلتي كعَين ماءٍ نضب معينُها مستفرغةً دموعها، أتمتلئ السائمة من رعيِها فتَبرُك، وتشبع الربيضة من عشبها فتربض، ويأكل عليٌّ من زادهِ فيهجَع، قرّت إذاً عينه إذا اقتدى بعد السنين المُتطاولة بالبهيمة الهامِلة).

ويقول عن نفسه أيضاً:

(ولكن هيهات أنْ يَغلبني هَواي، ويقودني جَشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة مَن لا طمع له في القرص، ولا عَهد له بالشبَع أو أبيتُ مبطاناً وحَولي بطونٌ غرثى، وأكبادٌ حرّى أو أكون كما قال القائل:

(وحسبك داءٌ أنْ تبيت بِبِطنةٍ... وحولك أكبادٌ تحنّ إلى القدِّ).

أأقنع من نفسي بأنْ يُقال: أمير المؤمنين، ولا أُشاركهم في مكارِه الدهر، أو أكون أُسوةً لهم في جشوبة العيش، فما خُلِقتُ ليَشغلني أكل الطيّبات كالبهيمة المربوطة همُّها علفُها..) (27).

ويقول (عليه السّلام) للعلاء بن زياد الحارثي وقد رأى سعة داره.

(ما كنت تصنع بسعةِ هذه الدار في الدنيا وأنت إليها في الآخرة كنت أحوَج؟ بلى إنْ شئت بلَغت بها الآخرة، تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتُطلِع منها الحقوق مطالعها فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة) (28).

كما إنّنا رأينا تأكيدهُ على عنصر كفالة الأفراد والدولة وضمانِهم للآخرين، وقلنا: إنّ مستوى الضمان يرتفع من مستوى الحاجات الضروريّة إلى مستوى الحاجات الطبيعيّة، وهو ما عبّرت عنه النصوص بالغنى وهو ضمان يشمل حتّى أهل الذمّة وقد رُوي عنه (عليه السّلام) أنّهُ مرّ بشيخ مكفوف كبير فسأل:

ما هذا؟ فقيل له يا أمير المؤمنين: أنّه نصراني: فقال الإمام (عليه السّلام): (استعملتموه حتّى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال).

أمّا حربُه (عليه السّلام) ضدَّ المُترفين والمُسرفين والبَطِرِين فإنّ التاريخ يشهد له بالباع الطويل في ذلك.

وربّما كانت هذه هي السبب في تأليف الطَبَقات المُترفة والمُسرفة عليه.

يقول (عليه السّلام) لرجل سألهُ أنْ يعظه: (لا تكُن مِمّن يَرجو الآخرة بغَيرِ عَمَل.. إنْ استغنى بَطَر وفَتَن وإنْ افتقَرَ قَنَط ووَهَن) (29).

ويقول أيضاً: (والدهر يَومَان: يومٌ لكَ ويومٌ عليك، فإذا كانٌ لكَ فلا تَبطِر، وإذا كانَ عليكَ فاصبِر) (30).

ويقول : (نسال الله سبحانه أنْ يجعلنا وإيَّاكم مِمَّن لا تبَطّر نِعمَه) (31).

ويُخاطب معاوية فيقول (عليه السّلام): (فإنّك مُترف قد أخذَ الشيطانُ مِنك مَأخذه، وبَلَغ فيك أمَلَه، وجَرى مِنك مَجرى الروح والدم) (32).

ويقول: (ألا وإنّ إعطاء المال في غيرِ حقِّه تبذير وإسراف) (33).

وحذّر من أهلِ النفاق واصفاً إيّاهم بأنّهم إنْ حكموا أسرفوا (34).

ويأمر (عليه السّلام) مالكاً بأنْ (يكسر نفسه عن الشهوات، ويزعها عند الجَمَحات، فإنّ النفس أمّارة بالسوء إلاّ ما رحم الله) (35).

وختاماً:

فإنّ الواقع القائم اليوم في عالمِنا الإسلامي ينأى كثيراً عن الصورة المثاليّة للعدالة، بل حتّى عن أدنى صورِها، وما ذلك إلاّ علامة انحطاط، نسأل الله جلّ وعلا أنْ يوفّق هذه الأُمّة لاسترجاع خصائِصها القرآنيّة، والعمل بتعاليم السنّة النبويّة الشريفة، والاستِهداء بالتطبيق العَلَوِي الرائع لتعليمات الإسلام.

* * *

الهوامش:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) إبراهيم: 31- 34.

(2) نهج البلاغة: 187 (صبحي الصالح).

(3) الحديد: 25.

(4) نهج البلاغة (صبحي): 383.

(5) ن. م: 428.

(6) النساء: 5.

(7) الحشر: 7.

(8) نهج البلاغة: 533.

(9) نهج البلاغة: 291.

(10) نفس المصدر: 198.

(11) ن.م: 189.

(12) نهج البلاغة: 29.

(13) نهج البلاغة: 353.

(14) وسائل الشيعة 6: 178.

(15) ن.م: 180.

(16) الأعراف: 31.

(17) يونس: 83.

(18) غافر: 43.

(19) هود: 116.

(20)الإسراء: 16.

(21) المؤمنون: 64.

(22) القصص: 58.

(23) الأنفال: 47.

(24) نهج البلاغة: 277.

(25) نهج البلاغة: 228.

(26) ن. م: 291.

(27) نهج البلاغة: 418.

(28) ن.م: 420.

(29) نهج البلاغة: 498.

(30) ن.م: 546.

(31) ن.م: 95.

(32) ن.م: 370.

(33) ن.م: 183.

(34) ن.م: 308.

(35) ن.م: 427.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=664
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 08 / 04
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18