00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص ( 300 ـ 393 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء الأول )   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

[ 300 ]

(بيان)

 قوله تعالى: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، الرغبة، إذا عديت بعن أفادت معنى الاعراض والنفرة، وإذا عديت بفي أفادت: معنى الشوق والميل، وسفه يأتي متعديا ولازما، ولذلك ذكر بعضهم أن قوله: نفسه مفعول لقوله: سفه، وذكر آخرون أنه تمييز لا مفعول، والمعنى على أي حال: أن الاعراض عن ملة إبراهيم من حماقة النفس، وعدم تمييزها ما ينفعها مما يضرها ومن هذه الآية يستفاد معنى ما ورد في الحديث أن العقل ما عبد به الرحمن. قوله تعالى: ولقد اصطفيناه في الدنيا، الاصطفاء أخذ صفوة الشئ وتمييزه عن غيره إذا اختلطا، وينطبق هذا المعنى بالنظر إلى مقامات الولاية على خلوص العبودية وهو أن يجري العبد في جميع شؤونه على ما يقتضيه مملوكيته وعبوديته من التسليم الصرف لربه، وهو التحقق بالدين في جميع الشؤون فإن الدين لا يشتمل إلا على مواد العبودية في امور الدنيا والآخرة وتسليم ما يرضيه الله لعبده في جميع اموره كما قال الله تعالى: (إن الدين عند الله الاسلام) آل عمران - 19، فظهر: أن مقام الاصطفاء هو مقام الاسلام بعينه ويشهد بذلك قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين الآية) فإن الظاهر أن الظرف متعلق بقوله: اصطفيناه، فيكون المعنى أن إصطفائه إنما كان حين قال له ربه: أسلم، فأسلم لله رب العالمين فقوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم: قال أسلمت لرب العالمين، بمنزله التفسير لقوله: اصطفيناه. وفي الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: إذ قال له ربه أسلم، ولم يقل إذ قلنا له أسلم، والتفات آخر من الخطاب إلى الغيبة في المحكي من قول إبراهيم: قال أسلمت لرب العالمين، ولم يقل: قال أسلمت لك اما الاول، فالنكتة فيه: الاشارة إلى أنه كان سرا استسر به ربه إذ أسره إليه فيما خلى به معه فإن للسامع المخاطب اتصالا بالمتكلم فإذا غاب المتكلم عن صفة حضوره انقطع المخاطب عن مقامه وكان بينه وبين ما للمتكلم من الشأن والقصة ستر مضروب، فأفاد: أن القصة من مسامرات الانس وخصائص الخلوة.

[ 301 ]

واما الثاني: فلان قوله تعالى: إذ قال له ربه، يفيد معنى الاختصاص باللطف والاسترسال في المسارة لكن أدب الحضور كان يقتضى من إبراهيم وهو عبد عليه طابع الذلة والتواضع أن لا يسترسل، ولا يعد نفسه مختصا بكرامة القرب متشرفا بحظيرة الانس، بل يراها واحدا من العبيد الاذلاء المربوبين، فيسلم لرب يستكين إليه جميع العالمين فيقول: أسلمت لرب العالمين. الاسلام والتسليم والاستسلام بمعنى واحد، من السلم، وأحد الشيئين إذا كان بالنسبة إلى الآخر بحال لا يعصيه ولا يدفعه فقد أسلم وسلم واستسلم له، قال تعالى (بلى من أسلم وجهه لله) البقرة - 112، وقال تعالى: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا مسلما) الانعام - 79، ووجه الشئ ما يواجهك به، وهو بالنسبة إليه تعالى تمام وجود الشئ فإسلام الانسان له تعالى هو وصف الانقياد والقبول منه لما يرد عليه من الله سبحانه من حكم تكويني، من قدر وقضاء، أو تشريعي من أمر أو نهى أو غير ذلك، ومن هنا كان له مراتب بحسب ترتب الواردات بمراتبها. الاولى: من مراتب الاسلام، القبول لظواهر الاوامر والنواهي بتلقي الشهادتين لسانا، سواء وافقه القلب، أو خالفه، قال تعالى: (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم) الحجرات - 14، ويتعقب الاسلام بهذا المعنى أول مراتب الايمان وهو الاذعان القلبي بمضمون الشهادتين إجمالا ويلزمه العمل في غالب الفروع. الثانيه: ما يلي الايمان بالمرتبة الاولى، وهو التسليم والانقياد القلبي لجل الاعتقادات الحقة التفصيلية وما يتبعها من الاعمال الصالحة وإن أمكن التخطي في بعض الموارد، قال الله تعالى في وصف المتقين: (الذين آمنوا بأياتنا وكانوا مسلمين) الزخرف - 69، وقال أيضا: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافه) البقرة - 208، فمن الاسلام ما يتأخر عن الايمان محققا فهو غير المرتبة الاولى من الاسلام ويتعقب هذا الاسلام المرتبة الثانية من الايمان وهو الاعتقاد التفصيلي با لحقائق الدينية، قال تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) الحجرات - 15، وقال

[ 302 ]

أيضا: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله ورسوله: وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) الصف - 11، وفيه إرشاد المؤمنين إلى الايمان، فالايمان غير الايمان. الثالثه: ما يلي الايمان بالمرتبة الثانية فإن النفس إذا أنست بالايمان المذكور وتخلقت بأخلاقه تمكنت منها وانقادت لها سائر القوى البهيمية والسبعية، وبالجملة القوى المائلة إلى هوسات الدنيا وزخارفها الفانية الداثرة، وصار الانسان يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، ولم يجد في باطنه وسره ما لا ينقاد إلى أمره ونهيه أو يسخط من قضائه وقدره، قال الله سبحانه: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) النساء - 65، ويتعقب هذه المرتبة من الاسلام المرتبة الثالثة من الايمان، قال الله تعالى (قد أفلح المؤمنون) إلى أن قال: (والذين هم عن اللغو معرضون) المؤمنون - 3، ومنه قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين) إلى غير ذلك، وربما عدت المرتبتان الثانية والثالثة مرتبة واحدة. والاخلاق الفاضلة من الرضاء والتسليم، والحسبة والصبر في الله، وتمام الزهد والورع، والحب والبغض في الله من لوازم هذه مرتبة. الرابعة ما يلي، المرتبة الثالثة من الايمان فإن حال الانسان وهو في المرتبة السابقة مع ربه حال العبد المملوك مع مولاه، إذ كان قائما بوظيفة عبوديته حق القيام، وهو التسليم الصرف لما يريده المولى أو يحبه ويرتضيه، والامر في ملك رب العالمين لخلقة أعظم من ذلك وأعظم وإنه حقيقة الملك الذي لا استقلال دونه لشئ من الاشياء لا ذاتا ولا صفة، ولا فعلا على ما يليق بكبريائه جلت كبريائه. فالانسان - وهو في المرتبة السابقة من التسليم - ربما أخذته العناية الربانية فاشهدت له أن الملك لله وحده لا يملك شئ سواه لنفسه شيئا إلا به لا رب سواه، وهذا معنى وهبي، وإفاضة إلهية لا تأثير لارادة الانسان فيه، ولعل قوله تعالى: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا، الآية، إشارة

[ 303 ]

إلى هذه المرتبة من الاسلام فان قوله تعالى: إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين الآية ظاهره أنه أمر تشريعي لا تكويني، فإبراهيم كان مسلما باختياره، إجابة لدعوة ربه وامتثالا لامره، وقد كان هذا من الاوامر المتوجهة إليه عليه السلام في مبادئ حاله، فسؤاله في أواخر عمره مع ابنه إسماعيل الاسلام وإرائة المناسك سؤال لامر ليس زمامه بيده أو سؤال لثبات على أمر ليس بيده فالاسلام المسئول في الآية هو هذه المرتبة من الاسلام ويتعقب الاسلام بهذا المعنى المرتبة الرابعة من الايمان وهو استيعاب هذا الحال لجميع الاحوال والافعال، قال تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون) يونس - 62، فإن هؤلاء المؤمنين المذكورين في الآية يجب أن يكونوا على يقين من أن لا استقلال لشئ دون الله، ولا تأثير لسبب إلا بإذن الله حتى لا يحزنوا من مكروه واقع، ولا يخافوا محذورا محتملا، وإلا فلا معنى لكونهم بحيث، لا يخوفهم شئ ولا يحزنهم أمر، فهذا النوع من الايمان بعد الاسلام المذكور فافهم. قوله تعالى: وإنه في الآخرة لمن الصالحين، الصلاح، وهو اللياقة بوجه ربما نسب في كلامه إلى عمل الانسان وربما نسب إلى نفسه وذاته، قال تعالى: فليعمل عملا صالحا) الكهف - 110، وقال تعالى: (وانكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) النور - 32. وصلاح العمل وإن لم يرد به تفسير بين من كلامه تعالى غير انه نسب إليه من الآثار ما يتضح به معناه. فمنها: أنه صالح لوجه الله، قال تعالى: (صبروا ابتغاء وجه ربهم) الرعد - 22، وقال تعالى: (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله) البقرة - 272. ومنها: أنه صالح لان يثاب عليه، قال تعالى: (ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا) القصص - 80. ومنها: أنه يرفع الكلم الطيب الصاعد إلى الله سبحانه قال تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) فاطر - 10، فيستفاد من هذه الآثار المنسوبة

[ 304 ]

إليه: أن صلاح العمل معنى تهيؤه ولياقته لان يلبس لباس الكرامة ويكون عونا وممدا لصعود الكلام الطيب إليه تعالى، قال تعالى: (ولكن يناله التقوى منكم) الحج - 37، وقال تعالى: (وكلا نمد هؤلاء، وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورا) الاسراء - 20، فعطائه تعالى بمنزلة الصورة، وصلاح العمل بمنزله المادة. وأما صلاح النفس والذات فقد قال تعالى: (ومن يطع الله والرسول فاؤلئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن اؤلئك رفيقا) النساء - 69، وقال تعالى: (وأدخلناهم في رحمتنا انهم من الصالحين) الانبياء - 86، وقال تعالى حكاية عن سليمان: (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) النمل - 19، وقال تعالى: ولوطا آتيناه حكما وعلما إلى قوله وأدخلناه في رحمتنا إنه الصالحين) الانبياء - 75، وليس المراد الصلاح لمطلق الرحمة العامة الالهية الواسعة لكل شئ ولا الخاصة بالمؤمنين على ما يفيده قوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون) الاعراف - 156، إذ هؤلاء القوم وهم الصالحون، طائفة خاصة من المؤمنين المتقين، ومن الرحمة ما يختص ببعض دون بعض، قال تعالى (يختص برحمته من يشاء) البقرة - 105، وليس المراد أيضا مطلق كرامة الولاية، وهو تولي الحق سبحانه أمر عبده، فإن الصالحين وإن شرفوا بذلك وكانوا من الاولياء المكرمين على ما بيناه سابقا في قوله تعالى: (إهدنا الصراط المستقيم) فاتحة الكتاب - 6 وسيجئ في تفسير الآية لكن هذه أعني الولاية صفة مشتركة بينهم وبين النبيين، والصديقين، والشهداء فلا يستقيم إذن عدهم طائفة خاصة في قبالهم. نعم الاثر الخاص بالصلاح هو الادخال في الرحمة، وهو الامن العام من العذاب كما ورد المعنيان معا في الجنة، قال تعالى: فيدخلهم ربهم في رحمته) الجاثية - 30، أي في الجنة، وقال تعالى: (يدعون فيها بكل فاكهة آمنين) الدخان - 55، أي في الجنة. وأنت إذا تدبرت قوله تعالى: (وادخلناه في رحمتنا) الانبياء - 75، وقوله: (وكلا جعلنا صالحين) الانبياء - 72 - حيث نسب الفعل إلى نفسه تعالى لا إلى

[ 305 ]

العبد - ثم تأملت أنه تعالى قصر الاجر والشكر على ما بحذاء العمل والسعي قضيت بأن الصلاح الذاتي كرامة ليست بحذاء العمل والارادة وربما تبين به معنى قوله تعالى: (لهم ما يشاؤن فيها) وهو ما بالعمل - وقوله: (ولدينا مزيد) - وهو أمر غير ما بالعمل على ما سيجئ بيانه إنشاء الله في تفسير قوله تعالى: (لهم ما يشاؤن فيها) ق - 35. ثم إنك إذا تأملت حال إبراهيم ومكانته في أنه كان نبيا مرسلا وأحد اولي العزم من الانبياء، وأنه إمام، وأنه مقتدى عدة ممن بعده من الانبياء والمرسلين وأنه من الصالحين بنص قوله تعالى: (وكلا جعلنا صالحين) الانبياء - 72، الظاهر في الصلاح المعجل على ان من هو دونه في الفضل من الانبياء أكرم بهذا الصلاح المعجل وهو (ع) مع ذلك كله يسأل اللحوق بالصالحين الظاهر في أن هناك قوما من الصالحين سبقوه وهو يسال اللحوق بهم فيما سبقوه إليه، وأجيب بذلك في الآخرة كما يحكيه الله تعالى في ثلاثة مواضع من كلامه حيث قال تعالى: (ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الاخرة لمن ا لصالحين) البقره - 130، وقال تعالى: وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) العنكبوت - 27، وقال تعالى: (وآتيناه في الدنيا حسنة وأنه في الآخرة لمن الصالحين) النحل - 122، فإذا تأملت ذلك حق التأمل قضيت بأن الصلاح ذو مراتب بعضها فوق بعض ولم تستبعد لو قرع سمعك أن إبراهيم (ع) سأل اللحوق بمحمد (ص) وآله الطاهرين (ع) فاجيب إلى ذلك في الآخرة لا في الدنيا فإنه (ع) يسأل اللحوق بالصالحين ومحمد (ص) يدعيه لنفسه. قال تعالى: (قل إن ولي الله الذي نزل الكتاب بالحق وهو يتولى الصالحين) الاعراف - 196 فإن ظاهر الآية أن رسول الله (ص) يدعي لنفسه الولاية فالظاهر منه أن رسول الله (ص) هو المتحقق بالصلاح الذي يدعيه بموجب الآية لنفسه وإبراهيم كان يسأل الله اللحوق بعده من الصالحين يسبقونه في الصلاح فهو هو. قوله تعالى: ووصى بها إبراهيم بنيه، إي وصى بالملة. قوله تعالى: فلا تموتن، النهي عن الموت وهو أمر غير اختياري للانسان، والتكليف إنما يتعلق بأمر اختياري انما هو لرجوعه إلى أمر يتعلق بالاختيار، والتقدير احذروا أن يغتالكم الموت في غير حال الاسلام، أي داوموا وألزموا الاسلام لئلا يقع

[ 306 ]

موتكم إلا في هذا الحال، وفي الآية إشارة إلى أن الدين هو الاسلام كما قال تعالى: (إن الدين عند الله الاسلام) آل عمران - 19. قوله تعالى: وإله آبائك إبراهيم وإسمعيل وإسحق، في الكلام إطلاق لفظ الاب على الجد والعم والوالد من غير مصحح للتغليب، وحجة فيما سيأتي إنشاء الله تعالى في خطاب إبراهيم لآزر بالاب. قوله تعالى: إلها واحدا، في هذا الايجاز بعد الاطناب بقوله: إلهك وإله آبائك (إلخ) دفع لامكان إبهام اللفظ أن يكون إلهه غير إله آبائه على نحو ما يتخذه الوثنيون من الآلهة الكثيرة. قوله تعالى: ونحن له مسلمون، بيان للعبادة وأنها ليست عبادة كيفما اتفقت بل عبادة على نهج الاسلام وفي الكلام جملة أن دين إبراهيم هو الاسلام والموروث منه في بني إبراهيم كإسحق ويعقوب وإسمعيل، وفي بني إسرائيل، وفي بني إسمعيل من آل إبراهيم جميعا هو الاسلام لا غير، وهو الذي أتى به إبراهيم من ربه فلا حجة لاحد في تركه والدعوة إلى غيره.

(بحث روائي)

 في الكافي عن سماعة عن الصادق (ع) الايمان من الاسلام بمنزلة الكعبة الحرام من الحرم قد يكون في الحرم ولا يكون في الكعبة ولا يكون في الكعبة حتى يكون في الحرم. وفيه عن سماعة أيضا عن الصادق (ع) قال: الاسلام شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق برسول الله، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس، والايمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الاسلام. أقول: وفي هذا المضمون روايات أخر وهي تدل على ما مر بيانه من المرتبة الاولى من الاسلام والايمان. وفيه عن البرقي عن علي عليه السلام: قال الاسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين، وفيه عن كاهل عن الصادق لو أن قوما عبدوا الله - وحده لا شريك له - وأقاموا الصلوة

[ 307 ]

وآتوا الزكوة، وحجوا البيت، وصاموا شهر رمضان ثم قالوا لشئ صنعه الله أو صنعه رسول الله ألا صنع بخلاف الذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين الحديث. أقول: والحديثان يشيران إلى المرتبة الثالثة من الاسلام والايمان. وفي البحار عن إرشاد الديلمي - وذكر سندين لهذا الحديث، وهو من أحاديث المعراج - وفيه: قال الله سبحانه: يا أحمد هل تدري أي عيش أهني وأي حيوة أبقي ؟ قال: اللهم لا، قال: أما العيش الهنئ فهو الذي لا يفتر صاحبه عن ذكري ولا ينسى نعمتي، ولا يجهل حقي، يطلب رضائي في ليله ونهاره، وأما الحياة الباقية، فهي التى يعمل لنفسه حتى تهون عليه الدنيا، وتصغر في عينه، وتعظم الآخرة عنده، ويؤثر هواي على هواه ويبتغي مرضاتي، ويعظم حق نعمتي، ويذكر عملي به، ويراقبني بالليل والنهار عند كل سيئة أو معصية، وينقي قلبه عن كل ما أكره، ويبغض الشيطان ووساوسه، ولا يجعل لابليس على قلبه سلطانا وسبيلا، فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبا حتى أجعل قلبه وفراغه واشتغاله وهمه وحديثه من النعمة التي أنعمت بها على أهل محبتي من خلقي وأفتح عين قلبه وسمعه، حتى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي، و اضيق عليه الدنيا، وابغض إليه ما فيها من اللذات، واحذره من الدنيا وما فيها كما يحذر الراعى على غنمه مراتع الهلكة، فإذا كان هكذا يفر من الناس فرارا، وينقل من دار الفناء إلى دار البقاء، ومن دار الشيطان إلى دار الرحمن، يا أحمد ولازيننه بالهيبة والعظمة فهذا هو العيش الهنئ والحياة الباقية، وهذا مقام الراضين فمن عمل برضاي ألزمة ثلاث خصال اعرفه شكرا لا يخالطه الجهل، وذكرا لا يخالطه النسيان، ومحبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين، فإذا أحبني أحببته وأفتح عين قلبه إلى جلالي، ولا أخفى عليه خاصة خلقي واناجيه في ظلم الليل ونور النهار، حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين، ومجالسته معهم، واسمعه كلامي وكلام ملائكتي واعرفه السر الذي سترته عن خلقي، وألبسه الحياء، حتى يستحيي منه الخلق كلهم، ويمشي على الارض مغفورا له، واجعل قلبه واعيا وبصيرا ولا أخفي عليه شيئا من جنة ولا نار، وأعرفه ما يمر على الناس في القيمة من الهول والشدة وما أحاسب به الاغنياء والفقراء والجهال والعلماء، وأنومه في قبره، وأنزل عليه منكرا

[ 308 ]

ونكيرا حتى يسألاه، ولا يرى غم الموت، وظلمة القبر واللحد، وهول المطلع، ثم أنصب له ميزانه، وأنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرأه منشورا، ثم لا أجعل بيني وبينه وترجمانا فهذه صفات المحبين، يا أحمد اجعل همك هما واحدا واجعل لسانك لسانا واحدا واجعل بدنك حيا لا يغفل ابدا من يغفل عني لم ابال في أي واد هلك. وفي البحار عن الكافي و المعاني ونوادر الراوندي بأسانيد مختلفة عن الصادق والكاظم عليه السلام - و اللفظ المنقول هيهنا للكافي - قال: استقبل رسول الله: حارثة بن مالك بن النعمان الانصاري فقال له: كيف أنت يا حارثة بن مالك النعماني ؟ فقال: يا رسول الله مؤمن حقا، فقال له رسول الله: لكل شئ حقيقة فما حقيقة قولك ؟ فقال يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، وأظمات هواجرى، وكأني انظر إلى عرش ربي وقد وضع للحساب، وكأني انظر إلى اهل الجنة يتزاورون في الجنة وكأني اسمع عواء اهل النار في النار، فقال رسول الله (ص): عبد نور الله قلبه أبصرت فاثبت. اقول: والروايتان تحومان حوم المرتبة الرابعة من الاسلام والايمان المذكورتين وفي خصوصيات معناهما روايات كثيرة متفرقة سنورد جملة منها في تضاعيف الكتاب إنشاء الله تعالى والآيات تؤيدها على ما سيجئ بيانها، واعلم ان لكل مرتبة من مراتب الاسلام والايمان معنى من الكفر والشرك يقابله، ومن المعلوم ايضا ان الاسلام والايمان كلما دق معناهما ولطف مسلكهما، صعب التخلص مما يقابلهما من معنى الكفر أو الشرك، ومن المعلوم ايضا ان كل مرتبة من مراتب الاسلام والايمان الدانية، لا ينافي الكفر أو الشرك من المرتبة العالية، وظهور آثارهما فيها، وهذان أصلان. ويتفرع عليهما: أن للآيات القرآنية بواطن تنطبق على موارد لا تنطبق عليها ظواهرها وليكن هذا عندك على إجماله حتى يأتيك تفصيله. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: ولدينا مزيد، قال عليه السلام النظر إلى رحمة الله. وفي المجمع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يقول الله: اعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. اقول: والروايتان قد اتضح معناهما عند بيان معنى الصلاح، والله الهادي.

[ 309 ]

وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: ام كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت الآية، عن الباقر (ع) انها جرت في القائم. اقول: قال في الصافي: لعل مراده انها في قائم آل محمد فكل قائم منهم يقول: ذلك حين موته لبنيه، ويجيبونه بما أجابوا به. وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتد وا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين - 135. قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون - 136. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم - 137. صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون - 138. قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون - 139. أم تقولون إن إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون - 140. تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون - 141.

[ 310 ]

(بيان)

 قوله تعالى: وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، لما بين تعالى أن الدين الحق الذي كان عليه أولاد إبراهيم من إسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده كان هو الاسلام الذي كان عليه إبراهيم حنيفا، استنتج من ذلك أن الاختلافات والانشعابات التي يدعو إليها فرق المنتحلين من اليهود والنصارى، امور إخترعتها هوساتهم، ولعبت بها أيديهم لكونهم في شقاق، فتقطعوا بذلك طوائف وأحزابا دينية، وصبغوا دين الله سبحانه - وهو دين التوحيد ودين الوحدة، بصبغة الاهواء والاغراض والمطامع، مع أن الدين واحد كما أن الاله المعبود بالدين واحد وهو دين إبراهيم، وبه فليتمسك المسلمون وليتركوا شقاق أهل الكتاب. فإن من طبيعة هذه الحيوة الارضية الدنيوية التغير والتحول في عين الجرى والاستمرار كنفس الطبيعة التي هي كالمادة لها ويوجب ذلك أن تتغير الرسوم والآداب والشعائر القومية بين طوائف الملل وشعباتها، وربما يوجب ذلك تغييرا وانحرافا في المراسم الدينية، وربما يوجب دخول ما ليس من الدين في الدين، أو خروج ما هو منه والاغراض والغايات الدنيوية ربما تحل محل الاغراض الدينية الالهية (وهي بلية الدين)، وعند ذلك ينصبغ الدين بصبغة القومية فيدعو إلى هدف دون هدفه الاصلي ويؤدب الناس غير أدبه الحقيقي، فلا يلبث حتى يعود المنكر (وهو ما ليس من الدين) معروفا يتعصب له الناس لموافقته هوساتهم وشهواتهم والمعروف منكرا ليس له حام يحميه ولا واق يقيه ويؤل الامر إلى ما نشاهده اليوم من... وبالجملة فقوله تعالى: وقالوا كونوا هودا أو نصارى، إجمال تفصيل معناه وقالت اليهود كونوا هودا تهتد، وقالت النصارى كونوا نصارى تهتدوا، كل ذلك لتشعبهم وشقاقهم. قوله تعالى: قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، جواب عن قولهم أي قل، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا فإنها الملة الواحدة التي كان عليها جميع

[ 311 ]

أنبياؤكم، إبراهيم، فمن دونه، وما كان صاحب هذه الملة وهو إبراهيم من المشركين ولو كان في ملته هذه الانشعابات، وهي الضمائم التي ضمها إليها المبتدعون، من الاختلافات لكان مشركا بذلك، فإن ما ليس من دين الله لا يدعو إلى الله سبحانه، بل إلى غيره وهو الشرك، فهذا دين التوحيد الذي لا يشتمل على ما ليس من عند الله تعالى. قوله تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا، لما حكى ما يأمره به اليهود والنصارى من اتباع مذهبهم، ذكر ما هو عنده من الحق (والحق يقول) وهو الشهادة على الايمان بالله والايمان بما عند الانبياء، من غير فرق بينهم، وهو الاسلام وخص الايمان بالله بالذكر وقدمه وأخرجه من بين ما انزل على الانبياء لان الايمان الله فطري، لا يحتاج إلى بينة النبوة، ودليل الرسالة. ثم ذكر سبحانه ما انزل إلينا وهو القرآن أو المعارف القرآنية وما انزل إلى إبراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب، ثم ذكر ما أوتي موسى وعيسى وخصهما بالذكر لان المخاطبة مع اليهود والنصارى وهم يدعون إليهما فقط ثم ذكر ما أوتي النبيون من ربهم، ليشمل الشهادة جميع الانبياء فيستقيم قوله بعد ذلك: لا نفرق بين أحد منهم. واختلاف التعبير في الكلام، حيث عبر عما عندنا وعند إبراهيم وإسحاق ويعقوب بالانزال وعما عند موسى وعيسى والنبيين بالايتاء وهو الاعطاء، لعل الوجه فيه أن الاصل في التعبير هو الايتاء، كما قال تعالى بعد ذكر إبراهيم، ومن بعده ومن قبله من الانبياء في سورة الانعام: (أؤلئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة) الانعام - 89، لكن لفظ الايتاء ليس بصريح في الوحي والانزال كما قال تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) لقمان - 12، وقال: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة) الجاثية - 16، ولما كان كل من اليهود والنصارى يعدون إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط من إهل ملتهم، فاليهود من اليهود، والنصاري من النصارى، واعتقادهم أن الملة الحق من النصرانية، أو اليهودية، هي ما أوتيه موسى وعيسى، فلو كان قيل: وما اوتي إبراهيم وإسماعيل

[ 312 ]

لم يكن بصريح في كونهم بأشخاصهم صاحب ملة بالوحي والانزال وإحتمل أن يكون ما أوتوه، هو الذي أوتيه موسى وعيسى عليهما السلام نسب إليهم بحكم التبعية كما نسب إيتائه إلى بني اسرائيل، فلذلك خص إبراهيم ومن عطف عليه باستعمال لفظ الانزال وأما النبيون قبل أبراهيم فليس لهم فيهم كلاحتى يوهم قوله: وما أوتي النبيون شيئا يجب دفعه. قوله تعالى: والاسباط، الاسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل والسبط كالقبيلة الجماعة يجتمعون على أب واحد، وقد كانوا اثنتي عشرة أسباطا أمما وكل واحدة منهم تنتهي إلى واحد من أولاد يعقوب وكانوا اثنى عشر، فخلف كل واحد منهم أمة من الناس. فإن كان المراد بالاسباط الامم والاقوام فنسبة الانزال إليهم لاشتمالهم على أنبياء من سبطهم، وإن كان المراد بالاسباط الاشخاص كانوا أنبياء أنزل إليهم الوحي وليسوا بإخوة يوسف لعدم كونهم أنبياء، ونظير الآية قوله تعالى: (وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وعيسى) النساء - 163. قوله تعالى: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا، الاتيان بلفظ المثل مع كون أصل المعنى، فإن آمنوا بما آمنتم به، لقطع عرق الخصام والجدال، فإنه لو قيل لهم أن آمنوا بما آمنا به أمكن أن يقولوا كما قالوا، بل نؤمن بما أنزل علينا ونكفر بما ورائه، لكن لو قيل لهم، إنا آمنا بما لا يشتمل إلا على الحق فآمنوا على الحق مثله، لم يجدوا طريقا للمراء والمكابرة، فإن الذي بيدهم لا يشتمل على صفوة الحق. قوله تعالى: في شقاق، الشقاق النفاق والمنازعة والمشاجرة والافتراق. قوله تعالى: فسيكفيكهم الله، وعد لرسول الله بالنصرة عليهم، وقد أنجز وعده وسيتم هذه النعمة للامة الاسلامية إذا شاء، واعلم: ان الآية معترضة بين الآيتين السابقة واللاحقة. قوله تعالى: صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة، الصبغة بناء نوع من الصبغ

[ 313 ]

أي هذا الايمان المذكور صبغة إلهية لنا، وهي أحسن الصبغ لا صبغة اليهودية والنصرانية بالتفرق في الدين، وعدم إقامته. قوله تعالى: ونحن له عابدون، في موضع الحال، وهو كبيان العلة لقوله: صبغة الله ومن أحسن. قوله تعالى: قل أتحاجوننا في الله، إنكار، لمحاجة أهل الكتاب، المسلمين في الله سبحانه وقد بين وجه الانكار، وكون محاجتهم لغوا وباطلا، بقوله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون، وبيانه: أن محاجة كل تابعين في متبوعهما ومخاصمتهما فيه انما تكون لاحد أمور ثلاثه: اما لاختصاص كل من التابعين بمتبوع دون متبوع الآخر، فيريدان بالمحاجة كل تفضيل متبوعه وربه على الآخر، كالمحاجة بين وثني ومسلم، واما لكون كل واحد منهما أو احدهما يريد مزيد الاختصاص به، وابطال نسبة رفيقه، أو قربه اوما يشبه ذلك، بعد كون المتبوع واحدا، واما لكون أحدهما ذا خصائص وخصال لا ينبغي أن ينتسب إلى هذا المتبوع وفعاله ذاك الفعال، وخصاله تلك الخصال لكونه موجبا، لهتكه أو سقوطه أو غير ذلك، فهذه علل المحاجة والمخاصمة بين كل تابعين، والمسلمون وأهل الكتاب انما يعبدون الها واحدا، وأعمال كل من الطائفتين لا تزاحم الاخرى شيئا والمسلمون مخلصون في دينهم لله، فلا سبب يمكن أن يتشبث به أهل الكتاب في محاجتهم، ولذلك أنكر عليهم محاجتهم اولا ثم نفى واحدا واحدا من اسبابها الثلاثة، ثانيا. قوله تعالى: أم تقولون ان ابراهيم إلى قوله كانوا هودا أو نصارى، وهو قول كل من الفريقين، ان ابراهيم ومن ذكر بعده منهم، ولازم ذلك كونهم هودا أو نصارى أو قولهم صريحا انهم كانوا هودا أو نصارى، كما يفيده ظاهر قوله تعالى (يا اهل الكتاب لم تحاجون في ابراهيم وما أنزلت التوراة والانجيل الا من بعده أفلا تعقلون) آل عمران - 65. قوله تعالى: قل أأنتم أعلم أم الله، فإن الله اخبرنا واخبركم في الكتاب أن موسى وعيسى وكتابيهما بعد ابراهيم ومن ذكر معه.

[ 314 ]

قوله تعالى: ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله، أي كتم ما تحمل شهادة أن الله أخبر بكون تشريع اليهودية أو النصرانية بعد إبراهيم ومن ذكر معه، فالشهادة المذكورة في الآية شهادة تحمل، أو المعنى كتم شهادة الله على كون هؤلاء قبل التوراة والانجيل، فالشهادة شهادة أداء، المتعين هو المعنى الاول. قوله تعالى: تلك أمة قد خلت، أي ان الغور في الاشخاص وأنهم ممن كانوا لا ينفع حالكم، ولا يضركم السكوت عن المحاجة والمجادلة فيهم، والواجب عليكم الاشتغال بما تسألون غدا عنه، وتكرار الآية مرتين لكونهم يفرطون في هذه المحاجة التى لا تنفع لحالهم شيئا، وخصوصا مع علمهم بأن إبراهيم كان قبل اليهودية والنصرانية، وإلا فالبحث عن حال الانبياء، والرسل بما ينفع البحث فيه كمزايا رسالاتهم وفضائل نفوسهم الشريفة مما ندب إليه القرآن حيث يقص قصصهم ويأمر بالتدبر فيها.

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي في قوله تعالى قل: بل ملة إبراهيم حنيفا الآية، عن الصادق عليه السلام قال إن الحنيفية في الاسلام. وعن الباقر عليه السلام ما أبقت الحنيفية شيئا، حتى أن منها قص الشارب وقلم الاظفار والختان. وفي تفسير القمي، أنزل الله على إبراهيم الحنيفية، وهي الطهارة، وهي عشرة: خمسة في الرأس وخمسة في البدن، فأما التي في الرأس فأخذ الشارب وإعفاء اللحى وطم الشعر والسواك والخلال، وأما التي في البدن فأخذ الشعر من البدن والختان وقلم الاظفار والغسل من الجنابة، والطهور بالماء وهي الحنيفية الطاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة. اقول: طم الشعر، جزه، وتوفيره وفي معنى الرواية أو ما يقرب منه احاديث كثيرة جدا روتها الفريقان في كتبهم. وفي الكافي وتفسير العياشي عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى، قولوا آمنا بالله

[ 315 ]

الآية، قال إنما عنى بها عليا وفاطمة والحسن والحسين وجرت بعدهم في الائمة الحديث. اقول: ويستفاد ذلك من وقوع الخطاب في ذيل دعوة إبراهيم ومن ذريتنا أمة مسلمة لك الآية ولا ينافي ذلك توجيه الخطاب إلى عامة المسلمين وكونهم مكلفين بذلك، فإن لهذه الخطابات عموما وخصوصا بحسب مراتب معناها على ما مر في الكلام على الاسلام والايمان ومراتبهما. وفي تفسير القمي عن أحدهما، وفي المعاني عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى صبغة الله الآية، قال الصبغة هي الاسلام. اقول: وهو الظاهر من سياق الآيات. وفي الكافي والمعاني عن الصادق عليه السلام قال صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق. اقول: وهو من باطن الآية على ما سنبين معناه ونبين أيضا معنى الولاية ومعنى الميثاق إنشاء الله العزيز. سيقول السفهاء من الناس ما وليهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم - 142. وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا قبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم - 143. قدى نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضيها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم

[ 316 ]

فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون - 144. ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهوائهم من بعد ما جائك من العلم إنك إذا لمن الظالمين - 145. الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون - 146. الحق من ربك فلا تكونن من الممترين - 147. ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شئ قدير - 148. ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام إنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون - 149. ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطرة لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا فلا تخشوهم واخشوني ولاتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون - 150. كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون - 151.

[ 317 ]

(بيان)

 الآيات مترتبة متسقة منتظمة في سياقها على ما يعطيه التدبر فيها وهي تنبئي عن جعل الكعبة قبلة للمسلمين فلا يصغى إلى قول من يقول إن فيها تقدما وتأخرا أو إن فيها ناسخا ومنسوخا، وربما رووا فيها شيئا من الروايات، ولا يعبا بشئ منها بعد مخالفتها لظاهر الآيات. قوله تعالى: سيقول السفهاء من الناس ما وليهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، هذا تمهيد ثانيا لما سيأمر تعالى به من اتخاذ الكعبة قبلة وتعليم للجواب عما سيعترض به السفهاء من الناس وهم اليهود تعصبا لقبلتهم التي هي بيت المقدس ومشركوا العرب الراصدون لكل امر جديد يحتمل الجدال والخصام، وقد مهد لذلك اولا بما ذكره الله تعالى من قصص ابراهيم وانواع كرامته على الله سبحانه وكرامة ابنه اسماعيل ودعوتهما للكعبة ومكة وللنبي والامة المسلمة وبنائهما البيت والامر بتطهيره للعبادة، ومن المعلوم ان تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة من اعظم الحوادث الدينية واهم التشريعات التي قوبل به الناس بعد هجرة النبي إلى المدينة وأخذ الاسلام في تحقيق اصوله ونشر معارفه وبث حقائقه، فما كانت اليهود وغيرهم تسكت وتستريح في مقابل هذا التشريع، لانهم كانوا يرون انه يبطل واحدا من اعظم مفاخرهم الدينية وهو القبلة واتباع غيرهم لهم فيها وتقدمهم على من دونهم في هذا الشعار الديني، على ان ذلك تقدم باهر في دين المسلمين، لجمعه وجوههم في عباداتهم ومناسكهم الدينية إلى نقطة واحدة يخلصهم من تفرق الوجوه في الظاهر وشتات الكلمة في الباطن واستقبال الكعبة اشد تأثيرا واقوى من امثال الطهارة والدعاء وغيرهما في نفوس المسلمين، عند اليهود ومشركي العرب وخاصة عند اليهود كما يشهد به قصصهم المقتصة في القرآن، فقد كانوا امة لا يرون لغير المحسوس من عالم الطبيعة أصالة ولا لغير الحس وقعا، إذا جائهم حكم من احكام الله معنوي قبلوه من غير تكلم عليه وإذا جاءهم امر من ربهم صوري متعلق بالمحسوس من الطبيعة كالقتال والهجرة والسجدة وخضوع القول وغيرها قابلوه بالانكار وقاوموا عليه ودونه أشد المقاومة.

[ 318 ]

وبالجملة فقد أخبر الله سبحانه عما سيعترضون به على تحويل القبلة وعلم رسوله ما ينبغي أن يجابوا ويقطع به قولهم. أما اعتراضهم: فهو أن التحول عن قبلة شرعها الله سبحانه للماضين من أنبيائه إلى بيت، ما كان به شئ من هذا الشرف الذاتي ما وجهه ؟ فإن كان بأمر من الله فإن الله هو الذي جعل بيت المقدس قبلة فكيف ينقض حكمه وينسخ مشرعه، واليهود ما كانت تعتقد النسخ (كما تقدم في آية النسخ) وإن كان بغير أمر الله ففيه الانحراف عن مستقيم الصراط والخروج من الهداية إلى الضلال وهو تعالى وان لم يذكر في كلامه هذا الاعتراض، إلا أن ما أجاب به يلوح ذلك. وأما الجواب: فهو ان جعل بيت من البيوت كالكعبة، أو بناء من الابنية أو الاجسام كبيت المقدس، أو الحجر الواقع فيه قبلة ليس لاقتضاء ذاتي منه يستحيل التعدي عنه أو عدم إجابة اقتضائه حتى يكون البيت المقدس في كونه قبلة لا يتغير حكمه ولا يجوز إلغائه، بل جميع الاجسام والابنية وجميع الجهات التي يمكن أن يتوجه إليه الانسان في أنها لا تقتضي حكما ولا يستوجب تشريعا على السواء وكلها لله يحكم فيها ما يشاء وكيف يشاء ومتى يشاء، وما حكم به من حكم فهو لهداية الناس على حسب ما يريد من صلاحهم وكمالهم الفردي والنوعي، فلا يحكم إلا ليهدى به ولا يهدي إلا إلى ما هو صراط مستقيم إلى كمال القوم وصلاحهم. قوله تعالى: سيقول السفهاء من الناس، أراد بهم اليهود والمشركين من العرب ولذلك عبر عنهم بالناس وإنما سفههم لعدم استقامة فطرتهم وثقوب رأيهم في أمر التشريع، والسفاهة عدم استقامة العقل وتزلزل الرأي. قوله تعالى: ما وليهم، تولية الشئ أو المكان جعله قدام الوجه وأمامه كالاستقبال، قال تعالى فلنولينك قبلة ترضيها الآية، والتولية عن الشئ صرف الوجه عنه كالاستدبار ونحوه، والمعنى ما الذي صرفهم أو صرف وجههم عن القبلة التي كانوا عليها وهو بيت المقدس الذي كان يصلي إليه النبي والمسلمون أيام إقامته بمكة وعدة شهور بعد هجرته إلى المدينة وإنما نسبوا القبلة إلى المسلمين مع ان اليهود أقدم في الصلوة

[ 319 ]

إليها ليكون أوقع في إيجاد التعجب وأوجب للاعتراض، وإنما قيل ما وليهم عن قبلتهم ولم يقل ما ولى النبي والمسلمين لما ذكرنا من الوجه، فلو قيل ما ولى النبي والمسلمين عن قبلة اليهود لم يكن التعجب واقعا موقعه وكان الجواب عنه ظاهرا لكل سامع بأدنى تنبه. قوله تعالى: قل لله المشرق والمغرب، اقتصر من بين الجهات بهاتين لكونهما هما المعنيتين لسائر الجهات الاصليه والفرعية كالشمال والجنوب وما بين كل جهتين من الجهات الاربعة الاصلية، والمشرق والمغرب جهتان إضافيتان تتعينان بشروق الشمس أو النجوم وغروبهما، يعمان جميع نقاط الارض غير نقطتين موهومتين هما نقطتا الشمال والجنوب الحقيقيتان، ولعل هذا هو الوجه في وضع المشرق والمغرب موضع الجهات. قوله تعالى: يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، تنكير الصراط لان الصراط يختلف باختلاف الامم في استعداداتها للهداية إلى الكمال والسعادة. قوله تعالى: وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا، الظاهر أن المراد كما سنحول القبلة لكم لنهديكم إلى صراط مستقيم كذلك جعلناكم أمة وسطا (هو كما ترى)، وأما المراد بكونهم أمة وسطا شهداء على الناس فالوسط هو المتخلل بين الطرفين لا إلى هذا الطرف ولا إلى ذاك الطرف، وهذ الامة بالنسبة إلى الناس - وهم أهل الكتاب والمشركون - على هذا الوصف فإن بعضهم - وهم المشركون والوثنيون - إلى تقوية جانب الجسم محضا لا يريدون إلا الحيوة الدنيا والاستكمال بملاذها وخارفها وزينتها، لا يرجون بعثا ولا نشورا، ولا يعبأون بشئ من الفضائل المعنوية والروحية، وبعضهم كالنصارى إلى تقوية جانب الروح لا يدعون إلا إلى الرهبانية ورفض الكمالات الجسمية التي أظهرها الله تعالى في مظاهر هذه النشأة المادية لتكون ذريعة كاملة إلى نيل ما خلق لاجله الانسان، فهؤلاء أصحاب الروح أبطلوا النتيجة بابطال سببها واؤلئك اصحاب الجسم ابطلوا النتيجة بالوقوف على سببها والجمود عليها، لكن الله سبحانه جعل هذه الامة وسطا بأن جعل لهم دينا يهدي منتحليه إلى سواء الطريق وسط الطرفين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء بل يقوي كلا من الجانبين - جانب الجسم وجانب الروح - على ما يليق به ويندب إلى جمع الفضيلتين فإن الانسان مجموع الروح والجسم لا روح محضا ولا جسم محضا، ومحتاج

[ 320 ]

في حيوته السعيدة إلى جمع كلا الكمالين والسعادتين المادية والمعنوية، فهذه الامة هي الوسط العدل الذي به يقاس ويوزن كل من طرفي الافراط والتفريط فهي الشهيدة على سائر الناس الواقعة في الاطراف والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو المثال الاكمل من هذه الامة - هو شهيد على نفس الامة فهو صلى الله عليه وآله وسلم ميزان يوزن به حال الآحاد من الامة، والامة ميزان يوزن به حال الناس ومرجع يرجع إليه طرفا الافراط والتفريط، هذا ما قرره بعض المفسرين في معنى الآية وهو في نفسه معنى صحيح لا يخلو عن دقة إلا أنه غير منطبق على لفظ الآية فإن كون الامة وسطا إنما يصحح كونها مرجعا يرجع إليه الطرفان، وميزانا يوزن به الجانبان لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين، أو يشاهد الطرفين، فلا تناسب بين الوسطية بذاك المعنى والشهادة وهو ظاهر، على أنه لا وجه حينئذ للتعرض بكون رسول الله شهيدا على الامة إذ لا يترتب شهادة الرسول على الامة على جعل الامة وسطا، كما يترتب الغاية على المغيى والغرض على ذيه. على أن هذه الشهادة المذكورة في الآية، حقيقة من الحقائق القرآنية تكرر ذكرها في كلامه سبحانه، واللائح من موارد ذكرها معنى غير هذا المعنى، قال تعالى (فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) النساء - 41، وقال تعالى (ويوم نبعث من كل امة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون) النحل - 84، (وقال تعالى ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء) الزمر - 69، والشهادة فيها مطلقة وظاهر الجميع على اطلاقها هو الشهادة على اعمال الامم، وعلى تبليغ الرسل أيضا، كما يومي إليه قوله تعالى (ولنسئلن الذين ارسل إليهم ولنسئلن المرسلين) الاعراف - 6، وهذه الشهادة وإن كانت في الآخرة يوم القيمة لكن تحملها في الدنيا على ما يعطيه قوله تعالى - حكاية عن عيسى عليه السلام - (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد) المائدة - 117، وقوله تعالى (ويوم القيمة يكون عليهم شهيدا) النساء - 159، ومن الواضح أن هذه الحواس العادية التي فينا، والقوى المتعلقة بها منا لا تتحمل إلا صور الافعال والاعمال فقط، وذلك التحمل أيضا، إنما يكون في شئ يكون موجودا حاضرا عند الحس لا معدوما ولا غائبا عنه وأما حقائق الاعمال والمعاني النفسانية من الكفر والايمان والفوز والخسران، وبالجملة كل خفي عن الحس ومستبطن عند الانسان - وهي التي تكسب

[ 321 ]

القلوب، وعليه يدور حساب رب العالمين يوم تبلى السرائر كما قال تعالى (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) البقرة - 225 - فهي مما ليس في وسع الانسان إحصائها والاحاطة بها وتشخيصها من الحاضرين فضلا عن الغائبين إلا رجل يتولى الله أمره ويكشف ذلك له بيده، ويمكن أن يستفاد ذلك من قوله تعالى (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون:) الزخرف - 86، فإن عيسى داخل في المستثنى في هذه الآية قطعا - وقد شهد الله تعالى في حقه بأنه من الشهداء - كما مر في الآيتين السابقتين، فهو شهيد بالحق وعالم بالحقيقة. والحاصل أن هذه الشهادة ليست هي كون الامة على دين جامع للكمال الجسماني والروحاني فإن ذلك على أنه ليس معنى الشهادة خلاف ظاهر الآيات الشريفة. بل هي تحمل حقائق أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء، ورد وقبول، وانقياد وتمرد، وأداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد الله من كل شئ، حتى من أعضاء الانسان، يوم يقول الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا. ومن المعلوم أن هذه الكرامة ليست تنالها جميع الامة، إذ ليست إلا كرامة خاصة للاولياء الطاهرين منهم، وأما من دونهم من المتوسطين في السعادة، والعدول من أهل الايمان فليس لهم ذلك، فضلا عن الاجلاف الجافية، والفراعنة، الطاغية من الامة، وستعرف في قوله تعالى (ومن يطع الله والرسول فاؤلئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اؤلئك رفيقا) النساء - 69، ان أقل ما يتصف به الشهداء - وهم شهداء الاعمال - أنهم تحت ولاية الله ونعمته وأصحاب الصراط المستقيم، وقد مر إجمالا في قوله تعالى (صراط الذين انعمت عليهم) فاتحة الكتاب - 7. فالمراد بكون الامة شهيدة أن هذه الشهادة فيهم، كما أن المراد بكون بني إسرائيل فضلوا على العالمين، أن هذه الفضيلة فيهم من غير أن يتصف به كل واحد منهم، بل نسب وصف البعض إلى الكل لكون البعض فيه ومنه، فكون الامة شهيدة هو أن فيهم من يشهد على الناس ويشهد الرسول عليهم.

[ 322 ]

فان قلت: قوله تعالى (والذين آمنوا بالله ورسله اؤلئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم) الحديد - 19، يدل على كون عامة المؤمنين شهداء. قلت: قوله عند ربهم، يدل على أنه تعالى سيلحقهم بالشهداء يوم القيامة، ولم ينالوه في الدنيا، نظير ذلك قوله تعالى (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنابهم ذريتهم) الطور - 21، على ان الآية مطلقة تدل على كون جميع المؤمنين من جميع الامم شهداء عند الله من غير اختصاص بهذه الامة فلا ينفع المستدل شيئا. فان قلت: جعل هذه الامة امة وسطا بهذا المعنى لا يستتبع كونهم أو كون بعضهم شهداء على الاعمال ولا كون الرسول شهيدا على هؤلاء الشهداء فالاشكال وارد على هذا التقريب كما كان واردا على التقريب السابق. قلت: معنى الشهادة غاية متفرعة في الآية على جعل الامة وسطا فلا محالة تكون الوسطية معنى يستتبع الشهادة والشهداء، وقد قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم و افعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتبيكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سميكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فاقيموا الصلوة وآتوا الزكوة واعتصموا بالله هو موليكم، فنعم المولى ونعم النصير) الحج - 78، جعل تعالى كون الرسول شهيدا عليهم وكونهم شهداء على الناس غاية متفرعة على الاجتباء ونفي الحرج عنهم في الدين ثم عرف الدين بأنه هو الملة التي كانت لابيكم إبراهيم الذي هو سميكم المسلمين من قبل، وذلك حين دعا لكم ربه وقال: (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) فاستجاب الله دعوته وجعلكم مسلمين، تسلمون له الحكم والامر من غير عصيان واستنكاف، ولذلك ارتفع الحرج عنكم في الدين، فلا يشق عليكم شئ منه ولا يحرج، فأنتم المجتبون المهديون إلى الصراط، المسلمون لربهم الحكم والامر، وقد جعلناكم كذلك ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس، أي تتوسطوا بين الرسول وبين الناس فتتصلوا من جهة إليهم، وعند ذلك يتحقق مصداق دعائه عليه السلام فيكم وفي الرسول

[ 323 ]

حيث قال (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) البقرة - 129، فتكونون أمة مسلمة أودع الرسول في قلوبكم علم الكتاب والحكمة، ومزكين بتزكيته، والتزكية التطهير من قذرات القلوب، وتخليصها للعبودية، وهو معنى الاسلام كما مر بيانه، فتكونون مسلمين خالصين في عبوديتكم، وللرسول في ذلك القدم الاول والهداية والتربية، فله التقدم على الجميع، ولكم التوسط باللحوق به، والناس في جانب وفي أول الآية وآخرها قرائن تدل على المعنى الذي استفدناه منها غير خفية على المتدبر فيها نبينها في محله انشاء الله. فقد تبين بما قدمناه: اولا، أن كون الامة وسطا مستتبع للغايتين جميعا، وأن قوله تعالى: لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا الاية جميعا لازم كونهم وسطا. وثانيا: أن كون الامة وسطا إنما هو بتخللها بين الرسول وبين الناس، لا بتخللها بين طرفي الافراط والتفريط، وجانبي تقوية الروح وتقوية الجسم في الناس. وثالثا: أن الاية بحسب المعنى مرتبطة بآيات دعوة إبراهيم عليه السلام وان الشهادة من شئون الامة المسلمة. واعلم: أن الشهادة على الاعمال على ما يفيده كلامه تعالى لا يختص بالشهداء من الناس، بل كل ما له تعلق ما بالعمل كالملائكة والزمان والمكان والدين والكتاب والجوارح والحواس والقلب فله فيه شهادة. ويستفاد منها أن الذي يحضر منها يوم القيامة هو الذي في هذه النشأة الدنيوية وأن لها نحوا من الحيوة الشاعرة بها، تتحمل بها خصوصيات الاعمال، وترتسم هي فيها، وليس من اللازم ان تكون الحيوة التي في كل شئ، سنخا واحدا كحيوة جنس الحيوان، ذات خواص وآثار كخواصها وآثارها، حتى تدفعه الضرورة فلا دليل على انحصار أنحاء الحيوة في نحو واحد، هذا إجمال القول في هذا المقام وأما تفصيل القول في كل واحد واحد منها فموكول إلى محله اللائق به. قوله تعالى: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن

[ 324 ]

ينقلب على عقبية، المراد بقوله لنعلم: اما علم الرسل والانبياء مثلا، لان العظماء يتكلمون عنهم وعن اتباعهم، كقول الامير، قتلنا فلانا وسجنا فلانا، وإنما قتله وسجنه اتباعه لانفسه، واما العلم العيني الفعلي منه تعالى الحاصل مع الخلقة والايجاد، دون العلم قبل الايجاد. والانقلاب على العقبين كناية عن الاعراض، فان الانسان - وهو منتصب على عقبيه - إذا انقلب من جهة إلى جهة، انقلب على عقبيه، فجعل كناية عن الاعراض نظير قوله (ومن يولهم يومئذ دبره) الانفال - 16، وظاهر الآية انه دفع لما يختلج في صدور المؤمنين: من تغيير القبلة ونسخها، ومن جهة الصلوات التي صلوها إلى القبلة، ما شأنها ؟ ويظهر من ذلك ان المراد بالقبلة التي كان رسول الله عليها، هو بيت المقدس دون الكعبة، فلا دليل على جعل بيت المقدس قبلة مرتين، وجعل الكعبة قبلة مرتين، إذ لو كان المراد من القبلة في الآية الكعبة كان لازم ذلك ما ذكر. وبالجملة كان من المترقب ان يختلج في صدور المؤمنين: أولا، انه لما كان من المقدر ان يستقر القبلة بالآخرة على الكعبة فما هو السبب، أولا: في جعل بيت المقدس قبلة ؟ فبين سبحانه ان هذه الاحكام والتشريعات ليست إلا لاجل مصالح تعود إلى تربية الناس وتكميلهم، وتمحيص المؤمنين من غيرهم، وتمييز المطيعين من العاصين، والمنقادين من المتمردين، والسبب الداعي إلى جعل القبلة السابقة في حقكم أيضا هذا السبب بعينه، فالمراد بقوله الا لنعلم من يتبع الرسول، الا لنميز من يتبعك، والعدول من لفظ الخطاب إلى الغيبة لدخالة صفة الرسالة في هذا التميز، والمراد بجعل القبلة السابقة: جعلها في حق المسلمين، وان كان المراد أصل جعل بيت المقدس قبلة فالمراد مطلق الرسول، والكلام على رسله من غير التفات، غير انه بعيد من الكلام بعض البعد. وثانيا: ان الصلوات التي كان المسلمون صلوها إلى بيت المقدس كيف حالها، وقد صليت إلى غير القبلة ؟ والجواب: ان القبلة قبله ما لم تنسخ، وان الله سبحانه إذا

[ 325 ]

نسخ حكما رفعه من حين النسخ، لا من أصله، لرأفته ورحمته بالمؤمنين، وهذا ما أشار إليه بقوله: وما كان الله ليضيع اعمالكم، ان الله بالناس لرؤوف رحيم. والفرق بين الرأفة والرحمة، بعد اشتراكهما في أصل المعنى، ان الرأفة يختص بالمبتلى المفتاق، والرحمة أعلم. قوله تعالى: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضيها، الآية تدل على ان رسول الله قبل نزول آية القبلة - وهي هذه الآية - كان يقلب وجهه في آفاق السماء، وان ذلك كان انتظارا منه، أو توقعا لنزول الوحي في أمر القبلة، لما كان يحب ان يكرمه الله تعالى بقبلة تختص به، لا انه كان لا يرتضى بيت المقدس قبلة، وحاشا رسول الله من ذلك، كما قال تعالى: فلنولينك قبلة ترضيها، فان الرضا بشئ لا يوجب السخط بخلافه بل اليهود على ما في الروايات الواردة في شأن نزول الآية كانوا يعيرون المسلمين في تبعية قبلتهم، ويتفاخرون بذلك عليهم، فحزن رسول الله ذلك، فخرج في سواد الليل يقلب وجهه إلى السماء ينتظر الوحي من الله سبحانه، وكشف همه فنزلت الآية، ولو نزلت على البقاء بالقبلة السابقة لكانت حجة له صلى الله عليه وآله وسلم على اليهود، وليس ولم يكن لرسول الله ولا للمسلمين عارفي استقبال قبلتهم، إذ ليس للعبد إلا الاطاعة والقبول، لكن نزلت بقبلة جديدة، فقطع تعييرهم وتفاخرهم، مضافا إلى تعيين التكليف، فكانت حجة ورضى. قوله تعالى: فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره. الشطر البعض، وشطر المسجد الحرام هو الكعبة، وفي قوله تعالى شطر المسجد الحرام دون ان يقال: فول وجهك الكعبة، أو يقال: فول وجهك البيت الحرام، محاذاة للحكم في القبلة السابقة فانها كانت شطر المسجد الاقصى، وهي الصخرة المعروفة هناك، فبدلت من شطر المسجد الحرام - وهي الكعبة - على ان اضافة الشطر إلى المسجد وتوصيف المسجد، بالحرام يعطي مزايا للحكم تفوت لو قيل: الكعبة أو البيت الحرام. وتخصيص رسول الله بالحكم أولا بقوله فول وجهك، ثم تعميم الحكم له ولغيره من المؤمنين بقوله وحيث ما كنتم يؤيد ان القبلة حولت، ورسول الله قائم يصلي في

[ 326 ]

المسجد - والمسلمون معه - فاختص الامر به، أولا في شخص صلوته ثم عقب الحكم العام الشامل له ولغيره، ولجميع الاوقات والامكنة. قوله تعالى: وان الذين اوتوا الكتاب ليعلمون انه الحق من ربهم، وذلك لاشتمال كتابهم على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو كون قبلة هذا النبي الصادق هو شطر المسجد الحرام، وايا ما كان فقوله: اوتوا الكتاب، يدل على اشتمال كتابهم على حقية هذا التشريع، اما مطابقة أو تضمنا، وما الله بغافل عما يعملون من كتمان الحق، واحتكار ما عندهم من العلم. قوله تعالى: ولئن أتيت الذين اوتوا الكتاب بكل آية، تقريع لهم بالعناد واللجاج، وان ابائهم عن القبول ليس لخفاء الحق عليهم، وعدم تبينه لهم، فانهم عالمون بأنه حق علما لا يخالطه شك، بل الباعث لهم على بث الاعتراض وإثارة الفتنة عنادهم في الدين وجحودهم للحق، فلا ينفعهم حجة، ولا يقطع إنكارهم آية فلو أتيتهم بكل آية ما تبعوا قبلتك لعنادهم وجحودهم، وما أنت بتابع قبلتهم، لانك على بينة من ربك ويمكن أن يكون قوله: وما أنت نهيا في صورة خبر، وما بعضهم بتابع قبلة بعض، وهم اليهود يستقبلون صخرة بيت المقدس أينما كانوا، والنصارى يستقبلون المشرق أينما كانوا، فلا هذا البعض يقبل قبلة ذاك البعض، ولا ذاك يقبل قبلة هذا اتباعا للهوى. قوله تعالى: ولئن اتبعت اهوائهم من بعد ما جائك من العلم، تهديد للنبي، والمعنى متوجه إلى امته، وإشارة إلى انهم في هذا التمرد إنما يتبعون أهوائهم وانهم بذلك ظالمون. قوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم، الضمير في قوله يعرفونه، راجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون الكتاب، والدليل عليه تشبيه هذه المعرفة بمعرفة الابناء، فان ذلك إنما يحسن في الانسان، ولا يقال في الكتاب، ان فلانا يعرفه أو يعلمه، كما يعرف ابنه، على ان سياق الكلام - وهو في رسول الله،

[ 327 ]

وما اوحي إليه من أمر القبلة، اجنبي عن موضوع الكتاب الذي اوتيه أهل الكتاب، فالمعنى ان أهل الكتاب يعرفون رسول الله بما عندهم من بشارات الكتب كما يعرفون أبنائهم، وان فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون. وعلي هذا ففي الكلام التفات من الحضور إلى الغيبة في قوله يعرفونه، فقد أخذ رسول الله غائبا، ووجه الخطاب إلى المؤمنين بعد ما كان صلى الله عليه وآله وسلم حاضرا، والخطاب معه، وذلك لتوضيح: ان امره صلى الله عليه وآله وسلم واضح ظاهر عند أهل الكتاب، ومثل هذا النظم كمثل كلام من يكلم جماعة لكنه يخص واحدا منهم بالمخاطبة إظهارا لفضله، فيخاطبه ويسمع غيره، فإذا بلغ إلى ما يخص شخص المخاطب من الفضل والكرامة، عدل عن خطابه إلى مخاطبة الجماعة، ثم بعد الفراغ عن بيان فضله عدل ثانيا إلى ما كان فيه أولا من توجيه الخطاب إليه وبهذا يظهر نكتة الالتفات. قوله تعالى: الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، تأكيد للبيان السابق وتشديد في النهى عن الامتراء، وهو الشك والارتياب، وظاهر الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعناه للامة. قوله تعالى: ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات، الوجهة ما يتوجه إليه كالقبلة، و هذارجوع إلى تلخيص البيان السابق، وتبديل له من بيان آخر يهدي الناس إلى ترك تعقيب أمر القبله، والاكثار من الكلام فيه، والمعنى ان كل قوم فلهم قبلة مشرعة على حسب ما يقتضيه مصالحهم وليس حكما تكوينيا ذاتيا لا يقبل التغيير والتحويل، فلا يهم لكم البحث والمشاجرة فيه، فاتركوا ذلك واستبقوا الخيرات وسارعوا إليها بالاستباق، فان الله سيجمعكم إلى يوم لا ريب فيه، وأينما تكونوا يأت بكم الله جميعا ان الله على كل شئ قدير. واعلم ان الآية كما انها قابلة الانطباق على أمر القبلة لوقوعها بين آياتها كذلك تقبل الانطباق على أمر التكوين، وفيها اشارة إلى القدر والقضاء، وجعل الاحكام والاداب لتحقيقها وسيجئ تمام بيانه فيما يخص به من المقام إنشاء الله.

[ 328 ]

قوله تعالى: ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام، ذكر بعض المفسرين أن المعنى ومن أي مكان خرجت، وفي أي بقعة حللت فول وجهك وذكر بعضهم أن المعنى ومن حيث خرجت من البلاد، ويمكن أن يكون المراد بقوله ومن حيث خرجت، مكة، التي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما قال تعالى (من قريتك التي أخرجتك) محمد - 13، ويكون المعنى أن استقبال البيت حكم ثابت لك في مكة وغيرها من البلاد والبقاع وفي قوله وأنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون تأكيد و تشديد. قوله تعالى: ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره، تكرار الجملة الاولى بلفظها لعله للدلالة على ثبوت حكمها على أي حال، فهو كقول القائل، اتق الله إذا قمت واتق الله إذا قعدت، واتق الله إذا نطقت، واتق الله إذا سكت، يريد: التزم التقوى عند كل واحدة من هذه الاحوال ولتكن معك، ولو قيل اتق الله إذا قمت وإذا قعدت وإذا نطقت وإذا سكت فاتت هذه النكتة، والمعنى استقبل شطر المسجد الحرام من التي خرجت منها وحيث ما كنتم من الارض فولوا وجوهكم شطره. قوله تعالى: لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني، بيان لفوائد ثلاث في هذا الحكم الذي فيه أشد التأكيد على ملازمة الامتثال والتحذر عن الخلاف: احديها: أن اليهود كانوا يعلمون من كتبهم أن النبي الموعود تكون قبلته الكعبة دون بيت المقدس، كما قال تعالى: وإن الذين إوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم الآية، وفي ترك هذا الحكم الحجة لليهود على المسلمين بأن النبي ليس هو النبي الموعود لكن التزام هذا الحكم والعمل به يقطع حجتهم إلا الذين ظلموا منهم، وهو استثناء منقطع، أي لكن الذين ظلموا منهم باتباع الاهواء لا ينقطعون بذلك فلا تخشوهم لانهم ظالمون باتباع الاهواء، والله لا يهدي القوم الظالمين و اخشوني. وثانيتها: أن ملازمة هذا الحكم يسوق المسلمين إلى تمام النعمة عليهم بكمال دينهم، وسنبين معنى تمام النعمة في الكلام على قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) المائدة - 4.

[ 329 ]

وثالثتها: رجاء الاهتداء إلى الصراط المستقيم، وقد مر معنى الاهتداء في الكلام على معنى قوله تعالى: (إهدنا الصراط المستقيم) فاتحة الكتاب - 6. وذكر بعض المفسرين أن اشتمال هذه الآية - وهي آية تحويل القبلة - على قوله وليتم نعمته عليكم ولعلكم تهتدون، مع اشتمال قوله تعالى في سورة الفتح في ذكر فتح مكة على هاتين الجملتين، إذ قال تعالى (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما) الفتح - 2 يدل على كونها مشتملة على البشارة بفتح مكة. بيان ذلك أن الكعبة كانت مشغولة في صدر الاسلام بأصنام المشركين وأوثانهم وكان السلطان معهم، والاسلام لم يقو بعد بحيث يظهر قهره وقدرته، فهدى الله رسوله إلى استقبال بيت المقدس، لكونه قبلة لليهود، الذين هم أقرب في دينهم من المشركين إلى الاسلام، ثم لما ظهر أمر الاسلام بهجرة رسول الله إلى المدينة، وقرب زمان الفتح وتوقع تطهيرالبيت من أرجاس الاصنام جاء الامر بتحويل القبلة وهي النعمة العظيمة التي اختص به المسلمون، ووعد في آية التحويل إتمام النعمة والهداية وهو خلوص الكعبة من أدناس الاوثان، وتعينها لان تكون قبله يعبد الله إليها، ويكون المسلمون هم المختصون بها، وهي المختصة بهم، فهي بشارة بفتح مكة، ثم لما ذكر فتح مكة حين فتحت أشار إلى ما وعدهم به من إتمام النعمة والبشارة بقوله ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما الآية. وهذا الكلام وإن كان بظاهره وجيها لكنه خال عن التدبر، فإن ظاهر الآيات لا يساعد عليه، إذ الدال على وعد إتمام النعمة في هذه الآية: ولاتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون، الآية إنما هو لام الغاية، وآية سورة الفتح التي أخذها انجازا لهذا الوعد ومصداقا لهذه البشارة أعني قوله تعالى: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما، مشتملة على هذه اللام بعينها، فالآيتان جميعا مشتملتان على الوعد الجميل بإتمام النعمة، على أن آية الحج مشتملة على وعد إتمام النعمة لجميع المسلمين، وآية الفتح على ذلك لرسول الله خاصة فالسياق في الآيتين مختلف. ولو كان هناك آية تحكي عن انجاز الوعد الذي تشتمل عليه الآيتان لكان هو قوله

[ 330 ]

تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) المائدة - 4، وسيجئ الكلام في معنى النعمة و تشخيص هذه النعمة التي يمتن بها الله سبحانه في الآية. ونظير هاتين الآيتين في الاشتمال على عدة إتمام النعمة قوله تعالى (ولكن يريد ليطهركم و ليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) المائدة - 6، وقوله تعالى (كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون) النحل - 81، وسيجئ إنشاء الله شئ من الكلام المناسب لهذا المقام في ذيل هذه الآيات. قوله تعالى: كما أرسلنا فيكم رسولا منكم، ظاهر الآية إن الكاف للتشبيه وما مصدرية، فالمعنى: أنعمنا عليكم بأن جعلنا لكم البيت الذي بناه إبراهيم ودعا له بما دعا من الخيرات والبركات قبلة كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويعلمكم الكتاب والحكمة ويزكيكم مستجيبين لدعوة إبراهيم، إذ قال هو وابنه إسمعيل ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وفيهم امتنان عليهم بالارسال كالامتنان بجعل الكعبة قبلة، ومن هنا يظهر أن المخاطب بقوله فيكم رسولا منكم، هو الامة المسلمة، وهو أولياء الدين من الامة خاصة بحسب الحقيقة، والمسلمون جميعا من آل إسمعيل، - وهم عرب مضر - بحسب الظاهر، وجميع العرب بل جميع المسلمين بحسب الحكم. قوله تعالى: يتلوا عليكم آياتنا، ظاهرة آيات القرآن لمكان قوله يتلوا، فإن العناية في التلاوة إلى اللفظ دون المعنى، والتزكية هي التطهير، وهو إزالة الادناس والقذارات، فيشمل إزالة الاعتقادات الفاسدة كالشرك والكفر، وإزالة الملكات الرذيلة من الاخلاق كالكبر والشح، وإزالة الاعمال والافعال الشنيعة كالقتل والزنا وشرب الخمر وتعليم الكتاب والحكمة وتعليم ما لم يكونوا يعلمونه يشمل جميع المعارف الاصلية والفرعية. واعلم: أن الآيات الشريفة تشتمل على موارد من الالتفات، فيه تعالى بالغيبة ولتكلم وحده ومع الغير، وفي غيره تعالى أيضا بالغيبة والخطاب والتكلم، والنكتة فيها غير خفية على المتدبر البصير.

[ 331 ]

(بحث روائي)

 في المجمع عن القمي في تفسيره في قوله تعالى سيقول السفهاء الآية، عن الصادق عليه السلام قال تحولت القبلة إلى الكعبة، بعد ما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ثلث عشرة سنة إلى بيت المقدس، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس سبعة أشهر، قال ثم وجهه الله إلى مكة، وذلك أن اليهود كانوا يعيرون على رسول الله يقولون أنت تابع لنا تصلي إلى قبلتنا، فاغتم رسول الله من ذلك غما شديدا، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء، ينتظر من الله في ذلك أمرا، فلما أصبح وحضر وقت صلوة الظهر كان في مسجد بنى سالم، وقد صلى من الظهر ركعتين فنزل جبرئيل فأخذ بعضديه وحوله إلى الكعبة وأنزل عليه: (قد نرى تقلب وجهك في السماء، فلنولينك قبلة ترضيها فول وجهك شطر المسجد الحرام) فكان قد صلى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة، فقالت اليهود والسفهاء ما وليهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ اقول: والروايات الواردة من طرق العامة والخاصة كثيرة مودعة في جوامع الحديث قريبة المضامين، وقد اختلف في تاريخ الواقعة، واكثرها - وهو الاصح - أنها كانت في رجب السنة الثانية من الهجرة الشهر السابع عشر منها وسيجئ بعض ما يتعلق بالمقام في بحث على حده إنشاالله. وعن طرق أهل السنة والجماعة في شهادة هذه الامة على الناس، وشهادة النبي عليهم أن الامم يوم القيمة يجحدون تبليغ الانبياء فيطالب الله الانبياء بالبينة على انهم قد بلغوا - وهو أعلم - فيؤتي بأمة محمد، فيشهدون، فتقول الامم من أين عرفتم ؟ فيقولون عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد، ويسئل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم، وذلك قوله تعالى فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد. اقول: ما يشتمل عليه هذا الخبر - وهو مؤيد بأخبار أخر نقلها السيوطي في الدر المنثور وغيره - من تزكية رسول الله لامته، وتعديله إياهم، لعله يراد به تعديله لبعضهم دون جميعهم، وإلافهو مدفوع بالضرورة الثابتة من الكتاب والسنة، وكيف

[ 332 ]

تصحح أو تصوب هذه الفجائع التي لا تكاد توجد، ولا أنموذجة منها في واحدة من الامم الماضية ؟ وكيف يزكى ويعدل فراعنة هذه الامة وطواغيتها ؟ فهل ذلك إلا طعن في الدين الحنيف ولعب بحقائق هذه الملة البيضاء، على أن الحديث مشتمل على إمضاء الشهادة النظرية دون شهادة التحمل. وفي المناقب في هذا المعنى عن الباقر عليه السلام ولا يكون شهداء على الناس إلا الائمة والرسل، وأما الامة فغير جايز أن يستشهدها الله وفيهم من لا تجوز شهادته على حزمة بقل. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا الآية، فإن ظننت أن الله عنى بهذه الآية جميع اهل القبلة من الموحدين أفترى إن من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة، ويقبلها منه بحضرة جميع الامم الماضية ؟ كلا ! لم يعن الله مثل هذا من خلقة، يعني الامة التي وجبت لها دعوة إبراهيم كنتم خير أمة، أخرجت للناس وهم الامة الوسطى وهخير امة أخرجت للناس، اقول: وقد مر بيان ذلك في ذيل الآية بالاستفادة من الكتاب. وفي قرب الاسناد عن الصادق عليه السلام عن أبيه عن النبي قال مما أعطى الله أمتي وفضلهم على سائر الامم أعطاهم ثلث خصال لم يعطها إلا نبي - إلى أن قال - وكان إذا بعث نبيا جعله شهيدا على قومه، وإن الله تبارك وتعالى جعل امتي شهيدا على الخلق، حيث يقول ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس الحديث. اقول: والحديث لا ينافي ما مر، فان المراد بالامة الامة المسلمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم. وفي تفسير العياشي عن أمير المؤمنين عليه السلام: في حديث يصف فيه يوم القيامة، قال عليه السلام يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق، فلا يتكلم أحد إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، فيقام الرسول فيسئل فذلك قوله لمحمد فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا، وهو الشهيد على الشهداء، والشهداء هم الرسل.

[ 333 ]

وفي التهذيب عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام، قال قلت له أمره أن يصلي إلى بيت المقدس ؟ قال نعم ألا ترى أن الله تبارك وتعالى يقول وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم ممن ينقلب على عقبيه الآية. أقول: مقتضى الحديث كون قوله تعالى التي كنت عليها وصفا للقبلة، والمراد بها بيت المقدس، وأنه القبلة التي كان رسول الله عليها، وهو الذي يؤيده سياق الآيات كما تقدم. ومن هنا يتأيد ما في بعض الاخبار عن العسكري عليه السلام: أن هوى أهل مكة كان في الكعبة فأراد الله أن يبين متبع محمد من مخالفيه باتباع القبلة التي كرهها، ومحمد يأمر بها، ولما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها والتوجه إلى الكعبة ليبين من يتبع محمدا فيما يكرهه - فهو مصدقه وموافقه الحديث، وبه يتضح أيضا فساد ما قيل: إن قوله تعالى التي كنت عليها مفعول ثان لجعلنا، والمعنى: وما جعلنا القبلة، هي الكعبة التي كنت عليها قبل بيت المقدس، واستدل عليها بقوله تعالى إلا لنعلم من يتبع الرسول، وهو فاسد، ظهر فساده مما تقدم. وفي تفسير العياشي عن الزبيري عن الصادق عليه السلام قال: قلت له ألا تخبرني عن الايمان، أقول هو وعمل أم قول بلا عمل ؟ فقال الايمان عمل كله والقول بعض ذلك العمل، مفروض من الله، مبين في كتابه، واضح نوره ثابت حجته، يشهد له بها الكتاب ويدعو إليه، ولما أن صرف الله نبيه إلى الكعبة عن بيت المقدس قال المسلمون: للنبي أرأيت صلاتنا التي كنا نصلي إلى بيت المقدس، ما حالنا فيها وما حال من مضى من أمواتنا، وهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم، فسمى الصلوة إيمانا، فمن اتقى الله حافظا لجوارحه موفيا كل جارحة من جوارحه بما فرض الله عليه لقي الله مستكملا لايمانه من أهل الجنة، ومن خان في شئ منها أو تعدى ما أمر الله فيها لقي الله ناقص الايمان. اقول: ورواه الكليني أيضا، واشتماله على نزول قوله وما كان الله ليضيع إيمانكم الآية، بعد تغيير القبلة لا ينافي ما تقدم من البيان. وفي الفقيه أن النبي صلى إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة بمكة وتسعة عشر شهرا بالمدينة، ثم عيرته اليهود فقالوا إنك تابع لقبلتنا، فاغتم لذلك غما شديدا،

[ 334 ]

فلما كان في بعض الليل خرج يقلب وجهه في آفاق السماء، فلما أصبح صلى الغداة، فلما صلى من الظهر ركعتين جاء جبرئيل فقال له قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضيها فول وجهك شطر المسجد الحرام الآية، ثم أخذ بيد النبي فحول وجهه إلى الكعبة، وحول من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال، فكان أول صلوتة إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة فبلغ الخبر مسجدا بالمدينة وقد صلى أهله من العصر ركعتين فحولوا نحو القبله، فكان أول صلوتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين. أقول: وروى القمي نحوا من ذلك، وأن النبي كان في مسجد بني سالم. وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام الآية، قال استقبل القبلة، ولا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلوتك، فان الله يقول لنبيه في الفريضة فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره. اقول: والاخبار في نزول الآية في الفريضة واختصاصها بها كثيرة مستفيضة. وفي تفسير القمي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه الآية، قال نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى، يقول الله تبارك وتعالى: والذين آتيناهم الكتاب يعرفونه يعني يعرفون رسول الله كما يعرفون أبنائهم لان الله عزوجل قد أنزل عليهم في التوراة والانجيل والزبور صفة محمد وصفة أصحابه ومهاجرته، وهو قوله تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تريهم ركعا سجدا - يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل، وهذه صفة رسول الله في التوراة وصفة أصحابه، فلما بعثه الله عزوجل عرفه أهل الكتاب كما قال جل جلاله: فلما جائهم ما عرفوا كفروا به. اقول: وروى نحوا منه في الكافي عن علي عليه السلام. وفي أخبار كثيرة من طرق الشيعة أن قوله تعالى، أينما تكونوا يأت بكم الله

[ 335 ]

جميعا الآية في أصحاب القائم، وفي بعضها أنه من التطبيق والجرى. وفي الحديث من طرق العامة في قوله تعالى: ولاتم نعمتي عليكم، عن علي تمام النعمة الموت على الاسلام. وفي الحديث من طرقهم أيضا تمام النعمة دخول الجنة.

(بحث علمي)

 تشريع القبلة في الاسلام، واعتبار الاستقبال في الصلوة - وهى عبادة عامة بين المسلمين - وكذا في الذبائح، وغير ذلك مما يبتلى به عموم الناس أحوج الناس إلى البحث عن جهة القبلة وتعيينها وقد كان ذلك منهم في اول الامر بالظن والحسبان ونوع من التخمين، ثم استنهض الحاجة العمومية الرياضيين من علمائهم أن يقربوه من التحقيق، فاستفادوا من الجداول الموضوعة في الزيجات لبيان عرض البلاد وطولها، واستخرجوا انحراف مكة عن نقطة الجنوب في البلد، أي انحراف الخط الموصول بين البلد ومكة عن الخط الموصول بين البلد ونقطة الجنوب (خط نصف النهار) بحساب الجيوب والمثلثات ثم عينوا ذلك في كل بلدة من بلاد الاسلام، بالدائرة الهندية المعروفة المعينة لخط نصف النهار، ثم درجات الانحراف وخط القبلة. ثم استعملوا لتسريع العمل وسهولته الآلة المغناطيسية المعروفة بالحك، فإنها بعقربتها تعين جهة الشمال والجنوب، فتنوب عن الدائرة الهندية في تعيين نقطة الجنوب وبالعلم بدرجة انحراف البلد يمكن للمستعمل أن يشخص جهة القبلة. لكن هذا السعي منهم - شكر الله تعالى سعيهم - لم يخل من النقص والاشتباه من الجهتين جميعا. أما من جهة الاولى: فإن المتأخرين من الرياضيين عثروا على ان المتقدمين اشتبه عليهم الامر في تشخيص الطول، واختل بذلك حساب الانحراف فتشخيص جهة الكعبة، وذلك ان طريقهم إلى تشخيص عرض البلاد - وهو ضبط ارتفاع القطب الشمالي - كان اقرب إلى التحقيق، بخلاف الطريق إلى تشخيص الطول، وهو ضبط المسافة بين النقطتين المشتركتين في حادثة سماوية مشتركة كالخسوف بمقدار سير الشمس حسا عندهم، وهو التقدير بالساعة، فقد كان هذا بالوسائل القديمة عسيرا

[ 336 ]

وعلى غير دقة لكن توفر الوسائل وقرب الروابط اليوم سهل الامر كل التسهيل، فلم تزل الحاجة قائمة على ساق، حتى قام الشيخ الفاضل البارع الشهير، بالسردار الكابلي، - رحمة الله عليه - في هذه الاواخر بهذا الشأن فاستخرج الانحراف القبلي بالاصول الحديثة، وعمل فيه رسالته المعروفة، بتحفة الاجلة في معرفة القبلة، وهي رسالة ظريفة بين فيها طريق عمل استخراج القبلة بالبيان الرياضي، ووضع فيها جداول لتعيين قبلة البلاد. ومن ألطف ما وفق له في سعيه - شكر الله سعيه - ما أظهر به كرامة باهرة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في محرابه المحفوظ في مسجد النبي بالمدينة 25. 75. 20 وذلك: أن المدينة على ما حاسبه القدماء كانت ذات عرض 25 درجة وطول 75 درجة 20 دقيقة، وكانت لا توافقه قبلة محراب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده، لذلك كان العلماء لا يزالون باحثين في امر قبله المحراب وربما ذكروا في انحرافه وجوها لا تصدقها حقيقة الامر لكنه - رحمه الله - اوضح ان المدينة على عرض 24 درجة 57 دقيقة وطول 39 درجة 59 دقيقة وانحراف. درجة 45 دقيقة تقريبا. وانطبق على ذلك قبلة المحراب أحسن الانطباق وبدت بذلك كرامة باهرة للنبي في قبلته التي وجه وجهه إليها وهو في الصلوة، وذكران جبرئيل أخذ بيده وحول وجهه إلى الكعبة، صدق الله ورسوله. ثم استخرج بعده المهندس الفاضل الزعيم عبد الرزاق البغائري رحمة الله عليه قبلة أكثر بقاع الارض ونشر فيها رسالة في معرفة القبلة، وهي جداول يذكر فيها ألف وخمسمأه بقعة من بقاع الارض وبذلك تمت النعمة في تشخيص القبلة. وأما الجهة الثانية: وهي الجهة المغناطيسية، فإنهم وجدوا أن القطبين المغناطيسيين في الكرة الارضية، غير منطبقين على القطبين الجغرافيين منها، فإن القطب المغناطيسي الشمالي مثلا على أنه متغير بمرور الزمان، بينه وبين القطب الجغرافيائي الشمالي ما يقرب من ألف ميل، وعلى هذا فالحك لا يشخص القطب الجنوبي الجغرافي بعينه، بل ربما بلغ التفاوت إلى ما لا يتسامح فيه، وقد أنهض هذا المهندس الرياضي الفاضل الزعيم حسين علي رزم آرا في هذه الايام وهي سنة 1332 هجرية شمسية على حل هذه المعضلة، واستخراج مقدار التفاوت بين القطبين الجغرافي والمغناطيسي بحسب النقاط المختلفة،

[ 337 ]

وتشخيص انحراف القبلة من القطب المغناطيسي فيما يقرب من ألف بقعة من بقاع الارض، واختراع حك يتضمن التقريب القريب من التحقيق في تشخيص القبلة، وها هو اليوم دائر معمول - شكر الله سعيه -.

(بحث اجتماعي)

 لمتأمل في شئون الاجتماع الانساني، والناظر في الخواص والآثار التي يتعقبها هذا الامر المسمى بالاجتماع من جهة أنه اجتماع لا يشك في أن هذا الاجتماع إنما كونة ثم شعبته وبسطته إلى شعبه وأطرافه الطبيعة الانسانية، لما استشعرت بإلهام من الله سبحانه بجهات حاجتها في البقاء والاستكمال إلى أفعال اجتماعية فتلتجئ إلى الاجتماع وتلزمها لتوفق إلى أفعالها وحركاتها وسكناتها في مهد تربية الاجتماع وبمعونته. ثم استشعرت والهمت بعلوم (صور ذهنية) وإدراكات توقعها على المادة وعلى حوائجها فيها وعلى أفعالها، وجهات أفعالها تكون هي الوصلة والرابطة بينها وبين أفعالها وحوائجها كاعتقاد الحسن والقبح، وما يجب، وما ينبغي، وسائر الاصول الاجتماعية، من الرئاسة والمرئوسية والملك والاختصاص، والمعاملات المشتركة والمختصة، وسائر القواعد والنواميس العمومية والآداب والرسوم القومية التي لا تخلو عن التحول والاختلاف باختلاف الاقوام والمناطق و الاعصار، فجميع هذه المعاني والقواعد المستقرة عليها من صنع الطبيعة الانسانية بإلهام من الله سبحانه، تلطفت بها طبيعة الانسان، لتمثل بها ما تعتقدها وتريدها من المعاني في الخارج، ثم تتحرك إليها بالعمل، والفعل والترك، والاستكمال. وتوجه العبادي إلى الله سبحانه، وهو المنزه عن شئون المادة، والمقدس عن تعلق الحس المادي إذا اريد أن يتجاوز حد القلب والضمير، وتنزل على موطن الافعال - وهي لا تدور إلا بين الماديات - لم يكن في ذلك بد ومخلص من أن يكون على سبيل التمثيل بأن يلاحظ التوجهات القلبية على اختلاف خصوصياتها، ثم تمثل في الفعل بما يناسبها من هيئات الافعال وأشكالها، كالسجدة يراد بها التذلل، والركوع يراد به

[ 338 ]

التعظيم، والطواف يراد به تفدية النفس، والقيام يراد به التكبير، والوضوء والغسل يراد بهما الطهارة للحضور ونحو ذلك. ولا شك أن التوجه إلى المعبود، واستقباله من العبد في عبوديته روح عبادته، التي لولاها لم يكن لها حيوة ولا كينونة، وإلى تمثيله تحتاج العبادة في كمالها وثباتها واستقرار تحققها. وقد كان الوثنيون، وعبدة الكواكب وسائر الاجسام من الانسان وغيره ستقبلون معبوداتهم وآلهتهم، ويتوجهون إليهم بالابدان في أمكنة متقاربة. لكن دين الانبياء ونخص بالذكر من بينها دين الاسلام الذي يصدقها جميعا وضع الكعبة قبلة، وأمر باستقبالها في الصلوة، التي لا يعذر فيها مسلم، أينما كان من أقطار الارض وآفاقها، ونهي عن استقبالها واستدبارها في حالات وندب إلى ذلك في أخرى فاحتفظ على قلب الانسان بالتوجه إلى بيت الله، وأن لا ينسى ربه في خلوته وجلوته، وقيامه وقعوده، ومنامه ويقظته، ونسكه وعبادته حتى في أخس حالاته وأرديها فهذا بالنظر إلى الفرد. وأما بالنظر إلى الاجتماع، فالامر أعجب والاثر أجلى وأوقع فقد جمع الناس على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم على التوجه إلى نقطة واحدة، يمثل بذلك وحدتهم الفكرية وارتباط جامعتهم، والتيام قلوبهم، وهذا ألطف روح يمكن أن تنفذ في جميع شئون الافراد في حيويتها المادية والمعنوية تعطي من الاجتماع إرقاه، ومن الوحدة أوفاها وأقويها، خص الله تعالى بها عباده المسلمين، وحفظ به وحدة دينهم، وشوكة جمعهم، حتى بعد أن تحزبوا أحزابا، وافترقوا مذاهب وطرائق قددا، لا يجتمع منهم اثنان على رأي، نشكر الله تعالى على آلاله.

[ 339 ]

فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون - 152.

(بيان)

 لما امتن الله تعالى على النبي والمسلمين، بإرسال النبي الكريم منهم إليهم نعمة لا تقدر بقدر ومنحه على منحة - وهو ذكر منه لهم - إذ لم ينسهم في هدايتهم إلى مستقيم الصراط، وسوقهم إلى أقصى الكمال، وزيادة على ذلك، وهو جعل القبلة، الذي فيه كمال دينهم، وتوحيد عبادتهم، وتقويم فضيلتهم الدينية والاجتماعية فرع على ذلك دعوتهم إلى ذكره وشكره، ليذكرهم بنعمته على ذكرهم إياه بعبوديته وطاعته، ويزيدهم على شكرهم لنعمته وعدم كفرانهم، وقد قال تعالى: واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا) الكهف - 24. وقال تعالى: لان شكرتم لازيدنكم) إبراهيم - 7. والآيتان جميعا نازلتان قبل آيات القبلة من سورة البقرة. ثم إن الذكر ربما قابل الغفلة كقوله تعالى (وتطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا) الكهف - 28، وهي انتفاء العلم بالعلم، مع وجود أصل العلم، فالذكر خلافه، وهو العلم بالعلم، وربما قابل النسيان وهو زوال صورة العلم عن خزانة الذهن، فالذكر خلافه، ومنه قوله تعالى (واذكر ربك إذا نسيت الاية). وهو حينئذ كالنسيان معنى ذو آثار وخواص تتفرع عليه، ولذلك ربما أطلق الذكر كالنسيان في موارد تتحقق فيها آثارهما وإن لم تتحقق أنفسهما، فإنك أذا لم تنصر صديقك - وأنت تعلم حاجته إلى نصرك فقد نسيته، والحال أنك تذكره، وكذلك الذكر. والظاهر أن إطلاق الذكر على الذكر اللفظي من هذا القبيل، فإن التكلم عن الشئ من آثار ذكره قلبا، قال تعالى (قل سأتلوا عليكم منه ذكرا) الكهف - 83. ونظائره كثيرة، ولو كان الذكر اللفظي أيضا ذكرا حقيقة فهو من مراتب الذكر، لانه مقصور عليه ومنحصر فيه، وبالجملة: الذكر له مراتب كما قال تعالى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) الرعد - 28، وقال واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول) الاعراف - 205، وقال تعالى (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد

[ 340 ]

ذكرا) البقرة - 200، فالشدة إنما يتصف به المعنى دون اللفظ، وقال تعالى (واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا) الكهف - 24، وذيل هذه الآية تدل على الامر برجاء ما هو أعلى منزلة مما هو فيه، فيؤل المعنى إلى أنك إذا تنزلت من مرتبة من ذكره إلى مرتبة هي دونها، وهو النسيان، فاذكر ربك وارج بذلك ما هو أقرب طريقا وأعلى منزلة، فينتج أن الذكر القلبي ذو مراتب في نفسه، وبذلك يتبين صحة قول القائل: أن الذكر حضور المعنى عند النفس، فان الحضور ذو مراتب. ولو كان لقوله تعالى، فاذكروني - وهو فعل متعلق بياء المتكلم حقيقة من دون تجوز أفاد ذلك، أن للانسان سنخا آخر من العلم غير هذا العلم المعهود عندنا الذي هو حصول صورة المعلوم ومفهومه عند العالم، إذ كلما فرض من هذا القبيل فهو تحديد وتوصيف للمعلوم من العالم، وقد تقدست ساحته سبحانه عن توصيف الواصفين، قال تعالى (سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين) الصافات - 160، وقال: (ولا يحيطون به علما) طه - 110، وسيجئ بعض ما يتعلق بالمقام في الكلام على الآيتين إنشاء الله.

(بحث روائي)

 تكاثرت الاخبار في فضل الذكر من طرق العامة والخاصة، فقد روي: بطرق مختلفة أن ذكر الله حسن على كل حال. وفي عدة الداعي قال: وروي: أن رسول الله قد خرج على أصحابه، فقال: ارتعوا في رياض الجنة، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة ؟ قال: مجالس الذكر اغدوا وروحوا واذكروا، ومن كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبد الله من نفسه، واعلموا: أن خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم، وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى، فانه تعالى أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني، وقال تعالى: فاذكروني أذكركم بنعمتي، اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والاحسان والراحة والرضوان.

[ 341 ]

وفي المحاسن ودعوات الراوندي عن الصادق عليه السلام قال: ان الله تبارك وتعالى يقول: من شغل بذكري عن مسئلتي، اعطيه افضل ما اعطي من سئلني. وفي المعاني عن الحسين البزاز قال: قال: لي أبو عبد الله عليه السلام ألا احدثك باشد ما فرض الله على خلقة ؟ قلت: بلى قال، إنصاف الناس من نفسك، ومواساتك لاخيك، وذكر الله في كل موطن، أما إني لا اقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر، وان كان هذا من ذاك، ولكن ذكر الله في كل موطن، إذا هجمت على طاعته أو معصيته. اقول: وهذا المعنى مروي بطرق كثيرة عن النبي وأهل بيته عليه السلام وفي بعضها وهو قول الله: الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون الآية. وفي عدة الداعي عن النبي، قال قال سبحانه: إذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي، نقلت شهوته في مسئلتي ومناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك وأراد ان يسهو حلت بينه وبين أن يسهو، أولئك أوليائي، حقا، أولئك الابطال حقا، أولئك الذين إذا اردت أن أهلك أهل الارض عقوبة زويتها عنهم من أجل أولئك الابطال. وفي المحاسن عن الصادق عليه السلام قال: قال الله تعالى: ابن آدم اذكرني في نفسك اذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في خلاء أذكرك في خلاء، اذكرني في ملا أذكرك في ملاء خير من ملائك، وقال: ما من عبد يذكر الله في ملا من الناس الا ذكره الله في ملا من الملائكة. أقول: وقد روي هذا المعنى بطرق كثيرة في كتب الفريقين. وفي الدر المنثور أخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن إبن مسعود قال: قال: رسول الله، من أعطى أربعا أعطي أربعا، وتفسير ذلك في في كتاب الله من أعطي الذكر ذكره الله، لان الله يقول: اذكروني اذكركم، ومن اعطى الدعاء اعطي الاجابة، لان الله يقول: ادعوني استجب لكم، ومن اعطي الشكر أعطي الزيادة، لان الله يقول: لئن شكرتم لازيدنكم، ومن اعطي الاستغفار اعطي المغفرة لان الله يقول: استغفروا ربكم إنه كان غفارا.

[ 342 ]

وفي الدر المنثور أيضا أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في شعب الايمان عن خالد بن ابي عمران، قال: قال: رسول الله، من أطاع الله فقد ذكر الله، وان قلت صلوته وصيامه وتلاوته للقرآن، ومن عصى الله فقد نسي الله، وإن كثرت صلوته وصيامه وتلاوته للقرآن. اقول: في الحديث إشارة إلى ان المعصية لا تتحقق من العبد إلا بالغفلة والنسيان فإن الانسان لو ذكر ما حقيقة معصيته وما لها من الاثر لم يقدم على معصيته، حتى ان من يعصي الله ولا يبالي إذا ذكر عند ذلك بالله، ولا يعتني بمقام ربه هو طاغ جاهل بمقام ربه وعلو كبريائه وكيفية إحاطته، وإلى ذلك تشير ايضا رواية اخرى، رواها الدر المنثور، عن أبي هند الداري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال الله: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ومن ذكرني - وهو مطيع - فحق علي أن اذكره بمغفرتي، ومن ذكرني - وهو عاص - فحق علي أن أذكره بمقت الحديث، وما اشتمل عليه هذا الحديث من الذكر عند المعصية هو الذي تسميه الآية وسائر الاخبار بالنسيان لعدم ترتب آثار الذكر عليه، وللكلام بقايا سيجئ شطر منها. يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلوة إن الله مع الصابرين - 153. ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون - 154. ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر لصابرين - 155. الذين إذا أصابتهم مصبية قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون - 156. أولئك عليهم صلوات من ربهم وأولئك هم المهتدون - 157.

[ 343 ]

(بيان)

 خمس آيات متحدة السياق، متسقة الجمل، ملتئمة المعاني، يسوق أولها إلى آخرها ويرجع آخرها إلى أولها، وهذا يكشف عن كونها نازلة دفعة غير متفرقة وسياقها ينادي بأنها نزلت قبيل الامر بالقتال وتشريع حكم الجهاد، ففيه ذكر من بلا سيقبل على المؤمنين، ومصيبة ستصيبهم، ولا كل بلاء ومصيب، بل البلاء العمومي الذي ليس بعادي الوقوع مستمر الحدوث، فإن نوع الانسان كسائر الانواع الموجودة في هذه النشأة الطبيعية لا يخلو في أفراده من حوادث، جزئية يختل بها نظام الفرد في حيوته الشخصية: من موت ومرض وخوف وجوع وغم وحرمان، سنة الله التي جرت في عباده وخلقه، فالدار دار التزاحم، والنشأة نشأة التبدل والتحول، ولن تجد لسنة الله تحويلا ولن تجد لسنة الله تبديلا. والبلاء الفردي وإن كان شاقا على الشخص المبتلى بذلك، مكروها، لكن ليس مهولا مهيبا تلك المهابة التى تترائى بها البلايا والمحن العامة، فإن الفرد يستمد في قوة تعقله وعزمه وثبات نفسه من قوى سائر الافراد، وأما البلايا العامة الشاملة فإنها تسلب الشعور العمومي وجملة الرأي والحزم والتدبير من الهيئة، المجتمعة، ويختل به نظام الحيوة منهم، فيتضاعف الخوف وتتراكم الوحشة ويضطرب عندها العقل والشعور وتبطل العزيمة والثبات، فالبلاء العام والمحنة الشاملة أشق وأمر، وهو الذي تلوح له الآيات. ولا كل بلاء عام كالوباء والقحط بل بلاء عام قربتهم منها أنفسهم، فإنهم أخذوا دين التوحيد، وأجابوا دعوة الحق، وتخالفهم فيه الدنيا وخاصة قومهم، وما لهؤلاء هم إلا إطفاء نور الله، واستيصال كلمة العدل، وإبطال دعوة الحق، ولا وسيلة تحسم مادة النزاع وتقطع الخلاف غير القتال، فسائر الوسائل كإقامة الحجة وبث الفتنة، وإلقاء الوسوسة والريبة وغيرها صارت بعد عقيمة غير منتجة، فالحجة مع النبي والوسوسة والفتنة والدسيسة ما كانت تؤثر أثرا تطمئن إليه أعداء الدين فلم يكن عندهم وسيلة إلا القتال والاستعانة به على سد سبيل الحق، وإطفاء نور الدين اللامع المشرق. هذا من جانب الكفر، والامر من جانب الدين أوضح، فلم يكن إلى نشر كلمة التوحيد،

[ 344 ]

وبث دين الحق، وحكم العدل، وقطع دابر الباطل وسيلة إلا القتال، فإن التجارب الممتد من لدن كان الانسان نازلا فيهذه الدار يعطي أن الحق إنما يؤثر إذا أميط الباطل، ولن يماط إلا بضرب من إعمال القدرة والقوة. وبالجملة ففي الآيات تلويح إلى إقبال هذه المحنة بذكر القتل في سبيل الله، وتوصيفه بوصف لا يبقى فيه معه جهي مكروهة، ولا صفة سوء، وهو أنه ليس بموت بل حيوة، وأي حيوة ! فالآيات تستنهض المؤمنين على القتال، وتخبرهم أن أمامهم بلاء ومحنة لن تنالوا مدارج المعالي، وصلوة ربهم ورحمته، والاهتداء بهدايته إلا بالصبر عليها، وتحمل مشاقها، ويعلمهم ما يستعينون به عليها، وهو الصبر والصلوة، أما الصبر: فهو وحده الوقاية من الجزع واختلال أمر التدبير، وأما الصلوة: فهي توجه إلى الرب، وانقطاع إلى من بيده الامر، وأن القوة لله جميعا. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إستعينوا بالصبر والصلوة إن الله مع الصابرين الآية، قد تقدم جملة من الكلام في الصبر والصلوة في تفسير قوله: (واستعينوا بالصبر والصلوة وأنها لكبيرة إلا على الخاشعين) البقرة - 45، والصبر: من أعظم الملكات والاحوال التي يمدحها القرآن، ويكرر الامر به حتى بلغ قريبا من سبعين موضعا من القرآن حتى قيل فيه: (إن ذلك من عزم الامور) لقمان - 17، وقيل: (وما يلقيها إلا الذين صبروا وما يلقيها إلا ذو حظ عظيم) فصلت - 35، وقيل: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) الزمر - 10. والصلوة: من أعظم العبادات التي يحث عليها في القرآن حتى قيل فيها: (إن الصلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر) العنكبوت - 45، وما أوصى الله في كتابه بوصايا إلا كانت الصلوة رأسها وأولها. ثم وصف سبحانه الصبر بأن الله مع الصابرين المتصفين بالصبر، وإنما لم يصف الصلوة، كما في قوله تعالى: (وأستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة الآية، لان المقام في هذه الآيات، مقام ملاقات الاهوال ومقارعة الابطال، فالاهتمام بأمر الصبر أنسب بخلاف الاية السابقة، فلذلك قيل: إن الله مع الصابرين، وهذه المعية غير المعية

[ 345 ]

التي يدل عليه قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) الحديد - 4، فإنها معية الاحاطة والقيمومة، بخلاف المعية مع الصابرين، فإنها معية إعانة فالصبر مفتاح الفرج. قوله تعالى: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون الاية، ربما يقال: إن الخطاب مع المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الاخر وأذعنوا بالحيوة الاخرة، ولا يتصور منهم القول ببطلان الانسان بالموت، بعد ما أجابوا دعوة الحق وسمعوا شيئا كثيرا من الايات الناطقة بالمعاد، مضافا إلى أن الاية إنما تثبت الحيوة بعد الموت في جماعة مخصوصين، وهم الشهداء المقتولون في سبيل الله، في مقابل غيرهم من المؤمنين، وجميع الكفار، مع أن حكم الحيوة بعد الموت عام شامل للجميع فالمراد بالحيوة بقاء الاسم، والذكر الجميل على مر الدهور، وبذلك فسره جمع من المفسرين. ويرده أولا: أن كون هذه حيوة إنما هو في الوهم فقط دون الخارج، فهي حيوة تخيلية ليس لها في الحقيقة إلا الاسم، ومثل هذا الموضوع الوهمي لا يليق بكلامه، وهو تعالى يدعو إلى الحق، ويقول: (فما ذا بعد الحق إلا الضلال) يونس - 32، وأما الذي سئله إبراهيم في قوله (واجعل لي لسان صدق في الاخرين) الشعراء - 84، فإنما يريد به بقاء دعوته الحقة، ولسانه الصادق بعده، لا حسن ثنائه وجميل ذكره بعده فحسب. نعم هذا القول الباطل، والوهم الكاذب إنما يليق بحال المادين، وأصحاب الطبيعة، فإنهم اعتقدوا: مادية النفوس وبطلانها بالموت ونفوا الحيوة الآخرة ثم أحسوا بإحتياج الانسان بالفطرة إلى القول ببقاء النفوس وتأثرها بالسعادة والشقاء، بعد موتها في معالي أمور، لا تخلو في الارتقاء إليها من التفدية والتضحية، لا سيما في عظائم العزائم التي يموت ويقتل فيها أقوام ليحيي ويعيش آخرون، ولو كان كل من مات فقد فات لم يكن داع للانسان (وخاصة إذا اعتقد بالموت والفوت) أن يبطل ذاته ليبقى ذات آخرين، ولا باعث له أن يحرم على نفسه لذة الاستمتاع من جميع ما يقدر عليه بالجور ليتمتع آخرون بالعدل، فالعاقل لا يعطي شيئا إلا ويأخذ بدله وأما الاعطاء من غير بدل، والترك من غير أخذ، كالموت في سبيل حيوة الغير، والحرمان في طريق

[ 346 ]

تمتع الغير فالفطرة الانسانية تأباه، فلما استشعروا بذلك دعاهم جبر هذا النقص إلى وضع هذه الاوهام الكاذبة، التي ليس لها موطن إلا عرصة الخيال وحظيرة الوهم، قالوا إن الانسان الحر من رق الاوهام والخرافات يجب عليه أن يفدي بنفسه وطنه، أو كل ما فيه شرفه، لينال الحيوة الدائمة بحسن الذكر وجميل الثناء، ويجب عليه ان يحرم على نفسه بعض تمتعاته في الاجتماع ليناله الآخرون، ليستقيم أمر الاجتماع والحضارة، ويتم العدل الاجتماعي فينال بذلك حيوة الشرف والعلاء. وليت شعري إذا لم يكن إنسان، وبطل هذا التركيب المادي وبطل بذلك جميع خواصه، ومن جملتها الحيوة والشعور، فمن هو الذي ينال هذه الحيوة وهذا الشرف ؟ ومن الذي يدركه ويلتذ به ؟ فهل هذا إلا خرافة. ؟ وثانيا: ان ذيل الآية - وهو قوله تعالى: ولكن لا تشعرون، - لا يناسب هذا المعنى، بل كان المناسب له أن يقال: بل أحياء ببقاء ذكرهم الجميل، وثناء الناس عليهم بعدهم، لانه المناسب لمقام التسلية وتطييب النفس. وثالثا: أن نظيرة هذه الآية - وهي تفسرها - وصف حيوتهم بعد القتل بما ينافي هذا المعنى، قال تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) آل عمران - 196، إلى آخر الآيات ومعلوم أن هذه الحيوة حيوة خارجية حقيقية ليست بتقديرية. ورابعا: ان الجهل بهذه الحيوة التي بعد الموت ليس بكل البعيد من بعض المسلمين في اواسط عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن الذي هو نص غير قابل للتأويل انما هو البعث للقيمة، واما ما بين الموت إلى الحشر - وهي الحيوة البرزخية - فهي وان كانت من جملة ما بينه القرآن من المعارف الحقة، لكنها ليست من ضروريات القرآن، والمسلمون غير مجمعين عليه بل ينكره بعضهم حتى اليوم ممن يعتقد كون النفس غير مجردة عن المادة وان الانسان يبطل وجوده بالموت وانحلال التركيب، ثم يبعثه الله إلى القضاء يوم القيمة، فيمكن ان يكون المراد بيان حيوة الشهداء في البرزخ لمكان جهل بعض المؤمنين بذلك، وان علم به آخرون.

[ 347 ]

ولجملة: المراد بالحياة في الآية الحيوة الحقيقية دون التقديرية، وقد عد الله سبحانه حيوة الكافر بعد موته هلاكا وبوارا في مواضع من كلامه، كقوله تعالى: (واحلوا قومهم دار البوار) إبراهيم - 28، إلى غير ذلك من الايات، فالحياة حياة السعادة، والاحياء بهذه الحيوة المؤمنون خاصة كما قال: (وإن الدار الاخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) العنكبوت - 64، وانما لم يعلموا، لان حواسهم مقصورة على ادراك خواص الحيوة في المادة الدنيوية، وأما ما ورائها فإذا لم يدركوه لم يفرقوا بينه وبين الفناء فتوهموه فنائا، وما توهمه الوهم مشترك بين المؤمن والكافر في الدنيا، فلذلك قال: في هذه الآية، بل احياء ولكن لا تشعرون أي: بحواسكم، كما قال في الآية الاخرى: لهي الحيوان لو كانوا يعلمون، أي باليقين كما قال تعالى: (كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم) التكاثر - 6. فمعنى الآية - والله اعلم - ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات، ولاتعتقدوا فيهم الفناء والبطلان كما يفيده لفظ الموت عندكم، ومقابلته مع الحياة، وكما يعين على هذا القول حواسكم فليسوا باموات بمعنى البطلان، بل احياء ولكن حواسكم لا تنال ذلك ولا تشعر به، وإلقاء هذا القول على المؤمنين - مع انهم جميعا أو أكثرهم عالمون ببقاء حيوة الانسان بعد الموت، وعدم بطلان ذاته - انما هو لايقاظهم وتنبيههم بما هو معلوم عندهم، يرتفع بالالتفات إليه الحرج عن صدورهم، والاضطراب والقلق عن قلوبهم إذا أصابتهم مصيبة القتل، فانه لا يبقى مع ذلك من آثار القتل عند اولياء القتيل الا مفارقة في ايام قلائل في الدنيا وهو هين في قبال مرضاة الله سبحانه وما ناله القتيل من الحيوة الطيبة، والنعمة المقيمة، ورضوان من الله اكبر، وهذا نظير خطاب النبي بمثل قوله تعالى: الحق من ربك فلا تكونن من الممترين الاية، مع انه صلى الله عليه وآله وسلم اول الموقنين بآيات ربه، ولكنه كلام كني به عن وضوح المطلب، وظهوره بحيث لا يقبل أي خطور نفساني لخلافه.

نشاة البرزخ

فالاية تدل دلالة واضحة على حيوة الانسان البرزخية، كالاية النظيرة لها وهى

[ 348 ]

قوله: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون) آل عمران - 169، والايات في ذلك كثيرة. ومن اعجب الامر ما ذكره بعض الناس في الاية: انها نزلت في شهداء بدر، فهي مخصوصة بهم فقط، لا تتعداهم إلى غيرهم هذا، ولقد احسن بعض المحققين: من المفسرين في تفسير قوله: واستعينوا بالصبر والصلاة الاية، إذ سئل الله تعالى الصبر على تحمل أمثال هذه الاقاويل. وليت شعري ما ذا يقصده هؤلاء بقولهم هذا ؟ وعلى أي صفة يتصورون حيوة شهداء بدر بعد قتلهم مع قولهم: بانعدام الانسان بعد الموت والقتل، وانحلال تركيبه وبطلانه ؟ أهو على سبيل الاعجاز: باختصاصهم من الله بكرامة لم يكرم بها النبي الاكرم وسائر الانبياء والمرسلين والاولياء المقربين، إذ خصهم الله ببقاء وجودهم بعد الانعدام، فليس ذلك بإعجاز بل ايجاد محال ضروري الاستحالة، ولا إعجاز في محال، ولو جاز عند العقل إبطال هذا الحكم على بداهتها لم يستقم حكم ضروري فما دونه ؟ ام هو على نحو الاستثناء في حكم الحس بان يكون الحس مخطئا في أمر هؤلاء الشهداء ؟ فهم أحياء يرزقون بالاكل والشرب وسائر التمتعات - وهم غائبون عن الحس - وما ناله الحس من أمرهم بالقتل وقطع الاعضاء وسقوط الحس وانحلال التركيب فقد اخطأ في ذلك من رأس، فلو جاز على الحس أمثال هذه الاغلاط فيصيب في شئ ويغلط في آخر من غير مخصص بطل الوثوق به على الاطلاق، ولو كان المخصص هو الارادة الالهية احتاج تعلقها إلى مخصص آخر، والاشكال - وهو عدم الوثوق بالادراك على حاله، فكان من الجائز أن نجد ما ليس بواقع، واقعا والواقع ليس بواقع وكيف يرضى عاقل ان يتفوه بمثل ذلك ؟ وهل هو إلا سفسطة. وقد سلك هؤلاء في قولهم هذا مسلك العامة من المحدثين، حيث يرون أن الامور الغائبة عن حواسنا مما يدل عليه الظواهر الدينية من الكتاب والسنة، كالملائكة وارواح المؤمنين وساير ما هو من هذا القبيل موجودات مادية طبيعية، وأجسام لطيفة تقبل الحلول والنفوذ في الاجسام الكثيفة، على صورة الانسان ونحوه، يفعل جميع الافعال الانسانية مثلا، ولها امثال القوى التي لنا غير أنها ليست محكومة بأحكام

[ 349 ]

الطبيعة: من التغير والتبدل والتركيب وانحلاله، والحيوة والموت الطبيعيتين، فإذا شاء الله تعالى ظهورها ظهرت لحواسنا، وإذا لم يشأ أو شاء ان لا تظهر لم تظهر، مشية خالصة من غير مخصص في ناحية الحواس، أو تلك الاشياء. وهذا القول منهم مبني على انكار العلية والمعلولية، بين الاشياء ولو صحت هذه الامنية الكاذبة بطلت جميع الحقائق العقلية، والاحكام العلمية، فضلا عن المعارف الدينية ولم تصل النوبة إلى اجسامهم اللطيفة المكرمة التي لا تصل إليها يد التأثير والتأثر المادي الطبيعي، وهو ظاهر. فقد تبين بما مر: أن الآية دالة على الحيوة البرزخية، وهي المسماة بعالم القبر، عالم متوسط بين الموت والقيمة، ينعم فيه الميت أو يعذب حتى تقوم القيمة. ومن الآيات الدالة عليه وهي نظيرة لهذه الآية الشريفة - قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتيهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم الا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) آل عمران - 171، وقد مر تقريب دلالة الاية على المطلوب، ولو تدبر القائل باختصاص هذه الايات بشهداء بدر في متن الايات لوجد أن سياقها يفيد اشتراك سائر المؤمنين معهم في الحيوة. والتنعم بعد الموت. ومن الآيات قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) المؤمنون - 100، والاية ظاهرة الدلالة على أن هناك حيوة متوسطة بين حيوتهم الدنيوية وحيوتهم بعد البعث: وسيجئ تمام الكلام في الاية إنشاء الله تعالى. ومن الايات قوله تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقائنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة) (ومن المعلوم أن المراد به أول ما يرونهم وهو يوم الموت كما تدل عليه آيات أخر) (لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا. وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا. أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا. ويوم تشقق السماء الغمام

[ 350 ]

(وهو يوم القيمة) ونزل الملائكة تنزيلا. الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا) الفرقان - 26، ودلالتها ظاهرة. وسيأتي تفصيل القول فيها في محله إنشاء الله تعالى. ومن الآيات قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) المؤمن - 11، فهنا إلى يوم البعث - وهو يوم قولهم هذا - إماتتان وإحيائان، ولن تستقيم المعنى إلا بإثبات البرزخ، فيكون إماتة وأحياء في البرزخ وإحياء في يوم القيمة، ولو كان أحد الاحيائين في الدنيا والاخر في الاخرة لم يكن هناك إلا إماتة واحدة من غير ثانية، وقد مر كلام يتعلق بالمقام في قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) البقره - 28، فارجع. ومن الايات قوله تعالى: (وحاق بآل فرعون سوء العذاب. النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب) المؤمن - 46، إذ من المعلوم أن يوم القيمة لا بكرة فيه ولا عشى فهو يوم غير اليوم. والآيات التي تستفاد منها هذه الحقيقة القرآنية، أو تؤمي إليها كثيرة، كقوله تعالى: (تالله لقد أرسلنا إلى امم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم) النحل - 63، إلى غير ذلك.

(تجرد النفس)

ويتبين بالتدبر في الآية، وسائر الآيات التي ذكرناها حقيقة أخرى أوسع من ذلك، وهي تجرد النفس، بمعنى كونها أمرا وراء البدن وحكمها غير حكم البدن وسائر التركيبات الجسمية، لها نحو اتحاد بالبدن تدبرها بالشعور والارادة وسائر الصفات الادراكية، والتدبر في الآيات السابقة الذكر يجلي هذا المعنى فإنها تفيد أن الانسان بشخصه ليس بالبدن، لا يموت يموت البدن، ولا يفنى بفنائه، وانحلال تركيبه وتبدد أجزائه، وأنه يبقى بعد فناء البدن في عيش هنئ دائم، ونعيم مقيم، أو في شقاء لازم، وعذاب أليم، وأن سعادته في هذه العيشة، وشقائه فيها مرتبطة بسنخ ملكاتة وأعماله، لا بالجهات الجسمانية والاحكام الاجتماعية.

[ 351 ]

فهذه معان تعطيها هذه الآيات الشريفة، وواضح أنها أحكام تغاير الاحكام الجسمانية، وتتنافى الخواص المادية الدنيوية من جميع جهاتها، فالنفس الانسانية غير البدن. ومما يدل عليه من الايات قوله تعالى: (الله يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الاخرى) الزمر - 42، والتوفي والاستيفاء هو أخذ الحق بتمامه وكماله، وما تشتمل عليه الاية: من الاخذ والامساك والارسال ظاهر في المغايرة بين النفس والبدن. ومن الآيات قوله تعالى: (وقالوا أئذا ضللنا في الارض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون) السجدة - 11، ذكر سبحانه شبهة من شبهات الكفار المنكرين للمعاد، وهو انا بعد الموت وانحلال تركيب أبداننا تتفرق أعضاؤنا، وتبدد أجزاؤنا، وتتبدل صورنا فنضل في الارض، ويفقدنا حواس المدركين، فكيف يمكن أن نقع ثانيا في خلق جديد ؟ وهذا استبعاد محض، وقد لقن تعالى على رسوله الجواب عنه، بقوله: قل: يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم الاية، وحاصل الجواب أن هناك ملكا موكلا بكم هو يتوفيكم ويأخذكم، ولا يدعكم تضلوا وأنتم في قبضته وحفاظته، وما تضل في الارض إنما هو أبدانكم لا نفوسكم التي هي المدلول عليها بلفظ، كم، فإنه يتوفيكم. ومن الآيات قوله تعالى: (ونفخ فيه من روحه الاية) السجدة - 9، ذكره في خلق الانسان ثم قال تعالى: (يسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربى) الاسراء - 85، فأفاد أن الروح من سنخ أمره، ثم عرف الامر في قوله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ) يس - 83، فأفاد أن الروح من الملكوت، وأنها كلمة، كن، ثم عرف الامر بتوصيفه بوصف آخر بقوله: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) القمر - 50، والتعبير بقوله: كلمح بالبصر يعطي أن الامر الذي هو كلمة، كن، موجود دفعي الوجود غير تدريجية، فهو يوجد من غير اشتراط وجوده وتقييده بزمان أو مكان، ومن هنا يتبين أن الامر - ومنه الروح شئ غير جسماني ولا مادي، فإن الموجودات المادية الجسمانية من

[ 352 ]

أحكامها العامة أنها تدريجية الوجود، مقيدة بالزمان والمكان، فالروح التي للانسان ليست بمادية جسمانية، وإن كان لها تعلق بها. وهناك آيات تكشف عن كيفية هذا التعلق، فقد قال تعالى: (منها خلقناكم) طه - 55، وقال تعالى: خلق الانسان من صلصال كالفخار) الرحمن - 14، وقال تعالى (وبدا خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) السجدة - 8، ثم قال: سبحانه وتعالى (ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم انشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) المؤمنون - 14، فأفاد أن الانسان لم يكن إلا جسما طبيعيا يتوارد عليه صور مختلفة متبدلة، ثم أنشأ الله هذا الذي هو جسم جامد خامد خلقا آخر ذا شعور وإرادة، يفعل أفعالا: من الشعور والاردة والفكر والتصرف في الاكوان، والتدبير في امور العالم بالنقل والتبديل والتحويل إلى غير ذلك مما لا يصدر عن الاجسام والجسمانيات، فلا هي جسمانية، ولا موضوعها الفاعل لها. فالنفس بالنسبة إلى الجسم الذي ينتهي أمره إلى إنشائها - وهو البدن الذي تنشأ منه النفس - بمنزلة الثمرة من الشجرة والضوء من الدهن بوجه بعيد، وبهذا يتضح كيفية تعلقها بالبدن ابتداعا، ثم بالموت تنقطع العلقة، وتبطل المسكة، فهي في أول وجودها عين البدن، ثم تمتاز بالانشاء منه، ثم تستقل عنه بالكلية فهذا ما تفيده الايات الشريفة المذكورة بظهورها: وهناك آيات كثيرة تفيد هذه الحقيقة بالايماء والتلويح، يعثر عليها المتدبر البصير، والله الهادي. قوله تعالى: ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات، لما أمرهم الله بالاستعانة بالصبر والصلوة ونهاهم عن القول بموت من يقتل منهم في سبيل الله بل هم أحياء بين لهم السبب الذي من أجله خاطبهم بما خاطب، وهو أنهم سيبتلون بما لا يتمهد لهم المعالي ولا يصفو لهم الامر في الحيوة الشريفة والدين الحنيف إلا به، وهو الحرب والقتال، لا يدور رحى النصر والظفر على مرادهم إلا أن يتحصنوا بهذين الحصنين ويتأيدوا بهاتين القوتين، وهما الصبر والظفر، ويضيفوا إلى ذلك ثالثا وهو خصلة ما حفظها قوم إلا ظفروا بأقصى مرادهم وحازوا الغاية

[ 353 ]

القصوى من كمالهم، واشتد بأسهم وطابت نفسهم، وهو الايمان بأن القتيل منهم غير ميت ولا فقيد، وأن سعيهم بالمال والنفس غير ضائع ولا باطل، فإن قتلوا عدوهم فهم على الحيوة، وقد أبادوا عدوهم وما كان يريده من حكومة الجور والباطل عليهم - وإن قتلهم عدوهم فهم على الحيوة - ولم يتحكم الجور والباطل عليهم، فلهم إحدى الحسنيين على أي حال. وعامة الشدائد التي يأتي بها هو الخوف والجوع ونقص الاموال والانفس فذكرها الله تعالى، وأما الثمرات فالظاهر أنها الاولاد فإن تأثير الحرب في قلة النسل بموت الرجال والشبان أظهر من تأثيره في نقص ثمرات الاشجار، وربما قيل: إن المراد ثمرات النخيل، وهي التمر والمراد بالاموال غيرها وهي الدواب من الابل والغنم. قوله تعالى: وبشر الصابرين الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا إليه راجعون، اعاد ذكر الصابرين ليبشرهم اولا، ويبين كيفية الصبر بتعليم ما هو الصبر الجميل ثانيا، ويظهر به حق الامر الذي يقضي بوجوب الصبر وهو ملكه تعالى للانسان - ثالثا، ويبين جزائه العام - وهو الصلوة والرحمة والاهتداء - رابعا، فأمر تعالى نبيه اولا بتبشيرهم، ولم يذكر متعلق البشارة لتفخيم امره فانها من الله سبحانه فلا تكون الا خيرا وجميلا، وقد ضمنها رب العزة، ثم بين ان الصابرين هم الذين يقولون: كذا وكذا عند إصابة المصيبة وهي الواقعة التي تصيب الانسان، ولا يستعمل لفظ المصيبة الا في النازلة المكروهة، ومن المعلوم ان ليس المراد بالقول مجرد التلفظ بالجملة من غير حضور معناها بالبال، ولا مجرد الاخطار من غير تحقق بحقيقة معناها، وهي أن الانسان مملوك لله بحقيقة الملك، وان مرجعه إلى الله سبحانه وبه يتحقق أحسن الصبر الذي يقطع منابت الجزع والاسف، ويغسل رين الغفلة. بيانه أن وجود الانسان وجميع ما يتبع وجودة، من قواه وأفعاله قائم الذات بالله الذي هو فاطره وموجده فهو قائم به مفتقر ومستند إليه في جميع أحواله من حدوث وبقاء غير مستقل دونه، فلربه التصرف فيه كيف شاء وليس للانسان من

[ 354 ]

الامر شئ إذ لا استقلال له بوجه أصلا فله الملك في وجوده وقواه وأفعاله حقيقة. ثم إنه تعالى ملكه بالاذن نسبة ذاته، ومن هناك يقال: للانسان وجود، وكذا نسبة قواه وأفعاله ومن هناك يقال: للانسان قوى كالسمع والبصر، ويقال: للانسان أفعال كالمشى والنطق، والاكل والشرب، ولو لا الاذن الالهي لم يملك الانسان ولا غيره من المخلوقات نسبة من هذه النسب الظاهرة، لعدم استقلال في وجودها من دون الله أصلا. وقد أخبر سبحانه: أن الاشياء سيعود إلى حالها قبل الاذن ولا يبقي ملك إلا لله وحده، قال تعالى: (لمن الملك اليوم. لله الواحد القهار) المؤمن - 16، وفيه رجوع الانسان بجميع ما له ومعه إلى الله سبحانه. فهناك ملك حقيقي هو لله سبحانه لا شريك له فيه، لا الانسان ولا غيره، وملك ظاهري صوري كملك الانسان نفسه وولده وماله وغير ذلك، وهو لله سبحانه حقيقة، وللانسان بتمليكه تعالى في الظاهر مجازا، فإذا تذكر الانسان حقيقة ملكه تعالى، ونسبه إلى نفسه فوجد نفسه ملكا طلقا لربه، وتذكر أيضا ان الملك الظاهري فيما بين الانسان ومن جملتها ملك نفسه لنفسه وماله وولده سيبطل فيعود راجعا إلى ربه وجد أنه بالاخرة لا يملك شيئا أصلا لا حقيقة ولا مجازا، وإذا كان كذلك لم يكن معنى للتأثر عن المصائب الموجبة للتأثر عند إصابتها فإن التأثر إنما يكون من جهة فقد الانسان شيئا مما يملكه، حتى يفرح بوجدانه، ويحزن بفقدانه، وأما إذا أذعن واعتقد أنه لا يملك شيئا لم يتأثر ولم يحزن، وكيف يتأثر من يؤمن بأن الله له الملك وحده يتصرف في ملكه كيف يشاء ؟

(الاخلاق)

 إعلم أن إصلاح أخلاق النفس وملكاتها في جانبي العلم والعمل، واكتساب الاخلاق الفاضلة، وإزالة الاخلاق الرذيلة انما هو بتكرار الاعمال الصالحة المناسبة لها ومزاولتها، والمداومة عليها، حتى تثبت في النفس من الموارد الجزئية علوم جزئية، وتتراكم وتنتقش في النفس انتقاشا متعذر الزوال أو متعسرها، مثلا إذا أراد الانسان

[ 355 ]

إزالة صفة الجبن واقتناء ملكة الشجاعة كان عليه أن يكرر الورود في الشدائد والمهاول التي تزلزل القلوب وتقلقل الاحشاء، وكلما ورد في مورد منها وشاهد أنه كان يمكنه الورود فيه وأدرك لذة الاقدام وشناعة الفرار والتحذر انتقشت نفسه بذلك انتقاشا بعد انتقاش حتى تثبت فيها ملكة الشجاعة، وحصول هذه الملكة العلمية وإن لم يكن في نفسه بالاختيار لكنه بالمقدمات الموصلة إليه كما عرفت اختياري كسبي. إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن الطريق إلى تهذيب الاخلاق واكتساب الفاضلة منها أحد مسلكين: المسلك الاول: تهذيبها بالغايات الصالحة الدنيوية، والعلوم والآراء المحمودة عند الناس كما يقال: إن العفة وقناعة الانسان بما عنده والكف عما عند الناس توجب العزة والعظمة في أعين الناس والجاه عند العامة، وإن الشره يوجب الخصاصة والفقر، وإن الطمع يوجب ذلة النفس المنيعة، وإن العلم يوجب إقبال العامة والعزة والوجاهة والانس عند الخاصة، وإن العلم بصر يتقى به الانسان كل مكروه، ويدرك كل محبوب وإن الجهل عمى، وإن العلم يحفظك وانت تحفظ المال، وإن الشجاعة ثبات يمنع النفس عن التلون والحمد من الناس على أي تقدير سواء غلب الانسان أو غلب عليه بخلاف الجبن والتهور، وإن العدالة راحة النفس عن الهمم المؤذية، وهي الحيوة بعد الموت ببقاء الاسم وحسن الذكر وجميل الثناء والمحبة في القلوب. وهذا هو المسلك المعهود الذي رتب عليه علم الاخلاق، والمأثور من بحث الاقدمين من يونان وغيرهم فيه. لم يستعمل القرآن هذا المسلك الذي بنائه على انتخاب الممدوح عند عامة الناس عن المذموم عندهم، والاخذ بما يستحسنه الاجتماع وترك ما يستقبحه، نعم ربما جرى عليه كلامه تعالى فيما يرجع بالحقيقة إلى ثواب أخروي أو عقاب أخروي كقوله تعالى: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة) البقرة - 150، دعا سبحانه إلى العزم والثبات، وعلله بقوله: لئلا يكون، وكقوله تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا) الانفال - 46، دعا سبحانه إلى الصبر وعلله بأن تركه وإيجاد النزاع يوجب الفشل وذهاب الريح وجرئة العدو، وقوله تعالى (ولمن

[ 356 ]

صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور) الشورى - 43، دعا إلى الصبر العفو، وعلله بالعزم و الاعظام. المسلك الثاني: الغايات الاخروية، وقد كثر ذكرها في كلامه تعالى كقوله سبحانه (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) التوبة - 111، وقوله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) الزمر - 10، وقوله تعالى: (إن الظالمين لهم عذاب أليم) إبراهيم - 22، وقوله تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) البقرة - 257، وأمثالها كثيرة على اختلاف فنونها. ويلحق بهذا القسم نوع آخر من الآيات كقوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير) فإن الآية دعت إلى ترك الاسى والفرح بأن الذي أصابكم ما كان ليخطئكم وما أخطاكم ما كان ليصيبكم لاستناد الحوادث إلى قضاء مقضى وقدر مقدر، فالاسى والفرح لغو لا ينبغي صدوره من مؤمن يؤمن بالله الذي بيده أزمة الامور كما يشير إليه قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه) فهذا القسم من الآيات أيضا نظير القسم السابق الذي يتسبب فيه إلى إصلاح الاخلاق بالغايات الشريفة الاخروية، وهي كمالات حقيقية غير ظنية يتسبب فيه إلى إصلاح الاخلاق بالمبادئ السابقة الحقيقية من القدر والقضاء والتخلق بأخلاق الله والتذكر بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا ونحو ذلك. فان قلت: التسبب بمثل القضاء والقدر يوجب بطلان أحكام هذه النشأة الاختيارية وفي ذلك بطلان الاخلاق الفاضلة واختلال نظام هذه النشأة الطبيعية، فإنه لو جاز الاستناد في إصلاح صفة الصبر والثبات وترك الفرح والاسى كما استفيد من الآية السابقة إلى كون الحوادث مكتوبة في لوح محفوظ، ومقضية بقضاء محتوم أمكن الاستناد إلى ذلك في ترك طلب الرزق، وكسب كل كمال مطلوب، والاتقاء عن كل رذيلة خلقية وغير ذلك، فيجوز حينئذ أن نقعد عن طلب الرزق، والدفاع عن الحق، ونحو ذلك بأن الذي سيقع منه مقضي مكتوب، وكذا يجوز أن نترك السعي

[ 357 ]

في كسب كل كمال، وترك كل نقص بالاستناد إلى حتم القضاء وحقيقة الكتاب، وفي ذلك بطلان كل كمال. قلت: قد ذكرنا في البحث عن القضاء، ما يتضح به الجواب عن هذا الاشكال، فقد ذكرنا ثم أن الافعال الانسانية من أجزاء علل الحوادث، ومن المعلوم أن المعاليل والمسببات يتوقف وجودها على وجود أسبابها وأجزاء أسبابها، فقول القائل: إن الشبع إما مقضي الوجود، وإما مقضي العدم، وعلى كل حال فلا تأثير للاكل غلط فاحش، فإن الشبع فرض تحققه في الخارج لا يستقيم إلا بعد فرض تحقق الاكل الاختياري الذي هو أحد أجزاء علله، فمن الخطآ أن يفرض الانسان معلولا من المعاليل، ثم يحكم بإلغاء علله أو شئ من أجزاء علله. فغير جايز أن يبطل الانسان حكم الاختيار الذي عليه مدار حيوته الدنيوية وإليه تنتسب سعادته وشقائة، وهو أحد أجزاء علل الحوادث التي تلحق وجوده من أفعاله أو الاحوال والملكات الحاصلة من إفعاله، غير أنه كما لا يجوز له إخراج إرادته واختياره من زمرة العلل، وإبطال حكمه في التأثير، كذلك لا يجوز له أن يحكم بكون اختياره سببا وحيدا، وعلة تامة إليه تستند الحواد، من غير أن يشاركه شئ آخر من أجزاء العالم والعلل الموجودة فيه التي في رأسها الارادة الالهية فإنه يتفرع عليه كثير من الصفات المذمومة كالعجب والكبر والبخل، والفرح والاسى، والغم ونحو ذلك. يقول الجاهل: أنا الذي فعلت كذا وتركت كذا فيعجب بنفسه أو يستكبر على غيره أو يبخل بماله - وهو جاهل بأن بقية الاسباب الخارجة عن اختياره الناقص، وهي ألوف والوف لو لم يمهد له الامر لم يسد اختياره شيئا، ولا أغني عن شئ - يقول الجاهل: لو أني فعلت كذا لما تضررت بكذا، أو لما فات عني كذا، وهو جاهل بأن هذا الفوت أو الموت يستند عدمه - أعني الربح أو العافية، أو الحيوة - إلى ألوف وألوف من العلل يكفي في انعدامها - أعني في تحقق الفوات أو الموت - انعدام واحد منها، وإن كان اختياره موجودا، على أن نفس اختيار الانسان مستند إلى علل كثيرة خارجة عن اختيار الانسان فالاختيار لا يكون بالاختيار.

[ 358 ]

فإذا عرفت ما ذكرنا وهو حقيقة قرآنية يعطيها التعليم الالهي كما مر، ثم تدبرت في الآيات الشريفة التي في المورد وجدت أن القرآن يستند إلى القضاء المحتوم والكتاب المحفوظ في إصلاح بعض الاخلاق دون بعض. فما كان من الافعال أو الاحوال والملكات يوجب استنادها إلى القضاء والقدر إبطال حكم الاختيار فإن القرآن لا يستند إليه، بل يدفعه كل الدفع كقوله تعالى: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليه آبائنا والله أمرنا بها قل ان الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون) الاعراف - 28. وما كان منها يوجب سلب استنادها إلى القضاء إثبات استقلال اختيار الانسان في التأثير، وكونه سببا تاما غير محتاج في التأثير، ومستغنيا عن غيره، فإنه يثبت إستناده إلى القضاء ويهدي الانسان إلى مستقيم الصراط الذي لا يخطئ بسالكه، حتى ينتفي عنه رذائل الصفات التي تتبعه كإسناد الحوادث إلى القضاء كي لا يفرح الانسان بما وجده جهلا، ولا يحزن بما فقده جهلا كما في قوله تعالى: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) النور - 33، فإنه يدعو إلى الجود بإسناد المال إلى إيتاء الله تعالى، وكما في قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) البقرة - 3، فإنه يندب إلى الانفاق بالاستناد إلى أنه من رزق الله تعالى، وكما في قوله تعالى: فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) الكهف - 7، نهى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن والغم استنادا إلى أن كفرهم ليس غلبة منهم على الله سبحانه بل ما على الارض من شئ أمور مجعولة عليها للابتلاء والامتحان إلى غير ذلك. وهذا المسلك أعنى الطريقة الثانية في إصلاح الاخلاق طريقة الانبياء، ومنه شئ كثير في القرآن، وفيما ينقل إلينا من الكتب السماوية. وهيهنا مسلك ثالث مخصوص بالقرآن الكريم لا يوجد في شئ مما نقل إلينا من الكتب السماوية، وتعاليم الانبياء الماضين سلام الله عليهم أجمعين، ولا في المعارف المأثورة من الحكماء الالهيين، وهو تربية الانسان وصفا وعلما باستعمال علوم ومعارف لا يبقى معها موضوع الرذائل، وبعبارة أخرى إزالة الاوصاف الرذيلة بالرفع لا بالدفع.

[ 359 ]

وذلك كما أن كل فعل يراد به غير الله سبحانه فالغاية المطلوبة منه إما عزة في المطلوب يطمع فيها، أو قوة يخاف منها ويحذر عنها، لكن الله سبحانه يقول: (إن العزة لله جميعا) يونس - 65، ويقول: (أن القوة لله جميعا) البقرة - 165، والتحقق بهذا العلم الحق لا يبقى موضوعا لرياء، ولا سمعة، ولا خوف من غير الله، ولا رجاء لغيره، ولا ركون إلى غيره، فهاتان القضيتان إذا صارتا معلومتين للانسان تغسلان كل ذميمة وصفا أو فعلا عن الانسان وتحليان نفسه بحلية ما يقابلها من الصفات الكريمة الالهية من التقوى بالله، والتعزز بالله وغيرهما من مناعة وكبرياء واستغناء وهيبة إلهية ربانية. وأيضا قد تكرر في كلامه تعالى: أن الملك لله، وأن له ملك السموات والارض وأن له ما في السموات والارض وقد مر بيانه مرارا، وحقيقة هذا الملك كما هو ظاهر لا تبقى لشئ من الموجودات استقلالا دونه، واستغناء عنه بوجه من الوجوه، فلا شئ إلا وهو سبحانه المالك لذاته ولكل ما لذاته، وإيمان الانسان بهذا الملك وتحققه به يوجب سقوط جميع الاشياء ذاتا ووصفا وفعلا عنده عن درجة الاستقلال، فهذا الانسان لا يمكنه أن يريد غير وجهه تعالى، ولا أن يخضع لشئ، أو يخاف أو يرجو شيئا، أو يلتذ أو يبتهج بشئ، أو يركن إلى شئ أو يتوكل على شئ أو يسلم لشئ أو يفوض إلى شئ، غير وجهه تعالى، وبالجملة لا يريد ولا يطلب شيئا الا وجهه الحق الباقي بعد فناء كل شئ، ولا يعرض إعراضا ولا يهرب إلا عن الباطل الذي هو غيره الذي لا يرى لوجوده وقعا ولا يعبأ به قبال الحق الذي هو وجود باريه جل شأنه. وكذلك قوله تعالى: الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى) طه - 8، وقوله: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ) الانعام - 102، وقوله: (الذي أحسن كل شئ خلقه) السجدة - 7، وقوله: (وعنت الوجوه للحي القيوم) طه - 111، وقوله: (كل له قانتون) البقرة - 116، وقوله: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) الاسراء - 23، وقوله: (أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد) فصلت - 53، وقوله: (إلا إنه بكل شئ محيط) فصلت - 54، وقوله: (وان إلى ربك المنتهى) النجم - 42. ومن هذا الباب الآيات التي نحن فيها وهي قوله تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) إلى آخرها فإن هذه الآيات وأمثالها

[ 360 ]

مشتملة على معارف خاصة إلهية ذات نتائج خاصة حقيقية لا تشابه تربيتها نوع التربية التي يقصدها حكيم أخلاقي في فنه، ولا نوع التربية التي سنها الانبياء في شرائعهم، فإن المسلك الاول كما عرفت مبني على العقائد العامة الاجتماعية في الحسن والقبح والمسلك الثاني مبني على العقائد العامة الدينية في التكاليف العبودية ومجازاتها، وهذا المسلك الثالث مبني على التوحيد الخالص الكامل الذي يختص به الاسلام على مشرعه وآله أفضل الصلوة هذا. فإن تعجب فعجب قول بعض المستشرقين من علماء الغرب في تاريخه الذي يبحث فيه عن تمدن الاسلام وحاصله: أن الذي يجب للباحث أن يعتني به هو البحث عن شؤن المدنية التي بسطتها الدعوة الدينية الاسلامية بين الناس من متبعيها، والمزايا والخصائص التي خلفها وورثها فيهم من تقدم الحضارة وتعالي المدنية، وأما المعارف الدينية التي يشتمل عليها الاسلام فهي مواد أخلاقية يشترك فيها جميع النبوات، ويدعو إليها جميع الانبياء هذا. وأنت بالاحاطة بما قدمناه من البيان تعرف سقوط نظره، وخبط رأيه فإن النتيجة فرع لمقدمتها، والآثار الخارجية المترتبة على التربية إنما هي مواليد ونتائج لنوع العلوم والمعارف التي تلقاها المتعلم المتربي، وليسا سواء قول يدعو إلى حق نازل وكمال متوسط وقول يدعو إلى محض الحق وأقصى الكمال، وهذا حال هذا المسلك الثالث، فأول المسالك يدعو إلى الحق الاجتماعي، وثانيها يدعو إلى الحق الواقعي والكمال الحقيقي الذي فيه سعادة الانسان في حيوتة لآخرة، وثالثها يدعو إلى الحق الذي هو الله، ويبني تربيته على أن الله سبحانه واحد لا شريك له، وينتج العبودية المحضة، وكم بين المسالك من فرق ! وقد أهدى هذا المسلك إلى الاجتماع الانساني جما غفيرا من العباد الصالحين، والعلماء الربانيين، والاولياء المقربين رجالا ونساء، وكفى بذلك شرفا للدين. على أن هذا المسلك ربما يفترق عن المسلكين الآخرين بحسب النتائج، فإن بنائه على الحب العبودي، وايثار جانب الرب على جانب العبد، ومن المعلوم أن الحب والوله والتيم ربما يدل الانسان المحب على امور لا يستصوبه العقل الاجتماعي الذي هو ملاك

[ 361 ]

خلاق الاجتماعية، أو الفهم العام العادي الذي هو إساس التكاليف العامة الدينية، فللعقل أحكام، وللحب إحكام، وسيجئ توضيح هذا المعنى في بعض الابحاث الآتية إنشاء الله تعالى. قوله تعالى: أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون الآية. التدبر في الآية يعطي أن الصلوة غير الرحمة بوجه، ويشهد به جمع الصلوة وإفراد الرحمة وقد قال تعالى: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما) الاحزاب - 43، والآية تفيد كون قوله: (وكان بالمؤمنين رحيما، في موقع العلة لقوله: هو الذي يصلي عليكم، والمعنى انه انما يصلي عليكم، وكان من اللازم المترقب ذلك، لان عادته جرت على الرحمة بالمؤمنين، وأنتم مؤمنون فكان من شأنكم أن يصلي عليكم حتى يرحمكم، فنسبة الصلوة إلى الرحمة نسبة المقدمة إلى ذيها وكالنسبة التي بين الالتفات والنظر، والتى بين الالقاء في النار والاحراق مثلا، وهذا يناسب ما قيل في معنى الصلوة: أنها الانعطاف والميل، فالصلوة من الله سبحانه إنعطاف إلى العبد بالرحمة ومن الملائكة إنعطاف إلى الانسان بالتوسط في إيصال الرحمة، ومن المؤمنين رجوع ودعاء بالعبودية وهذا لا ينافي كون الصلوة بنفسها رحمة ومن مصاديقها، فإن الرحمة في القرآن على ما يعطيه التدبرفي مواردها هي العطية المطلقة الالهية، والموهبة العامة الربانية، كما قال تعالى: (ورحمتي وسعت كل شئ) الاعراف - 156، وقال تعالى: (وربك الغني ذو الرحمة إن يشا يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشاكم من ذرية قوم آخرين) الانعام - 133، فالاذهاب لغناه والاستخلاف والانشاء لرحمتة، وهما جميعا يستندان إلى رحمته كما يستندان إلى غناه فكل خلق وأمر رحمة، كما أن كل خلق وأمر عطية تحتاج إلى غني، قال تعالى: (وما كان عطاء ربك محظورا) الاسراء - 20، وإن عطيته الصلوة فهي أيضا من الرحمة غير أنها رحمة خاصة، ومن هنا يمكن أن يوجه جمع الصلوة وإفراد الرحمة في الآية. قوله تعالى: وأولئك هم المهتدون كأنه بمنزلة النتيجة لقوله: أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، ولذلك جدد اهتدائهم جملة ثانية مفصولة عن الاولى، ولم يقل: صلوات من ربهم ورحمة وهداية، ولم يقل: واولئك هم المهديون بل ذكر قبولهم للهداية بالتعبير بلفظ الاهتداء الذي هو فرع مترتب على الهداية، فقد تبين

[ 362 ]

أن الرحمة هدايتهم إليه تعالى، والصلوات كالمقدمات لهذه الهداية واهتدائهم نتيجة هذه الهداية، فكل من الصلوة والرحمة والاهتداء غير الآخر وإن كان الجميع رحمة بنظر آخر. فمثل هؤلاء المؤمنين في ما يخبره الله من كرامته عليهم مثل صديقك تلقاه وهو يريد دارك، ويسئل عنها يريد النزول بك فتلقاه بالبشر والكرامة، فتورده مستقيم الطريق وأنت معه تسيره، ولا تدعه يضل في مسيره حتى تورده نزله من دارك وتعاهده في الطريق بمأكله ومشربه، وركوبه وسيره، وحفظه من كل مكروه يصيبه فجميع هذه الامور إكرام واحد لانك إنما تريد إكرامه، وكل تعاهد تعاهد وإكرام خاص والهداية غير الاكرام، وغير التعاهد، وهو مع ذلك إكرام فكل منها تعاهد وكل منها هداية وكل منها إكرام خاص، والجميع إكرام، فالاكرام الواحد العام بمنزلة الرحمة والتعاهدات في كل حين بمنزلة الصلوات، والنزول في الدار بمنزلة الاهتداء. والاتيان بالجملة الاسمية في قوله: واولئك هم المهتدون، والابتداء باسم الاشاره الدال على البعيد، وضمير الفصل ثانيا وتعريف الخبر بلام الموصول في قوله: المهتدون كل ذلك لتعظيم أمرهم وتفخيمه - والله أعلم -.

(بحث روائي)

في البرزخ وحيوة الروح بعد الموت

في تفسير القمي عن سويد بن غفلة عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: إن ابن آدم إذا كان في آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة مثل له ماله وولده وعمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: والله إني كنت عليك لحريصا شحيحا، فما لي عندك ؟ فيقول: خذ مني كفنك، ثم يلتفت إلى ولده فيقول: والله إني كنت لكم لمحبا، وإني كنت عليكم لحاميا، فما ذا لي عندكم ؟ فيقولون: نؤديك إلى حفرتك ونواريك فيها، ثم يلتفت إلى عمله فيقول: والله إني كنت فيك لزاهدا، وإنك كنت علي لثقيلا، فما ذا عندك ؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم حشرك، حتى أعرض أنا وأنت على ربك، فإن

[ 363 ]

كان لله وليا أتاه أطيب الناس ريحا وأحسنهم منظرا، وأزينهم رياشا، فيقول: بشر بروح من الله وريحان وجنة نعيم، قد قدمت خير مقدم، فيقول: من أنت ؟ فيقول: أنا عملك الصالح، ارتحل من الدنيا إلى الجنة، وإنه ليعرف غاسلة، ويناشد حامله أن يعجله. فإذا دخل قبره أتاه ملكان، وهما فتانا القبر، يحبران أشعارهما، ويحبران الارض بأنيابهما، وأصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربك، ومن نبيك ؟ وما دينك ؟ فيقول: الله ربي، ومحمد نبيي، والاسلام ديني، فيقولان: ثبتك الله فيما تحب وترضى، وهو قول الله: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا الآية، فيفسحان له في قبره مد بصره، ويفتحان له بابا إلى الجنة، ويقولان: نم قرير العين نوم الشاب الناعم، وهو قوله: أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا. وإذا كان لربه عدوا فإنه يأتيه أقبح خلق الله رياشا، وأنتنه ريحا، فيقول له أبشر بنزل من حميم، وتصميه جحيم، وإنه ليعرف غاسله، ويناشد حامله أن يحبسه، فإذا أدخل قبره أتيا ممتحنا القبر، فألفيا عنه أكفانه ثم قالا له، من ربك ؟ ومن نبيك ؟ وما دينك ؟ فيقول: لا أدري فيقولان له: ما دريت ولا هديت، فيضربانه بمرزبه ضربة، ما خلق الله دابة إلا وتذعر لها ما خلا الثقلان، ثم يفتحان له بابا إلى النار، ثم يقولان له: نم بشر حال، فيبوء من الضيق مثل ما فيه القنا من الزج، حتى أن دماغه يخرج من بين ظفره ولحمه، ويسلط الله عليه حيات الارض وعقاربها وهوامها تنهشه حتى يبعثه الله من قبره، وأنه ليتمنى قيام الساعة مما هو فيه من الشر. وفي منتخب البصائرعن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر عليه السلام قال: لا يسئل في القبر إلا من محض الايمان محضا، أو محض الكفر محضا فقلت له: فسائر الناس ؟ فقال: يلهى عنهم. وفي أمالي الشيخ عن ابن ظبيان قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فقال: ما يقول الناس في أرواح المؤمنين بعد موتهم ؟ قلت: يقولون في حواصل طيور خضر ؟ فقال: سبحان الله، المؤمن أكرم على الله من ذلك ! إذا كان ذلك أتاه رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليه السلام، ومعهم ملائكة الله عز وجل المقربون، فان

[ 364 ]

أنطق الله لسانه بالشهادة له بالتوحيد، وللنبي بالنبوة، والولاية لاهل البيت، شهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام والملائكة المقربون معهم وإن اعتقل لسانه خص الله نبيه بعلم ما في قلبمن ذلك، فشهد به، وشهد على شهادة النبي: علي وفاطمة والحسن والحسين - على جماعتهم من الله أفضل السلام - ومن حضر معهم من الملائكة فإذا قبضه الله إليه صير تلك الروح إلى الجنة، في صورة كصورته، فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة التي كانت في الدنيا. وفي المحاسن عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ذكر الارواح، أرواح المؤمنين فقال يلتقون، قلت: يلتقون ؟ قال: نعم يتسائلون و يتعارفون حتى إذا رأيته قلت: فلان. وفي الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحب، ويستر عنه ما يكره، وإن الكافر ليزور أهله، فيرى ما يكره، ويستر عنه ما يحب، قال: منهم من يزور كل جمعه، ومنهم من يزور على قدر عمله. وفي الكافي عن الاصادق عليه السلام: أن الارواح في صفة الاجساد في شجر من الجنة، تعارف وتسائل، فإذا قدمت الروح على الارواح تقول: دعوها، فإنها قد أقبلت من هول عظيم ثم يسئلونها ما فعل فلان، وما فعل فلان، فإن قالت لهم: تركته حيا ارتجوه، وإن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد هوى هوى اقول: والروايات في باب البرزخ كثيرة، وإنما نقلنا ما فيه جوامع معنى البرزخ، وفي المعاني المنقولة روايات مستفيضة كثيرة، وفيها دلالة على نشأة مجردة عن المادة

(بحث فلسفي)

 هل النفس مجردة عن الماده ؟ (ونعني بالنفس ما يحكى عنه كل واحد منا بقوله، أنا، وبتجردها عدم كونها أمرا ماديا ذا انقسام وزمان ومكان.

[ 365 ]

إنا لا نشك في أنا نجد من أنفسنا مشاهدة معنى نحكي عنه: بأنا، ولا نشك أن كل إنسان هو مثلنا في هذه المشاهدة التي لا نغفل عنه حينا من أحيان حيوتنا وشعورنا، وليس هو شيئا من أعضائنا، وأجزاء بدننا التي نشعر بها بالحس أو بنحو من الاستدلال كأعضائنا الظاهرة المحسوسة بالحواس الظاهرة من البصر واللمس ونحو ذلك، وأعضائنا الباطنة التي عرفناها بالحس والتجربة، فإنا ربما نغفل عن كل واحد منها وعن كل مجموع منها حتى عن مجموعها التام الذي نسميه بالبدن، ولا نغفل قط عن المشهود الذي نعبر عنه: بأنا، فهو غير البدن وغير أجزائه. وأيضا لو كان هو البدن أو شيئا من أعضائه أو أجزائه: أو خاصة من الخواص الموجودة فيها - وهى جميعا مادية، ومن حكم المادة التغير التدريجي وقبول الانقسام والتجزي - لكان ماديا متغيرا وقابلا للانقسام وليس كذلك فإن كل أحد أذا رجع إلى هذه المشاهدة النفسانية اللازمة لنفسه، وذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أول شعوره بنفسه وجده معنى مشهودا واحدا باقيا على حاله من غير أدنى تعدد وتغير، كما يجد بدنه وأجزاء بدنه، والخواص الموجودة معها متغيرة متبدلة من كل جهة، في مادتها وشكلها، وسائر أحوالها وصورها، وكذا وجده معنى بسيطا غير قابل للانقسام والتجزي، كما يجد البدن، وأجزائه وخواصه - وكل مادة وأمر مادي كذلك - فليست النفس هي البدن، ولا جزءا من أجزائه، ولا خاصة من خواصه، سواء أدركناه بشئ من الحواس أو بنحو من الاستدلال، أو لم ندرك، فإنها جميعا مادية كيفما فرضت، ومن حكم المادة التغير، وقبول الانقسام، والمفروض أن ليس في مشهودنا المسمى بالنفس شئ من هذه الاحكام فليست النفس بمادية بوجه. وأيضا هذا الذي نشاهده نشاهده أمرا واحدا بسيطا ليس فيه كثرة من الاجزاء ولا خليط من خارج بل هو واحد صرف فكل إنسان يشاهد ذلك من نفسه ويرى أنه هو وليس بغيره فهذا المشهود أمر مستقل في نفسه، لا ينطبق عليه حد المادة ولا يوجد فيه شئ من أحكامها اللازمة، فهو جوهر مجرد عن المادة، متعلق بالبدن نحو تعلق يوجب اتحادا ما له بالبدن وهو التعلق التدبيري وهو المطلوب. وقد أنكر تجرد النفس جميع الماديين، وجمع من الالهيين من المتكلمين، والظاهريين

[ 366 ]

من المحدثين، واستدلوا على ذلك، وردوا ما ذكر من البرهان بما لا يخلو عن تكلف من غير طائل. قال الماديون: إن الابحاث العلمية على تقدمها وبلوغها اليوم إلى غاية الدقة في فحصها وتجسسها لم تجد خاصة من الخواص البدنية إلا وجدت علتها الماديه، ولم تجد أثرا روحيا لا يقبل الانطباق على قوانين المادة حتى تحكم بسببها بوجود روح مجردة. قالوا: وسلسلة الاعصاب تؤدي الادراكات إلى العضو المركزي وهو الجزء الدماغي على التوالي وفي نهاية السرعة، ففيه مجموعة متحدة ذات وضع واحد لا يتميز أجزائها ولا يدرك بطلان بعضها، وقيام الآخر مقامه، وهذا الواحد المتحصل هو نفسنا التي نشاهدها، ونحكي عنها بأنا، فالذي نرى أنه غير جميع أعضائنا صحيح إلا أنه لا يثبت أنه غير البدن وغير خواصه، بل هو مجموعة متحدة من جهة التوالي والتوارد لا نغفل عنه، فإن لازم الغفلة عنه على ما تبين بطلان الاعصاب ووقوفها عن أفعالها وهو الموت، والذي نرى أنه ثابت، صحيح لكنه لا من جهة ثباته وعدم تغيره في نفسه بل الامر مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الادراكية وسرعة ورودها، كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب ويخرج من جانب بما يساويه وهو مملوء دائما، فما فيه من الماء يجده الحس واحدا ثابتا، وهو بحسب الواقع لا واحد ولا ثابت، وكذا يجد عكس الانسان أو الشجر أو غيرهما فيه واحدا ثابتا وليس واحدا ثابتا بل هو كثير متغير تدريجا بالجريان التدريجي الذي لاجزاء الماء فيه، وعلى هذا النحو وجود الثبات والوحدة والشخصية التي نرى في النفس. قالوا: فالنفس التي يقام البرهان على تجردها من طريق المشاهدة الباطنية هي في الحقيقة مجموعة من خواص طبيعية، وهي الادراكات العصبية التي هي نتائج حاصلة من التأثير والتأثر المتقابلين بين جزء المادة الخارجية، وجزء المركب العصبي، ووحدتها وحدة اجتماعية لا وحدة واقعية حقيقية. أقول: أما قولهم: إن الابحاث العلمية المبتنية على الحس والتجربة لم تظفر في سيرها الدقيق بالروح، ولا وجدت حكما من الاحكام غير قابل التعليل إلا بها فهو كلام

[ 367 ]

حق لا ريب فيه لكنه لا ينتج انتفاء النفس المجردة التي اقيم البرهان على وجودها، فإن العلوم الطبيعية الباحثة عن أحكام الطبيعة وخواص المادة إنما تقدر على تحصيل خواص موضوعها الذي هو المادة، وإثبات ما هو من سنخها، وكذا الخواص والادوات المادية التي نستعملها لتتميم التجارب المادي إنما لها أن تحكم في الامور المادية، وأما ما وراء المادة والطبيعة، فليس لها أن تحكم فيها نفيا ولا إثباتا، وغاية ما يشعر البحث المادي به هو عدم الوجدان، وعدم الوجدان غير عدم الوجود، وليس من شأنه كما عرفت أن يجد ما بين المادة التي هي موضوعها، ولا بين أحكام المادة وخواصها التي هي نتائج بحثها أمر أمجردا خارجا عن سنخ المادة وحكم الطبيعة. والذي جرأهم على هذا النفي زعمهم أن المثبتين لهذه النفس المجردة إنما أثبتوها لعثورهم إلى أحكام حيوية من وظائف الاعضاء ولم يقدروا على تعليلها العلمي، فأثبتوا النفس المجردة لتكون موضوعا مبدئا لهذه الافاعيل، فلما حصل العلم اليوم على عللها الطبيعية لم يبق وجه للقول بها، نظير هذا الزعم ما زعموه في باب إثبات الصانع. وهو اشتباه فاسد فإن المثبتين لوجود هذه النفس لم يثبتوها لذلك ولم يسندوا بعض الافاعيل البدنية إلى البدن فيما علله ظاهرة، وبعضها إلى النفس فيما علله مجهولة، بل أسندوا الجميع إلى العلل البدنية بلا واسطة وإلى النفس بواسطتها، وإنما اسندوا إلى النفس ما لا يمكن إسناده إلى البدن ألبتة وهو علم الانسان بنفسه ومشاهدته ذاته كما مر. وأما قولهم: إن الانية المشهودة للانسان على صفة الوحدة هي عدة من الادراكات العصبية الواردة على المركز على التوالي وفي نهاية السرعة - ولها وحدة اجتماعية - فكلام لا محصل له ولا ينطبق عليه الشهود النفساني البتة، وكأنهم ذهلوا عن شهودهم النفساني فعدلوا عنه إلى ورود المشهودات الحسية إلى الدماغ واشتغلوا بالبحث عما يلزم ذلك من الآثار التالية وليت شعري إذا فرض أن هناك امورا كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها ألبتة، وهذه الامور الكثيرة التي هي الادراكات امور مادية ليس ورائها شئ آخر إلا نفسها، وإن الامر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه

[ 368 ]

الادراكات الكثيرة، فمن أين حصل هذا الواحد الذي لا نشاهد غيره ؟ ومن أين حصلت هذه الوحدة المشهودة فيها عيانا ؟ والذي ذكروه من وحدتها الاجتماعية كلام أشبه بالهزل منه بالجد فإن الواحد الاجتماعي هو كثير في الواقع من غير وحدة وإنما وحدتها في الحس أو الخيال كالدار الواحدة والخط الواحد مثلا، لا في نفسه، والمفروض في محل كلامنا أن الادراكات والشعورات الكثيرة في نفسها هي شعور واحد عند نفسها فلازم قولهم إن هذه الادراكات في نفسها كثيرة لا ترجع إلى وحدة أصلا، وهي بعينها شعور واحد نفساني واقعا، وليس هناك أمر آخر له هذه الادراكات الكثيرة فيدركها على نعت الوحدة كما يدرك الحاسة أو الخيال المحسوسات أو المتخيلات الكثيرة المجتمعة على وصف الوحدة الاجتماعية، فإن المفروض أن مجموع الادراكات الكثيرة في نفسها نفس الادراك النفساني الواحد في نفسه، ولو قيل: إن المدرك هيهنا الجزء الدماغي يدرك الادراكات الكثيرة على نعت الوحدة كان الاشكال بحاله، فإن المفروض ان إدراك الجزء الدماغي نفس هذه الدراكات الكثيرة المتعاقبة بعينها، لا أن للجزء الدماغي قوة إدراك تتعلق بهذه الادراكات كتعلق القوى الحسية بمعلوماتها الخارجية وانتزاعها منها صورا حسية، فافهم ذلك. والكلام في كيفية حصول الثبات والبساطة في هذا المشهود الذي هو متغير متجز في نفسه كالكلام في حصول وحدته. مع أن هذا الفرض أيضا - أعني أن يكون الادراكات الكثيرة المتوالية المتعاقبة مشعورة بشعور دماغي على نعت الوحدة - نفسه فرض غير صحيح، فما شأن الدماغ والقوة التي فيه، والشعور الذي لها، والمعلوم الذي عندها، وهي جميعا امور مادية، ومن شأن المادة والمادي الكثرة، والتغير، وقبول الانقسام، وليس في هذه الصورة العلمية شئ من هذه الاوصاف والنعوت، وليس غير المادة والمادي هناك شئ. وقولهم: أن الامر يشتبه على الحس أو القوة المدركة، فيدرك الكثير المتجزي المتغير واحدا بسيطا ثابتا غلط واضح، فإن الغلط والاشتباه من الامور النسبية التي تحصل بالمقايسة والنسبة، لا من الامور النفسية، مثال ذلك أنا نشاهد الاجرام العظيمة السماوية صغيرة كالنقاط البيض، ونغلط في مشاهدتنا هذه، على ما تبينه البراهين

[ 369 ]

العلمية، وكثير من مشاهدات حواسنا إلا أن هذه الاغلاط إنما تحصل وتوجد إذا قايسنا ما عند الحس مما في الخارج من واقع هذه المشهودات، وأما ما عند الحس في نفسه فهو أمر واقعي كنقطة بيضاء لا معنى لكونه غلطا ألبتة. والامر فيما نحن فيه من هذا القبيل فإن حواسنا وقوانا المدركة إذا وجدت الامور الكثيرة المتغيرة المتجزية على صفة الوحدة والثبات والبساطة كانت القوى المدركة غالطة في إدراكها مشتبهة في معلومها بالقياس إلى المعلوم الذي في الخارج وأما هذه الصورة العلمية الموجودة عند القوة فهي واحدة ثابتة بسيطة في نفسها ألبتة، ولا يمكن أن يقال للامر الذي هذا شأنه: إنه مادي لفقده أوصاف المادة العامة. فقد تحصل من جميع ما ذكرنا أن الحجة التي أوردها الماديون من طريق الحس والتجربة إنما ينتج عدم الوجدان، وقد وقعوا في المغالطة بأخذ عدم الوجود (وهو مدعاهم) مكان عدم الوجدان، وما صوروه لتقرير الشهود النفساني المثبت لوجود أمر واحد بسيط ثابت تصوير فاسد لا يوافق، لا الاصول المادية المسلمة بالحس والتجربة، ولا واقع الامر الذي هو عليه في نفسه. وأما ما افترضه الباحثون في علم النفس الجديد في أمر النفس وهو أنه الحالة المتحدة الحاصلة من تفاعل الحالات الروحية، من الادراك والارادة والرضا والحب وغيرها المنتجة لحالة متحدة مؤلفة فلا كلام لنا فيه، فإن لكل باحث أن يفترض موضوعا ويضعه موضوعا لبحثه، وإنما الكلام فيه من حيث وجوده وعدمه في الخارج والواقع مع قطع النظر عن فرض الفارض وعدمه، وهو البحث الفلسفي كما هو ظاهر على الخبير بجهات البحث. وقال قوم آخرون من نفاة تجرد النفس من المليين: إن الذي يتحصل من الامور المربوطة بحيوة الانسان كالتشريح والفيزيولوجي أن هذه الخواص الروحية الحيوية تستند إلى جراثيم الحيوة والسلولات التي هي الاصول في حيوة الانسان وسائر الحيوان وتتعلق بها، فالروح خاصة وأثر مخصوص فيها لكل واحد منها أرواح متعددة فالذي

[ 370 ]

يسميه الانسان روحا لنفسه ويحكي عنه بأنا مجموعة متكونة من أرواح غير محصورة على نعت الاتحاد والاجتماع، ومن المعلوم أن هذه الكيفيات الحيوية والخواص الروحية تبطل بموت الجراثيم والسلولات وتفسد بفسادها فلا معنى للروح الواحدة المجردة الباقية بعد فناء التركيب البدني غاية الامر أن الاصول المادية المكتشفة بالبحث العلمي لما لم تف بكشف رموز الحيوة كان لنا أن نقول: أن العلل الطبيعية لا تفي بإيجاد الروح فهي معلولة لموجود آخر وراء الطبيعة، وأما الاستدلال على تجرد النفس من جهة العقل محضا فشئ لا يقبله ولا يصغي إليه العلوم اليوم لعدم اعتمادها على غير الحس والتجربة، هذا. اقول: وأنت خبير بأن جميع ما أوردناه على حجة الماديين وارد على هذه الحجة المختلقة من غير فرق ونزيدها أنها مخدوشة اولا: بأن عدم وفاء الاصول العلمية المكتشفة إلى اليوم ببيان حقيقة الروح والحيوة لا ينتج عدم وفائها أبدا ولا عدم انتهاء هذه الخواص إلى العلل المادية في نفس الامر على جهل منا، فهل هذا إمغالطة وضع فيها العلم بالعدم مكان عدم العلم ؟ وثانيا: بأن استناد بعض حوادث العالم - وهي الحوادث المادية - إلى المادة، وبعضها الاخر وهي الحوادث الحيوية إلى أمر وراء المادة - وهو الصانع - قول بأصلين في الايجاد، ولا يرتضيه المادي ولا الالهي، وجميع أدلة التوحيد يبطله. وهنا إشكالات أخر أوردوها على تجرد النفس مذكورة في الكتب الفلسفية والكلامية غير أن جميعها ناشئة عن عدم التأمل والامعان فيما مر من البرهان، وعدم التثبت في تعقل الغرض منه، ولذلك أضربنا عن إيرادها، والكلام عليها، فمن أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى مظانها، والله الهادي

(بحث اخلاقي)

 علم الاخلاق (وهو الفن الباحث عن الملكات الانسانية المتعلقة بقواه النباتية والحيوانية والانسانية، وتميز الفضائل منها من الرذائل ليستكمل الانسان التحلي

[ 371 ]

والاتصاف بها سعادته العلمية، فيصدر عنه من الافعال ما يجلب الحمد العام والثناء الجميل من المجتمع الانساني) يظفر ببحثه أن الاخلاق الانسانية تنتهي إلى قوى عامه ثلاثة فيه هي الباعثة للنفس على اتخاذ العلوم العملية التي تستند وتنتهي إليها افعال النوع وتهيئتها وتعبيتها عنده، وهي القوى الثلاث: الشهوية والغضبية والنطقية الفكرية، فإن جميع الاعمال والافعال الصادرة عن الانسان إمامن قبيل الافعال المنسوبة إلى جلب المنفعة كالاكل والشرب واللبس وغيرها، وإما من الافعال المنسوبة إلى دفع المضرة كدفاع الانسان عن نفسه وعرضه وماله ونحو ذلك، وهذه الافعال هي الصادرة عن المبدا الغضبي كما أن القسم السابق عليها صادر عن المبدا الشهوي، وإما من الاعمال المنسوبة إلى التصور والتصديق الفكري، كتأليف القياس وإقامة الحجة وغير ذلك وهذه الافعال صادرة عن القوة النطقية الفكرية، ولما كانت ذات الانسان كالمؤلفة، المركبة من هذه القوى الثلاث التي باتحادها وحصول الوحدة التركيبية منها يصدر أفعال خاصة نوعية، ويبلغ الانسان سعادتة التي من أجلها جعل هذا التركيب، فمن الواجب لهذا النوع إن لا يدع قوة من هذه القوى الثلاث تسلك مسلك الافراط أو التفريط، وتميل عن حاق الوسط إلى طرفي الزيادة والنقيصة، فإن في ذلك خروج جزء المركب عن المقدار المأخوذ منه في جعل أصل التركيب وفي ذلك خروج المركب عن كونه ذاك المركب ولازمه بطلان غاية التركيب التي هي سعادة النوع. وحد الاعتدال في القوة الشهوية - وهي استعمالها على ما ينبغي كما وكيفا - يسمي عفة، والجانبان في الافراط والتفريط الشره والخمود، وحد الاعتدال في القوة الغضبية هي الشجاعة والجانبان التهور والجبن، وحد الاعتدال في القوة الفكرية تسمي حكمة والجانبان الجربزة والبلادة، وتحصل في النفس من اجتماع هذه الملكات ملكة رابعة هي كالمزاج من الممتزج، وهي التي تسمى عدالة، وهي إعطاء كل ذي حق من القوي حقة، ووضعه في موضعه الذي ينبغي له، والجانبان فيها الظلم والانظلام. فهذه أصول الاخلاق الفاضلة أعني: العفة والشجاعة والحكمة والعدالة، ولكل منها فروغ ناشئة منها راجعة بحسب التحليل إليها، نسبتها إلى الاصول المذكورة كنسبة النوع إلى الجنس، كالجود والسخاء، والقناعة والشكر، والصبر والشهامة،

[ 372 ]

اصول الاخلاق الفاضلة (الشجرة)

[ 373 ]

والجرئة والحياء، والغيرة والنصيحة، والكرامة والتواضع، وغيرها، هي فروع الاخلاق الفاضلة المضبوطة في كتب الاخلاق (وهاك شجرة تبين أصوللا وتفرع فروعها) وعلم الاخلاق يبين حد كل واحد منها ويميزها من جانبيها في الافراط والتفريط، ثم يبين أنها حسنة جميلة ثم يشير إلى كيفية اتخاذها ملكة في النفس من طريقي العلم والعمل أعنى الاذعان بنأها حسنة جميلة، وتكرار العمل بها حتى تصير هيئة راسخة في النفس. مثاله أن يقال إن الجبن إنما يحصل من تمكن الخوف من النفس، والخوف إنما يكون من أمر ممكن الوقوع وعدم الوقوع، والمساوي الطرفين يقبح ترجيح أحد طرفيه على الآخر من غير مرجح والانسان العاقل لا ينبغي له ذلك فلا ينبغي للانسان أن يخاف. فإذا لقن الانسان نفسه هذا القول ثم كرر الاقدام والورود في المخاوف والمهاول زالت عنه رذيلة الخوف، وهكذا الامر في غيره من الرذائل والفضائل. فهذا ما يقتضيه المسلك الاول على ما تقدم في البيان وخلاصته إصلاح النفس وتعديل ملكاتها لغرض الصفة المحمودة والثناء الجميل. ونظيره ما يقتضيه المسلك الثاني، وهو مسلك الانبياء وأرباب الشرائع، وإنما التفاوت من حيث الغرض والغاية، فإن غاية الاستكمال الخلقي في المسلك الاول الفضيلة المحمودة عند الناس والثناء الجميل منهم، وغايته في المسلك الثاني السعادة الحقيقية للانسان وهو استكمال الايمان بالله وآياته، والخبر الاخروي وهي سعادة وكمال في الواقع لا عند الناس فقط، ومع ذلك فالمسلكان يشتركان في أن الغاية القصوى والغرض فيها الفضيلة الانسانية من حيث العمل. وأما المسلك الثالث المتقدم بيانه فيفارق الاولين بأن الغرض فيه ابتغاء وجه الله لا اقتناء الفضيلة الانسانية ولذلك ربما اختلف المقاصد التي فيه مع ما في المسلكين الاولين فربما كان الاعتدال الخلقي فيه غير الاعتدال الذي فيهما وعلى هذا القياس، بيان ذلك أن العبد إذا أخذ إيمانه في الاشتداد والازدياد انجذبت نفسه إلى التفكير في ناحية

[ 374 ]

ربه، واستحضار أسمائه الحسنى، وصفاتة الجميلة المنزهة عن النقص والشين ولا تزال تزيد نفسه انجذابا، وتترقى مراقبة حتى صار يعبد الله كأنه يراه وأن ربه يراه، ويتجلي له في مجالي الجذبة والمراقبة والحب فيأخذ الحب في الاشتداد لان الانسان مفطور على حب الجميل، وقد قال تعالى: (والذين آمنوا أشد حبا لله) البقرة - 165، وصار يتبع الرسول في جميع حركاته وسكناته لان حب الشئ يوجب حب آثاره، والرسول من آثاره وآياته كما أن العالم أيضا آثاره وآياته تعالى، ولا يزال يشتد هذا الحب ثم يشتد حتى ينقطع إليه من كل شئ، ولا يحب إلا ربه، ولا يخضع قلبه إلا لوجهه فان هذا العبد لا يعثر بشئ، ولا يقف على شئ وعنده شئ من الجمال والحسن إلا وجد أن ما عنده انموذج يحكي ما عنده من كمال لا ينفد وجمال لا يتناهى وحسن لا يحد، فله الحسن والجمال والكمال والبهاء، وكل ما كان لغيره فهو له، لان كل ما سواه آية له ليس له إلا ذلك، والآية لا نفسية لها، وإنما هي حكاية تحكي صاحبها، وهذا العبد قد استولى سلطان الحب على قلبه، ولا يزال يستولي، ولا ينظر إلى شئ إلا لانه آية من آيات ربه، وبالجملة فينقطع حبه عن كل شئ إلى ربه، فلا يحب شيئا إلا لله سبحانه وفي الله سبحانه. وحينئذ يتبدل نحو إدراكه وعمله فلا يرى شيئا إلا ويرى الله سبحانه قبله ومعه، وتسقط الاشياء عنده من حيز الاستقلال فما عنده من صور العلم والادراك غير ما عند الناس لانهم إنما ينظرون إلى كل شئ من وراء حجاب الاستقلال بخلافه، هذا من جهة العلم، وكذلك الامر من جهة العمل فانه إذا كان لا يحب إلا لله فلا يريد شيئا إلا لله وابتغاء وجهه الكريم، ولا يطلب ولا يقصد ولا يرجو ولا يخاف، ولا يختار، ولا يترك، ولا ييأس ولا يستوحش، ولا يرضى، ولا يسخط إلا لله وفي الله فيختلف أغراضه مع ما للناس من الاغراض وتتبدل غاية أفعاله فانه قد كان إلى هذا الحين يختار الفعل ويقصد الكمال لانه فضيلة انسانية، ويحذر الفعل أو الخلق لانه رذيلة إنسانيه. وأما الآن وأما الآن يريد وجه ربه، ولا هم له في فضيلة ولا رذيلة، ولا شغل له بثناء جميل، وذكر محمود، ولا التفات له إلى دنيا أو آخرة أو جنة أو نار، وإنما همه ربه، وزاده ذل عبوديته، ودليله حبه.

روت لي أحاديث الغرام صبابه* بإسنادها عن جيرة العلم الفرد.

وحدثني مر النسيم عن الصبا* عن الدوح عن وادي الغضا عن ربى نجد.

[ 375 ]

عن الدمع عن عينى القريح عن الجوى. عن الحزن عن قلبي الجريح عن الوجد. بأن غرامي والهوى قد تحالفا. على تلفي حتى أوسد في لحدي. وهذا البيان الذي أوردناه وإن آثرنا فيه الاجمال والاختصار لكنك إن أجدت فيه التأمل وجدته كافيا في المطلوب وتبين أن هذا المسلك الثالث يرتفع فيه موضوع الفضيلة والرذيلة، ويتبدل فيه الغاية والغرض أعني الفضيلة الانسانية إلى غرض واحد، وهو وجه الله، وربما اختلف نظر هذا المسلك مع غيره فصار ما هو معدود في غيره فضيلة رذيلة فيه وبالعكس. بقي هنا شئ وهو أن هيهنا نظرية اخرى في الاخلاق تغاير ما تقدم، وربما عد مسلكا آخر، وهي أن الاخلاق تختلف اصولا وفروعا باختلاف الاجتماعات المدنية لاختلاف الحسن والقبح من غير أن يرجع إلى أصل ثابت قائم على ساق، وقد ادعى أنها نتيجة النظرية المعروفة بنظرية التحول والتكامل في المادة. قالوا: إن الاجتماع الانساني مولود جميع الاحتياجات الوجودية التي يريد الانسان أن يرفعها بالاجتماع، ويتوسل بذلك، إلى بقاء وجود الاجتماع الذي يراه بقاء وجود شخصه، وحيث أن الطبيعة محكومة لقانون التحول والتكامل كان الاجتماع أيضا متغيرا في نفسه، ومتوجها في كل حين إلى ما هو أكمل وأرقى، والحسن والقبح - وهما موافقة العمل لغاية الاجتماع أعني الكمال وعدم موافقته له - لا معنى لبقائهما على حال واحد، وجمودهما على نهج فارد، فلا حسن مطلقا، ولا قبح مطلقا، بل هما دائما نسبيان مختلفان باختلاف الاجتماعات بحسب الامكنة والازمنة، وإذا كان الحسن والقبح نسبيين متحولين وجب التغير في الاخلاق، والتبدل في الفضائل والرذائل، ومن هنا يستنتج أن الاخلاق تابعة للمرام القومي الذي هو وسيله إلى نيل الكمال المدني والغاية الاجتماعية، لتبعية الحسن والقبح لذلك، فما كان به التقدم والوصول إلى الغاية والغرض كان هو الفضيلة وفيه الحسن، وما كان يدعو إلى الوقوف والارتجاع كان هو الرذيلة، وعلى هذا فربما كان الكذب و الافتراء والفحشاء والشقاوة والقساوة والسرقة و الوقاحة حسنة وفضيلة إذا وقعت في طريق المرام الاجتماعي، والصدق والعفة والرحمة رذيلة قبيحة إذا أوجب الحرمان عن المطلوب، هذه خلاصة هذه النظرية العجيبة التي ذهبت إليها الاشتراكيون من الماديين، والنظرية غير حديثة، على ما زعموا،

[ 376 ]

فقد كان الكلبيون من قدماء اليونان - على ما ينقل - على هذه المسلك، وكذا المزدكيون (وهم أتباع مزدك الذي ظهر بايران على عهد كسرى ودعا إلى الاشتراك) كان عملهم على ذلك، ويعهد من بعض القبائل الوحشية بإفريقية وغيرهم. وكيف كان فهو مسلك فاسد والحجة التي اقيمت على هذه النظرية فاسدة من حيث البناء والمبنى معا. توضيح ذلك: أنا نجد كل موجود من هذه الموجودات العينية الخارجية يصحب شخصية تلازمه، ويلزمها أن لا يكون الموجود بسببه عين الموجود الآخر ويفارقه في الوجود، كما أن وجود زيد يصحب شخصية ونوع وحدة لا يمكن معها أن يكون عين عمرو، فزيد شخص واحد، وعمرو شخص آخر، وهما شخصان اثنان، لا شخص واحد، فهذه حقيقة لا شك فيها (وهذا غير ما نقول: إن عالم المادة موجود ذو حقيقة واحدة شخصية فلا ينبغي أن يشتبه الامر. وينتج ذلك: أن الوجود الخارجي عين الشخصية، لكن المفاهيم الذهنية يخالف الموجود الخارجي في هذا الحكم فان المعنى كيف ما كان يجوز العقل أن يصدق على أكثر من مصداق واحد كمفهوم الانسان ومفهوم الانسان الطويل، ومفهوم هذا الانسان القائم أمامنا، وأما تقسيم المنطقيين المفهوم إلى الكلي والجزئي، وكذا تقسيمهم الجزئي إلى الاضافي والحقيقي فإنما هو تقسيم بالاضافة والنسبة، إما نسبه أحد المفهومين إلى الآخر وإما نسبته إلى الخارج، وهذا الوصف الذي في المفاهيم - وهو جواز الانطباق على أكثر من واحد - ربما نسميه بالاطلاق كما نسمي مقابلة بالشخصية أو الوحدة. ثم الموجود الخارجي (ونعني به الموجود المادي خاصة) لما كان واقعا تحت قانون التغير والحركة العمومية كان لا محالة ذا امتداد منقسما إلى حدود وقطعات، كل قطعة منها تغاير القطعة الاخرى مما تقدم عليها أو تأخر عنها، ومع ذلك فهي مرتبطة بها بوجودها، إذ لو لا ذلك لم يصدق معنى التغير والتبدل لان أحد شيئين إذا عدم من أصله، والآخر وجد من أصله لم يكن ذلك تبدل هذا من ذاك، بل التبدل الذي يلازم كل حركة إنما يتحقق بوجود قدر مشترك في الحالين جميعا. ومن هنا يظهر أن الحركة أمر واحد بشخصه يتكثر بحسب الاضافة إلى الحدود،

[ 377 ]

فيتعين بكل نسبة قطعة تغاير القطعه الاخرى، وأما نفس الحركة فسيلان وجريان واحد شخصي، ونحن ربما سمينا هذا الوصف في الحركة إطلاقا في مقابل النسب التي لها إلى كل حد حد، فنقول: الحركة المطلقة بمعنى قطع النظر عن إضافتها إلى الحدود. ومن هنا يظهر أن المطلق بالمعنى الثاني أمر واقعي موجود في الخارج، بخلاف المطلق بالمعنى الاول فإن الاطلاق بهذا المعنى وصف ذهني لموجود ذهني، هذا. ثم إنا لا نشك ان الانسان موجود طبيعي ذو افراد واحكام وخواص وان الذي توجده الخلقة هو الفرد من أفراد الانسان دون مجموع الافراد أعني الاجتماع الانساني إلا ان الخلقة لما أحست بنقص وجوده، واحتياجه إلى استكمالات لا تتم له وحده، جهزه بأدوات وقوى تلائم سعيه للاستكمال في ظرف الاجتماع وضمن الافراد المجتمعين، فطبيعة الانسان الفرد مقصود للخلقه اولا وبالذات والاجتماع مقصود لها ثانيا وبالتبع. وأما حقيقة أمر الانسان مع هذا الاجتماع الذي تقتضية وتتحرك إليه الطبيعة الانسانية (إن صح إطلاق الاقتضاء والعلية والتحرك في مورد الاجتماع حقيقة فإن الفرد من الانسان موجود شخصي واحد بالمعنى الذي تقدم من شخصيته ووحدته، وهو مع ذلك واقع في الحركة، متبدل متحول إلى الكمال، ومن هنا كان كل قطعة من قطعات وجوده المتبدل مغايرة لغيرها من القطعات، وهو مع ذلك ذو طبيعة سيالة مطلقة حفوظة في مراحل التغيرات واحدة شخصية، وهذه الطبيعة الموجودة في الفرد محفوظة بالتوالد والتناسل واشتقاق الفرد من الفرد - وهي التي نعبر عنها بالطبيعة النوعية - فإنها محفوظة بالافراد وإن تبدلت وعرض لها الفساد والكون، بمثل البيان الذي مر في خصوص الطبيعة الفردية، فالطبيعة الشخصية موجوده متوجهة إلى الكمال الفردي، والطبيعة النوعية موجودة مطلقة متوجهة إلى الكمال. وهذا الاستكمال النوعي لا شك في وجوده وتحققه في نظام الطبيعة، وهو الذي نعتمد عليه في قولنا: إن النوع الانساني مثلا متوجه إلى الكمال، وإن الانسان اليوم أكمل وجودا من الانسان الاولي، وكذا ما تحكم به فرضية تحول الانواع، فلو لا أن هناك طبيعة نوعية خارجية محفوظة في الافراد أو الانواع مثلا لم يكن هذا الكلام إلا كلاما شعريا.

[ 378 ]

والكلام في الاجتماع الشخصي القائم بين أفراد قوم أو في عصر أو في محيط، ونوع الاجتماع القائم بنوع الانسان المستمر باستمراره والمتحول بتحوله (لو صح أن الاجتماع كالانسان المجتمع حال خارجي لطبيعة خارجية !) نظير القول في طبيعة الانسان الشخصية والنوعية في التقييد والاطلاق. فالاجتماع متحرك متبدل بحركة الانسان وتبدله وله وحدة من بادئ الحركة إلى أين توجه بوجود مطلق - وهذا الواحد المتغير بواسطة نسبته وإضافته إلى كل حد حد تصير قطعة قطعة، وكل قطعة شخص واحد من أشخاص الاجتماع، وأشخاص الاجتماع مستندة في وجودها إلى أشخاص الانسان كما، أن مطلق الاجتماع بالمعنى الذي تقدم مستند إلى مطلق الطبيعة الانسانية، فإن حكم الشخص شخص الحكم وفرده، وحكم المطلق مطلق الحكم (لا كلي الحكم، فلسنا نعني الاطلاق المفهومي فلا تغفل) ونحن لا نشك أن الفرد من الانسان وهو واحد له حكم واحد باق ببقائه، إلا إنه متبدل بتبدلات جزئية بتبع التبدلات الطارئة على موضوعه الذي هو الانسان فمن أحكام الانسان الطبيعي أنه يتغذى ويفعل بالارادة ويحس ويتفكر - وهو موجود مع الانسان وباق ببقائه - وإن تبدل طبق تبدله في نفسه، وكذلك الكلام في أحكام مطلق الانسان الموجود بوجود أفراده. ولما كان الاجتماع من أحكام الطبيعة الانسانية وخواصها فمطلق الاجتماع (نعني به الاجتماع المستمر الذي أوجدته الطبيعة الانسانية المستمرة من حين وجد الانسان الفرد إلى يومنا هذا) من خواص النوع الانساني المطلق موجود معه باق ببقائه، وأحكام الاجتماع التي أوجدها واقتضاها هي مع الاجتماع موجودة بوجوده، باقية ببقائه، وإن تبدلت بتبدلات جزئية مع انحفاظ الاصل مثل نوعها، وحينئذ صح لنا أن نقول: إن هناك أحكاما اجتماعية باقية غير متغيرة، كوجود مطلق الحسن والقبح، كما أن نفس الاجتماع المطلق كذلك، بمعنى أن الاجتماع لا ينقلب إلى غير الاجتماع كالانفراد وإن تبدل اجتماع خاص إلى آخر خاص، والحسن المطلق والخاص كالاجتماع المطلق والخاص بعينه. ثم إنا نرى أن الفرد من الانسان يحتاج في وجوده وبقائه إلى كمالات ومنافع يجب

[ 379 ]

له أن يجتلبها ويضمها إلى نفسه، والدليل على هذا الوجوب احتياجه في جهات وجوده وتجهيز الخلقة له بما يقوى به على ذلك، كجهاز التغذي وجهاز التناسل مثلا، فعلى الانسان أن يقدم عليه، وليس له أن لا يقدم قطعا بالتفريط فإنه يناقض دليل الوجوب الذي ذكرناه، وليس له أن يقدم في باب من أبواب الحاجة بما يزيد على اللازم بالافراط، مثل أن يأكل حتى يموت، أو يمرض، أو يتعطل عن سائر قواة الفعالة، بل عليه أن يتوسط في جلب كل كمال أو منفعة، وهذا التوسط هي العفة، وطرفاه الشره والخمود، وكذلك نرى الفرد في وجوده وبقائه متوسطا بين نواقص وأضداد ومضار لوجوده يجب عليه أن يدفعها، والدليل عليه الاحتياج والتجهيز في نفسه فيجب عليه المقاومة والدفاع على ما ينبغي من التوسط، من غير إفراط يضاد سائر تجهيزاته أو تفريط يضاد الاحتياج والتجهيز المربوطين، وهذا التوسط هي الشجاعة، وطرفاها التهور والجبن ونظير الكلام جار في العلم ومقابليه أعني الجربزة والبلادة، وفي العدالة ومقابليها وهما الظلم والانظلام. فهذه أربع ملكات وفضائل يستدعيه الطبيعة الفردية المجهزة، بأدواتها: العفة والشجاعة، والحكمة، والعدالة - وهي كلها حسنة - لان معنى الحسن الملائمة لغاية الشئ وكماله وسعادته، وهي جميعا ملائمة مناسبة لسعادة الفرد بالدليل الذي تقدم ذكره، ومقابلاتها رذائل قبيحة، وإذا كان الفرد من الانسان بطبيعته وفي نفسه على هذا الوصف فهو في ظرف الاجتماع أيضا على هذا الوصف، وكيف يمكن أن يبطل الاجتماع - وهو من أحكام هذه الطبيعة - سائر أحكامها الوجودية ؟ وهل هو إلا تناقض الطبيعة الواحدة، وليس حقيقة الاجتماع إلا تعاون الافراد في تسهيل الطريق إلى استكمال طبائعهم وبلوغها إلى غاية أمنيتها ؟ وإذا كان الفرد من الانسان في نفسه وفي ظرف الاجتماع على هذا الوصف، فنوع الانسان في اجتماعه النوعي أيضا كذلك، فنوع الانسان في اجتماعه يستكمل بالدفاع بقدر ما لا يفسد الاجتماع وباجتلاب المنافع بقدر ما لا يفسد الاجتماع، وبالعلم بقدر ما لا يفسد الاجتماع، وبالعدالة الاجتماعية - وهي إعطاء كل ذي حق حقه، وبلوغه حظه الذي يليق به دون الظلم والانظلام - وكل هذه الخصال الاربع فضائل بحكم

[ 380 ]

الاجتماع المطلق يقضي الاجتماع الانساني بحسنها المطلق ويعد مقابلاتها رذائل ويقضي بقبحها. فقد تبين بهذا البيان: أن في الاجتماع المستمر الانساني حسنا وقبحا لا يخلو عنهما قط وأن أصول الاخلاق الاربعة فضائل حسنة دائما، ومقابلاتها رذائل قبيحة دائما، والطبيعة الانسانية الاجتماعية تقضي بذلك، وإذا كان الامر في الاصول على هذا النحو فالفروع المنتهية بحسب التحليل إليها حكمها في القبول ذلك، وإن كان ربما يقع اختلاف ما في مصاديقها من جهة الانطباق على ما سنشير إليه. إذا عرفت ما ذكرنا ظهر لك وجه سقوط ما نقلنا من قولهم من أمر الاخلاق وهاك بيانه. أما قولهم: إن الحسن والقبح المطلقين غير موجودين، بل الموجود منهما النسبي من الحسن والقبح وهو متغير مختلف باختلاف المناطق والازمنه والاجتماعات، فهو مغالطة ناشئة من الخلط بين الاطلاق المفهومي بمعنى الكلية والاطلاق الوجودي بمعنى إستمرار الوجود، فالحسن والقبح المطلقان الكليان غير موجودين في الخارج لوصف الكلية والاطلاق، لكنهما ليسا هما الموجبين لما نقصده من النتيجة، وإما الحسن والقبح المطلقان المستمران بمعنى استمرارهما حكمين للاجتماع ما دام الاجتماع مستمرا باستمرار الطبيعة فهما كذلك، فإن غاية الاجتماع سعادة النوع، ولا يمكن موافقة جميع الافعال الممكنة والمفروضة للاجتماع كيف ما فرض، فهناك أفعال موافقة ومخالفة دائما فهناك حسن وقبح دائما. وعلى هذا فكيف يمكن أن يفرض اجتماع كيف ما فرض ولا يعتقد أهله أن من الواجب أن يعطي كل ذي حق حقه أو أن جلب المنافع بقدر ما ينبغي واجب أو أن الدفاع عن مصالح الاجتماع بقدر ما ينبغي لازم أو أن العلم الذي يتميز به منافع الانسان من غيرها فضيلة حسنة ؟ وهذه هي العدالة والعفة، والشجاعة، والحكمة التي ذكرنا أن الاجتماع الانساني كيف ما فرض لا يحكم إلا بحسنها وكونها فضائل إنسانية، وكذا كيف يتيسر لاجتماع أن لا يحكم بوجوب الانقباض والانفعال عن التظاهر بالقبيح

[ 381 ]

الشنيع، وهو الحياء من شعب العفة أو لا يحكم بوجوب السخط وتغير النفس في هتك المقدسات وهضم الحقوق، وهو الغيرة من شعب الشجاعة، أو لا يحكم بوجوب الاقتصار على ما للانسان من الحقوق الاجتماعية، وهو القناعة أو لا يحكم بوجوب حفظ النفس في موقعها الاجتماعي من غير دحض الناس وتحقيرهم بالاستكبار والبغي بغير الحق، وهو التواضع ؟ وهكذا الامر في كل واحد واحد من فروع الفضائل. وأما ما يزعمونه من اختلاف الانظار في الاجتماعات المختلفة في خصوص الفضائل وصيرورة الخلق الواحد فضيلة عند قوم رذيلة عند آخرين في أمثلة جزئية فليس من جهة اختلاف النظر في الحكم الاجتماعي بأن يعتقد قوم بوجوب اتباع الفضيلة الحسنة وآخرون بعدم وجوبه بل من جهة الاختلاف في انطباق الحكم على المصداق وعدم انطباقه. مثل إن الاجتماعات التي كانت تديرها الحكومات المستبدة كانت تري لعرش الملك الاختيار التام في أن يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وليس ذلك لسوء ظنهم بالعدالة بل لاعتقادهم بأنه من حقوق السلطنة والملك فلم يكن ذلك ظلما من مقام السلطنة بل إيفاء بحقوقه الحقة بزعمهم. ومثل أن العلم كان يعير به الملوك في بعض الاجتماعات، كما يحكى عن ملة فرنسا في القرون الوسطى، ولم يكن ذلك لتحقيرهم فضيلة العلم، بل لزعمهم أن العلم بالسياسة وفنون إدارة الحكومة يضاد المشاغل السلطانية. ومثل أن عفة النساء بمعنى حفظ البضع من غير الزوج، وكذا الحياء من النساء وكذا الغيرة من رجالهن، وكذا عدة من الفضائل كالقناعة والتواضع أخلاق لا يذعن بفضلها في بعض الاجتماعات، لكن ذلك منهم لان اجتماعهم الخاص لا يعدها مصاديق للعفة والحياء والغيرة والقناعة والتواضع، لا لان هذه الفضائل ليست فضائل عندهم. والدليل على ذلك وجود أصلها عندهم، فهم يمدحون عفة الحاكم في (زكمه والقاضي في قضائه، ويمدحون الاستحياء من مخالفة القوانين، ويمدحون الغيرة للدفاع عن الاستقلال والحضارة وعن جميع مقدساتهم، ويمدحون القناعة بما عينه القانون من الحقوق لهم، ويمدحون التواضع لائمتهم وهداتهم في الاجتماع.

[ 382 ]

وأما قولهم: بدوران الاخلاق في حسنها مدار موافقتها لغاية المرام الاجتماعي واستنتاجهم ذلك من دوران حسنها مدار موافقة غاية الاجتماع ففيه مغالطة واضحة فإن المراد بالاجتماع الهيئة الحاصلة من عمل مجموع القوانين التي قررتها الطبيعة بين الافراد المجتمعين ولا محالة تكون موصلة إلى سعادتهم لو لا الاخلال بانتظامها وجريها، ولا محالة لها أحكام: من الحسن والقبح والفضيلة والرذيلة، والمراد بالمرام مجموع الفرضيات التي وضعت لايجاد اجتماع على هيئت جديدة بتحميلها على الافراد المجتمعين، أعنى أن الاجتماع والمرام متغايران بالفعلية والقوة، والتحقق وفرض التحقق، فكيف يصير حكم أحد هما عين حكم الاخر، وكيف يكون الحسن والقبح، والفضيلة والرذيله التى عينها الاجتماع العام باقتضاء من الطبيعة الانسانية متبدلة إلى ما حكم به المرام الذى ليس الا فرضا من فارض ؟ ولو قيل: أن لا حكم الا جتماع العام الطبيعي من نفسه، بل الحكم للمرام، وخاصة إذا كانت فرضية متلائمة لسعادة الافراد عاد الكلام السابق في الحسن والقبح، والفضيلة والرذيلة، وأنها تنتهي بالآخرة إلى اقتضاء مستمر من الطبيعة. على ان هيهنا محذورا آخر وهو أن الحسن والقبح وسائر الاحكام الاجتماعية - وهى التى تعتمد عليها الحجة الاجتماعية وتتألف منها الاستدلالات - لو كانت تابعة للمرام، ومن الممكن بل الواقع تحقق مرامات مختلفة متناقضة متباينة أدى ذلك إلى إرتفاع الحجة المشتركة المقبولة عند عامة الاجتماعات، ولم يكن التقدم والنجاح حينئذ إلا للقدرة والتحكم، وكيف يمكن أن يقال ان الطبيعة الانسانية ساقت افرادها إلى حيوة اجتماعية لا تفاهم بين أجزائها ولا حكم يجمعها إلا حكم مبطل لنفس الاجتماع ؟ وهل هذا إلا تناقض شنيع في حكم الطبيعة واقتضائها الوجودى ؟

(بحث روائي آخر)

في متفرقات متعلقة بما تقدم

عن الباقر عليه السلام قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنى راغب نشيط في الجهاد. قال: فجاهد في سبيل الله فإنك إن تقتل كنت حيا عند الله مرزوقا وإن

[ 383 ]

مت فقد وقع أجرك على الله الحديث. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: وإن مت إلخ إشارة إلى قوله تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) النساء - 100، وفيه دلالة على أن الخروج إلى الجهاد مهاجرة إلى الله ورسوله. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: في إسمعيل النبي الذي سماه الله سبحانه صادق الوعد، قال عليه السلام إنما سمي صادق الوعد، لانه وعد رجلا في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة، فسماه الله عز وجل صادق الوعد، ثم إن الرجل أتاه بعد ذلك الوقت فقال له إسمعيل ما زلت منتظرا لك الحديث. اقول: وهذا أمر ربما يحكم العقل العادي بكونه منحرفا عن جادة الاعتدال مع أن الله سبحانه جعله منقبة له عليه السلام حتى عظم قدره ورفع ذكره بقوله: (واذكر في الكتاب إسمعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلوة والزكوة وكان عند ربه مرضيا) مريم - 55، فليس ذلك إلا أن الميزان الذي وزن به هذا العمل غير الميزان الذي بيد العقل العادي، فللعقل العادي تربية بتدبيره ولله سبحانه تربية لاوليائه بتأييده، وكلمة الله هي العليا، ونظائر هذه القضية كثيرة مروية منقولة عن النبي والائمة والاولياء. فان قلت: كيف يمكن مخالفة الشرع مع العقل في ما للعقل إليه سبيل. قلت: أما حكم العقل فيما له إليه سبيل ففي محله، لكنه يحتاج إلى موضوع يقع عليه حكمه، وقد عرفت في ما تقدم أن أمثال هذه العلوم في المسلك الثالث الذي ذكرناه لا تبقى للعقل موضوعا يحكم فيه وعليه، وهذا سبيل المعارف اللاهية والظاهر أن إسمعيل النبي عليه السلام كان أطلق القول بوعد بأن قال: أنتظرك ههنا حتى تعود إلى ثم التزم على إطلاق قوله صونا لنفسه عن نقض العهد والكذب في الوعد وحفظا لما القى الله في روعه وأجراه على لسانه، وقد روي نظيره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه كان عند المسجد الحرام فوعده بعض أصحابه بالرجوع إليه ووعدة النبي بانتظاره حتى يرجع فذهب في شأنه ولم يرجع، فانتظره النبي ثلثة أيام في مكانه الذي وعده حتى مر به الرجل بعد الثلثة، وهو جالس ينتظر والرجل قد نسي الوعد، الحديث.

[ 384 ]

وفي الخصائص للسيد الرضي، عن إمير المؤمنين عليه السلام قال: - وقد سمع رجلا يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون - يا هذا إن قولنا: إنا لله إقرار منا بالملك، وإنا إليه راجعون اقرار منا بالهلاك. اقول: وقد اتضح معناه بما تقدم ورواه في الكافي مفصلا. وفي الكافي: عن إسحق بن عمار وعبد الله بن سنان، عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله عز وجل: إني جعلت الدنيا بين عبادي قرضا فمن أقرضني فيها قرضا أعطيته بكل واحدة عشرا إلى سبعمأه ضعف، ومن لم يقرضني قرضا وأخذت منه شيئا قسرا أعطيته ثلث خصال لو أعطيت واحدة منهن ملائكتي لرضوا بها عني، ثم قال أبو عبد الله: قول الله: الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم، فهذه واحدة من ثلاث خصال، ورحمة اثنتان، وأولئك هم المهتدون ثلث، ثم قال أبو عبد الله عليه السلام هذا لمن أخذ الله منه شيئا قسرا. اقول: والرواية مروية لطرق أخرى متقاربة. وفي المعاني عن الصادق عليه السلام: الصلوة من الله رحمة، ومن الملائكة التزكية، ومن الناس دعاء. اقول: وفي معناه عدة روايات أخر، وبين هذه الرواية وما تقدمها تناف ظاهرا حيث أن الرواية السابقة تعد الصلوة غير الرحمة، ويساعد عليه ظاهر قوله عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وهذه الرواية تعدها رحمة ويرتفع التنافى بالرجوع إلى ما تقدم من البيان. إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم - 158.

[ 385 ]

(بيان)

 الصفا والمروة موضعان بمكة يأتي الحجاج بينهما بعمل السعي، وهما جبلان مسافة بينهما سبعمأه وستون ذراعا ونصف ذراع على ما قيل، وأصل الصفا في اللغة الحجر الصلب الاملس، وأصل المروة الحجر الصلب، والشعائر جمع شعيرة، وهي العلامة، ومنه المشعر، ومنه قولنا: أشعر الهدى، أي أعلمه، والحج هو القصد بعد القصد، أي القصد المكرر وهو في اصطلاح الشرع العمل المعهود بين المسلمين، والاعتمار الزيارة وأصله العمارة لان الديار تعمر بالزيارة، وهو في اصطلاح الشرع زيارة، البيت بالطريق المعهود، والجناح الميل عن الحق والعدل، ويراد به الاثم، فيؤل نفي الجناح إلى التجويز، والتطوف من الطواف، وهو الدوران حول الشئ، وهو السير الذي ينتهي آخره إلى أوله، ومنه يعلم أن ليس من اللازم كونه حول شئ وإنما ذلك من مصاديقه الظاهرة وعلى هذا المعنى أطلق التطوف في الآية فإن المراد به السعي وهو قطع ما بين الصفا والمروة من المسافة سبع مرات متوالية، والتطوع من الطوع بمعنى الطاعه، وقيل: إن التطوع يفارق الاطاعة في أنه يستعمل في المندوب خاصة، بخلاف الاطاعة ولعل ذلك - لو صح هذا القول - بعناية أن العمل الواجب لكونه إلزاميا كأنه ليس بمأتي به طوعا، بخلاف المأتي من المندوب فإنه على الطوع من غير شائبة، وهذا تلطف عنائي وإلا فأصل الطوع يقابل الكره ولا ينافي الامر الالزامي. قال تعالى: (قال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها) فصلت - 11، وأصل باب التفعل الاخذ لنفسه، كقولنا: تميز أي أخذ، يميز وتعلم الشئ أي أخذ يعلمه، وتطوع خيرا أي أخذ يأتي بالخير بطوعه، فلا دليل من جهة اللغة على اختصاص التطوع بالامتثال الندبي إلا أن توجبه العناية العرفية المذكورة. فقوله تعالى: إن الصفا والمروة من شعائر الله إلى قوله: يطوف بهما يشير إلى كون المكانين معلمين بعلامة الله سبحانه، يدلان بذلك عليه، ويذكر انه تعالى واختصاصهما بكونهما من الشعائر دون بقية الاشياء جميعا يدل على أن المراد بالشعائر ليست الشعائر التكوينية بل هما شعيرتان بجعله تعالى إياهما معبدين يعبد فيهما، فهما يذكر ان الله سبحانه، فكونهما شعيرتين يدل على أنه تعالى قد شرع فيهما عبادة

[ 386 ]

متعلقة بهما، وتفريع قوله: فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) إنما هو للايذان بأصل تشريع السعي بين الصفا والمروة، لا لافادة الندب، ولو كان المراد إفادة الندب كان الانسب بسياق الكلام أن يمدح التطوف لا أن ينفي ذمه، فإن حاصل المعنى أنه لما كان الصفا والمروة معبدين ومنسكين من معابد الله فلا يضركم أن تعبدوه فيهما، وهذا لسان التشريع، ولو كان المراد إفادة الندب كان الانسب أن يفاد أن الصفا والمروة، لما كانا من شعائر الله فإن الله يحب السعي بينهما - وهو ظاهر - والتعبير بأمثال هذا القول الذي لا يفيد وحده الالزام في مقام التشريع شائع في القرآن، وكقوله تعالى في الجهاد: (ذلكم خير لكم) الصف - 11، وفي الصوم (وأن تصوموا خير لكم) البقرة - 184، وفي القصر (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة) النساء - 101. قوله تعالى: ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم، إن كان معطوفا على مدخول فاء التفريع في قوله تعالى: فمن حج البيت أو اعتمر، كان كالتعليل لتشريع التطوف بمعنى آخر أعم من العلة الخاصة التي تبين بقوله: إن الصفا والمروة، وكان المراد بالتطوع مطلق الاطاعة لا الاطاعة المندوبة، وإن كان استينافا بالعطف إلى اول الآية كان مسوقا لافادة محبوبية التطوف في نفسه ان كان المراد بتطوع الخير هو التطوف أو مسوقا لافادة محبوبية الحج والعمرة ان كان هما المراد بتطوع الخير هذا. والشاكر والعليم اسمان من اسماء الله الحسنى، والشكر هو مقابلة من احسن إليه إحسان المحسن بإظهاره لسانا أو عملا كمن ينعم إليه المنعم بالمال فيجازيه بالثناء الجميل الدال على نعمته أو باستعمال المال في ما يرتضيه، ويكشف عن إنعامه، والله سبحانه وإن كان محسنا قديم الاحسان ومنه كل الاحسان لا يد لاحد عنده حتى يستوجبه الشكر إلا أنه جل ثنائه عد الاعمال الصالحة التي هي في الحقيقة إحسانه إلى عباده إحسانا من العبد إليه، فجازاه بالشكر والاحسان وهو إحسان على إحسان قال تعالى: (هل جزاء الاحسان إلا الاحسان) الرحمن - 60، وقال تعالى: (إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا) الدهر - 22، فإطلاق الشاكر عليه تعالى على حقيقة معنى الكلمة من غير مجاز.

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي: عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السلام: سالتة: عن السعي

[ 387 ]

بين صفا والمروة فريضة هي أم سنة ؟ قال: فريضة، قلت: إليس الله يقول: فلا جناح عليه أن يطوف بهما ؟ قال كان ذلك في عمرة القضاء، وذلك أن رسول الله كان شرط عليهم أن يرفعوا الاصنام فتشاغل رجل من أصحابه حتى أعيدت الاصنام. قال: فأنزل الله، إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما، أي والاصنام عليها. أقول: وعن الكافي ما يقرب منه. وفي الكافي أيضا عن الصادق عليه السلام: في حديث حج النبي عليه السلام: بعد ما طاف بالبيت وصلى ركعتية قال: صلى الله عليه وآله وسلم إن الصفا والمروة من شعائر الله فابدا بما بدا الله عز وجل، وإن المسلمين كانويظنون أن السعي بين الصفا والمروة شئ صنعه المشركون فأنزل الله إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما. أقول: ولا تنافي بين الروايتين في شأن النزول، وهو ظاهر، وقوله عليه السلام في الرواية فأبدا بما بدا الله ملاك التشريع، وقد مضى في حديث هاجر وسعيها سبع مرات بين الصفا والمروة أن السنة جرت بذلك. وفي الدر المنثور: عن عامر الشعبي قال: كان وثن بالصفا يدعى إساف، ووثن بالمروة يدعى نائلة فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت يسعون بينهما ويمسحون الوثنين فلما قدم رسول الله عليه السلام قالوا: يا رسول الله إن الصفا والمروة انما كان يطاف بهما من أجل الوثنين، وليس الطواف بهما من الشعائر، فأنزل الله: إن الصفا والمروة الآية فذكر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه، وأثبت المروة من جهة الصنم الذي كان عليه موثبا. أقول: وقد روى الفريقان في المعاني السابقة روايات كثيرة. ومقتضى جميع هذه الروايات أن الاية نزلت في تشريع السعي في سنة حج فيها المسلمون، وسورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة، ومن هنا يستنتج أن الآية غير متحدة السياق مع ما قبلها من آيات القبلة فانها نزلت في السنة الثانية من الهجرة

[ 388 ]

كما تقدم، ومع الآيات التى في مفتتح السورة، فانها نزلت في السنة الاولى من الهجرة فللايات سياقات متعددة كثيرة، لا سياق واحد. إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون - 159. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم - 160. إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين - 161. خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون - 162.

(بيان)

 قوله تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى، الظاهر - والله أعلم - أن المراد بالهدى ما تضمنه الدين الالهي من المعارف والاحكام الذي يهدي تابعيه إلى السعادة، وبالبينات الآيات والحجج التي هي بينات وأدلة وشواهد على الحق الذي هو الهدى، فالبينات في كلامه تعالى وصف خاص بالآيات النازلة، وعلى هذا يكون المراد بالكتمان - وهو الاخفاء - أعم من كتمان أصل الآية، وعدم إظهاره للناس، أو كتمان دلالته بألتاويل أو صرف الدلالة بالتوجيه، كما كانت اليهود تصنع ببشارات النبوة ذلك فما يجهله الناس لا يظهرونه لهم، وما يعلم به الناس يؤولونه بصرفه عنه صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: من بعد ما بيناه للناس، أفاد أن كتمانهم إنما هو بعد البيان والتبين للناس، لا لهم فقط، وذلك أن التبين لكل شخص شخص من أشخاص الناس أمر

[ 389 ]

لا يحتمله النظام الموجود المعهود في هذا العالم، لا في الوحي فقط، بل في كل إعلام عمومي وتبيين مطلق، بل إنما يكون باتصال الخبر إلى بعض الناس من غير واسطة وإلى بعض آخرين بواسطتهم، بتبليغ الحاضر الغائب والعالم الجاهل، فالعالم يعد من وسائط البلوغ وأدواته، كاللسان والكلام: فإذا بين الخبر للعالم المأخوذ عليه الميثاق بعلمه مع غيره من المشافهين فقد بين الناس، فكتمان العالم علمه هذا كتمان العلم عن الناس بعد البيان لهم وهو السبب الوحيد الذي عده الله سبحانه سببا لاختلاف الناس في الدين وتفرقهم في سبل الهداية والضلالة، وإلا فالدين فطري تقبله الفطرة وتخضع له القوة المميزة بعد ما بين لها، قال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم - 30، فالدين فطري على الخلقة لا يدفعه الفطرة أبدا لو ظهر لها ظهورا ما بالصفاء من القلب، كما في الانبياء، أو ببيان قولي، ولا محالة ينتهي هذا الثاني إلى ذلك الاول فافهم ذلك. ولذلك جمع في الآية بين كون الدين فطريا على الخلقة وبين عدم العلم به فقال: فطرة الله التي فطر الناس عليها، وقال: لكن أكثر الناس لا يعلمون، وقال تعالى: (وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) البقرة - 213، فأفاد أن الاختلاف فيما يشتمل عليه الكتاب إنما هو ناش عن بغي العلماء الحاملين له، فالاختلافات الدينية والانحراف عن جادة الصواب معلول بغى العلماء بالاخفاء والتأويل والتحريف، وظلمهم، حتى أن الله عرف الظلم بذلك يوم القيمة كما قال: (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا) الاعراف - 44، والآيات في هذا المعنى كثيرة. فقد تبين أن الآية مبتنية على الآية أعني، أن قوله تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب الآية، مبتنية على قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جائتهم البينات بغيا بينهم الآية، ومشيرة إلى جزاء هذا البغي بذيلها وهو قوله: أولئك يلعنهم الله إلخ.

[ 390 ]

قوله تعالى: أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، بيان لجزاء بغي الكاتمين لما أنزله الله من الآيات والهدى، وهو اللعن من الله، واللعن من كل لاعن، وقد كرر اللعن لان اللعن مختلف فإنه من الله التبعيد من الرحمة والسعادة ومن اللاعنين سؤاله من الله، وقد أطلق اللعن منه ومن اللاعنين وأطلق اللاعنين، وهو يدل على توجيه كل اللعن من كل لاعن إليهم والاعتبار يساعد عليه فإن الذي يقصده لاعن بلعنه هو البعد عن السعادة، ولا سعادة بحسب الحقيقة، إلا السعادة الحقيقية الدينية وهذه السعادة لما كانت مبينة من جانب الله، مقبولة عند الفطرة، فلا يحرم عنها محروم إلا بالرد والجحود، وكل هذا الحرمان إنما هو لمن علم بها وجحدها عن علم دون من لا يعلم بها ولم تبين له، وقد أخذ الميثاق على العلماء أن يبثوا علمهم وينشروا ما عندهم من الآيات والهدى، فإذا كتموه وكفوا عن بثه فقد جحدوه فأولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، ويشهد لما ذكرنا الآية الآتية: إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار إلى قوله أجمعين الآية فإن الظاهر أن قوله: ان للتعليل أو لتأكيد مضمون هذه الآية، بتكرار ما هو في مضمونها ومعناها وهو قوله: الذين كفروا وماتوا وهم كفار. قوله تعالى: إلا الذين تابوا وبينوا الآية، استثناء من الآية السابقة، والمراد بتقييد توبتهم بالتبين أن يتبين أمرهم ويتظاهروا بالتوبة، ولازم ذلك أن يبينوا ما كتموه للناس وأنهم كانوا كاتمين والا فلم يتوبوا بعد لانهم كاتمون بعد بكتمان أنهم كانوا كاتمين. قوله تعالى: إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار، كناية عن إصرارهم على كفرهم وعنادهم وتعنتهم في قبول الحق فإن من لا يدين بدين الحق لا لعناد واستكبار بل لعدم تبينه له ليس بكافر بحسب الحقيقة، بل مستضعف، أمره إلى الله، ويشهد بذلك تقييد كفر الكافرين في غالب الآيات والتكذيب وخاصة في آيات هبوط آدم المشتملة على أول تشريع شرع لنوع الانسان، قال تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى) - إلى قوله - (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة - 39، فالمراد بالذين كفروا في الآية هم المكذبون المعاندون - وهم الكاتمون لما أنزل الله - وجازاهم الله تعالى بقوله: أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وهذا حكم من الله سبحانه أن يلحق بهم كل لعن لعن به ملك من الملائكة أو أحد من الناس جميعا من غير استثناء، فهؤلاء سبيلهم سبيل الشيطان،

[ 391 ]

إذ قال الله سبحانه فيه: (وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) الحجر - 35، فجعل جميع اللعن عليه فهؤلاء - وهم العلماء الكاتمون لعلمهم - شركاء الشيطان في اللعن العام المطلق ونظرائه فيه، فما أشد لحن هذه الآية وأعظم أمرها ! وسيجئ في الكلام على قوله تعالى: (ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم) الانفال - 37، ما يتعلق بهذا المقام إنشاء الله العزيز. قوله تعالى: خالدين فيها، أي في اللعنة، وقوله: لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون، في تبديل السياق بوضع العذاب موضع اللعنة دلالة على أن اللعنة تتبدل عليهم عذابا. واعلم أن في هذه الآيات موارد من الالتفات، فقد التفت في الآية الاولى من التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: أولئك يلعنهم الله، لان المقام مقام تشديد السخط، والسخط يشتد إذا عظم اسم من ينسب إليه أو وصفه - ولا أعظم من الله سبحانه - فنسب إليه اللعن ليبلغ في الشدة كل مبلغ، ثم التفت في الآية الثانية من الغيبة إلى التكلم وحده بقوله: فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم، للدلالة على كمال الرحمة والرإفة، بإلقاء كل نعت وطرح كل صفة وتصدى الامر بنفسه تعالى وتقدس، فليست الرأفة والحنان المستفادة من هذه الجملة كالتي يستفاد من قولنا مثلا: فأولئك يتوب الله عليهم أو يتوب ربهم عليهم، ثم التفت في الآية الثالثة من التكلم وحده إلى الغيبة بقوله: أولئك عليهم لعنة الله، والوجه فيه نظير ما ذكرناه في اللتفات الواقع في الآية الاولى.

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السلام قال: قلت له: أخبرني عن قول الله عز وجل: إن الذين يكتمون الآية، قال: نحن نعني بها - والله المستعان - إن الواحد منا إذا صارت إليه لم يكن له أو لم يسعه إلا أن يبين للناس من يكون بعده. وعن الباقر عليه السلام: في الآية، قال: يعني بذلك نحن، والله المستعان.

[ 392 ]

وعن محمد بن مسلم قال عليه السلام: هم أهل الكتاب. اقول: كل ذلك من قبيل الجري والانطباق، وإلا فالآية مطلقة. وفي بعض الروايات عن علي عليه السلام: تفسيره بالعلماء إذا فسدوا. وفي المجمع عن النبي في الاية، قال: من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيمة بلجام من نار، وهو قوله: أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. أقول: والخبران يؤيدان ما قدمناه. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: ويلعنهم اللاعنون، قال: نحن هم، وقد قالوا: هوام الارض. أقول: هو إشارة إلى ما يفيده قوله تعالى: (ويقول الاشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين) هود - 18، فإنهم الاشهاد الماذونون في الكلام يوم القيمة، والقائلون صوابا، وقوله: وقالوا: هوام الارض، هو منقول عن المفسرين كمجاهد وعكرمة وغيرهما، وربما نسب في بعض الروايات إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السام: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدي، في علي. أقول: وهو من قبيل الجري والانطباق. وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم - 163. إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف

[ 393 ]

الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون - 164. ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب - 165. إذ تبرا الذين اتبعوا من الذين اتبعوا وراووا العذاب وتقطعت بهم الاسباب - 166. وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرء منهم كما تبرئوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار - 167.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336826

  • التاريخ : 29/03/2024 - 00:52

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net