00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص ( 199 ـ 299 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء الأول )   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

(بيان)

 قوله تعالى: ورفعنا فوقكم الطور، الطور هو الجبل كما بدله منه في قوله تعالى: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة) الاعراف - 171، والنتق هوالجذب والاقتلاع، وسياق الآية حيث ذكر أخذ الميثاق أولا والامر بأخذ ما أوتوا وذكر ما فيه أخيرا ووضع رفع الطور فوقهم بين الامرين مع السكوت عن سبب الرفع وغايتها يدل على أنه كان لارهابهم بعظمة القدرة من دون أن يكون لاجبارهم وإكراههم على العمل بما اوتوه وإلا لم يكن لاخذ الميثاق وجه، فما ربما يقال: أن رفع الجبل فوقهم لو كان على ظاهره كان آية معجزة وأوجب إجبارهم وإكراههم على العمل. وقد قال سبحانه: (لا إكراه في الدين) البقرة - 256، وقال تعالى: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس - 99، غير وجيه فإن الآية كما مر لا تدل على أزيد من الاخافة والارهاب ولو كان مجرد رفع الجبل فوق بني اسرائيل إكراها لهم على الايمان أو العمل، لكان أغلب معجزات موسى موجبة للاكراه، نعم هذا التأويل وصرف الآية عن ظاهرها، والقول بأن بني اسرائيل كانوا في أصل الجبل فزلزل وزعزع حتى أظل رأسه عليهم، فظنوا أنه واقع بهم فعبر عنها برفعه فوقهم أو نتقه فوقهم، مبنى على أصل إنكار المعجزات وخوارق العادات، وقد مر الكلام فيها ولو جاز أمثال هذه التأويلات لم يبق للكلام ظهور، ولا لبلاغة الكلام وفصاحتة أصل تتكي عليه وتقوم به. قوله تعالى: لعلكم تتقون. لعل كلمة ترج واللازم في الترجي صحتة في الكلام سواء كان قائما بنفس المتكلم أو المخاطب أو بالمقام، كان يكون المقام مقام رجاء وإن لم يكن للمتكلم والمخاطب رجاء فيه وهو لا يخلو عن شوب جهل بعاقبة الامر فالرجاء في كلامه تعالى إما بملاحظة المخاطب أو بملاحظة المقام. وأما هو تعالى فيستحيل نسبة الرجاء إليه لعلمه بعواقب الامور، كما نبه عليه الراغب في مفرداته.

[ 199 ]

قوله تعالى: كونوا قردة خاسئين أي صاغرين. قوله تعالى: فجعلناها نكالا أي عبرة يعتبر بها، والنكال هو ما يفعل من الاذلال والاهانة بواحد ليعتبر به آخرون. قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) الخ، هذه قصة بقرة بني اسرائيل، وبها سميت السورة سورة البقرة. والامر في بيان القرآن لهذه القصة عجيب فان القصة فصل بعضها عن بعض حيث قال تعالى: (وإذ قال موسى لقومه إلى آخره) ثم قال: (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها) ثم إنه أخرج فصل منها من وسطها وقدم أولا ووضع صدر القصة وذيلها ثانيا، ثم إن الكلام كان مع بني اسرائيل في الآيات السابقة بنحو الخطاب فانتقل بالالتفات إلى الغيبة حيث قال: (وإذ قال موسى لقومه ثم التفت إلى الخطاب ثانيا بقوله: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها. أما الالتفات في قوله تعالى: وإذ قال موسى لقومه: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، ففيه صرف الخطاب عن بني إسرائيل، وتوجيهه إلى النبي في شطر من القصة وهو أمر ذبح البقرة وتوصيفها ليكون كالمقدمة الموضحة للخطاب الذي سيخاطب به بنو إسرائيل بقوله: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون، فقلنا إضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون، الآيتان في سلك الخطابات السابقة فهذه الآيات الخمس من قوله: وإذ قال موسى إلى قوله: وما كادوا يفعلون، كالمعترضة في الكلام تبين معنى الخطاب التالي مع ما فيها من الدلالة على سوء ادبهم وإيذائهم لرسولهم، برميه بفضول القول ولغو الكلام، مع ما فيه من تعنتهم وتشديدهم واصرارهم في الاستيضاح والاستفهام المستلزم لنسبة الابهام إلى الاوامر الالهية وبيانات الانبياء مع ما في، كلامهم من شوب الاهانة والاستخفاف الظاهر بمقام الربوبية فانظر إلى قول موسى عليه السلام لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة وقولهم: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي، وقولهم ثانيا: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها، وقولهم ثالثا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ان البقر تشابه علينا، فأتوا في الجميع بلفظ ربك من غير أن يقولوا ربنا، ثم كرروا قولهم: ما هي وقالوا ان البقر تشابه علينا فادعوا التشابه بعد البيان، ولم يقولوا: ان البقرة تشابهت علينا بل قالوا: إن البقر

[ 200 ]

تشابه علينا كأنهم يدعون أن جنس البقر متشابه ولا يؤثر هذا إلاثر إلا بعض أفراد هذا النوع وهذا المقدار من البيان لا يجزي في تعيين الفرد المطلوب وتشخيصه، مع ان التأثير لله عز إسمه لا للبقرة، وقد أمرهم أن يذبحوا بقرة فاطلق القول ولم يقيده بقيد، وكان لهم أن يأخذوا بإطلاقه، ثم انظر إلى قولهم لنبيهم: أتتخذنا هزوا، المتضمن لرميه عليه السلام بالجهالة واللغو حتى نفاه عن نفسه بقوله: أعوذ بالله أن اكون من الجاهلين، وقولهم أخيرا بعد تمام البيان الالهي: الآن جئت بالحق، الدال على نفي الحق عن البيانات السابقة المستلزم لنسبة الباطل إلى طرز البيان الالهى والتبليغ النبوي. وبالجملة فتقديم هذا الشطر من القصة لابانة الامر في الخطاب التالي كما ذكر مضافا إلى نكتة اخرى، وهي أن قصة البقرة غير مذكورة في التوراة الموجودة عند اليهود اليوم فكان من الحري أن لا يخاطبوا بهذه القصة اصلا أو يخاطبوا به بعد بيان ما لعبت به أيديهم من التحريف، فأعرض عن خطابهم اولا بتوجيه الخطاب إلى النبي ثم بعد تثبيت الاصل، عاد إلى ما جرى عليه الكلام من خطابهم المتسلسل، نعم في هذا المورد من التوراة حكم لا يخلو عن دلالة ما على وقوع القصة وهاك عبارة التوراة. قال في الفصل الحادي والعشرين من سفر تثنيه الاشتراع: إذا وجد قتيل في الارض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعا في الحقل لا يعلم من قتله يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل فالمدينة القريبة من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالغير وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه ولم يزرع ويكسرون عنق العجلة في الوادي ثم يتقدم الكهنة بني لاوي لانه إياهم اختار الرب إلهك ليخدموه ويباركوا بإسم الرب وحسب قولهم تكون كل خصومة وكل ضربة ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي ويصرخون ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر إغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب ولا تجعل دم برئ في وسط شعبك اسرائيل فيغفر لهم الدم نتهى. إذا عرفت هذا على طوله، علمت أن بيان هذه القصة على هذا النحو ليس من قبيل

[ 201 ]

فصل لقصة، بل القصة مبينة على نحو الاجمال في الخطاب الذي في قوله: وإذ قتلتم نفسا الخ وشطر من القصة مأتية بها ببيان تفصيلي في صورة قصة اخرى لنكتة دعت إليه. فقوله تعالى: وإذ قال موسى لقومه خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو كلام في صورة قصة وانما هي مقدمة توضيحية للخطاب التالي لم يذكرمعها السبب الباعث على هذا الامر والغاية المقصودة منها بل اطلقت إطلاقا ليتنبه بذلك نفس السامع وتقف موقف التجسس، وتنتشط إذا سمعت أصل القصة، ونالت الارتباط بين الكلامين، ولذلك لما سمعت بنو اسرائيل قوله: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة تعجبوا من ذلك ولم يحملوه إلا على أن نبي الله موسى يستهزء بهم لعدم وجود رابطة عندهم بين ذبح البقرة وما يسألونه من فصل الخصومة والحصول على القاتل قالوا أتتخذنا هزوا وسخرية. وانما قالوا ذلك لفقدهم روح الاطاعة والسمع وإستقرار ملكة الاستكبار والعتو فيهم، وقولهم: إنا لا نحوم حول التقليد المذموم، وانما نؤمن بما نشاهده ونراه كما قالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة وانما وقعوا فيما وقعوا من جهة استقلالهم في الحكم والقضاء فيما لهم ذلك، وفيما ليس لهم ذلك فحكموا بالمحسوس على المعقول فطالبوا معاينة الرب بالحس الباصر وقالوا: (يا موسى إجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) الاعراف - 138، وزعموا أن نبيهم موسى مثلهم يتهوس كتهوسهم، ويلعب كلعبهم، فرموه بالاستهزاء والسفه والجهالة حتى رد عليهم، وقال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، وانما استعاذ بالله ولم يخبر عن نفسه بأنه ليس يجاهل لان ذلك منه عليه السلام أخذ بالعصمة الالهية التي لا تتخلف لا الحكمة الخلقية التي ربما تتخلف. وزعموا أن ليس للانسان أن يقبل قولا إلا عن دليل، وهذا حق لكنهم غلطوا في زعمهم أن كل حكم يجب العثور على دليله تفصيلا ولا يكفي في ذلك الاجمال ومن أجل ذلك طالبوا تفصيل أوصاف البقرة لحكمهم أن نوع البقر ليس فيه خاصة الاحياء، فإن كان ولا بد فهو في فرد خاص منه يجب تعيينه بأوصاف كاملة البيان ولذلك قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي، وهذا تشديد منهم على أنفسهم من غير جهة فشدد الله عليهم، وقال موسى إنه يقول إنها بقرة لا فارض، إي ليست بمسنة إنقطعت

[ 202 ]

ولادتها ولا بكر أي لم تلد عوان بين ذلك، والعوان من النساء والبهائم ما هو في منتصف السن أي واقعة في السن بين ما ذكر من الفارض والبكر، ثم ترحم عليهم ربهم فوعظهم أن لا يلحوا في السؤال، ولا يشددوا على أنفسهم ويقنعوا بما بين لهم فقال: فافعلوا ما تؤمرون، لكنهم لم يرتدعوا بذلك بل قالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما لونها، قال إنه يقول انها بقرة صفراء فاقع شديد الصفرة في صفاء لونها تسر الناظرين وتم بذلك وصف البقرة بيانا، واتضح أنها ما هي وما لونها وهم مع ذلك لم يرضوا به، وأعادوا كلامهم الاول، من غير تحجب وانقباض وقالواأدع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا انشاء الله لمهتدون، فأجابهم ثانيا بتوضيح في ماهيتها ولونها وقال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول أي غير مذللة بالحرث والسقي تثير الارض بالشيار ولا تسقي الحرث فلما تم عليهم البيان ولم يجدوا ما يسألونه قالوا الآن جئت بالحق قول من يعترف بالحقيقة بالالزام والحجة من غير أن يجد إلى الرد سبيلا، فيعترف بالحق إضطرارا، ويعتذر عن المبادرة إلى الانكار بأن القول لم يكن مبينا من قبل، ولا بينا تاما. والدليل على ذلك قوله تعالى: فذبحوها وما كادوا يفعلون. قوله تعالى: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها، شروع في أصل القصة والتدارء هو التدافع من الدرء بمعنى الدفع فقد كانوا قتلوا نفسا - وكل طائفة منهم يدفع الدم عن نفسها إلى غيرها - واراد الله سبحانه إظهار ما كتموه. قوله تعالى: فقلنا إضربوه ببعضها، أول الضميرين راجع إلى النفس باعتبار أنه قتيل، وثانيهما إلى البقرة وقد قيل: إن المراد بالقصة بيان أصل تشريع الحكم حتى ينطبق على الحكم المذكور في التورية الذي نقلناه، والمراد بإحياء الموتى العثور بوسيلة تشريع هذا الحكم على دم المقتول، نظير ما ذكره تعالى بقوله: (ولكم في القصاص حيوة) البقرة - 179، من دون أن يكون هناك إحياء بنحو الاعجاز هذا، وأنت خبير بأن سياق الكلام وخاصة قوله تعالى: فقلنا إضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتي يأبى ذلك. قوله تعالى: ثم قست قلوبكم فهي كالحجارة أو أشد قسوة القسوة، في القلب بمنزلة الصلابة في الحجر وكلمة أو بمعنى بل، والمراد بكونها بمعنى بل إنطباق معناه على موردها،

[ 203 ]

وقد بين شده قسوة قلوبهم بقوله: وإن من الحجرة لما يتفجر منه الانهار وقوبل فيه بين الحجارة والماء لكون الحجارة يضرب بها المثل في الصلابة ككون الماء يضرب به المثل في اللين فهذه الحجارة على كمال صلابتها يتفجر منها الانهار على لين مائها وتشقق فيخرج منها الماء على لينه وصلابتها، ولا يصدر من قلوبهم حال يلائم الحق، ولا قول حق يلائم الكمال الواقع، قوله تعالى: وإن منها لما يهبط من خشية الله، وهبوط الحجارة ما نشاهد من إنشقاق الصخور على قلل الجبال، وهبوط قطعات منها بواسطة الزلازل، وصيرورة الجمد الذي يتخللها في فصل الشتاء مائا في فصل الربيع إلى غير ذلك، وعد هذا الهبوط المستند إلى أسبابها الطبيعية هبوطا من خشية الله تعالى لان جميع الاسباب منتهية إلى الله سبحانه فإنفعال الحجارة في هبوطها عن سببها الخاص بها إنفعال عن أمر الله سبحانه إياها بالهبوط، وهي شاعرة لامر ربها شعورا تكوينيا، كما قال تعالى: (وإن من شئ إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم) اسرى - 44، وقال تعالى: (كل له قانتون) البقرة - 116، والانفعال الشعوري هو الخشية فهي هابطة من خشية الله تعالى، فالآية جارية مجرى قوله تعالى: (ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفتة) الرعد - 13: وقوله تعالى: (ولله يسجد من في السموات والارض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال) الرعد - 15، حيث عد صوت الرعد تسبيحا بالحمد وعد الظلال ساجدة لله سبحانه إلى غير ذلك من الآيات التي جرى القول فيها مجرى التحليل كما لا يخفى. وبالجملة فقوله: وإن منها لما يهبط، بيان ثان لكون قلوبهم أقسى من الحجارة فإن الحجارة تخشى الله تعالى، فتهبط من خشيتة، وقلوبهم لا تخشى الله تعالى ولا تهابه.

(بحث روائي)

 في محاسن: عن الصادق عليه السلام: في قول الله خذوا ما آتيناكم بقوة، أقوة

[ 204 ]

لابدان أو قوة القلب ؟ قال عليه السلام: فيهما جميعا. أقول: ورواه العياشي أيضا في تفسيره. وفي تفسير العياشي. عن الحلبي في قوله تعالى: وأذكروا ما فيه، قال: قال أذكروا ما فيه وأذكروا ما في تركه من العقوبة. أقول: وقد استفيد ذلك من المقام من قوله تعالى: ورفعنا فوقكم الطور خذوا. وفي الدر المنثور: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو لا أن بني إسرائيل قالوا وإنا إنشاء الله لمتهدون ما أعطوا أبدا ولو أنهم إعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لاجزات عنهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم. وفي تفسير القمي: عن إبن فضال قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: إن الله أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة وإنما كانوا يحتاجون إلى ذنبها فشدد الله عليهم. وفي المعاني وتفسير العياشي: عن البزنطي قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: إن رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له ثم أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ثم جاء يطلب بدمه فقالوا لموسى ان سبط آل فلان قتلوا فلانا فأخبر من قتله قال: إئتوني ببقرة قالوا: أتتخذنا هزوا ؟ قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم، قالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر يعني لا صغيرة ولا كبيرة عوان بين ذلك ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم قالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما هي ان البقر تشابه علينا وإنا إنشاء الله لمهتدون. قال: إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها. قالوا الآن جئت بالحق فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل فقال لا أبيعها إلا

[ 205 ]

بملؤ مسك ذهبا، فجاءوا إلى موسى وقالوا له ذلك قال إشتروها فاشتروها وجاؤا بها فأمر بذبحها ثم أمر إن يضربوا الميت بذنبها فلما فعلوا ذلك حيي المقتول وقال يا رسول الله إن إبن عمي قتلني، دون من إدعى عليه قتلي، فعلموا بذلك قاتله فقال لرسول الله موسى بعض أصحابه إن هذه البقرة لها نبأ فقال وما هو ؟ قال إن فتى من بني إسرائيل كان بارا بابيه وإنه اشترى بيعا فجاء إلى أبيه والاقاليد تحت رأسه فكره أن يوقظه فترك ذلك البيع فاستيقظ أبوه فأخبره فقال أحسنت، هذه البقرة فهي لك عوضا مما فاتك فقال له رسول الله موسى أنظر إلى البر ما بلغ بأهله. اقول: والروايات كما ترى منطبقة على إجمال ما استفدناه من الآيات الشريفة.

(بحث فلسفي)

 السورة كما ترى مشتملة على عدة من الآيات المعجزة، في قصص بني إسرائيل وغيرهم، كفرق البحر وإغراق آل فرعون في قوله تعالى: وإذ فرقنا بكم البحر أغرقنا آل فرعون الآية، وأخذ الصاعقة بني إسرائيل وإحيائهم بعد الموت في قوله تعالى: وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك الآية، وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى عليهم في قوله تعالى: وظللنا عليكم الغمام الآية، وإنفجار العيون من الحجر في قوله تعالى: وإذ إستسقى موسى لقومه الآية، ورفع الطور فوقهم في قوله تعالى: ورفعنا فوقكم الطور الآية، ومسخ قوم منهم في قوله تعالى: فقلنا لهم كونوا قردة الآية، وإحياء القتيل ببعض البقرة المذبوحة في قوله: فقلنا إضربوه ببعضها الآية، وكإحياء قوم آخرين في قوله ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم الآية، وكإحياء الذي مر على قرية خربة في قوله أو كالذى مر على قرية وهي خاوية على عروشها الآية، وكإحياء الطير بيد إبراهيم في قوله تعالى: وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيى الموتى الآية، فهذه إثنتا عشرة آية معجزة خارقة للعادة جرت أكثرها في بني إسرائيل - ذكرها القرآن - وقد بينا فيما مر إمكان وقوع المعجزة وأن خوارق العادات جائزة الوقوع في الوجود وهي مع ذلك ليست ناقضة لقانون العلية والمعلولية الكلي، وتبين به أن

[ 206 ]

لا دليل علي تأويل لآيات الظاهرة في وقوع الاعجاز، وصرفها عن ظواهرها ما دامت الحادثة ممكنة، بخلاف المحالات كإنقسام الثلثة بمتساويين وتولد مولود يكون أبا لنفسه، فإنه لا سبيل إلى جوازها. نعم تختص بعض المعجزات كإحياء الموتى والمسخ ببحث آخر، فقد قيل: إنه قد ثبت في محله أن الموجود الذي له قوة الكمال والفعلية إذا خرج من القوة إلى الفعل فإنه يستحيل بعد ذلك رجوعه إلى القوة ثانيا، وكذلك كل ما هو أكمل وجودا فإنه لا يرجع في سيره الاستكمالي إلى ما هو أنقص وجودا منه من حيث هو كذلك. والانسان بموته يتجرد بنفسه عن المادة فيعود موجودا مجردا مثاليا أو عقليا، وهاتان الرتبتان فوق مرتبة المادة، والوجود فيهما أقوى من الوجود المادي، فمن المحال أن تتعلق النفس بعد موتها بالمادة ثانيا، وإلا لزم رجوع الشئ إلى القوة بعد خروجه إلى الفعل، وهو محال، وأيضا الانسان أقوى وجودا من سائر أنواع الحيوان، فمن المحال أن يعود الانسان شيئا من سائر أنواع الحيوان بالمسخ. أقول: ما ذكره من إستحاله رجوع ما بالقوة بعد خروجه إلى الفعل إلى القوة ثانيا حق لا ريب فيه، لكن عود الميت إلى حيوته الدنيا ثانيا في الجملة وكذا المسخ ليسا من مصاديقه. بيان ذلك: أن المحصل من الحس والبرهان أن الجوهر النباتي المادي إذا وقعت في صراط الاستكمال الحيواني فإنه يتحرك إلى الحيوانية، فيتصور بالصورة الحيوانية وهي صورة مجردة بالتجرد البرزخي، وحقيقتها إدراك الشئ نفسه بإدراك جزئي خيالي وهذه الصورة وجود كامل للجوهر النباتي وفعلية لهذه القوة تلبس بها بالحركة الجوهرية ومن المحال أن ترجع يوما إلى الجوهر المادي فتصير إياه إلا أن تفارق مادتها فتبقى المادة مع صورة مادية كالحيوان تموت فيصير جسدا لا حراك به، ثم أن الصورة الحيوانية مبدأ لافعال إدراكية تصدر عنها، وأحوال علمية تترتب عليها، تنتقش النفس بكل واحد من تلك الاحوال بصدورها منها، ولا يزال نقش عن نقش، وإذا تراكمت من هذه النقوش ما هي متشاكلة متشابهة تحصل نقش واحد وصار صورة ثابتة غير قابلع للزوال، وملكة راسخة، وهذه صورة نفسانية جديدة يمكن أن يتنوع بها نفس حيوانى فتصير حيوانا خاصا ذا صورة خاصة منوعة كصورة المكر والحقد والشهوة والوفاء والافتراس وغير ذلك وإذا لم تحصل ملكة بقي النفس

[ 207 ]

على مرتبتها الساذجة السابقة، كالنبات إذا وقفت عن حركتها الجوهرية بقي نباتا ولم يخرج إلى الفعلية الحيوانية، ولو أن النفس البرزخية تتكامل من جهة أحوالها وأفعالها بحصول الصورة دفعة لانقطعت علقتها مع البدن في أول وجودها لكنها تتكامل بواسطة أفعالها الادراكية المتعلقة بالمادة شيئا فشيئا حتى تصير حيوانا خاصا إن عمر العمر الطبيعي أو قدرا معتدا به، وإن حال بينه وبين استتمام العمر الطبيعي أو القدر المعتد به مانع كالموت الاخترامي بقي على ما كان عليه من سذاجة الحيوانية، ثم أن الحيوان إذا وقعت في صراط الانسانية وهي الوجود الذي يعقل ذاته تعقلا كليا مجردا عن المادة ولوازمها من المقادير والالوان وغيرهما خرج بالحركة الجوهرية من فعلية المثال التي هي قوة العقل إلى فعلية التجرد العقلي، وتحققت له صورة الانسان بالفعل، ومن المحال أن تعود هذه الفعلية إلى قوتها التي هي التجرد المثالي على حد ما ذكر في الحيوان. ثم إن لهذه الصورة أيضا أفعالا وأحوالا تحصل بتراكمها التدريجي صورة خاصة جديدة توجب تنوع النوعية الانسانية على حد ما ذكر نظيره في النوعية الحيوانية. إذا عرفت ما ذكرناه ظهر لك أنا لو فرضنا إنسانا رجع بعد موته إلى الدنيا وتجدد لنفسه التعلق بالمادة وخاصة المادة التي كانت متعلقة نفسه من قبل لم يبطل بذلك أصل تجرد نفسه فقد كانت مجردة قبل انقطاع العلقة ومعها أيضا وهي مع التعلق ثانيا حافظة لتجردها، والذي كان لها بالموت أن الاداة التي كانت رابطة فعلها بالمادة صارت مفقودة لها فلا تقدر على فعل مادي كالصانع إذا فقد آلات صنعته والدوات اللازمة لها، فإذا عادت النفس إلى تعلقها الفعلي بالمادة أخذت في استعمال قواها وأدواتها البدنية ووضعت ما اكتسبتها من الاحوال والملكات بواسطة الافعال فوق ما كانت حاضرة وحاصلة لها من قبل واستكملت بها استكمالا جديدا من غير أن يكون ذلك منه رجوعا قهقرى وسيرا نزوليا من الكمال إلى النقص، ومن الفعل إلى القوة. فان قلت: هذا يوجب القول: بالقسر الدائم مع ضرورة بطلانه، فإن النفس المجردة المنقطعة عن البدن لو بقي في طباعها إمكان الاستكمال من جهة لافعال المادية بالتعلق بالمادة ثانيا كان بقائها على الحرمان من الكمال إلى الابد حرمانا عما تستدعيه بطباعها، فما كل نفس براجعة إلى الدنيا بإعجاز أو خرق عادة، والحرمان المستمر

[ 208 ]

قسر دائم. قلت: هذه النفوس التي خرجت من القوة إلى الفعل في الدنيا واتصلت إلى حد وماتت عندها لا تبقى على إمكان الاستكمال اللاحق دائما بل يستقر على فعليتها الحاضرة بعد حين أو تخرج إلى الصورة العقلية المناسبة لذلك وتبقى على ذلك وتزول الامكان المذكور بعد ذلك فالانسان الذي مات وله نفس ساذجة غير أنه فعل أفعالا وخلط عملا صالحا وآخر سيئا لو عاش حينا أمكن أن يكتسب على نفسه الساذجة صورة سعيده أو شقيه وكذا لو عاد بعد الموت إلى الدنيا وعاش أمكن أن يكتسب على صورته السابقة صورة خاصة جديدة وإذا لم يعد فهو في البرزخ مثاب أو معذب بما كسبته من الافعال حتى يتصور بصورة عقلية مناسبة لصورته السابقة المثالية وعند ذلك يبطل الامكان المذكور ويبقى إمكانات الاستكمالات العقلية فإن عاد إلى الدنيا كالانبياء والاولياء لو عادوا إلى الدنيا بعد موتهم أمكن أن يحصل صورة أخرى عقلية من ناحية المادة والافعال المتعلقة بها ولو لم يعد فليس له إلا ما كسب من الكمال والصعود في مدارجه، والسير في صراطه، هذا. ومن المعلوم أن هذا ليس قسرا دائما ولو كان مجرد حرمان موجود عن كماله الممكن له بواسطة عمل عوامل وتأثير علل مؤثرة قسرا دائما لكان أكثر حوادث هذا العالم الذي هو دار التزاحم، وموطن التضاد أو جميعها قسرا دائما، فجميع أجزاء هذا العالم الطبيعي مؤثرة في الجميع، وإنما القسر الدائم أن يجعل في غريزة نوع من الانواع إقتضاء كمال من الكمالات أو إستعداد ثم لا يظهر أثر ذلك دائما إما لا مر في داخل ذاته أو لامر من خارج ذاته متوجه إلى إبطاله بحسب الغريزة فيكون تغريز النوع المقتضي أو المستعد للكمال تغريزا باطلا وتجبيلا هباء لغوا فافهم ذلك، وكذا لو فرضنا إنسانا تغيرت صورته إلى صورة نوع آخر من أنواع الحيوان كالقرد والخنزير فإنما هي صورة على صورة، فهو إنسان خنزير أو إنسان قردة، لا إنسان بطلت إنسانيتة وخلت الصورة الخنزيرية أو القردية محلها، فالانسان إذا كسب صورة من صور الملكات تصورت نفسه بها ولا دليل على استحالة خروجها في هذه الدنيا من الكمون إلى البروز على حد ما ستظهر في الآخرة بعد الموت، وقد مر أن النفس

[ 209 ]

الانسانية في أول حدوثها على السذاجة يمكن أن تتنوع بصورة خاصة تخصصها بعد الابهام وتقيدها بعد الاطلاق والقبول فالممسوخ من الانسان إنسان ممسوخ لا أنه ممسوخ فاقد للانسانية هذا، ونحن نقرا في المنشورات اليومية من أخبار المجامع العلمية بأوربا وأمريكا ما يؤخذ جواز الحيوة بعد الموت، وتبدل صورة الانسان بصورة المسخ، وإن لم نتكل في هذه المباحث على أمثال هذه الاخبار، لكن من الواجب على الباحثين من المحصلين أن لا ينسوا اليوم ما يتلونه بالامس. فإن قلت: فعلى هذا فلا مانع من القول بالتناسخ. قلت: كلا فإن لتناسخ وهو تعلق النفس المستكملة بنوع كمالها بعد مفارقتها البدن ببدن آخر محال، فإن هذا البدن إن كان ذا نفس استلزم التناسخ تعلق نفسين ببدن واحد، وهو وحدة الكثير، وكثرة الواحد، وإن لم تكن ذا نفس استلزم رجوع ما بالفعل إلى القوة، كرجوع الشيخ إلى الصبا، وكذلك يستحيل تعلق نفس إنساني مستكملة مفارقة ببدن نبأتي أو حيواني بما مر من البيان.

(بحث علمي وأخلاقي)

 أكثر الا مم الماضية قصة في القرآن امة بني اسرائيل، وأكثر الانبياء ذكرا فيه موسى بن عمران عليه السلام، فقد ذكر اسمه في القرآن، في مائة وستة وثلاثين موضعا ضعف ما ذكر إبراهيم عليه السلام الذي هو أكثر الانبياء ذكرا بعد موسى، فقد ذكر في تسعة وستين موضعا على ما قيل فيهما، والوجه الظاهر فيه أن الاسلام هو الدين الحنيف المبني على التوحيد الذي أسس أساسه إبراهيم عليه السلام وأتمه الله سبحانه وأكمله لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى: (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل) الحج - 78، وبنو إسرائيل أكثر الامم لجاجا وخصاما، وأبعدهم من الانقياد للحق، كما أنه كان كفار العرب الذين ابتلى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الصفة، فقد آل الامر إلى أن نزل فيهم: (إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) البقرة - 6.

[ 210 ]

ولا ترى رذيلة من رذائل بني اسرائيل في قسوتهم وجفوتهم مما ذكره القرآن إلا وهو موجود فيهم، وكيف كان فأنت إذا تأملت قصص بني اسرائيل المذكورة في القرآن، وأمعنت فيها، وما فيها من أسرار أخلاقهم وجدت أنهم كانوا قوما غائرين في المادة مكبين على ما يعطيه الحس من لذائذ الحياة الصورية، فقد كانت هذه الامة لا تؤمن بما وراء الحس، ولا تنقاد إلا إلى اللذة والكمال المادي وهم اليوم كذلك. وهذا الشأن هو الذي صير عقلهم وإرادتهم تحت انقياد الحس والمادة، لا يعقلون إلا ما يجوزانه، ولا يريدون إلا ما يرخصان لهم ذلك فانقياد الحس يوجب لهم أن لا يقبلوا قولا إلا إذا دل عليه الحس، وإن كان حقا وانقياد المادة اقتضى فيهم أن يقبلوا كل ما يريده أو يستحسنه لهم كبراؤهم ممن أوتي جمال المادة، وزخرف الحياة وإن لم يكن حقا، فأنتج ذلك فيهم التناقض قولا وفعلا، فهم يذمون كل اتباع باسم أنه تقليد وإن كان مما ينبغي إذا كان بعيدا من حسهم، ويمدحون كل اتباع باسم أنه حظ الحيوة، وان كان مما لا ينبغي إذا كان ملائما لهوساتهم المادية، وقد ساعدهم على ذلك وأعانهم على مكثهم الممتد وقطونهم الطويل بمصر تحت إستذلال المصريين، واسترقاقهم، وتعذيبهم، يسومونهم سوء العذاب ويذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم وفي ذلك بلاء من ربهم عظيم. وبالجملة فكانوا لذلك صعبة الانقياد لما يأمرهم به أنبيائهم، والربانيون من علمائهم مما فيه صلاح معاشهم ومعادهم (تذكر في ذلك مواقفهم مع موسى وغيره) وسريعة اللحوق إلى ما يدعوهم المغرضون والمستكبرون منهم. وقد ابتليت الحقيقة والحق اليوم بمثل هذه البلية بالمدنية المادية التي اتحفها إليها عالم الغرب، فهي مبنية القاعدة على الحس والمادة فلا يقبل دليل فيما بعد عن الحس ولا يسأل عن دليل فيما تضمن لذة مادية حسية، فأوجب ذلك إبطال الغريزة الانسانية في أحكامهاو ارتحال المعارف العالية والاخلاق الفاضلة من بيننا فصار يهدد الانسانية بالانهدام، وجامعة البشر بأشد الفساد وليعلمن نبأه بعد حين. واستيفاء البحث في الاخلاق ينتج خلاف ذلك، فما كل دليل بمطلوب، وما كل تقليد بمذموم، بيان ذلك: أن النوع الانساني بما أنه إنسان إنما يسير إلى كماله

[ 211 ]

الحيوي بأفعاله الارادية المتوقفة على الفكر والارادة منه مستحيلة التحقق إلا عن فكر، فالفكر هو الاساس الوحيد الذي يبتني عليه الكمال الوجودي الضروري فلا بد للانسان من تصديقات عملية أو نظرية يرتبط بها كماله الوجودي ارتباطا بلا واسطة أو بواسطة، وهي القضايا التي نعلل بها أفعالنا الفرديه أو الاجتماعية أو نحضرها في أذهاننا، ثم نحصلها في الخارج بأفعالنا هذا. ثم إن في غريزة الانسان أن يبحث عن علل ما يجده من الحوادث، أو يهاجم إلى ذهنه من المعلومات، فلا يصدر عنه فعل يريد به إيجاد ما حضر في ذهنه في الخارج إلا إذا حضر في ذهنه علته الموجبة، ولا يقبل تصديقا نظريا إلا إذا اتكئ على التصديق بعلته بنحو، وهذا شأن الانسان لا يتخطاه البته، ولو عثرنا في موارد على ما يلوح منه خلاف ذلك فبالتأمل والامعان تنحل الشبهة، ويظهر البحث عن العلة، والركون والطمأنينة إليها فطري، والفطرة لا تختلف ولا يتخلف فعلها، وهذا يؤدي الانسان إلى ما فوق طاقته من العمل الفكري والفعل المتفرع عليه لسعة الاحتياج الطبيعي، بحيث لا يقدر الانسان الواحد إلى رفعه معتمدا على نفسه ومتكئا إلى قوة طبيعتة الشخصية فاحتالت الفطرة إلى بعثه نحو الاجتماع وهو المدينة والحضارة ووزعت أبواب الحاجة الحيوية بين أفراد الاجتماع، ووكل بكل باب من أبوابها طائفة كاعضاء الحيوان في تكاليفها المختلفة المجتمعة فائدتها وعائدتها في نفسه، ولا تزال الحوائج الانسانية تزداد كمية واتساعا وتنشعب الفنون والصناعات والعلوم، ويتربى عند ذلك الاخصائيون من العلماء والصناع، فكثير من العلوم والصناعات كانت علما أو صنعة واحدة يقوم بأمرها الواحد من الناس، واليوم نرى كل باب من أبوابه علما أو علوما أو صنعة أو صنائع، كالطب المعدود قديما فنا واحدا من فروع الطبيعيات وهو اليوم فنون لا يقوم الواحد من العلماء الاخصائيين بأزيد من أمر فن واحد منها. وهذا يدعو الانسان بالالهام الفطري، أن يستقل بما يخصه من الشغل الانساني في البحث عن علته ويتبع في غيره من يعتمد على خبرته ومهارته. فبناء العقلاء من أفراد الاجتماع على الرجوع إلى أهل الخبرة وحقيقة هذا الاتباع، والتقليد المصطلح والركون إلى الدليل الاجمالي فيما ليس في وسع الانسان

[ 212 ]

أن ينال دليل تفاصيله كما أنه مفطور على الاستقلال بالبحث عن دليله التفصيلي فيما يسعة أن ينال تفصيل علته و دليله، وملاك الامر كله أن الانسان لا يركن إلى غير العلم، فمن الواجب عند الفطرة الاجتهاد، وهو الاستقلال في البحث عن العلة فيما يسعه ذلك والتقليد وهو الاتباع ورجوع الجاهل إلى العالم فيما لا يسعه ذلك، ولما استحال إن يوجد فرد من هذا النوع الانساني مستقلا بنفسه قائما بجميع شؤون الاصل الذي يتكي عليه الحياة أستحال أن يوجد فرد من الانسان من غير اتباع وتقليد، ومن ادعى خلاف ذلك أو ظن من نفسه انه غير مقلد في حيوته فقد سفه نفسه. نعم: التقليد فيما للانسان أن ينال علته وسببه كالاجتهاد فيما ليس له الورود عليه والنيل منه، من الرذائل التي هي من مهلكات الاجتماع، ومفنيات المدنية الفاضلة ولا يجوز الاتباع المحض إلا في الله سبحانه لانه السبب الذي إليه تنتهي الاسباب أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون - 75. وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون - 76، أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون - 77. ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون - 78. فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون - 79. وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما

[ 213 ]

معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون - 80. بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأؤلئك أصحاب النار هم فيها خالدون - 81. والذين آمنوا وعملوا الصالحات أؤلئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون - 82.

(بيان)

 السياق وخاصة ما في ذيل الآيات يفيد أن اليهود عند الكفار، وخاصة كفار المدينة: لقرب دارهم منهم كانوا يعرفون قبل البعثة ظهيرا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعندهم علم الدين والكتاب، ولذلك كان الرجاء في إيمانهم أكثر من غيرهم، وكان المتوقع أن يؤمنوا به أفواجا فيتأيد بذلك ويظهر نوره، وينتشر دعوته، ولما هاجر النبي إلي المدينة وكان من أمرهم ما كان تبدل الرجاء قنوطا، والطمع يأسا، ولذلك يقول سبحانه: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم الخ، يعني أن كتمان الحقائق وتحريف الكلام من شيمهم، فلا ينبغي أن يستبعد نكولهم عما قالوا ونقضهم ما أبرموا. قوله تعالى: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم، فيه التفات من خطاب بني اسرائيل إلى خطاب النبي والذين آمنوا ووضعهم موضع الغيبة وكان الوجه فيه أنه لما قص قصة البقرة وعدل فيها من خطاب بني إسرائيل إلى غيبتهم لمكان التحريف الواقع فيها بحذفها من التورية كما مر، اريد إتمام البيان بنحو الغيبة بالاشارة إلى تحريفهم كتاب الله تعالى فصرف لذلك وجه الكلام إلى الغيبة. قوله تعالى: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا الخ، لا تقابل بين الشرطين وهما مدخولا إذا في الموضعين كما في قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن) البقرة - 14، بل المراد بيان موضعين آخرين من مواضع جرائمهم وجهالتهم.

[ 214 ]

احدهما: أنهم ينافقون فيتظاهرون بالايمان صونا لانفسم من الايذاء والطعن والقتل. وثانيهما: أنهم يريدون تعمية الامر وإبهامه على الله سبحانه العالم بسرهم وعلانيتهم وذلك أن العامة منهم، وهم أولوا بساطة النفس ربما كانوا ينبسطون للمؤمنين، فيحدثونهم ببعض ما في كتبهم من بشارات النبي أو ما ينفع المؤمنين في تصديق النبوة، كما يلوح من لحن الخطاب فكان أولياؤهم ينهونهم معللا بأن ذلك مما فتح الله لهم، فلا ينبغي أن يفشى للمؤمنين، فيحاجوهم به عند ربهم كأنهم لو لم يحاجوهم به عند ربهم لم يطلع الله عليه فلم يؤاخذهم بذلك ولازم ذلك أن الله تعالى إنما يعلم علانية الامر، دون سره وباطنه وهذا من الجهل بمكان، فرد الله سبحانه عليهم بقوله: (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون الآية) فإن هذا النوع من العلم - وهو ما يتعلق بظاهر الامر دون باطنه - إنما هو العلم المنتهي إلى الحس الذي يفتقر إلى بدن مادي مجهز بآلات مادية مقيد بقيود الزمان والمكان مولود لعلل اخرى مادية وما هو كذلك مصنوع من العالم لا صانع العالم. وهذا أيضا من شواهد ما قدمناه آنفا أن بني إسرائيل لاذعانهم باصالة المادة كانوا يحكمون في الله سبحانه بما للمادة من الاحكام، فكانوا يظنونه موجودا فعالا في المادة مستعليا قاهرا عليه، ولكن بعين ما تفعل علة مادية وتستعلي وتقهر على معلول مادي، وهذا أمر لا يختص به اليهود، بل هو شأن كل من يذعن باصالة المادة من المليين وغيرهم، فلا يحكمون في ساحة قدسه سبحانه إلا بما يعقلون من أوصاف الماديات من الحيوة والعلم والقدرة والاختيار والارادة والقضاء والحكم وتدبير الامر وإبرام القضاء إلى غير ذلك، وهذا داء لا ينجع معه دواء، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يعقلون، حتى آل الامر إلى أن استهزأ بهم من لا مسكة له في دينهم الحق ولا قدم له في معارفهم الحقة، قائلا أن المسلمين يروون عن نبيهم ان الله خلق آدم على صورته وهم معاشر أمته يخلقون الله على صورة آدم، فهؤلاء يدور امرهم بين أن يثبتوا لربهم جميع احكام المادة، كما يفعله المشبهة من المسلمين أو من يتلو تلوهم وإن لم يعرف بالتشبيه، أو لا يفهموا شيئا من أوصاف جماله، فينفوا الجميع بارجاعها إلى السلوب قائلا أن ما يبين أوصافه تعالى من الالفاظ إنما يقع عليه بالاشتراك اللفظي

[ 215 ]

فلقولنا: انه موجود ثابت عالم قادر حي معان لا نفهمها ولا نعقلها، فاللازم إرجاع معانيها إلى النفي، فالمعنى مثلا أنه ليس بمعدوم، ولا زائل، ولا جاهل، ولا عاجز ولا ميت فاعتبروا يا أولي الابصار فهذا بالاستلزام زعم منهم بانهم يؤمنون بما لا يدرون، ويعبدون ما لا يفهمون، ويدعون إلى ما لا يعقلون، ولا يعقله أحد من الناس، وقد كفتهم الدعوة الدينية مؤنة هذه الاباطيل بالحق فحكم على العامة أن يحفظوا حقيقة القول ولب الحقيقة بين التشبيه والتنزيه فيقولوا: ان الله سبحانه شئ لا كالاشياء وأن له علما لا كعلومنا، وقدرة لا كقدرتنا وحيوة لا كحيوتنا، مريد لا بهمامة، متكلم لا بشق فم، وعلى الخاصة أن يتدبروا في آياته ويتفقهوا في دينه فقد قال الله سبحانه: (هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الالباب) الزمر - 9، والخاصة كما لا يساوون العامة في درجات المعرفة، كذلك لا يساوونهم في التكاليف المتوجهة إليهم، فهذا هو التعليم الديني النازل في حقهم لو أنهم كانوا يأخذون به. قوله تعالى: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب الا أماني، الامي من لا يقرأ ولا يكتب منسوب إلى الام لان عطوفة الام وشفقتها كانت تمنعها أن ترسل ولدها إلى المعلم وتسلمه إلى تربيتة، فكان يكتفي بتربية الام، والاماني جمع امنية، وهي الاكاذيب، فمحصل المعنى انهم بين من يقرأ الكتاب ويكتبه فيحرفه وبين من لا يقرأ ولا يكتب ولا يعلم من الكتاب الا اكاذيب المحرفين. قوله تعالى: فويل للذين يكتبون، الويل هو الهلكة والعذاب الشديد والحزن والخزى والهوان وكل ما يحذره الانسان اشد الحذر والاشتراء هو الابتياع. قوله تعالى: فويل لهم مما كسبت أيديهم وويل لهم الخ، الضمائر إما راجعة إلى بني اسرائيل أو لخصوص المحرفين منهم ولكل وجه وعلى الاول يثبت الويل للاميين منهم أيضا. قوله تعالى: بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته الخ، الخطيئة هي الحالة الحاصلة للنفس من كسب السيئة، ولذلك أتي باحاطة الخطيئة بعد ذكر كسب

[ 216 ]

السيئة وإحاطة الخطيئة توجب ان يكون الانسان المحاط مقطوع الطريق إلى النجاة كان الهداية لاحاطة الخطيئة به لا تجد إليه سبيلا فهو من أصحاب النار مخلدا فيها ولو كان في قلبه شئ من الايمان بالفعل، أو كان معه بعض ما لا يدفع الحق من الاخلاق والملكات، كالانصاف والخضوع للحق، أو ما يشابههما لكانت الهداية والسعادة ممكنتي النفوذ إليه، فإحاطة الخطيئة لا تتحقق الا بالشرك الذي قال تعالى فيه: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء - 48، ومن جهة اخرى إلا بالكفر وتكذيب الآيات كما قال سبحانه: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة - 39، فكسب السيئة وإحاطة الخطيئة كالكلمة الجامعة لما يوجب الخلود في النار. واعلم أن هاتين الآيتين قريبتا المعنى من قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين الخ) البقرة - 62، وانما الفرق أن الآيتين أعني قوله: بلى من كسب سيئة، في مقام بيان ان الملاك في السعادة انما هو حقيقة الايمان والعمل الصالح دون الدعاوي والآيتان المتقدمتان أعني قوله: (إن الذين آمنوا الخ، في مقام بيان أن الملاك فيها هو حقيقة الايمان والعمل الصالح دون التسمي بالاسماء.

(بحث روائي)

 في المجمع: في قوله وإذا لقوا الذين الآية، عن الباقر عليه السلام قال: كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدثوهم بما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فنهى كبراءهم عن ذلك وقالوا لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيحاجوهم به عند ربهم فنزلت هذه الآية. وفي الكافي عن أحدهما عليهما السلام: في قوله تعالى: بلى من كسب سيئة، قال: إذا جحدوا ولآية أمير المؤمنين فاؤلئك أصحاب النار هم فيها خالدون. اقول: وروي قريبا من هذا المعنى الشيخ في اماليه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والروايتان من الجرى والتطبيق على المصداق، وقد عد سبحانه الولاية حسنة في

[ 217 ]

قوله: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نجد له فيها حسنا) الشوري - 23، ويمكن أن يكون من التفسير لما سيجئ في سورة المائدة أنها العمل بما يقتضيه التوحيد وانما نسب إلى علي عليه السلام لانه أول فاتح من هذه الامة لهذا الباب فانتظر. وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا، وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكوة ثم توليتم إلا قليلا منكم وإنتم معرضون - 83. وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون - 84. ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من دياركم تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحيوة الدنيا يوم القيمة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون - 85. أولئك الذين أشتروا الحيوة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون - 86. ولقد آتينا موسى وقفينا من بعده بالرسل

[ 218 ]

وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبر تم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون - 87. وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون - 88.

(بيان)

 قوله تعالى: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل، الآية في بديع نظمها تبتدئ أولا بالغيبة وتنتهي إلى الخطاب حيث تقول: ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون، ثم إنها تذكر أولا الميثاق وهو أخذ للعهد، ولا يكون إلا بالقول، ثم تحكي ما أخذ عليه الميثاق فتبتدئ فيه بالخبر، حيث تقول: لا تعبدون إلا الله، وتختتم بالانشاء حيث تقول وقولوا للناس حسنا إلخ. ولعل الوجه في ذلك كله أن الآيات المتعرضة لحال بني إسرائيل لما بدئت بالخطاب لمكان إشتمالها على التقريع والتوبيخ وجرت عليه كان سياق الكلام فيها الخطاب ثم لما تبدل الخطاب بالغيبة بعد قصة البقرة لنكتة داعية إليها كما مر حتى انتهت إلى هذه الآية، فبدئت أيضا بالغيبة لكن الميثاق حيث كان بالقول وبنى على حكايته حكي بالخطاب فقيل: لا تعبدون إلا الله إلخ، وهو نهى في صورة الخبر. وإنما فعل ذلك دلالة على شدة الاهتمام به، كأن الناهي لا يشك في عدم تحقق ما نهى عنه في الخارج، ولا يرتاب في أن المكلف المأخوذ عليه الميثاق سوف لا ينتهي عن نهيه، فلا يوقع الفعل قطعا وكذا قوله: وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين، كل ذلك أمر في صورة الخبر. ثم إن الانتقال إلى الخطاب من قبل الحكاية أعطى فرصة للانتقال إلى أصل الكلام، وهو خطاب بني إسرائيل لمكان الاتصال في قوله: وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة ثم توليتم الخ وانتظم بذلك السياق.

[ 219 ]

قوله تعالى: وبالوالدين إحسانا، امر أو خبر بمعنى الامر والتقدير واحسنوا بالوالدين إحسانا، وذي القربى واليتامى والمساكين، أو التقدير: وتحسنون بالوالدين إحسانا الخ، وقد رتب موارد إلاحسان أخذا من الاهم والاقرب إلى المهم والابعد فقرابة الانسان أقرب إليه من غيرهم، والوالدان وهما الاصل الذي تتكي عليه وتقوم به شجرة وجوده أقرب من غيرهما من الارحام وفي غير القرابة أيضا اليتامى احق بالاحسان لصغرهم وفقدهم من يقوم بأمرهم من المساكين. هذا وقوله: واليتامى، اليتيم من مات أبوه ولا يقال لمن ماتت أمه يتيم. وقيل اليتيم في الانسان إنما تكون من جهة الاب وفي غير الانسان من سائر الحيوان من جهة الام وقوله تعالى: والمساكين، جمع مسكين وهو الفقير العادم الذليل، وقوله تعالى: حسنا مصدر بمعنى الصفة جئ به للمبالغة. وفي بعض القرائات حسنا، بفتح الحاء والسين صفة مشبهة. والمعنى قولوا للناس قولا حسنا، وهو كناية عن حسن المعاشرة مع الناس، كافرهم، ومؤمنهم ولا ينافي حكم القتال حتى تكون آية القتال ناسخة له لان مورد القتال غير مورد المعاشرة فلا ينافي الامر بحسن المعاشرة كما أن القول الخشن في مقام التأديب لا ينافي حسن المعاشرة. قوله تعالى: لا تسفكون دماءكم، خبر في معنى الانشاء نظير ما مر في قوله: لا تعبدون الا الله، والسفك الصب. قوله تعالى: تظاهرون عليهم، التظاهر هو التعاون، والظهير العون مأخوذ من الظهر لان العون يلي ظهر الانسان. قوله تعالى: وهو محرم عليكم إخراجهم، الضمير لاشان والقصة كقوله تعالى: قل هو الله أحد. قوله تعالى أفتؤمنون ببعض الكتاب، أي ما هو الفرق بين الاخراج والفدية حيث أخذتم بحكم الفدية وتركتم حكم الاخراج وهما جميعا في الكتاب، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض. قوله تعالى: وقفينا، التقفية الاتباع وإتيان الواحد قفأ الواحد. قوله تعالى: وآتينا عيسى بن مريم البينات، سيأتي الكلام فيه في سورة آل عمران.

[ 220 ]

قوله تعالى: وقالوا قلوبنا غلف جمع أغلف من الغلاف أي قلوبنا محفوظة تحت لفائف وأستار وحجب، فهو نظير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) حم سجدة - 5، وهو كناية عن عدم امكان استماع ما يدعون إليه.

بحث روائي

 في الكافي عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله تعالى: وقولوا للناس حسنا الآية. قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال فيكم. وفي الكافي أيضا عن الصادق عليه السلام قال: قولوا للناس ولا تقولوا الا خيرا حتى تعلموا ما هو. وفي المعاني عن الباقر عليه السلام قال: قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن الله عز وجل يبغض السباب اللعان الطعان على المؤمنين الفاحش المفحش السائل ويحب الحيي الحليم العفيف المتعفف. أقول: وروي مثل الحديث في الكافي بطريق آخر عن الصادق عليه السلام وكذا العياشي عنه عليه السلام ومثل الحديث الثاني في الكافي عنه. ومثل الحديث الثالث العياشي عن الباقر عليه السلام وكأن هذه المعاني أستفيدت من اطلاق الحسن عند القائل واطلاقه من حيث المورد. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام قال: ان الله بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بخمسة أسياف فسيف على أهل الذمة. قال الله: وقولوا للناس حسنا، نزلت في أهل الذمة ثم نسختها أخرى قوله: (قاتلوا الذين لا يؤمنون) الحديث. أقول: وهو منه عليه السلام أخذ بإطلاق آخر للقول وهو شموله للكلام ولمطلق التعرض. يقال لا تقل له الا حسنا وخيرا أي لا تتعرض له الا بالخير والحسن، ولا تمسسه الا بالخير والحسن. هذا ان كان النسخ في قوله عليه السلام هو النسخ بالمعنى الاخص

[ 221 ]

وهو المصطلح ويمكن ان يكون المراد هو النسخ بالمعنى الاعم، على ما سيجئ في قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها) البقرة - 106، وهو الكثير في كلامهم عليهم السلام لتكون هذه الآية وآية القتال غير متحدتين موردا. ولما جائهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين - 89. بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فبائوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين - 90. وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما ورائه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين - 91. ولقد جائكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون - 92. وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين - 93.

[ 222 ]

(بيان)

 قوله تعالى: ولما جاءهم الخ، السياق يدل على أن هذا الكتاب هو القرآن. وقوله: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، على وقوع تعرض بهم من كفار العرب، وأنهم كانوا يستفتحون أي يطلبون الفتح عليهم ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهجرته وأن ذلك الاستفتاح قد استمر منهم قبل الهجرة، بحيث كان الكفار من العرب أيضا يعرفون ذلك منهم لمكان قوله: كانوا، وقوله: فلما جاءهم ما عرفوا، أي عرفوا أنه هو بإنطباق ما كان عندهم من الاوصاف عليه كفروا. قوله تعالى: بئسما إشتروا بيان لسبب كفرهم بعد العلم وأن السبب الوحيد في ذلك هوالبغي والحسد، فقوله بغيا، مفعول مطلق نوعي. وقوله أن ينزل الله، متعلق به، وقوله تعالى: فبائوا بغضب على غضب، أي رجعوا بمصاحبته أو بتلبس غضب بسبب كفرهم بالقرآن على غضب بسبب كفرهم بالتوراة من قبل، والمعنى أنهم كانوا قبل البعثة والهجرة ظهيرا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومستفتحا به وبالكتاب النازل عليه، ثم لما نزل بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزل عليه القرآن وعرفوا أنه هو الذي كانوا يستفتحون به وينتظرون قدومه هاج بهم الحسد، وأخذهم الاستكبار، فكفروا وإنكروا ما كانوا يذكرونه كما كانوا يكفرون بالتوراة من قبل، فكان ذلك منهم كفرا على كفر. قوله تعالى: ويكفرون بما ورائه، أي يظهرون الكفر بما ورائه، وإلا فهم بالذي أنزل إليهم وهو التوراة أيضا كافرون. قوله تعالى: قل فلم تقتلون، الفاء للتفريع. والسؤال متفرع على قولهم: نؤمن بما أنزل علينا، أي لو كان قولكم: نؤمن بما أنزل علينا حقا وصدقا فلم تقتلون أنبياء الله، ولم كفرتم بموسى بإتخاذ العجل، ولم قلتم عند أخذ الميثاق ورفع الطور: سمعنا وعصينا. قوله تعالى: واشربوا في قلوبهم العجل، الاشراب هو السقى، والمراد بالعجل

[ 223 ]

حب العجل، وضع موضعه للمبالغة كأنهم قد أشربوا نفس العجل وبه يتعلق قوله في قلوبهم، ففي الكلام استعارتان أو استعارة ومجاز. قوله تعالى: قل بئسما يأمركم به إيمانكم، بمنزلة أخذ النتيجة مما أورد عليهم من قتل الانبياء والكفر بموسى، والاستكبار بإعلام المعصية، وفيه معنى الاستهزاء بهم.

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق الآية) قال عليه السلام: كانت اليهود تجد في كتبهم أن مهاجر محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين عير وأحد فخرجوا يطلبون الموضع، فمروا بجبل يقال له حداد فقالوا حداد وأحد سواء، فتفرقوا عنده، فنزل بعضهم بتيما، وبعضهم بفدك، وبعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيما إلى بعض إخوانهم، فمر بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه، وقال لهم أمر بكم ما بين عير وأحد، فقالوا له إذا مررت بهما فآذنا لهما، فلما توسط بهم أرض المدينة، قال ذلك عير وهذا احد فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا له قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا فكتبوا إليهم إنا قد إستقرت بنا الدار واتخذنا بها الاموال وما أقربنا منكم فإذا كان ذلك أسرعنا إليكم، واتخذوا بأرض المدينة، أموالا فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تبع فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ثم آمنهم فنزلوا عليه فقال لهم إني قد إستطبت بلادكم ولا أراني إلا مقيما فيكم، فقالوا: ليس ذلك لك إنها مهاجر نبي، وليس ذلك لاحد حتى يكون ذلك، فقال لهم فاني مخلف فيكم من اسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره فخلف حيين تراهم: الاوس والخزرج، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم أما لو بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا فلما بعث الله محمدا آمنت به الانصار وكفرت به اليهود وهو قوله تعالى: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين

[ 224 ]

كفروا إلى آخر الآية. وفي الدر المنثور أخرج ابن اسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم (في الدلائل) عن إبن عباس أن اليهود كانوا يستفتحون على الاوس والخزرج برسول الله قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن أبي البراء وداود بن سلمة يا معشر اليهود إتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أصل شرك وتخبرونا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير ما جاءنا بشئ نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله: ولما جاءهم كتاب من عند الله الآية. وفي الدر المنثور أيضا أخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحاك عن إبن عباس قال كانت يهود بني قريظة والنضير من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يستفتحون الله، يدعون على الذين كفروا ويقولون: اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الامي إلا نصرتنا عليهم فينصرون فلما جائهم ما عرفوا يريد محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ولم يشكوا فيه كفروا به. أقول: وروي قريبا من هذين المعنيين بطرق أخرى أيضا. قال بعض المفسرين بعد الاشارة إلى الرواية الاخيرة ونظائرها: إنها على ضعف رواتها ومخالفتها للروايات المنقولة شاذة المعنى بجعل الاستفتاح دعاء بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي بعض بحقه وهذا غير مشروع ولا حق لاحد على الله فيدعى به إنتهى. وهذا ناش من عدم التأمل في معنى الحق وفي معنى القسم. بيانه: أن القسم هو تقييد الخبر أو الانشاء بشئ ذي شرافة وكرامة من حيث أنه شريف أو كريم فتبطل شرافته أو كرامته ببطلان النسبة الكلامية، فإن كان خبرا فببطلان صدقه وإن كان إنشاء أمرا أو نهيا فبعدم إمتثال التكليف. فإذا قلت: لعمري إن زيدا قائم فقد قيدت صدق كلامك بشرافة عمرك وحياتك وعلقتها عليه بحيث لو كان حديثك كاذبا كان عمرك فاقدا للشرافة، وكذا إذا قلت إفعل كذا وحياتي أو قلت أقسمك بحياتي أن تفعل كذا فقد قيدت أمرك بشرف حياتك بحيث لو لم يأتمر مخاطبك لذهب بشرف

[ 225 ]

حياتك وقيمة عمرك. ومن هنا يظهر أولا: أن القسم أعلى مراتب التأكيد في الكلام كما ذكره أهل الادب. وثانيا: أن المقسم به يجب أن يكون أشرف من متعلقه فلا معنى لتأكيد الكلام بما هو دونه في الشرف والكرامة. وقد أقسم الله تعالى في كتابه باسم نفسه ووصفه كقوله: (والله ربنا) وكقوله: (فو ربك لنسئلنهم) وقوله: (فبعزتك لاغوينهم) وأقسم بنبيه وملائكته وكتبه وأقسم بمخلوقاته كالسماء والارض والشمس والقمر والنجوم والليل والنهار واليوم والجبال والبحار والبلاد والانسان والشجر والتين والزيتون. وليس إلا أن لها شرافة حقة بتشريف الله وكرامة على الله من حيث إن كلا منها إما ذو صفة من أوصافه المقدسة الكريمة بكرامة ذاته المتعالية أو فعل منسوب إلى منبع البهاء والقدس - والكل شريف بشرف ذاته الشريفة - فما المانع للداعي منا إذا سئل الله شيئا أن يساله بشئ منها من حيث أن الله سبحانه شرفه وأقسم به ؟ وما الذي هون الامر في خصوص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أخرجه من هذه الكلية وإستثناء من هذه الجملة ؟. ولعمري ليس رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأهون عند الله من تينه عراقية، أو زيتونة شامية، وقد أقسم الله بشخصه الكريم فقال: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) الحجر - 72. ثم إن الحق - ويقابله الباطل - هو الثابت الواقع في الخارج من حيث انه كذلك كالارض والانسان وكل أمر ثابت في حد نفسه ومنه الحق المالي وسائر الحقوق الاجتماعية حيث أنها ثابتة بنظر الاجتماع وقد أبطل القرآن كل ما يدعي حقا إلا ما حققه الله وأثبته سواء في الايجاد أو في التشريع فالحق في عالم التشريع وظرف الاجتماع الديني هو ما جعله الله حقا كالحقوق المالية وحقوق الاخوان والوالدين على الولد وليس هو سبحانه محكوما بحكم أحد فيجعل عليه تعالى ما يلزم به كما ربما يظهر من بعض

[ 226 ]

الاستدلالات الاعتزاليه غير انه من الممكن ان يجعل على نفسه حقا، جعلا بحسب لسان التشريع - فيكون حقا لغيره عليه تعالى كما قال تعالى: (وكذلك حقا علينا ننجي المؤمنين) يونس - 103، وقال تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون) الصافات - 171 و 172 و 173. والنصر كما ترى مطلق، غير مقيد بشئ فالانجاء حق للمؤمنين على الله، والنصر حق للمرسل على الله تعالى وقد شرفه الله تعالى حيث جعله له فكان فعلا منه منسوبا إليه مشرفا به فلا من القسم به عليه تعالى وهو الجاعل المشرف للحق والمقسم بكل أمر شريف. إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن لا مانع من إقسام الله تعالى بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أو بحق نبيه وكذا إقسامه بأوليائه الطاهرين أو بحقهم وقد جعل لهم على نفسه حقا أن ينصرهم في صراط السعادة بكل نصر مرتبط بها كما عرفت. وأما قول القائل: ليس لاحد على الله حق فكلام واه. نعم ليس على الله حق يثبته عليه غيره فيكون محكوما بحكم غيره مقهورا بقهر سواه. ولا كلام لاحد في ذلك ولا أن الداعي يدعوه بحق ألزمه به غيره بل بما جعله هو تعالى بوعده الذي لا يخلف هذا. قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين - 94. ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين - 95. ولتجدنهم أحرص الناس على حيوة ومن الذين أشركوا يود

[ 227 ]

أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب ان يعمر والله بصير بما يعملون - 96. قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين - 97. من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبرئيل وميكال فإن الله عدو للكافرين - 98. ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون - 99.

(بيان)

 قوله تعالى: قل إن كانت لكم إلخ، لما كان قولهم: لن تمسنا النار إلا إياما معدودة، و قولهم: نؤمن بما أنزل علينا في جواب ما قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله يدلان بالالتزام على دعويهم أنهم ناجون في الآخرة دون غيرهم وأن نجاتهم وسعادتهم فيها غير مشوبة بهلاك وشقاء لانهم ليسوا بزعمهم بمعذبين إلا أياما معدودة وهي أيام عبادتهم للعجل قابلهم الله تعالى خطابا بما يظهر به كذبهم في دعويهم وانهم يعلمون ذلك من غير تردد وإرتياب فقال تعالى لنبيه: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة) أي سعادة تلك الدار فإن من ملك دارا فإنما يتصرف فيها بما يستحسنه ويحبه ويحل منها بأجمل ما يمكن وأسعده وقوله تعالى: (عند الله) أي مستقرا عنده تعالى وبحكمه وإذنه، فهو كقوله تعالى: (إن الدين عند الله الاسلام) آل عمران - 19 وقوله تعالى: (خالصة) أي غير مشوبة بما تكرهونه من عذاب أو هوان لزعمكم أنكم لا تعذبون فيها إلا أياما معدودة، قوله تعالى: (من دون الناس) وذلك لزعمكم بطلان كل دين إلا دينكم، وقوله تعالى: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) وهذا كقوله تعالى: (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم انكم أولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) الجمعة - 6، وهذه مؤاخذه بلازم فطري بين الاثر في

[ 228 ]

الخارج بحيث لا يقع فيه أدنى الشك وهو إن الانسان بل كل موجود ذي شعور إذا خير بين الراحة والتعب إختار الراحة من غير تردد وتذبذب وإذا خير بين حيوة وعيشة مكدرة مشوبة وأخرى خالصة صافية إختار الخالصة الهنيئة قطعا ولو فرض إبتلائه بما كان يميل عنه إلى غيره من حياة شقية ردية أو عيشة منغصة لم يزل يتمنى الاخرى الطيبة الهنيئة فلا ينفك عن التحسر له في قلبه وعن ذكره في لسانه وعن السعي إليه في عمله. فلو كانوا صادقين في دعويهم أن السعادة الخالصة الاخروية لهم دون غيرهم من الناس وجب أن يتمنوه جنانا ولسانا أركانا ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم من قتل الانبياء والكفر بموسى ونقض المواثيق والله عليم بالظالمين. قوله تعالى: بما قدمت أيديهم كناية عن العمل فإن معظم العمل عند الحس يقع بواسطة اليد فيقدم بعد ذلك إلى من ينتفع به أو يطلبه ففيه عنايتان نسبة التقديم إلى الايدي دون أصحاب الايدي وعد كل عملا للايدي. وبالجملة أعمال الانسان وخصة ما يستمر صدورن منه أحسن دليل على ما طوى عليه ضميره وارتكز في باطنه والاعمال الطالحة والافعال الخبثه لا يكشف إلا عن طوية خبيثة تأبى أن تميل إلى القاء الله والحلول في دار أوليائه. قوله تعالى: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة، كالدليل المبين لقوله تعالى: ولن يتمنوه أبدا أي ويشهد على أنهم لن يتمنوا الموت، أنهم أحرص الناس على هذه الحيوة الدنيا التي لا حاجب ولا مانع عن تمني الدار الآخرة إلا الحرص عليها والاخلاد إليها، والتنكير في قوله تعالى: على حيوة للتحقير كما قال تعالى: (وما هذه الحيوة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون). العنكبوت - 64. قوله تعالى: ومن الذين أشركوا الظاهر أنه عطف على الناس والمعنى ولتجدنهم أحرص من الذين أشركوا. قوله تعالى: وما هو بمز حزحه من العذاب أن يعمر، الظاهر أن ما نافية وضمير

[ 229 ]

هو إما للشأن والقصة وأن يعمر مبتدأ خبره قوله: بمزحزحه أي بمبعده، وإما راجع إلى ما يدل عليه قوله: يود أحدهم، أي وما الذي يوده بمزحزحه من العذاب، وقوله تعالى: أن يعمر بيان له ومعنى الآية ولن يتمنوا الموت وأقسم لتجدنهم أحرص الناس على هذه الحيوة الحقيرة الردية الصارفة عن تلك الحيوة السعيدة الطيبة بل تجدهم أحرص على الحيوة من الذين أشركوا الذين لا يرون بعثا ولا نشورا يود أحدهم لو يعمر أطول العمر وليس أطول العمر بمبعده من العذاب لان العمر وهو عمر بالاخرة محدود منته إلى إمد وأجل. قوله تعالى: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، أي اطول العمر وأكثره، فالالف كناية عن الكثرة وهو آخر مراتب العدد بحسب الوضع الافرادي عند العرب والزائد عليه يعبر عنه بالتكرير والتركيب كعشرة آلاف ومائة الف وألف ألف. قوله تعالى: والله بصير بما يعملون، البصير من أسمائه الحسنى ومعناه العلم بالمبصرات فهو من شعب إسم العليم. قوله تعالى: قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك الخ، السياق يدل على أن الآية نزلت جوابا عما قالته اليهود وأنهم تابوا واستنكفوا عن الايمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعللوه بأنهم عدو لجبريل النازل بالوحي إليه. والشاهد على ذلك أن الله سبحانه يجيبهم في القرآن وفي جبريل معا في الآيتين وما ورد من شأن النزول يؤيد ذلك فأجاب عن قولهم: إنا لا نؤمن بالقرآن لعداوتنا لجبريل النازل به اولا: أن جبريل إنما نزل به على قلبك بإذن الله لا من عند نفسه فعداوتهم لجبريل لا ينبغي أن يوجب إعراضهم عن كلام نازل بإذن الله، وثانيا: أن القرآن مصدق لما في ايديهم من الكتاب الحق ولا معنى للايمان بأمر والكفر بما يصدقه. وثالثا. أن القرآن هدى للمؤمنين به، ورابعا أنه بشرى وكيف يصح لعاقل أن ينحرف عن الهداية ويغمض عن البشرى ولو كان الآتي بذلك عدوا له. وأجاب عن قولهم: إنا عدو جبريل أن جبريل ملك من الملائكة لا شأن له إلا إمتثال ما أمره به الله سبحانه كميكال وسائر الملائكة وهم عباد مكرمون لا يعصون

[ 230 ]

الله فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وكذلك رسل الله لا شأن لهم إلا بالله ومن الله سبحانه فبغضهم وإستعدائهم بغض وإستعداء لله ومن كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو لهم، وإلى هذين الجوابين تشير الايتان. وقوله تعالى: فإنه نزله على قلبك، فيه إلتفات من التكلم إلى الخطاب وكان الظاهر أن يقال على قلبي، لكن بدل من الخطاب للدلالة على أن القرآن كما لا شأن في إنزاله لجبريل وإنما هو مأمور مطيع كذلك لا شأن في تلقيه وتبليغه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن قلبه وعاء للوحي لا يملك منه شيئا وهو مأمور بالتبليغ. واعلم أن هذه الآيات في أواخرها، أنواع الالتفات وإن كان الاساس فيها الخطاب لبني إسرائيل، غير أن الخطاب إذا كان خطاب لوم وتوبيخ وطال الكلام صار المقام مقام إستملال للحديث مع المخاطب وإستحقار. لشأنه فكان من الحري للمتكلم البليغ الاعراض عن المخاطبة تارة بعد أخرى بالالتفات بعد الالتفات للدلالة على أنه لا يرضى بخطابهم لردائة سمعهم وخسة نفوسهم ولا يرضى بترك خطابهم إظهارا لحق القضاء عليهم. قوله تعالى: عدو للكافرين، فيه وضع الظاهر موضع المضمر والنكتة فيه الدلالة على علة الحكم كانه قيل: فإن الله عدو لهم لانهم كافرون والله عدو للكافرين. قوله تعالى: وما يكفر بها إلا الفاسقون، فيه دلالة على علة الكفر وأنه الفسق فهم لكفرهم فاسقون ولا يبعد أن يكون اللام في قولة الفاسقون للعهد الذكري، ويكون ذلك إشارة إلى ما مر في أوائل السورة من قوله تعالى: وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه الآية. وأما الكلام في جبريل وكيفية تنزيله القرآن على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذا الكلام في ميكال والملائكة فسيأتي فيما يناسبه من المحل إن شاء الله.

(بحث روائي)

 في المجمع في قوله تعالى: قل من كان عدوا لجبريل الآيتان، قال إبن عباس كان

[ 231 ]

سبب نزول الآية ما روي أن ابن صوريا وجماعة من يهود أهل فدك لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة سألوه فقالوا: يا محمد كيف نومك ؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان. فقال تنام عيناي وقلبي يقظان. قالوا: صدقت يا محمد فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة ؟ فقال أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة. قالوا: صدقت يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه وليس له من شبه أخواله شئ ؟ أو يشبه أخواله وليس فيه من شبه أعمامه شئ ؟ فقال أيهما علا مائه كان الشبه له قالوا صدقت يا محمد فأخبرنا عن ربك ما هو ؟ فأنزل الله سبحانه: قل هو الله أحد إلى آخر السورة. فقال له إبن صوريا خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك واتبعتك. أي ملك يأتيك بما ينزل الله عليك ؟ قال: فقال جبرئيل. قال: ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب وميكائيل ينزل باليسر والرخاء فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك. أقول: قوله: تنام عيناى وقلبي يقظان، قد استفاض الحديث من العامة والخاصة أنه كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه ومعناه أنه كان لا يغفل بالنوم عن نفسه فكان وهو في النوم يعلم أنه نائم وأن ما يراه رؤيا يراها ليس باليقظة، وهذا أمر بما يتفق للصالحين أحيانا عند طهارة نفوسهم وإشتغالها بذكر مقام ربهم وذلك أن إشراف النفس على مقام ربها لا يدعها غافلة عما لها من طور الحيوة الدنيوية ونحو تعلقها بربها. وهذا نحو مشاهدة يبين للانسان أنه في عالم الحيوة الدنيا على حال النوم سواء معه النوم الذي يراه الناس نوما فقط وكذا اليقظة التي يراها الناس يقظة وأن الناس وهم معتكفون على باب الحس مخلدون إلى أرض الطبيعة، رقود وان عدوا أنفسهم أيقاظا. فعن علي عليه اسلام: الناس نيام فإذا ماتوا إنتبهوا الحديث. وسيأتي زيادة استيفاء لهذا البحث وكذا الكلام في سائر فقرات هذا الحديث في مواضع مناسبة من هذا الكتاب إنشاء الله. أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا

[ 232 ]

يؤمنون - 100. ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون - 101.

(بيان)

 قوله تعالى: نبذه، النبذ الطرح. قوله تعالى: ولما جاءهم رسول، المراد به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا كل رسول كان يأتيهم مصدقا لما معهم، لعدم دلالة قوله: ولما جائهم على الاستمرار بل إنما يدل على الدفعة، والآية تشير إلى مخالفتهم للحق من حيث كتمانهم بشارة التوراة وعدم إيمانهم بمن يصدق ما معهم. واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن إشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون - 102. ولو أنهم آمنوا

[ 233 ]

واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون - 103.

(بيان)

 قوله تعالى: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك، الخ، قد اختلف المفسرون في تفسير الآية إختلافا عجييا لا يكاد يوجد نظيره في آية من آيات القرآن المجيد، فاختلفوا في مرجع ضمير قوله: إتبعوا، أهم اليهود الذين كانوا في عهد سليمان، أو الذين في عهد رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم أو الجميع ؟ واختلفوا في قوله: تتلوا، هل هو بمعنى تتبع الشياطين وتعمل به إو بمعنى تقرأ، أو بمعنى تكذب ؟ واختلفوا في قوله: الشياطين، فقيل هم شياطين الجن وقيل شياطين الانس وقيل هما معا، واختلفوا في قوله: على ملك سليمان، فقيل معناه في ملك سليمان، وقيل معناه في عهد ملك سليمان، وقيل معناه على ملك سليمان بحفظ ظاهر الاستعلاء في معنى على، وقيل معناه على عهد ملك سليمان، واختلفوا في قوله: ولكن الشياطين كفروا، فقيل إنهم كفروا بما إستخرجوه من السحر إلى الناس وقيل إنهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر، وقيل إنهم سحروا فعبر عن السحر بالكفر، واختلفوا في قوله: يعلمون الناس السحر، فقيل إنهم القوا السحر إليهم فتعلموه، وقيل إنهم دلوا الناس على إستخراج السحر وكان مدفونا تحت كرسي سليمان فاستخرجوه وتعلموه، واختلفوا في قوله: وما أنزل على الملكين فقيل ما موصولة والعطف على قوله: ما تتلوا، وقيل ما موصولة والعطف على قوله: السحر أي يعلمونهم ما أنزل على الملكين، وقيل ما نافية والواو إستينافية أي ولم ينزل على الملكين سحر كما يدعيه اليهود، واختلفوا في معنى الانزال فقيل إنزال من السماء وقيل بل من نجود الارض وأعاليها، واختلفوا في قوله: الملكين، فقيل كانا من ملائكة السماء، وقيل بل كانا إنسانين ملكين بكسر اللام إن قرأناه، بكسر اللام كما قرئ كذلك في الشواذ، أو ملكين بفتح اللام أي صالحين، أو متظاهرين بالصلاح. أن قرأناه على ما قرأ به المشهور، وإختلفوا في قوله: ببابل، فقيل هي بابل العراق وقيل بابل دماوند، وقيل، من نصيبين إلى رأس العين، وإختلفوا في قوله: وما يعلمان، فقيل علم بمعناه الظاهر، وقيل علم بمعنى اعلم، واختلفوا في قوله: فلا تكفر، فقيل، لا تكفر بالعمل بالسحر، وقيل لا تكفر بتعلمه، وقيل بهما معا،

[ 234 ]

و اختلفوا في قوله: فيتعلمون منهما، فقيل أي من هاروت وماروت، وقيل أي من السحر والكفر، وقيل بدلا مما علماه الملكان بالنهي إلى فعله، واختلفوا في قوله: ما يفرقون به بين المرء وزوجه، فقيل أي يوجدون به حبا وبغضا بينهما، وقيل إنهم يغرون أحد الزوجين ويحملونه على الكفر والشرك فيفرق بينهما إختلاف الملة والنحلة وقيل إنهم يسعون بينهما بالنميمة والوشاية فيؤل إلى الفرقة، فهذه نبذة من الاختلاف في تفسير كلمات ما يشتمل على القصة من الآية وجملة، وهناك إختلافات اخر في الخارج من القصة في ذيل الآية وفي نفس القصة، وهل هي قصة واقعة أو بيان على سبيل التمثيل ؟ أو غير ذلك ؟ وإذا ضربت بعض الارقام التي ذكرناها من الاحتمالات في البعض الآخر، ارتقى الحتمالات إلى كمية عجيبة وهي ما يقرب من الف الف ومائتين وستين الف احتمال 4 + 3 + 2 !. وهذا لعمر الله من عجائب نظم القرآن تتردد الآية بين مذاهب وإحتمالات تدهش العقول وتحير الالباب، والكلام بعد متك على اريكة حسنه متجمل في أجمل جماله متحل بحلي بلاغته وفصاحته وسيمر بك نظيرة هذه الآية وهي قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة) هود - 17. والذي ينبغي أن يقال: أن الآية بسياقها تتعرض لشأن آخر من شئون اليهود وهو تداول السحر بينهم، وأنهم كانوا يستندون في أصله إلى قصة معروفة أو قصتين معروفتين عندهم فيها ذكر من أمر سليمان النبي والملكين ببابل هاروت وماروت، فالكلام معطوف على ما عندهم من القصة التي يزعمونها إلا أن اليهود كما يذكره عنهم القرآن أهل تحريف وتغيير في المعارف والحقائق فلا يؤمنون ولا يؤمن من أمرهم أن يأتوا بالقصص التاريخية محرفة مغيرة على ما هو دأبهم في المعارف يميلون كل حين إلى ما يناسبه من منافعهم في القول والفعل وفيما يلوح من مطاوي جمل الآية كفاية، وكيف كان فيلوح من الآية أن اليهود كانوا يتناولون بينهم السحر ينسبونه إلى سليمان زعما منهم أن سليمان عليه السلام انما ملك الملك وسخر الجن والانس والوحش والطير، واتى بغرائب الامور وخوارقها بالسحر الذي هو بعض ما في أيديهم، وينسبون بعضه الآخر إلى الملكين ببابل هاروت وماروت فرد عليهم القرآن بأن سليمان عليه السلام لم يكن يعمل

[ 235 ]

بالسحر، كيف والسحر كفر بالله وتصرف في الكون على خلاف ما وضع الله العادة عليه وأظهره على خيال الموجودات الحية وحواسها ؟ ولم يكفر سليمان عليه السلام وهو نبي معصوم، وهو قوله تعالى: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) وقوله تعالى: (ولقد علموا لمن إشتريه ما له في الآخرة من خلاق) فسليمان عليه السلام أعلى كعبا وأقدس ساحة من أن ينسب إليه السحر والكفر وقد استعظم الله قدره في مواضع من كلامه في عدة من السور المكية النازلة قبل هذه السورة كسورة الانعام والانبياء والنمل وسورة (ص) وفيها أنه كان عبدا صالحا ونبيا مرسلا آتاه الله العلم والحكمة ووهب له من الملك ما لا ينبغي لاحد من بعده فلم يكن بساحر بل هو من القصص الخرافية والاساطير التي وضعتها الشياطين وتلوها وقرؤها على أوليائهم من الانس وكفروا بإضلالهم الناس بتعليم السحر. ورد عليهم القرآن في الملكين ببابل هاروت وماروت بأنه وإن انزل عليهما ذلك ولا ضير في ذلك لانه فتنة وامتحان إلهي كما ألهم قلوب بني آدم وجوه الشر والفساد فتنة وامتحانا وهو من القدر، فهما وإن أنزل عليهما السحر إلا أنهما ما كانا يعلمان من أحد إلا ويقولان له إنما نحن فتنة فلا تكفر باستعمال ما تتعلمه من السحر في غير مورده كإبطال السحر والكشف عن بغي أهله وهم مع ذلك يتعلمون منهما ما يفسدون به اصلح ما وضعه الله في الطبيعة والعادة، فيفرقون به بين المرء وزوجه إبتغاءا للشر والفساد ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم فقوله تعالى: واتبعوا أي اتبعت اليهود الذين بعد عهد سليمان بتوارث الخلف عن السلف ما تتلوا، أي تضع وتكذب الشياطين من الجن على ملك سليمان والدليل على أن تتلوا بمعنى تكذب تعديه بعلى وعلى أن الشياطين هم الجن كون هؤلاء تحت تسخير سليمان ومعذبين بعذابه، وبذلك كان عليه السلام يحبسهم عن الافساد، قال تعالى: (ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين) الانبياء - 82، وقال تعالى: (فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) السبأ - 14 قوله تعالى: وما كفر سليمان، أي والحال أن سليمان لم يسحر حتى يكفر ولكن الشياطين كفروا، والحال انهم يضلون الناس ويعلمونهم السحر. قوله تعالى: وما أنزل، أي واتبعت اليهود ما انزل بالاخطار والالهام على

[ 236 ]

الملكين ببابل هاروت وماروت، والحال انهما ما يعلمان السحر من أحد حتى يحذراه العمل به ويقولا انما نحن فتنة لكم وامتحان تمتحنون بنا بما نعلمكم فلا تكفر باستعماله. قوله تعالى: فيتعلمون منهما أي من الملكين وهما هاروت وماروت، ما يفرقون به أي سحرا يفرقون بعمله وتأثيره بين المرء وزوجه. قوله تعالى: وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله، دفع لما يسبق إلى الوهم إنهم بذلك يفسدون أمر الصنع والتكوين ويسبقون تقدير الله ويبطلون أمره فدفعه بأن السحر نفسه من القدر لا يؤثر إلا بإذن الله فما هم بمعجزين، وانما قدم هذه الجملة على قوله: ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، لان هذه الجملة أعني: ويتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وحدها مشتملة على ذكر التأثير فأردفت بأن هذا التأثير بإذن الله. قوله تعالى: ولقد علموا لمن اشتريه ما له في الآخرة من خلاق، علموا ذلك بعقولهم لان العقل لا يرتاب في أن السحرأ شئم منابع الفساد في الاجتماع الانساني وعلموا ذلك أيضا من قول موسى فانه القائل: (ولا يفلح الساحر حيث أتى) طه - 69. قوله تعالى: ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون، اي إنهم مع كونهم عالمين بكونه شرا لهم مفسدا لآخرتهم غير عالمين بذلك حيث لم يعملوا بما علموا فإن العلم إذا لم يهد حامله إلى مستقيم الصراط كان ضلالا وجهلا لا علما، قال تعالى: (أفرأيت من إتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) الجاثية - 23. فهؤلاء مع علمهم بالامر ينبغي أن يتمنى المتمني لهم العلم والهداية. قوله تعالى: ولو انهم آمنوا واتقوا، الخ أي اتبعوا الايمان والتقوى، بدل اتباع اساطير الشياطين، والكفر بالسحر، وفيه دليل على أن الكفر بالسحر كفر في مرتبة العمل كترك الزكوة، لا كفر في مرتبة الاعتقاد، ولو كان السحر كفرا في الاعتقاد لقال تعالى: ولو أنهم آمنوا لمثوبة، الخ، وإقتصر على الايمان ولم يذكر التقوى فاليهود آمنوا ولكن لما لم يتقوا ولم يرعوا محارم الله، لم يعبأ بإيمانهم فكانوا كافرين.

[ 237 ]

قوله تعالى: لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون، أي من المثوبات والمنافع التي يرومونها بالسحر ويقتنونها بالكفر هذا.

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي والقمي في قوله تعالى: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان عن الباقر عليه السلام في حديث: فلما هلك سليمان وضع إبليس السحر وكتبه في كتاب ثم طواه وكتب على ظهره، هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا وكذا فليعمل كذا وكذا ثم دفنه تحت سريره ثم استتاره لهم فقرأه فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان إلا بهذا، وقال المؤمنون: بل هو عبد الله ونبيه، فقال الله جل ذكره: وإتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان. اقول: إسناد الوضع والكتابة والقرائة إلى إبليس لا ينافي استنادها إلى سائر الشياطين من الجن والانس لانتهاء الشر كله إليه وإنتشاره منه لعنه الله، إلى أوليائه بالوحي والوسوسة وذلك شائع في لسان الاخبار وظاهر الحديث أن كلمة تتلوه من التلاوة بمعنى القرائة وهذا لا ينافي ما استظهرناه في البيان السابق: إن تتلو بمعنى يكذب لان افادة معنى الكذب من جهة التضمين أو ما يشبهه، وتقدير قوله: تتلوا الشياطين على ملك سليمان يقرؤنه كاذبين على ملك سليمان والاصل في معنى تلا يتلو رجوعه إلى معنى ولى لى ولاية وهو أن يملك الشئ من حيث الترتيب ووقوع جزء منه عقيب جزء آخر، وسيأتي الكلام فيه في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله) المائدة - 58. وفي العيون: في حديث الرضا عليه السلام مع المأمون واما هاروت وماروت فكانا ملكين علما الناس السحر ليتحرزوا به عن سحر السحرة ويبطلوا كيدهم وما علما أحدا من ذلك شيئا إلا قالا له إنما نحن فتنة فلا تكفر فكفر قوم باستعمالهم لما امروا بالاحتراز عنه وجعلوا يفرقون بما يعملونه بين المرء وزوجه، قال الله تعالى: وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله.

[ 238 ]

وفي الدر المنثور أخرج إبن جرير عن ابن عباس، قال: كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من شأنه أعطى الجرادخ وهي أمرأته خاتمه فلما أراد الله أن يبتلى سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذلك اليوم خاتمه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فاخذه ولبسه فلما لبسه دانت له شياطين الجن والانس فجائها سليمان فقال: هاتي خاتمي فقالت كذبت لست سليمان فعرف أنه بلاء ابتلى به فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الايام كتبا فيها سحر وكفر ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ثم أخرجوها فقرؤوها على الناس فقالوا إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب فبرء الناس من سليمان واكفروه حتى بعث الله محمدا وأنزل عليه: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا. أقول: والقصة مروية في روايات اخرى وهي قصة طويلة من جملة القصص الواردة في عثرات الانبياء مذكورة في جملتها. في الدر المنثور أيضا وأخرج سعيد بن جرير والخطيب في تاريخه عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر فلما كان في آخر الليل، قال يا نافع: انظر هل طلعت الحمراء ؟ قلت لا، مرتين أو ثلثا ثم قلت: قد طلعت. قال: لا مرحبا بها ولا أهلا قلت: سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع. قال ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: إن الملائكة قالت: يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب ؟ قال: إني أبليتهم وعافيتهم. قالوا لو كنا مكانهم ما عصيناك، قال فاختاروا ملكين منكم، فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت وماروت فنزلا، فألقى الله عليهما الشبق، قلت: وما الشبق ؟ قال: الشهوة فجائت امرأة يقال لها الزهرة فوقعت في قلوبهما فجعل كل واحد منهما يخفى عن صاحبه ما في نفسه ثم قال أحدهما للآخر هل وقع في نفسك ما وقع في قلبي ؟ قال: نعم، فطالباها لانفسهما فقالت لا امكنكما حتي تعلماني الاسم الذي تعرجان به إلى السماء وتهبطان فأبيا ثم سئلاها أيضا فأبت. ففعلا فلما استطيرت طمسها الله كوكبا وقطع أجنحتهما ثم سألا التوبة من ربهما فخيرهما فقال ان شئتما رددتكما إلى ما كنتما عليه، فإذا كان يوم القيامة عذبتكما، وان شئتما عذبتكما في الدنيا فإذا كان يوم القيامة رددتكما إلى ما كنتما عليه، فقال احدهما لصاحبه إن عذاب الدنيا ينقطع ويزول فاختارا

[ 239 ]

عذاب الدنيا على عذاب الآخرة فأوحى الله اليهما أن ائتيا بابل فانطلقا إلى بابل فخسف بهما فهما منكوسان بين السماء والارض معذبان إلى يوم القيامة. اقول: وقد روي قريب منه في بعض كتب الشيعة مرفوعا عن الباقر عليه السلام وروي السيوطي فيما يقرب من هذا المعنى في أمر هاروت وماروت والزهرة نيفا وعشرين حديثا، صرحوا بصحة طريق بعضها. وفي منتهى أسنادها عدة من الصحابة كابن عباس وابن مسعود وعلي وأبي الدرداء وعمر وعائشة وابن عمر. وهذه قصة خرافية تنسب إلى الملائكة المكرمين الذين نص القرآن على نزاهة ساحتهم وطهارة وجودهم عن الشرك والمعصية أغلظ الشرك وأقبح المعصية، وهو: عبادة الصنم والقتل والزنا وشرب الخمر وتنسب إلى كوكبة الزهرة أنها امرأة زانية مسخت - وإنها اضحوكة - وهي كوكبة سماوية طاهرة في طليعتها وصنعها أقسم الله تعالى عليها في قوله: (والجوار الكنس) التكوير - 16، على أن علم الفلك أظهر اليوم هويتها وكشف عن عنصرها وكميتها وكيفيتها وسائر شئونها. فهذه القصة كالتي قبلها المذكورة في الرواية السابقة تطابق ما عند اليهود على ما قيل: من قصة هاروت وماروت، تلك القصة الخرافية التي تشبه خرافات يونان في الكواكب والنجوم. ومن هيهنا يظهر للباحث المتأمل: أن هذه الاحاديث كغيرها الواردة في مطاعن الانبياء وعثراتهم لا تخلو من دس دسته اليهود فيها وتكشف عن تسربهم الدقيق ونفوذهم العميق بين أصحاب الحديث في الصدر الاول فقد لعبوا في رواياتهم بكل ما شاؤا من الدس والخلط وأعانهم على ذلك قوم آخرون. لكن الله عز اسمه جعل كتابه في محفظة الهية من هوسات المتهوسين من أعدائه كلما استرق السمع شيطان من شياطينهم إتبعه بشهاب مبين، فقال عز من قائل: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر - 9، وقال و (إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه تنزيل من حكيم حميد) فصلت - 42، وقال: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) أسرى - 82،

[ 240 ]

فأطلق القول ولم يقيد، فما من خلط أو دس إلا ويدفعه القرآن ويظهر خسار صاحبه بالكشف عن حاله وإقراء صفحة تاريخة، وقال رسول الله فيما رواه الفريقان: ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فاتركوه. فأعطى ميزانا كليا يوزن به المعارف المنقولة منه ومن أوليائه، وبالجملة فبالقرآن يدفع الباطل عن ساحة الحق ثم لا يلبث أن يظهر بطلانه ويمات عن القلوب الحية كما اميت عن الاعيان. قال تعالى: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه) الانبياء - 18، وقال تعالى: (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته) الانفال - 7، وقال تعالى: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) الانفال - 8 ولا معنى لاحقاق الحق ولا لابطال الباطل إلا إظهار صفتهما. وبعض الناس وخاصة من أهل عصرنا من المتوغلين في الابحاث المادية والمرعوبين من المدنية الغربية الحديثة استفادوا من هذه الحقيقة المذكورة سوء وأخذوا بطرح جميع ما تضمنته سنة رسول الله واشتملت عليه جوامع الروايات فسلكوا في ذلك مسلك التفريط، قبال ما سلكه بعض الاخباريين وإصحاب الحديث والحرورية وغيرهم مسلك الافراط والاخذ بكل رواية منقولة كيف كانت. وكما أن القبول المطلق تكذيب للموازين المنصوبة في الدين لتميز الحق من الباطل ونسبة الباطل واللغو من القول إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذلك الطرح الكلي تكذيب لها وإلغاء وإبطال للكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو القائل جل ثنائه: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الحشر - 7، وقوله تعالى: (وما إرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) النساء - 64، إذ لو لم يكن لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجية أو لما ينقل من قوله صلى الله عليه وآله وسلم إلينا معاشر الغائبين في عصره أو الموجودين بعد ارتحاله من الدنيا حجية لما استقر من الدين حجر على حجر، والركون على النقل والحديث مما يعنوره البشر ويقبله في حيوتة الاجتماعية قبولا يضطر إليه بالبداهة ويهديه إلى ذلك الفطرة الانسانية لا غنى له عن ذلك، وأما وقوع الدس والخلط في المعارف المنقولة الدينية فليس ببدع يختص بالدين كيف ورحى الاجتماع بجميع جهاتها وأركانها تدور على الاخبار الدائرة اليومية العامة والخاصة، ووجوده الكذب والدس والخلط فيها أزيد وأيدي السياسات الكلية والجزئية بها ألعب ؟ ونحن على فطرتنا

[ 241 ]

الانسانية لا نجري على مجرد قرع السمع في الاخبار المنقولة إلينا في نادي الاجتماع بل نعرض كل واحد واحد منها على ما عندنا من الميزان الذي يمكن أن يوزن به فإن وافقه وصدقه قبلناه وإن خالفه وكذبه طرحناه وإن لم يتبين شئ من أمره ولم يتميز حقه من باطله وصدقه من كذبه توقفنا فيه من غير قبول ولا رد على الاحتياط الذي جبلنا عليه في الشرور والمضار. هذا كله بشرط الخبرة في نوع الخبر الذي نقل إلينا، وأما ما لا خبرة للانسان فيه من الاخبار بما يشتمل عليه من المضمون فسبيل العقلاء من أهل الاجتماع فيه الرجوع إلى أهل خبرته والاخذ بما يرون فيه ويحكمون به هذا. فهذا ما عليه بناؤنا الفطري في الاجتماع الانساني، والميزان الديني المضروب لتمييز الحق من الباطل وكذا الصدق من الكذب، لا يغاير ذلك بل هو هو بعينه، وهو العرض على كتاب الله فإن تبين منه شئ أخذ به وإن لم يتبين لشبهة فالوقوف عند الشبهة، وعلى ذلك أخبار متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة من أهل بيته. هذا كله في غير المسائل الفقهية وأما هي فالمرجع في البحث عنها فن أصول الفقه.

(بحث فلسفي)

 من المعلوم وقوع أفعال خارقة للعادة الجارية للمشاهدة والنقل، فقلما يوجد منا من لم يشاهد شيئا من خوارق الافعال أو لم ينقل إليه شئ من ذلك - قليل أو كثير إلا أن البحث الدقيق في كثير منها يبين رجوعها إلى الاسباب الطبيعية العادية، فكثير من هذه الافعال الخارقة يتقوى بها أصحابها بالاعتياد و التمرين كأكل السموم وحمل الاثقال والمشي على حبل ممدود في الهواء إلى غير ذلك، وكثير منها تتكي على أسباب طبيعية مخفية على الناس مجهولة لهم كمن يدخل النار ولا يحترق بها من جهة طلاية الطلق ببدنه أو يكتب كتابا لا خط عليه ولا يقرأه إلا صاحبه، وإنما كتب بمايع لا يظهر إلا إذا عرض الكتاب على النار إلى غير ذلك. وكثير منها يحصل بحركات

[ 242 ]

سريعة تخفي على الحس لسرعتها فلا يرى الحس إلا أنه وقع من غير سبب طبيعي كالخوارق التي يأتي بها أصحاب الشعبذة، فهذه كلها مستندة إلى أسباب عادية مخفية على حسنا أو غير مقدورة لنا، لكن بعض هذه الخوارق لا يحلل إلى الاسباب الطبيعية الجارية على العادة كالاخبار عن بعض المغيبات، وخاصة ما يقع منها في المستقبل وكأعمال الحب والبغض والعقد والحل والتنويم والتمريض وعقد النوم والاحضار والتحريكات بالارادة مما يقع من أرباب الرياضات وهي امور غير قابلة للانكار، شاهدنا بعضا منها ونقل الينا بعض آخر نقلا لا يطعن فيه، وهو ذا يوجد اليوم من أصحابها بالهند وايران والغرب جماعة يشاهد منهم أنواع من هذه الخوارق والتأمل التام في طرق الرياضات المعطية لهذه الخوارق والتجارب العملي في أعمالهم وإرادتهم يوجب القول بانها مستندة ألى قوة إلارادة والايمان بالتأثير على تشتت أنواعها، فالارادة تابعة للعلم والاذعان السابق عليه، فربما توجد على اطلاقها وربما توجد عند وجود شرائط خاصة ككتابه شئ خاص بمداد خاص في مكان خاص في بعض أعمال الحب والبغض، أو نصب المرآة حيال وجه طفل خاص عند إحضار الروح أو قراءة عوذة خاصة إلى غير ذلك، فجميع ذلك شرائط لحصول الارادة الفاعلة، فالعلم إذا تم علما قاطعا اعطى للحواس مشاهدة ما قطع به، ويمكنك ان تختبر صحة ذلك بان تلقن نفسك أن شيئا كذا أو شخصا كذا حاضر عندك تشاهده بحاستك ثم تتخيله بحيث لا تشك فيه ولا تلتفت إلى عدمه ولا إلى شئ غيره فانك تجده امامك على ما تريد، وربما توجد في الآثار معالجة بعض الاطباء الامراض المهلكة بتلقين الصحة على المريض. وإذا كان الامر على هذا فلو قويت الارادة أمكنها أن تؤثر في غير الانسان المريد نظير ما توجده في نفس الانسان المريد إما من غير شرط وقيد أو مع شئ من الشرائط. ويتبين بما مر امور: احدها: أن الملاك في هذا التأثير تحقق العلم الجازم من صاحب خرق العادة وأما مطابقة هذا العلم للخارج فغير لازم كما كان يعتقده أصحاب تسخير الكواكب من الارواح المتعلقة بالاجرام الفلكية، ويمكن أن يكون من هذا القبيل الملائكة والشياطين الذين يستخرج اصحاب الدعوات والعزائم اسمائهم

[ 243 ]

ويدعون بها على طرق خاصة عندهم، وكذلك ما يعتقده أصحاب إحضار الارواح حضور الروح فلا دليل لهم على أزيد من حضورها في خيالهم أو حواسهم دون الخارج والا لرآه كل من حضر عندهم و للكل حس طبيعي، وبه تنحل شبهة أخرى في احضار روح من هو حي في حال اليقظة مشغول بأمره من غير أن يشعر به والواحد من الانسان ليس له الا روح واحدة، وبه تنحل أيضا شبهة اخرى وهي ان الروح جوهر مجرد لا نسبة له إلى زمان ومكان دون زمان ومكان، وبه تنحل أيضا شبهة ثالثه، وهي: أن الروح الواحدة ربما تحضر عند أحد بغير الصورة التي تحضر بها عند آخر. وبه تنحل أيضا شبهة رابعة، وهي: ان الارواح ربما تكذب عند الاحضار في أخبارها وربما يكذب بعضها بعضا. فالجواب عن الجميع: أن الروح انما تحضر في مشاعر الشخص المحضر لا في الخارج منها على حد ما نحس بالاشياء المادية الطبيعية. ثانيها: أن صاحب هذه الارادة المؤثرة ربما يعتمد في ارادته على قوة نفسه وثبات إنيته كغالب أصحاب الرياضات في ارادتهم فتكون لا محالة محدودة القوة مقيدة الاثر عند المريد وفي الخارج، وربما يعتمد فيه على ربه كالانبياء والاولياء من أصحاب العبودية لله وأرباب اليقين بالله فهم لا يريدون شيئا الا لربهم وبربهم، وهذه ارادة طاهرة لا استقلال للنفس التي تطلع هذه الارادة منها بوجه ولم تتلون بشئ من ألوان الميول النفسانية ولا اتكاء لها الا على الحق فهي ارادة ربانية غير محدودة ولا مقيدة. والقسم الثاني: ان أثرت في مقام التحدي كغالب ما ينقل من الانبياء سميت آية معجزة وان تحققت في غير مقام التحدي سميت كرامة أو استجابة دعوة ان كانت مع دعاء، والقسم الاول إن كان بالاستخبار والاستنصار من جن أو روح أو نحوه سمي كهانة وإن كان بدعوة أعزيمة أو رقية أو نحو ذلك سمي سحرا. ثالثها: أن الامر حيث كان دائرا مدار الارادة في قوتها وهي على مراتب من القوة والضعف أمكن أن يبطل بعضها أثر البعض كتقابل السحر والمعجزة أو ان لا يؤثر بعض النفوس في بعض إذا كانت مختلفة في مراتب القوة وهو مشهود في أعمال التنويم والاحضار، هذا وسيأتي شطر من الكلام في ذلك.

[ 244 ]

(بحث علمي)

 العلوم الباحثة عن غرائب التأثير كثيرة والقول الكلي في تقسيمها وضبطها عسيرة جدا، وأعرف ما هو متداول بين أهلها ما نذكره: منها: السيمياء، وهو العلم الباحث عن تمزيج القوى الارادية مع القوى الخاصة المادية للحصول على غرائب التصرف في الامور الطبيعية، ومنه التصرف في الخيال المسمى بسحر العيون وهذا الفن من أصدق مصاديق السحر، ومنها الليمياء وهو العلم الباحث عن كيفية التأثيرات الارادية باتصالها بالارواح القوية العالية كالارواح الموكلة بالكواكب والحوادث وغير ذلك بتسخيرها أو باتصالها واستمدادها من الجن بتسخيرهم، وهو فن التسخيرات، ومنها: الهيمياء: وهو العلم الباحث عن تركيب قوى العالم العلوي مع العناصر السفلية للحصول على عجائب التأثير وهو الطلسمات، فإن للكواكب العلوية والاوضاع السماوية ارتباطات مع الحوادث المادية كما ان العناصر والمركبات وكيفياتها الطبيعية كذلك، فلو ركبت الاشكال السماوية المناسبة لحادثة من الحوادث كموت فلان، وحيوة فلان، وبقاء فلان مثلا مع الصورة المادية المناسبة أنتج ذلك الحصول على المراد وهذا معنى الطلسم، ومنها: الريمياء، وهو العلم الباحث عن استخدام القوى المادية للحصول على آثارها بحيث يظهر للحس أنها آثار خارقه بنحو من لانحاء وهو الشعبذة، وهذه الفنون الاربعة مع فن خامس يتلوها وهو الكليميا الباحث عن كيفية تبديل صور العناصر بعضها إلى بعض كانت تسمى عندهم بالعلوم الخمسة الخفية، قال شيخنا البهائي: أحسن الكتب المصنفة التي في هذه الفنون كتاب رأيته ببلدة هرات إسمه (كله سر) وقد ركب إسمه من أوائل إسماء هذه العلوم، الكيميا، والليميا، والهيميا، والسيميا، و الريميا، إنتهى ملخص كلامه. ومن الكتب المعتبرة فيها خلاصة كتب بليناس ورسائل الخسر وشاهي والذخيرة الاسكندرية والسر المكتوم للرازي والتسخيرات للسكاكي واعمال الكواكب السبعة للحكيم طمطم الهندي. ومن العلوم الملحقة بما مر علم الاعداد والاوفاق وهو الباحث عن ارتباطات

[ 245 ]

الاعداد والحروف للمطالب ووضع العدد أو الحروف المناسبة للمطلوب في جداول مثلثة أو مربعة أو غير ذلك على ترتيب مخصوص، ومنها: الخافية وهو تكسير حروف المطلوب أو ما يناسب المطلوب من الاسماء واستخراج اسماء الملائكة أو الشياطين الموكلة بالمطلوب والدعوة بالعزائم المؤلفة منها للنيل على المطلوب ومن الكتب المعتبرة فيها عندهم كتب الشيخ أبي العباس التوني والسيد حسين الاخلاطي وغيرهما. ومن الفنون الملحقة بها الدائرة اليوم التنويم المغناطيسي واحضار الارواح وهما كما مر من تأثير الارادة والتصرف في الخيال وقد ألف فيها كتب ورسائل كثيرة، واشتهار أمرها يغني عن الاشارة إليها هينها، والغرض مما ذكرنا على طوله إيضاح انطباق ما ينطبق منها على السحر أو الكهانة. يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا أنظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم - 104. ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم - 105.

(بيان)

 قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا، أول مورد في القرآن ورد فيه خطاب المؤمنين بلفظة يا أيها الذين آمنوا، وهو واقع في القرآن خطابا في نحو من خمسة وثمانين موضعا والتعبير عن المؤمنين بلفظة الذين آمنوا بنحو الخطاب أو بغير الخطاب مما يختص بهذه الامة، وأما الامم السابقة فيعبر عنهم بلفظة القوم كقوله: (قوم نوح وقوم هود) وقوله: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة الآية) و قوله: (أصحاب مدين وأصحاب الرس)، وبني إسرائيل، ويا بني إسرائيل، فالتعبير بلفظة الذين آمنوا

[ 246 ]

مما يختص التشرف به بهذه الامة، غير أن التدبر في كلامه تعالى يعطي أن التعبير بلفظة الذين آمنوا يراد به في كلامه تعالى غير ما يراد بلفظة المؤمنين كقوله تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون: النور - 31، بحسب المصداق، قال تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم، ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وازواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم) المؤمن - 7 و 8، فجعل استغفار الملائكة وحملة العرش أولا للذين آمنوا ثم بدله ثانيا من قوله: للذين تابوا واتبعوا، والتوبة هي الرجوع، ثم علق دعائهم بالذين آمنوا وعطف عليهم آبائهم وذرياتهم ولو كان هؤلاء المحكي عنهم بالذين آمنوا هم أهل الايمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كيف ما كانوا، كان الذين آمنوا شاملا للجميع من الآباء والابناء والازواج ولم يبق للعطف والتفرقة محل وكان الجميع في عرض واحد ووقعوا في صف واحد. ويستفاد هذا المعنى أيضا من قوله تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم شئ كل إمرء بما كسب رهين) الطور - 21، فلو كان ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان مصداقا للذين آمنوا في كلامه تعالى لم يبق للالحاق وجه، ولو كان قوله: (واتبعتهم ذريتهم) قرينة على ارادة اشخاص خاصة من الذين آمنوا وهم كل جمع من المؤمنين بالنسبة إلى ذريتهم، المؤمنين لم يبق للالحاق أيضا وجه، ولا لقوله، وما ألتناهم من عملهم من شئ، وجه صحيح الا في الطبقة الاخيرة التي لا ذرية بعدهم يتبعونهم بإيمان فهم يلحقون بآبائهم، وهذا وان كان معنى معقولا الا أن سياق الآية وهو سياق التشريف يأبى ذلك لعود المعنى على ذلك التقدير إلى مثل معنى قولنا: المؤمنون بعضهم من بعض أو بعضهم يلحق ببعض وهم جميعا في صف واحد من غير شرافة للبعض على البعض ولا للمتقدم على المتأخر فإن الملاك هو الايمان وهو في الجميع واحد وهذا مخالف لسياق الآية الدال على نوع كرامة وتشريف للسابق بالحاق ذريته به، فقوله: وإتبعتهم ذريتهم بايمان، قرينة على إرادة أشخاص خاصة بقوله: الذين آمنوا، وهم السابقون الاولون في الايمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والانصار في يوم العسرة فكلمة الذين آمنوا كلمة تشريف يراد بها هؤلاء، ويشعر بذلك أيضا قوله تعالى:

[ 247 ]

(للفقراء المهاجرين، إلى أن قال: والذين تبوأوا الدار والايمان من قبلهم، إلى أن قال: والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا إغفر لنا ولخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) الحشر - 10، فلو كان مصداق قوله: الذين آمنوا، عين مصداق قوله: الذين سبقونا بالايمان، كان من وضع الظاهر موضع المضمر من غير وجه ظاهر. ويشعر بما مر أيضا قوله تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تريهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا، إلى أن قال: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) الفتح - 29. فقد تحصل أن الكلمة كلمة تشريف تختص بالسابقين الاولين من المؤمنين، ولا يبعد جريان نظير الكلام في لفظة الذين كفروا فيراد به السابقون في الكفر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مشركي مكة وأترابهم كما يشعر به أمثال قوله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم، ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) البقرة - 6. فان قلت: فعلى ما مريختص الخطاب بالذين آمنوا بعدة خاصة من الحاضرين في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أن القوم ذكروا أن هذه خطابات عامة لزمان الحضور وغيره والحاضرين الموجودين في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم وخاصة بناء على تقريب الخطاب بنحو القضية الحقيقية. قلت: نعم هو خطاب تشريفي يختص بالبعض لكن ذلك لا يوجب اختصاص التكاليف المتضمن لها الخطاب بهم فان لسعة التكليف وصيقه أسبابا غير ما يوجب سعة الخطاب وصيقه من الاسباب، كما أن التكاليف المجردة عن الخطاب عامة وسيعة من غير خطاب، فعل هذا يكون تصدير بعض التكاليف بخطاب يا ايها الذين آمنوا من قبيل تصدير بعض آخر من الخطابات بلفظ يا أيها لنبي، ويا أيا الرسول مبينا على التشريف، والتكليف عام، والمراد وسيع، ومع هذا كله لا يوجب ما ذكرناه من الاختصاص التشريفي عدم إطلاق لفظة الذين آمنوا على غير هؤلاء المختصين بالتشريف أصلا إذا كانت هناك قرينة تدل على ذلك كقوله تعالى: (إن الذين آمنو ثم كفروا

[ 248 ]

ثم آمنوا كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم) النساء - 137، وقوله تعالى: حكاية عن نوح: (وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم) هود - 29. قوله تعالى: لا تقولوا راعنا وقولوا أنظرنا، أي بدلوا قول (راعنا من قول (انظرنا) ولئن لم تفعلوا ذلك كان ذلك منكم كفرا وللكافرين عذاب أليم ففيه نهى شديد عن قول راعنا وهذه كلمة ذكرتها آية أخرى وبينت معناها في الجملة وهي قوله تعالى (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بالسنتهم وطعنا في الدين) النساء - 46، ومنه يعلم ان اليهود كانت تريد بقولهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم راعنا نحوا من معنى قوله: اسمع غير مسمع ولذلك ورد النهي عن خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك وحينئذ ينطبق على ما نقل: أن المسلمين كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك إذا القى إليهم كلاما يقولون راعنا يا رسول الله - يريدون أمهلنا وانظرنا حتى نفهم ما تقول - وكانت اللفظة تفيد في لغة اليهود معنى الشتم فاغتنم اليهود ذلك فكانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك يظهرون التأدب معه وهم يريدون الشتم ومعناه عندهم اسمع لا اسمعت فنزل: من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا، الآية ونهى الله المؤمنين عن الكلمة وأمرهم أن يقولوا ما في معناه وهو انظرنا فقال: لا تقولوا راعنا وتقولوا أنظرنا. قوله تعالى: وللكافرين عذاب أليم: يريد المتمردين من هذا النهى وهذا أحد الموارد التي أطلق فيها الكفر على ترك التكاليف الفرعية. قوله تعالى: ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب، لو كان المراد بأهل الكتاب اليهود خاصة كما هو الظاهر لكون الخطابات السابقة مسوقة لهم فتوصيفهم بأهل الكتاب يفيد الاشارة إلى العلة، وهو أنهم لكونهم أهل كتاب ما يودون نزول الكتاب على المؤمنين لاستلزامه بطلان اختصاصهم بأهلية الكتاب مع أن ذلك ضنة منهم بما لا يملكونه، ومعارضة مع الله سبحانه في سعة رحمته وعظم فضله، ولو كان المراد عموم أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهو تعميم بعد التخصيص لاشتراك الفريقين في بعض الخصائل، وهم على غيظ من الاسلام، وربما يؤيد هذا الوجه بعض

[ 249 ]

الآيات اللاحقة كقوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) البقرة - 111، وقوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب) البقرة - 113.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية عن إبن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنزل الله آية فيها، يا ايها الذين آمنوا إلا وعلي رأسها وأميرها. اقول: والرواية تؤيد ما سننقله من الروايات الواردة في عدة من الآيات أنها في على أو في أهل البيت نظير ما في قوله تعالى: (كنتم خير أمة اخرجت للناس) آل عمران - 110، وقوله تعالى: (لتكونوا شهداء على الناس) البقرة - 143، وقوله تعالى: وكونوا مع الصادقين، التوبة - 119. ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير - 106. ألم تعلم أن الله له ملك السموات والارض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير - 107.

(بيان)

 الآيتان في النسخ ومن المعلوم أن النسخ بالمعنى المعروف عند الفقهاء وهو الابانة عن انتهاء أمد الحكم وانقضاء أجله اصطلاح متفرع على الآية مأخوذ منها ومن مصاديق ما يتحصل من الآية في معنى النسخ على ما هو ظاهر إطلاق الآية. قوله تعالى: ما ننسخ، النسخ هو الازالة، يقال: نسخت الشمس الظل إذا

[ 250 ]

ازلته وذهبت به، قال تعالى: وما أرسلنا من رسول ولا نبي الا إذا تمنى ألقى الشيطان في امنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان) الحج - 51، ومنه أيضا قولهم: نسخت الكتاب إذا نقل من نسخة إلى اخرى فكأن الكتاب أذهب به وأبدل مكانه ولذلك بدل لفظ النسخ من التبديل في قوله تعالى: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله اعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) النحل - 101، وكيف كان فالنسخ لا يوجب زوال نفس الآية من الوجود وبطلان تحققها بل الحكم حيث علق بالوصف وهو الآية والعلامة مع ما يلحق بها من التعليل في الآية بقوله تعالى: ألم تعلم، إلخ أفاد ذلك أن المراد بالنسخ هو اذهاب اثر الآية، من حيث أنها آية، اعني إذهاب كون الشئ آية وعلامة مع حفظ أصله فبالنسخ يزول أثره من تكليف أو غيره مع بقاء أصله وهذا هو المستفاد من إقتران قوله: ننسها بقوله: ما ننسخ، والانساء إفعال من النسيان وهو الا ذهاب عن العلم كما أن النسخ هو الا ذهاب عن العين فيكون المعنى ما نذهب بآية عن العين أو عن العلم نأت بخير منها أو مثلها. ثم إن كون الشئ آية يختلف باختلاف الاشياء والحيثيات والجهات، فالبعض من القرآن آية لله سبحانه باعتبار عجز البشر عن اتيان مثله، والاحكام والتكاليف الالهية آيات له تعالى باعتبار حصول التقوى والقرب بها منه تعالى، والموجودات العينية آيات له تعالى باعتبار كشفها بوجودها عن وجود صانعها وبخصوصيات وجودها عن خصوصيات صفاته وأسمائه سبحانه، وأنبياء الله واوليائه تعالى آيات له تعالى باعتبار دعوتهم إليه بالقول و الفعل وهكذا، ولذلك كانت الآية تقبل الشدة والضعف قال الله تعالى: لقدر أي من آيات ربه الكبرى) النجم - 18. ومن جهة اخرى الآية ربما كانت في انها آية ذات جهة واحدة وربما كانت ذات جهات كثيرة، ونسخها وإزالتها كما يتصور بجهته الواحدة كاهلاكها كذلك يتصور ببعض جهاتها دون بعض إذا كانت ذات جهات كثيرة، كالآية من القرآن تنسخ من حيث حكمها الشرعي وتبقى من حيث بلاغتها وإعجازها ونحو ذلك. وهذا الذي استظهرناه من عموم معنى النسخ هو الذي يفيده عموم التعليل المستفاد من قوله تعالى: ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير، ألم تعلم أن الله له ملك السموات

[ 251 ]

والارض، وذلك إن الانكار المتوهم في المقام أو الانكار الواقع من اليهود على ما نقل في شأن نزول الآية بالنسبة إلى معنى النسخ يتعلق به من وجهين: احدهما: من جهة أن الآية إذا كانت من عند الله تعالى كانت حافظة لمصلحة من المصالح الحقيقية لا تحفظها شئ دونها، فلو زالت الآية فاتت المصلحة ولن تقوم مقامها شئ تحفظ به تلك المصلحة، ويستدرك به ما فات منها من فائدة الخلقة ومصلحة العباد، وليس شأنه تعالى كشأن عباده ولا علمه كعلمهم بحيث يتغير بتغير العوامل الخارجية فيتعلق يوما علمه بمصلحة فيحكم بحكم ثم يتغير علمه غدا ويتعلق بمصلحة اخرى فاتت عنه بالامس، فيتغير الحكم، ويقضي ببطلان ما حكم سابقا، وإتيان آخر لاحقا، فيطلع كل يوم حكم، ويظهر لون بعد لون، كما هو شأن العباد غير المحيطين بجهات الصلاح في الاشياء، فكانت أحكامهم وأوضاعهم تتغير بتغير العلوم بالمصالح والمفاسد زيادة ونقيصة وحدوثا وبقاء، ومرجع هذا الوجه إلى نفي عموم القدرة وإطلاقها. وثانيهما: أن القدرة وإن كانت مطلقة إلا أن تحقق الايجاد وفعلية الوجود يستحيل معه التغير، فان الشئ لا يتغير عما وقع عليه بالضرورة وهذا مثل الانسان في فعله الاختياري فان الفعل اختياري للانسان ما لم يصدر عنه فإذا صدر كان ضروري الثبوت غير اختياري له، ومرجع هذا الوجه إلى نفي اطلاق الملكية و عدم جواز بعض التصرفات بعد خروج الزمام ببعض آخر كما قالت اليهود: يد الله مغلولة: فاشار سبحانه إلى الجواب عن الاول بقوله: ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير أي فلا يعجز عن إقامة ما هو خير من الفائت أو إقامه ما هو مثل الفائت مقامه وأشار إلى الجواب عن الثاني بقوله: إلم تعلم أن الله له ملك السموات والارض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير، أي إن ملك السموات والارض لله سبحانه فله أن يتصرف في ملكه كيف يشاء وليس لغيره شئ من الملك حتى يوجب ذلك انسداد باب من ابواب تصرفه سبحانه، أو يكون مانعا دون تصرف من تصرفاته، فلا يملك شئ شيئا، لا ابتداء ولا بتمليكه تعالى، فان التمليك الذي يملكه غيره ليس كتمليك بعضنا بعضا شيئا بنحو يبطل ملك الاول ويحصل ملك الثاني، بل هو مالك

[ 252 ]

في عين ما يملك غيره ما يملك، فإذا نظرنا إلى حقيقة الامر كان الملك المطلق والتصرف المطلق له وحده، وإذا نظرنا إلى ما ملكنا بملكه من دون استقلال كان هو الولي لنا وإذا نظرنا إلى ما تفضل علينا من ظاهر الاستقلال - وهو في الحقيقة فقر في صورة الغنى، وتبعية في صورة الاستقلال - لم يمكن لنا أيضا أن ندبر امورنا من دون إعانته ونصره، كان هو النصير لنا. وهذا الذي ذكرناه هو الذي يقتضيه الحصر الظاهر من قوله تعالى: (إن الله له ملك السموات والارض فقوله تعالى: (ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير ألم تعلم أن الله له ملك السموات والارض)، مرتب على ترتيب ما يتوهم من الاعتراضين، ومن الشاهد على كونهما اعتراضين إثنين الفصل بين الجملتين من غير وصل، وقوله تعالى: وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير، مشتمل على أمرين هما كالمتممين للجواب أي وإن لم تنظروا إلى ملكه المطلق بل نظرتم إلى ما عندكم من الملك الموهوب فحيث كان ملكا موهوبا من غير انفصال واستقلال فهو وحده وليكم، فله أن يتصرف فيكم وفي ما عندكم ما شاء من التصرف، وإن لم تنظروا إلى عدم إستقلالكم في الملك بل نظرتم إلى ظاهر ما عندكم من الملك والاستقلال وانجمدتم على ذلك فحسب، فإنكم ترون أن ما عندكم من القدرة والملك والاستقلال لا تتم وحدها، ولا تجعل مقاصدكم مطيعة لكم خاضعة لقصودكم وإرادتكم وحدها بل لا بد معها من إعانة الله ونصره فهو النصير لكم فله أن يتصرف من هذا الطريق فله سبحانه التصرف في أمركم من أي سبيل سلكتم هذا، وقوله: وما لكم من دون الله، جئ فيه بالظاهر موضع المضمر نظرا إلى كون الجملة بمنزلة المستقل من الكلام لتمامية الجواب دونه. فقد ظهر مما مر: اولا، ان النسخ لا يختص بالاحكام الشرعية بل يعم التكوينيات أيضا. وثانيا: ان النسخ لا يتحقق من غير طرفين ناسخ ومنسوخ. وثالثا: ان الناسخ يشتمل على ما في المنسوخ من كمال أو مصلحة. ورابعا: ان الناسخ ينافي المنسوخ بحسب صورته وإنما يرتفع التناقض بينهما من

[ 253 ]

جهة إشتمال كليهما على المصلحة المشتركة فإذا توفى نبي وبعث نبى آخر وهما آيتان من آيات الله تعالى أحدهما ناسخ للآخر كان ذلك جريانا على ما يقتضيه ناموس الطبيعة من الحياة والموت والرزق والاجل وما يقتضيه اختلاف مصالح العباد بحسب إختلاف الاعصار وتكامل الافراد من الانسان، وإذا نسخ حكم ديني بحكم ديني كان الجميع مشتملا على مصلحة الدين وكل من الحكمين أطبق على مصلحت الوقت، أصلح لحال المؤمنين كحكم العفو في أول الدعوة وليس للمسلمين بعد عدة ولا عدة. وحكم الجهاد بعد ذلك حينما قوي الاسلام وأعد فيهم ما استطاعوا من قوة وركز الرعب في قلوب الكفار والمشركين. والآيات المنسوخة مع ذلك لا تخلو من إيماء وتلويح إلى النسخ كما في قوله تعالى: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) البقرة - 109، المنسوخ بأية القتال وقوله تعالى: (فامسكوهن في البيوت حتى يتوفيهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) النساء - 14، المنسوخ بأية الجلد فقوله: حتى يأتي الله بأمره وقوله: (أو يجعل الله لهن سبيلا) لا يخلو عن إشعار بأن الحكم موقت مؤجل سيلحقه نسخ. وخامسا: أن النسبة التي بين الناسخ والمنسوخ غير النسبة التي بين العام والخاص وبين المطلق والمقيد وبين المجمل والمبين، فان الرافع للتنافي بين الناسخ والمنسوخ بعد استقراره بينهما بحسب الظهور اللفظي هو الحكمة والمصلحة الموجودة بينهما، بخلاف الرافع للتنافي بين العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين فانه قوة الظهور اللفظي الموجود في الخاص والمقيد والمبين، المفسر للعام بالتخصيص، وللمطلق بالتقييد، وللمجمل بالتبيين على ما بين في فن أصول الفقة، وكذلك في المحكم والمتشابه على ما سيجئ في قوله: (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) آل عمران - 7. قوله تعالى: أو ننسها، قرء بضم النون وكسر السين من الانساء بمعنى الا ذهاب عن العلم والذكر وقد مر توضيحه، وهو كلام مطلق أو عام غير مختص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل غير شامل له أصلا لقوله تعالى: (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) الاعلى - 7، وهي آية مكية وآية النسخ مدنية فلا يجوز عليه النسيان بعد قوله تعالى:

[ 254 ]

فلا تنسى وأما اشتماله على الاستثناء بقوله: إلا ما شاء الله فهو على حد الاستثناء الواقع في قوله تعالى: (خالدين فيها ما دامت السموات والارض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ) هود - 109، جئ بها لاثبات بقاء القدرة مع الفعل على تغيير الامر، ولو كان الاستثناء مسوقا لبيان الوقوع في الخارج لم يكن للامتنان بقوله: فلا تنسى معنى، إذ كل ذي ذكر وحفظ من الانسان وسائر الحيوان كذلك يذكر وينسى وذكره نسيانه كلاهما منه تعالى وبمشيته، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذلك قبل هذا الاقراء الامتناني الموعود بقوله: سنقرئك يذكر بمشية الله وينسى بمشية الله تعالى فليس معنى الاستثناء إلا إثبات إطلاق القدرة أي سنقرئك فلا تنسى ابدا والله مع ذلك قادر على إنسائك هذا. وقرء قوله: ننسأها بفتح النون والهمزة من نسئ نسيئا إذا أخر تأخيرا فيكون المعنى على هذا: ما ننسخ من آية بأزالتها أو نؤخرها بتأخير إظهارها نأت بخير منها أو مثلها ولا يوجب التصرف الالهي بالتقديم والتأخير في آياته فوت كمال أو مصلحة والدليل على أن المراد بيان أن التصرف الالهة يكون دائما على الكمال والمصلحة هو قوله: بخير منها أو مثلها فأن الخيرية إنما يكون في كمال شئ موجود أو مصلحة حكم مجعول ففي ذلك يكون موجود مماثلا لآخر في الخيرية أو أزيد منه في ذلك فافهم.

(بحث روائي)

 قد تكاثرت روايات الفريقين عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وعن أئمة أهل البيت عليه السلام: ان في القرآن ناسخا ومنسوخا. وفي تفسير النعماني عن أمير المؤمنين عليه السلام: بعد ذكر عدة آيات من الناسخ والمنسوخ قال عليه السلام: ونسخ قوله تعالى: وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون قوله: عز وجل ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم أي للرحمة خلقهم. أقول: وفيها دلالة على أخذه عليه السلام النسخ في الآية أعم من النسخ الواقع في التشريع فالآية الثانية تثبت حقيقة توجب تحديد الحقيقة التي تثبتها الآية الاولى،

[ 255 ]

وبعبارة واضحة: الآية الاولى تثبت للخلقة غاية وهي العبادة، والله سبحانه غير مغلوب في الغاية التي يريدها في فعل من أفعاله غير أنه سبحانه خلقهم على إمكان الاختلاف فلا يزالون مختلفين في الاهتداء والضلال فلا يزالون مختلفين إلا من أخذته العناية الالهية، وشملته رحمة الهداية ولذلك خلقهم أي ولهذه الرحمة خلقهم، فالآية الثانية تثبت للخلقة غاية، وهو الرحمة المقارنة للعبادة والاهتداء ولا يكون إلا في البعض دون الكل والآية الاولى كانت تثبت العبادة غاية للجميع فهذه العبادة جعلت غاية الجميع من جهة كون البعض مخلوقا لاجل البعض الاخر وهذا البعض أيضا لآخر حتى ينتهي إلى أهل العبادة وهم العابدون المخلوقون للعبادة فصح ان العبادة غاية للكل نظير بناء الحديقة وغرس الشجرة لثمرتها أو لمنافعها المالية فالآية الثانية تنسخ إطلاق الاية الاولى، وفي تفسير النعماني أيضا عنه عليه السلام: قال: ونسخ قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا) قوله: (الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها بعدون لا يسمعون حسيسها وهم فيما أشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الاكبر). اقول: ليست الآيتان من قبيل العام والخاص لقوله تعالى: كان على ربك حتما مقضيا، والقضاء الحتم غير قابل الرفع ولا ممكن الابطال ويظهر معنى هذا النسخ مما سيجئ إنشاء الله في قوله: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى اولئك عنها مبعدون) الانبياء - 101. وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام: ان من النسخ البداء المشتمل عليه قوله تعالى: يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، ونجاة قوم يونس. اقول: والوجه فيه واضح. وفي بعض الاخبار عن أئمة أهل البيت عد عليه السلام موت إمام وقيام إمام آخر مقامه من النسخ. اقول: وقد مر بيانه، والاخبار في هذه المعاني كثيرة مستفيضة. وفي الدر المنثورا خرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن

[ 256 ]

قتادة قال: كانت الآية تنسخ الآية وكان نبي الله يقرأ الآية والسورة وما شاء الله من السورة ثم ترفع فينسيها الله نبيه فقال الله: يقص على نبيه ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها، يقول: فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهى. أقول: وروى فيه أيضا في معنى الانساء روايات عديدة وجميعها مطروحة بمخالفة الكتاب كما مر في بيان قوله: أو ننسها أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سواء السبيل - 108. ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير - 109. وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير - 110. وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين - 111. بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون - 112. وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم

[ 257 ]

يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون - 113. ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أؤلئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم - 114. ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم - 115.

(بيان)

 قوله تعالى: أم تريدون أن تسألوا رسولكم، سياق الآية يدل على أن بعض المسلمين - ممن آمن بالنبي - سئل النبي امورا على حد سؤال اليهود نبيهم موسى عليه السلام والله سبحانه وبخهم على ذلك في ضمن ما يوبخ اليهود بما فعلوا مع موسى والنبيين من بعده، والنقل يدل على ذلك. قوله تعالى: سواء السبيل أي مستوى الطريق. قوله تعالى: ود كثير من أهل الكتاب، نقل أنه حي بن الاخطب وبعض من معه من متعصبي اليهود. قوله تعالى: فاعفوا واصفحوا، قالوا: أنها آية منسوخة بآية القتال. قوله تعالى: حتى يأتي الله بأمره، فيه كما مر إيماء إلى حكم سيشرعه الله تعالى في حقهم، ونظيره قوله تعالى: في الآية الآتية (أؤلئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين)، مع قوله تعالى: (إن المشركين نجس فلا يدخلوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) التوبة - 29، وسيأتي الكلام في معنى الامر في قوله تعالى: (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) أسرى - 85.

[ 258 ]

قوله تعالى: وقالوا: لن يدخل الجنة، شروع في الحاق النصارى باليهود تصريحا وسوق الكلام في بيان جرائمهم معا. قوله تعالى: بلى من أسلم وجهه لله، هذه كرة ثالثة عليهم في بيان أن السعادة لا تدور مدار الاسم ولا كرامة لاحد على الله إلا بحقيقة الايمان والعبودية. اوليها قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا) البقرة - 62، وثانيتها، قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) البقرة - 81، وثالثتها، هذه الاية ويستفاد من تطبيق الآيات تفسير الايمان بإسلام الوجه إلى الله وتفسير الاحسان بالعمل الصالح. قوله تعالى: وهم يتلون الكتاب، أي وهم يعملون بما أوتوا من كتاب الله لا ينبغي لهم أن يقولوا ذلك والكتاب يبين لهم الحق والدليل على ذلك قوله: (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) فالمراد بالذين لا يعلمون غير أهل الكتاب من الكفار ومشركي العرب قالوا: إن المسلمين ليسوا على شئ أو أن اهل الكتاب ليسوا على شئ. قوله تعالى: ومن أظلم ممن منع، ظاهر السياق أن هؤلاء كفار مكة قبل الهجرة فإن هذه الايات نزلت في اوائل ورود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة. قوله تعالى: أؤلئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين، يدل على مضى الواقعة وإنقضائها لمكان قوله، كان، فينطبق على كفار قريش وفعالهم بمكة كما ورد به النقل أن المانعين كفار مكة، كانوا يمنعون المسلمين عن الصلوة في المسجد الحرام والمساجد التي اتخذوها بفناء الكعبة. قوله تعالى: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله، المشرق والمغرب وكل جهة من الجهات حيث كانت فهي لله بحقيقة الملك التي لا تقبل التبدل والانتقال، لا كالملك الذي بيننا معاشر أهل الاجتماع، وحيث ان ملكه تعالى مستقر على ذات الشئ محيط بنفسه وأثره، لا كملكنا المستقر على أثر الاشياء ومنافعها، لا على ذاتها، والملك لا يقوم من جهة انه ملك إلا بمالكه فالله سبحانه قائم على هذه الجهات محيط

[ 259 ]

بها وهو معها، فالمتوجه إلى شئ من الجهات متوجه إليه تعالى. ولما كان المشرق والمغرب جهتين إضافيتين شملتا ساير الجهات تقريبا إذ لا يبقى خارجا منهما إلا نقطتا الجنوب والشمال الحقيقتان ولذلك لم يقيد إطلاق قوله فأينما، بهما بأن يقال: أينما تولوا منهما فكأن الانسان أينما ولى وجهه فهناك إما مشرق أو مغرب، فقوله: ولله المشرق والمغرب بمنزلة قولنا: ولله الجهات جميعا وإنما اخذ بهما لان الجهات التي يقصدها الانسان بوجهه إنما تتعين بشروق الشمس وغروبها وسائر الاجرام العلوية المنيرة. قوله تعالى: فثم وجه الله، فيه وضع علة الحكم في الجزاء موضع الجزاء، والتقدير - والله أعلم - فأينما تولوا جاز لكم ذلك فإن وجه الله هناك ويدل على هذا التقدير تعليل الحكم بقوله تعالى: إن الله واسع عليم، أي إن الله واسع الملك والاحاطة عليم بقصودكم أينما توجهت، لا كالواحد من الانسان أو سائر الخلق الجسماني لا يتوجه إليه إلا إذا كان في جهة خاصة، ولا أنه يعلم توجه القاصد إليه إلا من جهة خاصة كقدامه فقط، فالتوجه إلى كل جهة توجه إلى الله، معلوم له سبحانه. واعلم أن هذا توسعة في القبلة من حيث الجهة لا من حيث المكان، والدليل عليه قوله: ولله المشرق والمغرب.

(بحث روائي)

 في التهذيب عن محمد بن الحصين قال: كتب إلى عبد صالح الرجل يصلي في يوم غيم في فلات من الارض ولا يعرف القبلة فيصلى حتى فرغ من صلوته بدت له الشمس فإذا هو صلى لغير القبلة يعتد بصلوته أم يعيدها ؟ فكتب يعيد ما لم يفت الوقت، أو لم يعلم أن الله يقول: - وقوله الحق - فأينما تولوا فثم وجه الله. وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام: في قوله تعالى: ولله المشرق والمغرب إلخ، قال عليه السلام: أنزل الله هذه الآية في التطوع خاصة فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم، وصلى رسول الله إيمائا على راحلته أينما توجهت به حين خرج إلى خيبر،

[ 260 ]

وحين رجع من مكة، وجعل الكعبة خلف ظهره. اقول: وروى العياشي أيضا قريبا من ذلك عن زرارة عن الصادق عليه السلام، وكذا القمى والشيخ عن أبي الحسن عليه السلام، وكذا الصدوق عن الصادق عليه السلام. وأعلم إنك إذا تصفحت أخبار أئمة أهل البيت حق التصفح، في موارد العام والخاص والمطلق والمقيد من القرآن وجدتها كثيرا ما تستفيد من العام حكما، ومن الخاص أعني العام مع المخصص حكما آخر، فمن العام مثلا الاستحباب كما هو الغالب ومن الخاص الوجوب، وكذلك الحال في الكراهة والحرمة، وعلى هذا القياس. وهذا أحد اصول مفاتيح التفسير في الاخبار المنقولة عنهم، وعليه مدار جم غفير من أحاديثهم. ومن هنا يمكنك أن تستخرج منها في المعارف القرآنية قاعدتين: احديهما: أن كل جملة وحدها، وهي مع كل قيد من قيودها تحكي عن حقيقة ثابتة من الحقائق أو حكم ثابت من الاحكام كقوله تعالى: (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) الانعام - 91، ففيه معان أربع: الاول: قل الله، والثاني: قل الله ثم ذرهم، والثالث: قل الله ثم ذرهم في خوضهم، والرابع: قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون. واعتبر نظير ذلك في كل ما يمكن. والثانية: ان القصتين أو المعنيين إذا اشتركا في جملة أو نحوها، فهما راجعان إلى مرجع واحد. وهذان سران تحتهما أسرار والله الهادي. وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السموات والارض كل له قانتون - 116. بديع السموات والارض وإذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون - 117.

[ 261 ]

(بيان)

 قوله تعالى: وقالوا اتخذ الله ولدا يعطي السياق، أن المراد بالقائلين بهذه المقالة هم اليهود والنصارى: اقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فإن وجه الكلام مع أهل الكتاب، وإنما قال أهل الكتاب هذه الكلمة أعني قولهم: اتخذ الله ولدا أول ما قالوها تشريفا لانبيائهم كما قالوا: نحن أبناء الله وأحبائه ثم تلبست بلباس الجد والحقيقة فرد الله سبحانه عليهم في هاتين الآيتين فأضرب عن قولهم بقوله: بل له ما في السموات إلخ، ويشتمل على برهانين ينفي كل منهما الولادة وتحقق الولد منه سبحانه، فإن اتخاذ الولد هو أن يجزي موجود طبيعي بعض أجزاء وجوده، ويفصله عن نفسه فيصيره بتربية تدريجية فردا من نوعه مماثلا لنفسه، وهو سبحانه منزه عن المثل، بل كل شئ مما في السموات والارض مملوك له، قائم الذات به، قانت ذليل عند ذلة وجودية، فكيف يكون شئ من الاشياء ولدا له مماثلا نوعيا بالنسبه إليه ؟ وهو سبحانه بديع السموات والارض، إنما يخلق ما يخلق على غير مثال سابق، فلا يشبه شئ من خلقه خلقا سابقا، ولا يشبه فعله فعل غيره في التقليد والتشبيه ولا في التدريج، والتوصل بالاسباب إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون من غير مثال سابق ولا تدريج، فكيف يمكن أن ينسب إليه اتخاذ الولد ؟ وتحققه يحتاج إلى تربية وتدريج، فقوله: له ما في السموات والارض كل له قانتون برهان تام، وقوله: بديع السموات والارض إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون برهان آخر تام، هذا. ويستفاد من الآيتين: اولا: شمول حكم ا لعبادة لجميع المخلوقات مما في السموات والارض. وثانيا: ان فعله تعالى غير تدريجي، ويستدرج من هنا، ان كل موجود تدريجي فله وجه غير تدريجي، به يصدر عنه تعالى كما قال تعالى: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) يس - 82، وقال تعالى: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) القمر - 50، وتفصيل القول في هذه الحقيقة القرآنية، سيأتي إنشاء الله في ذيل قوله: (إنما أمره إذا أراد شيئا) يس - 82، فانتظر.

[ 262 ]

قوله تعالى: سبحانه مصدر بمعنى التسبيح وهو لا يستعمل إلا مضافا وهو مفعول مطلق لفعل محذوف أي سبحته تسبيحا، فحذف الفعل وأضيف المصدر إلى الضمير المفعول وأقيم مقامه، وفي الكلمة تأديب إلهي بالتنزيه فيما يذكر فيه ما لا يليق بساحة قدسة تعالى و تقدس. قوله تعالى: كل له قانتون، القنوت العبادة والتذلل. قوله تعالى: بديع السموات، بداعة الشئ كونه لا يماثل غيره مما يعرف ويؤنس به. قوله تعالى: فيكون، تفريع على قول كن وليس في مورد الجزاء حتى يجزم.

(بحث روائي)

 في الكافي والبصائر، عن سدير الصيرفي، قال: سمعت عمران بن أعين يسأل أبا جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى: بديع السموات والارض، فقال أبو جعفر عليه السلام: ان الله عز وجل ابتدع الاشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله، فابتدع السموات والارضين ولم يكن قبلهن سموات ولا أرضون أما تسمع لقوله: وكان عرشه على الماء ؟. اقول: وفي الرواية إستفادة اخرى لطيفة، وهي ان المراد ان لا مراد بالماء في قوله تعالى: وكان عرشه على الماء غير المصداق الذي عندنا من الماء بدليل ان الخلقة مستوية على البداعة وكانت السلطنة الالهية قبل خلق هذه السموات والارض مستقرة مستوية على الماء فهو غير الماء وسيجئ تتمة الكلام في قوله تعالى: (وكان عرشه على الماء) هود - 7.

(بحث علمي وفلسفي)

 دل التجارب على افتراق كل موجودين في الشخصيات وان كانت متحدة في

[ 263 ]

الكليات حتى الموجودان اللذان لا يميز الحس جهة الفرقة بينهما فالحس المسلح يدرك ذلك منهما، والبرهان الفلسفي أيضا يوجب ذلك، فإن المفروضين من الموجودين لو لم يتميز أحدهما عن الآخر بشئ خارج عن ذاته، كان سبب الكثرة المفروضة غير خارج من ذاتهما فيكون الذات صرفة غير مخلوطة، وصرف الشئ لا يتثنى ولا يتكرر، فكان ما هو المفروض كثيرا واحدا غير كثير هف. فكل موجود مغاير الذات لموجود آخر، فكل موجود فهو بديع الوجود على غير مثال سابق ولا معهود، والله سبحانه هو المبتدع بديع السموات والارض. وقال الذين لا يعلمون لو لا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون - 118. إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسئل عن أصحاب الجحيم - 119.

(بيان)

 قوله تعالى: وقال الذين لا يعلمون هم المشركون غير أهل الكتاب ويدل عليه المقابلة السابقة في قوله تعالى: وقالت اليهود ليست النصارى على شئ، وقالت النصارى ليست اليهود على شئ، وهم يتلون الكتاب كذلك، قال الذين لا يعلمون مثل قولهم الآية، ففي تلك الآية ألحق أهل الكتاب في قولهم بالمشركين والكفار من العرب، وفي هذه الآية ألحق المشركين والكفار بهم، فقال: وقال الذين لا يعلمون لو لا يكلمنا الله أو تأتينا آية، كذلك قال الذين من قبلهم - وهم أهل الكتاب واليهود من بينهم - حيث اقترحوا بمثل هذه الاقاويل على نبي الله موسى عليه السلام، فهم والكفار متشابهون في أفكارهم وآرائهم، يقول هؤلاء ما قاله أولئك وبالعكس،

[ 264 ]

تشابهت قلوبهم. قوله تعالى: قد بينا الايات لقوم يوقنون جواب عن قول الذين لا يعلمون إلخ، والمراد ان الايات التي يطالبون بها مأتية مبينة، ولكن لا ينتفع بها إلا قوم يوقنون بآيات الله، وأما هؤلاء الذين لا يعلمون، فقلوبهم محجوبة بحجاب الجهل، مؤفة بآفات العصبية والعناد، وما تغني الايات عن قوم لا يعلمون. ومن هنا يظهر وجه توصيفهم بعدم العلم، ثم أيد ذلك بتوجيه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاشعار بأنه مرسل من عند الله بالحق بشيرا ونذيرا، فلتطب به نفسه، وليعلم ان هؤلاء أصحاب الجحيم، مكتوب عليهم ذلك، لا مطمع في هدايتهم ونجاتهم. قوله تعالى: ولا تسئل عن أصحاب الجحيم، يجري مجرى قوله: (ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) البقرة - 6. ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن إتبعت أهوائهم بعد الذي جائك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير - 120. الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أؤلئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون - 121. يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين - 122. واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون - 123.

[ 265 ]

(بيان)

 قوله تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصاري، رجوع إلى الطائفتين بعد الالتفات إلى غيرهم، وهو بمنزلة جمع أطراف الكلام على تفرقها وتشتتها، فكأنه بعد هذه الخطابات والتوبيخات هم يرجع إلى رسوله ويقول له: هؤلاء ليسوا براضين عنك، حتى تتبع ملتهم التي ابتدعوها بأهوائهم ونظموها بأرائهم، ثم أمره بالرد عليهم بقوله: قل ان هدى الله هو الهدى أي ان الاتباع إنما هو لغرض الهدى ولا هدى إلا هدى الله والحق الذي يجب أن يتبع وغيره - وهو ملتكم - ليس بالهدى، فهي أهوائكم ألبستموها لباس الدين وسميتموها بإسم الملة، ففي قوله: قل ان هدى الله إلخ، جعل الهدى كناية عن القرآن النازل، ثم اضيف إلى الله فأفاد صحة الحصر في قوله: ان هدى الله هو الهدى على طريق قصرالقلب، وأفاد ذلك خلو ملتهم عن الهدى، وأفاد ذلك كونها أهوائا لهم، واستلزم ذلك كون ما عند النبي علما، وكون ما عندهم جهلا، واتسع المكان لتعقيب الكلام بقوله: ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جائك من العلم، ما لك من الله من ولي ولا نصير، فانظر إلى ما في هذا الكلام من اصول البرهان العريقة، ووجوه البلاغة على إيجازه، وسلاسة البيان وصفائه. قوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يمكن أن تكون الجملة بقرينة الحصر المفهوم من قوله: أولئك يؤمنون به جوابا للسؤال المقدر الذي يسوق الذهن إليه قوله تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى إلخ، وهو انهم إذا لم يكن مطمع في إيمانهم، فمن ذا الذي يؤمن منهم ؟ وهل توجيه الدعوة إليهم باطل لغو ؟ فأجيب بأن الذين آتيناهم الكتاب والحال أنهم يتلونه حق تلاوته، أؤلئك يؤمنون بكتابهم فيؤمنون بك، أو ان أؤلئك يؤمنون بالكتاب، كتاب الله المنزل أيا ما كان، أو ان أؤلئك يؤمنون بالكتاب الذي هو القرآن. و عليهذا: فالقصر في قوله: أؤلئك يؤمنون به قصر افراد والضمير في قوله: به على بعض التقادير لا يخلو عن استخدام. والمراد بالذين اوتوا الكتاب قوم من اليهود والنصارى ليسوا متبعين للهوى من أهل

[ 266 ]

الحق منهم، وبالكتاب التوراة والانجيل، وان كان المراد بهم المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبالكتاب القرآن، فالمعنى: ان الذين آتيناهم القرآن، وهم يتلونه حق تلاوته أؤلئك يؤمنون بالقرآن، لا هؤلاء المتبعون لاهوائهم، فالقصر حينئذ قصر قلب. قوله تعالى: يا بني إسرائيل اذكروا، إلى آخر الآيتين ارجاع ختم الكلام إلى بدئه، وآخره إلى اوله، وعنده يختتم شطر من خطابات بني اسرائيل.

(بحث روائي)

 في إرشاد الديلمي عن الصادق عليه السلام: في قوله: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته، قال: يرتلون آياته ويتفقهون به ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده ويخافون وعيده، ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأوامره، وينتهون بنواهيه، ما هو والله حفظ آياته، ودرس حروفه، وتلاوة سورة، ودرس أعشاره وأخماسه، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده، وإنما هو تدبر آياته والعمل بأحكامه، قال الله تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قول الله عز وجل: يتلونه حق تلاوته قال عليه السلام الوقوف عند الجنة والنار. اقول: والمراد به التدبر. وفي الكافي عنه عليه السلام: في الآية قال عليه السلام هم الائمة. أقول: وهو من باب الجرى والانطباق على المصداق الكامل. وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك

[ 267 ]

للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين - 124.

(بيان)

 شروع بجمل من قصص إبراهيم عليه السلام وهو كالمقدمة والتوطئة لآيات تغيير القبلة وآيات أحكام الحج، وما معها من بيان حقيقة الدين الحنيف الاسلامي بمراتبها: من اصول المعارف، والاخلاق، والاحكام الفرعية الفقهية جملا، والآيات مشتملة على قصة اختصاصه تعالى أياه بالامامة وبنائه الكعبة ودعوته بالبعثة. فقوله تعالى: وإذ إبتلى ابراهيم ربه إلخ، اشارة إلى قصة اعطائه الامامة وحبائه بها، والقصة إنما وقعت في أواخر عهد إبراهيم عليه السلام بعد كبره وتولد إسماعيل، وإسحق له وإسكانه إسماعيل وأمه بمكة، كما تنبه به بعضهم أيضا، والدليل على ذلك قوله عليه السلام على ما حكاه الله سبحانه بعد قوله تعالى له: إني جاعلك للناس إماما، قال ومن ذريتي، فإنه عليه السلام قبل مجئ الملائكة ببشارة إسماعيل وإسحق، ما كان يعلم ولا يظن أن سيكون له ذرية من بعده حتى أنه بعد ما بشرته الملائكة بالاولاد خاطبهم بما ظاهره اليأس والقنوط كما قال تعالى: (ونبئهم عن ضيف إبراهيم، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال: إنا منكم وجلون، قالوا: لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم، قال أبشر تموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون ؟ قالوا، بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين)، الحجر - 55، وكذلك زوجته على ما حكاه الله تعالى في قصة بشارته أيضا إذ قال تعالى: (وامرأته قائمة فضحكت، فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب، قالت، يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشئ عجيب، قالوا أتعجبين من أمر الله) رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) هود - 73، وكلامهما كما ترى يلوح منه آثار اليأس والقنوط ولذلك قابلته الملائكة بنوع كلام فيه تسليتهما وتطييب أنفسهما فما كان هو ولا أهله يعلم أن سيرزق ذرية، وقوله عليه السلام: ومن ذريتي، بعد

[ 268 ]

قوله تعالى: إني جاعلك للناس إماما، قول من يعتقد لنفسه ذرية، وكيف يسع من له ادنى دربة بأدب الكلام وخاصة مثل إبراهيم الخليل في خطاب يخاطب به ربه الجليل أن يتفوه بما لا علم له به ؟ ولو كان ذلك لكان من الواجب أن يقول: ومن ذريتي إن رزقتني ذرية أو ما يؤدى هذا المعنى فالقصة واقعة كما ذكرنا في أواخر عهد إبراهيم بعد البشارة. على أن قوله تعالى: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال: إني جاعلك للناس إماما، يدل على أن هذه الامامة الموهوبة إنما كانت بعد ابتلائه بما ابتلاه الله به من الامتحانات وليست هذه الا أنواع البلاء التي ابتلى عليه السلابها في حيوته، وقد نص القرآن على أن من أوضحها بلاء قضية ذبح إسماعيل قال تعالى: (قال يا بني اني أرى في المنام أني اذبحك، إلى ان قال: ان هذا لهو البلاء المبين) الصافات - 106. والقضية انما وقعت في كبر إبراهيم، كما حكى الله تعالى عنه من قوله: (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر اسماعيل، واسحق، ان ربي لسميع الدعاء) ابراهيم - 41. ولنرجع إلى الفاظ الآية فقوله: واذ ابتلى ابراهيم ربه، الابتلاء والبلاء بمعنى واحد تقول: ابتليته وبلوته بكذا أي امتحنته واختبرته، إذا قدمت إليه أمرا أو أوقعته في حدث فاختبرته بذلك واستظهرت ما عنده من الصفات النفسانية الكامنة عنده كالاطاعة والشجاعة والسخاء والعفة والعلم والوفاء أو مقابلاتها، ولذلك لا يكون الابتلاء إلا بعمل فإن الفعل هو الذى يظهر به الصفات الكامنة من الانسان دون القول الذي يحتمل الصدق والكذب قال تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة) ن - 17، وقال تعالى: (ان الله مبتليكم بنهر) البقرة - 249. فتعلق الابتلاء، في الاية بالكلمات ان كان المراد بها الاقوال إنما هو من جهة تعلقها با لعمل وحكايتها عن العهود والاوامر المتعلقة بالفعل كقوله تعالى (وقولوا للناس حسنا) البقرة - 83، أي عاشروهم معاشرة جميلة وقوله:

[ 269 ]

بكلمات فأتمهن، الكلمات وهي جمع كلمة وإن أطلقت في القرآن على العين الخارجي دون اللفظ والقول، كقوله تعالى: (وكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم) آل عمران - 45، إلا أن ذلك بعناية إطلاق القول كما قال تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) آل عمران - 59. وجميع ما نسب إليه تعالى من الكلمة في القرآن اريد بها القول كقوله تعالى (ولا مبدل لكلمات الله) الانعام - 34، وقوله: (لا تبديل لكلمات الله) يونس - 64، وقوله: (يحق الحق بكلماته) الانفال - 7، وقوله: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) يونس - 96، وقوله: (ولكن حقت كلمة العذاب) الزمر - 71، وقوله: (وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا إنهم أصحاب النار) المؤمن - 6، وقوله: (ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم) الشورى - 14، وقوله: (وكلمة الله هي العليا) التوبة - 41، وقوله: (قال فالحق، والحق اقول) ص - 84، وقوله: (إنما قولنا لشئ إذا اردناه أن نقول له كن فيكون) النحل - 40، فهذه ونظائرها أريد بها القول بعناية أن القول توجيه ما يريد المتكلم إعلامه المخاطب ما عنده كما في الاخبار أو لغرض تحميله عليه كما في الانشاء ولذلك ربما تتصف في كلامه تعالى بالتمام كقوله تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته) الانعام - 115، وقوله تعالى: (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل) الاعراف - 136 كأن الكلمة إذا صدرت عن قائلها فهي ناقصة بعد، لم تتم، حتى تلبس لباس العمل وتعود صدقا. وهذا لا ينافي كون قوله تعالى فعله، فإن الحقائق الواقعية لها حكم، وللعنايات الكلامية اللفظية حكم آخر، فما يريد الله سبحانه إظهاره لواحد من أنبيائه، أو غيرهم بعد خفائه، أو يريد تحميله على أحد قول وكلام له لاشتماله على غرض القول والكلام وتضمنه غاية الخبر والنبأ، والامر والنهي، وإطلاق القول والكلمة على مثل ذلك شائع في الاستعمال إذا اشتمل على ما يؤديه القول والكلمة، تقول: لافعلن كذا وكذا، لقول قلته وكلمة قدمتها، ولم

[ 270 ]

تقل قولا، ولا قدمت كلمة، وإنما عزمت عزيمة لا تنقضها شفاعة شفيع أو وهن إرادة، ومنه قول عنترة: وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدى أو تستريحي. يريد بالقول توطين نفسه على الثبات والعزم، على لزومها مكانها لتفوز بالحمد إن قتل، وبالاستراحة إغلب. إذا عرفت ذلك ظهر لك أن المراد بقوله تعالى. بكلمات، قضايا ابتلى بها وعهود إلهية اريدت منه، كابتلائه بالكواكب والاصنام، والنار والهجرة وتضحيته بابنه وغير ذلك ولم يبين في الكلام ما هي الكلمات لان الغرض غير متعلق بذلك، نعم قوله: قال إني جاعلك للناس إماما، من حيث ترتبه على الكلمات تدل على انها كانت أمورا تثبت بها لياقته، عليه السلام لمقام الامامة. فهذه هي الكلمات وأما إتمامهن فإن كان الضمير في قوله تعالى: أتمهن راجعا إلى إبراهيم كان معنى إتمامهن إتيانه عليه السلام ما أريد منه، وامتثاله لما أمر به، وإن كان الضمير راجعا إليه تعالى كما هو الظاهر كان المراد توفيقه لما اريد منه، ومساعدته على ذلك، وأما ما ذكره بعضهم: أن المراد بالكلمات قوله تعالى: قال إني جاعلك للناس إماما، إلى آخر الآيات فمعنى لا ينبغي الركون إليه إذ لم يعهد في القرآن إطلاق الكلمات على جمل الكلام. قوله تعالى: إني جاعلك للناس اماما، أي مقتدى يقتدى بك الناس، وتبعونك في أقوالك وأفعالك، فالامام هو الذي يقتدي ويأتم به الناس، ولذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد به النبوة، لان النبي يقتدي به امته في دينهم، قال تعالى: (وما ارسلنا من رسول، الا ليطاع بإذن الله) النساء - 63، لكنه في غاية السقوط. اما اولا: فلان قوله: إماما، مفعول ثان لعامله الذي هو قوله: جاعلك واسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي، وانما يعمل إذا كان

[ 271 ]

بمعنى الحال أو الاستقبال فقوله، إني جاعلك للناس إماما، وعدله عليه السلام بالامامة في ما سيأتي، مع أنه وحي لا يكون إلا مع نبوة، فقد كان (ع) نبيا قبل تقلده الامامة فليست الامامة في الآية بمعنى النبوة (ذكره بعض المفسرين). واما ثانيا: فلانا بينا في صدر الكلام: أن قصة الامامة، إنما كانت في أواخر عهد إبراهيم عليه السلام بعد مجئ البشارة له بإسحق وإسماعيل، وإنما جائت الملائكة بالبشارة في مسيرهم إلى قوم لوط وإهلاكهم، وقد كان إبراهيم حينئذ نبيا مرسلا، فقد كان نبيا قبل أن يكون إماما، فإمامته غير نبوته. ومنشأ هذا التفسير وما يشابهه الابتذال الطاري على معاني الالفاظ الواقعة في القرآن الشريف في أنظار الناس من تكرر الاستعمال بمرور الزمن ومن جملة تلك الالفاظ لفظ الامامة، ففسره قوم: بالنبوة والتقدم والمطاعية مطلقا، وفسره آخرون بمعنى الخلافة أو الوصاية، أو الرئاسة في امور الدين والدنيا - وكل ذلك لم يكن - فإن النبوة معناها: تحمل النبأ من جانب الله، والرسالة معناها تحمل التبليغ، والمطاعية والاطاعة قبول الانسان ما يراه أو يأمره غيره وهو من لوازم النبوة والرسالة، والخلافة نحو من النيابة، وكذلك والوصاية، والرئاسة نحو من المطاعية وهو مصدرية الحكم في الاجتماع وكل هذه المعاني غير معنى الامامة التي هي كون الانسان بحيث يقتدى به غيره بأن يطبق أفعاله وأقواله على أفعاله وأقواله بنحو التبعية، ولا معنى لان يقال لنبي من الانبياء مفترض الطاعة إني جاعلك للناس نبيا، أو مطاعا فيما تبلغه بنبوتك، أو رئيسا تأمر وتنهى في الدين، أو وصيا، أو خليفة في الارض تقضي بين الناس في مرافعاتهم بحكم الله. وليست الامامة تخالف الكلمات السابقة وتختص بموردها بمجرد العناية اللفظية فقط، إذ لا يصح أن يقال لنبي - من لوازم نبوته كونه مطاعا بعد نبوته - إني جاعلك مطاعا للناس بعد ما جعلتك كذلك، ولا يصح ان يقال له ما يؤل إليه معناه وان اختلف بمجرد عناية لفظية، فإن المحذور هو المحذور، وهذه المواهب الالهية ليست مقصورة على مجرد المفاهيم اللفظية، بل دونها حقائق من المعارف

[ 272 ]

الحقيقية، فلمعنى الامامة حقيقة وراء هذه الحقائق. والذي نجده في كلامه تعالى: إنه كلما تعرض لمعنى الامامة تعرض معها للهداية تعرض التفسير، قال تعالى في قصص إبراهيم عليه السلام: (ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) الانبياء - 73، وقال سبحانه: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) السجدة - 24، فوصفها بالهداية وصف تعريف، ثم قيدها بالامر، فبين أن الامامة ليست مطلق الهداية، بل هي الهداية التي تقع بأمر الله، وهذا الامر هو الذي بين حقيقته في قوله: (إنما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ) يس - 83، وقوله: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) القمر - 50، وسنبين في الايتين ان الامر الالهي وهو الذي تسميه الاية المذكورة بالملكوت وجه آخر للخلق، يواجهون به الله سبحانه، طاهر مطهر من قيود الزمان والمكان، خال من التغير والتبدل وهو المراد بكلمة - كن الذي ليس إلا وجود الشئ العيني، وهو قبال الخلق الذي هو وجه آخر من وجهي الاشياء فيه التغير والتدريج والانطباق على قوانين الحركة والزمان، وليكن هذا عندك على إجماله حتى يأتيك تفصيله إنشاء الله العزيز. وبالجملة فالامام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه، فالامامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم، وهدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب بأمر الله دون مجرد إرائة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول وكل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة، قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) ابراهيم - 4، وقال تعالى: في مؤمن آل فرعون وقال الذي آمن يا قوم اتبعون اهدكم سبيل الرشاد) مؤمن - 38، وقال تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة - 122، وسيتضح لك هذا المعنى مزيد اتضاح. ثم انه تعالى بين سبب موهبة الامامة بقوله: (لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون

[ 273 ]

الاية) فبين ان الملاك في ذلك صبرهم في جنب الله - وقد أطلق الصبر - فهو في كل ما يبتلي ويمتحن به عبد في عبوديته، وكونهم قبل ذلك موقنين، وقد ذكر في جملة قصص إبراهيم عليه السلام قوله: (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين) الانعام - 75، والآية كما ترى تعطي بظاهرها: أن إرائة الملكوت لابراهيم كانت مقدمة لافاضة اليقين عليه، ويتبين به أن اليقين لا ينفك عن مشاهدة الملكوت كما هو ظاهر قوله تعالى: (كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم) التكاثر - 6 وقوله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون - إلى أن قال - كلا إن كتاب الابرار لفي عليين، وما أدريك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون) المطففين - 21، وهذه الآيات تدل على ان المقربين هم الذين لا يحجبون عن ربهم بحجاب قلبي وهو المعصية والجهل والريب والشك، فهم أهل اليقين بالله، وهم يشهدون عليين كما يشهدون الجحيم. وبالجملة فالامام يجب أن يكون إنسانا ذايقين مكشوفا له عالم الملكوت - متحققا بكلمات من الله سبحانه - وقد مر أن الملكوت هو الامر الذي هو الوجه الباطن من وجهي هذا العالم، فقوله تعالى: يهدون بأمرنا، يدل دلالة واضحة على أن كل ما يتعلق به أمر الهداية - وهو القلوب والاعمال - فللامام باطنه وحقيقتة، ووجهه الامري حاضر عنده غير غائب عنه، ومن المعلوم أن القلوب والاعمال كسائر الاشياء في كونها ذات وجهين، فالامام يحضر عنده ويلحق به أعمال العباد، خيرها وشرها، وهو المهيمن على السبيلين جميعا، سبيل السعادة وسبيل الشقاوة. وقال تعالى أيضا: (يوم ندعوا كل اناس بإمامهم) الاسراء - 71، وسيجئ تفسيره بالامام الحق دون كتاب الاعمال، على ما يظن من ظاهرها، فالامام هو الذي يسوق الناس إلى الله سبحانه يوم تبلى السرائر، كما أنه يسوقهم إليه في ظاهر هذه الحيوة الدنيا وباطنها، والآية مع ذلك تفيد أن الامام لا يخلو عنه زمان من الازمنة، وعصر من الاعصار، لمكان قوله تعالى كل اناس، على ما سيجئ في تفسير الآية من تقريبه. ثم إن هذا المعنى أعني الامامة، على شرافته وعظمته، لا يقوم إلا بمن كان سعيد الذات بنفسه، إذ الذي ربما تلبس ذاته بالظلم والشقاء، فإنما سعادته بهداية من غيره، وقد قال الله تعالى: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدي)

[ 274 ]

يونس - 35. وقد قوبل في الآية بين الهادي إلى الحق وبين غير المهتدي إلا بغيره، أعني المهتدي بغيره، وهذه المقابلة تقتضي أن يكون الهادي إلى الحق مهتديا بنفسه، أن المهتدي بغيره لا يكون هاديا إلى الحق البتة. ويستنتج من هنا أمران: أحدهما: أن الامام يجب أن يكون معصوما عن الضلال و المعصية، والا كان غير مهتد بنفسه، كما مر كما، يدل عليه أيضا قوله تعالى: (وجعلناهم أئمة بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلوة، وإيتاء الزكوة وكانوا لنا عابدين) الانبياء - 73 فأفعال الامام خيرات يهتدى إليها لا بهداية من غيره بل باهتداء من نفسه بتأييد إلهي، وتسديد رباني والدليل عليه قوله تعالى: (فعل الخيرات) بناء على أن المصدر المضاف يدل على الوقوع، ففرق بين مثل قولنا: وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات فلا يدل على التحقق والوقوع، بخلاف قوله (وأوحينا إليهم فعل الخيرات) فهو يدل على أن ما فعلوه من الخيرات إنما هو بوحى باطني وتأييد سماوي. الثاني: عكس الامر الاول وهو أن من ليس بمعصوم فلا يكون اماما هاديا إلى الحق البتة. وبهذا البيان يظهر: ان المراد بالظالمين في قوله تعالى، (قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) مطلق من صدر عنه ظلم ما، من شرك أو معصية، وان كان منه في برهة من عمره، ثم تاب وصلح. وقد سئل بعض أساتيذنا رحمة الله عليه: عن تقريب دلالة على عصمة الامام. فأجاب: أن الناس بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام: من كان ظالما في جميع عمره، ومن لم يكن ظالما في جميع عمره، ومن هو ظالم في أول عمره دون آخره، ومن هو بالعكس هذا. وإبراهيم عليه السلام أجل شأنا من أن يسئل الامامة للقسم الاول والرابع من ذريته، فبقي قسمان وقد نفى الله أحدهما، وهو الذي يكون ظالما في أول عمره دون آخره، فبقي الآخر، وهو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره إنتهى وقد ظهر مما تقدم من البيان أمور: الاول: أن الامامة لمجعولة. الثاني: أن الامام يجب أن يكون معصوما بعصمة إلهية.

[ 275 ]

الثالث: أن الارض وفيه الناس، لا تخلو عن إمام حق. الرابع: أن الامام يجب أن يكون مؤيدا من عند الله تعالى. الخامس: أن أعمال العباد غير محجوبة عن علم الامام. السادس: أنه يجب أن يكون عالما بجميع ما يحتاج إليه الناس في امور معاشهم ومعادهم. السابع: أنه يستحيل أن يوجد فيهم من يفوقه في فضائل النفس. فهذه سبعة مسائل هي امهات مسائل الامامة، تعطيها الآية الشريفة بما ينضم إليها من الآيات والله الهادي. فان قلت: لو كانت الامامة هي الهداية بأمر الله تعالى، وهي الهداية إلى الحق الملازم مع الاهتداء بالذات كما استفيد من قوله تعالى: (أفمن يهدي إلى الحق إحق أن يتبع الآية) كان جميع الانبياء أئمة قطعا، لوضوح أن نبوة النبي لا يتم إلا باهتداء من جانب الله تعالى بالوحى، من غير أن يكون مكتسبا من الغير، بتعليم أو إرشاد ونحوهما، حينئذ فموهبة النبوة تستلزم موهبة الامامة، وعاد الاشكال إلى أنفسكم. قلت: الذي يتحصل من البيان السابق المستفاد من الآية أن الهداية بالحق وهي الامامة تستلزم الاهتداء بالحق، وأما العكس وهو أن يكون كل من اهتدى بالحق هاديا لغيره بالحق، حتى يكون كل نبي لاهتدائه بالذات إماما، فلم يتبين بعد، وقد ذكر سبحانه هذا الاهتداء بالحق، من غير أن يقرنه بهداية الغير بالحق في قوله تعالى: (ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل، ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين. وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين، وإسمعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين. ومن آبائهم وذرياتهم واخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم. ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون. أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين. اؤلئك الذين هدى الله فبهديهم اقتده) الانعام - 90، وسياق الآيات كما ترى يعطي أن هذه الهداية أمر ليس من شأنه أن يتغير ويتخلف، وأن هذه الهداية لن ترتفع بعد رسول الله عن أمته، بل عن ذرية إبراهيم منهم خاصة، كما يدل

[ 276 ]

عليه قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لابيه وقومه إنني برآء مما تعبدون إلا الذي فطرني فانه سيهدين. وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) الزخرف - 28، فأعلم قومه ببرائته في الحال وأخبرهم بهدايته في المستقبل، وهي الهداية بأمر الله حقا، لا الهداية التي يعطيها النظر والاعتبار، فإنها كانت حاصلة مدلولا عليها بقوله: إنني برآء مما تعبدون إلا الذي فطرني، ثم أخبر الله: أنه جعل هذه الهداية كلمة باقية في عقب إبراهيم، وهذا أحد الموارد التي أطلق القرآن الكلمة فيها على الامر الخارجي دون القول، كقوله تعالى: (وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها) الفتح - 26. وقد تبين بما ذكر: أن الامامة في ولد إبراهيم بعده، وفي قوله تعالى: (قال ومن ذريتي. قال لا ينال عهدي الظالمين) إشاره إلى ذلك، فإن إبراهيم عليه السلام إنما كان سئل الامامة لبعض ذريته لا لجميعهم، فاجيب: بنفيها عن الظالمين من ولده، وليس جميع ولده ظالمين بالضرورة حتى يكون نفيها عن الظالمين نفيا لها عن الجميع، ففيه إجابة لما سئله مع بيان أنها عهد، وعهده تعالى لا ينال الظالمين. قوله تعالى: لا ينال عهدي الظالمين، في التعبير إشارة إلى غاية بعد الظالمين عن ساحة العهد الالهي، فهي من الاستعارة بالكناية.

(بحث روائي)

 في الكافي عن الصادق عليه السلام: إن الله عز وجل اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا، وإن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، وأن الله اتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما، فلما جمع له الاشياء قال: (إني جاعلك للناس إماما) قال عليه السلام: فمن عظمها في عين إبراهيم قال: ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين قال: لا يكون السفيه إمام التقي. أقول: وروي هذا المعنى أيضا عنه بطريق آخر وعن الباقر عليه السلام بطريق آخر، ورواه المفيد عن الصادق عليه السلام.

[ 277 ]

قوله: إن الله اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا، يستفاد ذلك من قوله تعالى: (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين - إلى قوله - من الشاهدين) الانبياء - 56، وهو اتخاذ بالعبودية في أول أمر إبراهيم. واعلم ان اتخاذه تعالى أحدا من الناس عبدا غير كونه في نفسه عبدا، فإن العبدية من الوازم الايجاد والخلقة، لا ينفك عن مخلوق ذي فهم وشعور، ولا يقبل الجعل والاتخاذ وهو كون الانسان مثلا مملوك الوجود لربه، مخلوقا مصنوعا له، سواء جرى في حيوته على ما يستدعيه مملوكيته الذاتية، واستسلم لربوبية ربه العزيز، أو لم يجر على ذلك، قال تعالى: (إن كل من في السموات والارض إلا آتي الرحمن عبدا) مريم - 94، وإن كان إذا لم يجر على رسوم العبودية وسنن الرقية استكبارا في الارض وعتوا كان من الحري أن لا يسمى عبدا بالنظر إلى الغايات، فإن العبد هو الذي أسلم وجه لربه، وأعطاه تدبير نفسه، فينبغي أن لا يسمى بالعبد إلا من كان عبدا في نفسه وعبدا في عمله، فهو العبد حقيقة، قال تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا) الفرقان - 63. وعلي هذا فاتخاذه تعالى إنسانا عبدا - وهو قبول كونه عبدا والاقبال عليه بالربوبية - هو الولاية وهو تولي أمره كما يتولى الرب أمر عبده، والعبودية مفتاح للولاية، كما يدل عليه قوله تعالى: (قل إن وليي الله الذي نزل الكتاب بالحق، وهو يتولى الصالحين) الاعراف - 196، أي اللائقين للولاية، فأنه تعالى سمى النبي في آيات من كتابه بالعبد، قال تعالى: (الذي أنزل على عبده الكتاب) الكهف - 1، وقال تعالى: (ينزل على عبده آيات بينات) الحديد - 9، وقال تعالى: (قام عبد الله يدعوه) الجن - 19، فقد ظهر أن الاتخاذ للعبودية هو الولاية. وقوله عليه السلام: وإن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، الفرق بين النبي الرسول على ما يظهر من الروايات المروية عن أئمة أهل البيت: أن النبي هو الذي يرى في المنام ما يوحي به إليه، والرسول هو الذي يشاهد الملك فيكلمة، والذي يظهر من قصص إبراهيم هو هذا الترتيب، قال تعالى: (واذكر في الكتاب ابراهيم انه كان صديقا نبيا، إذ قال لابيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغني عنك شيئا) مريم - 42، فظاهر الآية أنه عليه السلام كان صديقا نبيا حين يخاطب أباه بذلك، فيكون هذا تصديقا لما أخبر به ابراهيم عليه السلام في أول وروده على قومه: (انني

[ 278 ]

براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فانه سيهدين) الزخرف - 27، وقال تعالى: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام) هود - 69، والقصة - وهي تتضمن مشاهدة الملك وتكليمه - واقعة في حال كبر إبراهيم عليه السلام بعد مفارق أباه وقومه. وقوله عليه السلام: إن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، يستفاد ذلك من قوله تعالى: (واتبع ملة إبراهيم حنيفا، واتخذ الله إبراهيم خليلا) النساء - 125، فإن ظاهره انه إنما اتخذه خليلا لهذه الملة الحنيفية التي شرعها بأمر ربه إذ المقام مقام بيان شرف ملة إبراهيم الحنيف التي تشرف بسببها إبراهيم عليه السلام بالخلة والخليل أخص من الصديق فإن أحد المتحابين يسمى صديقا إذا صدق في معاشرته ومصاحبته ثم يصير خليلا إذا قصر حوائجه على صديقه، والخلة الفقر والحاجة. وقوله عليه السلام: وان الله اتخذه خليلا قبل أن يتخذه اماما، الخ يظهر معناه مما تقدم من البيان. وقوله: قال لا يكون السفيه امام التقى اشارة إلى قوله تعالى، (ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وانه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) البقره - 131، فقد سمى الله سبحانه الرغبة عن ملة ابراهيم وهو الظلم سفها، وقابلها بالاصطفاء، وفصر الاصطفاء بالاسلام، كما يظهر بالتدبر في قوله: (إذ قال له ربه أسلم) ثم جعل الاسلام والتقوى واحدا أو في مجرى واحد في قوله: (اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون) آل عمران - 102، فافهم ذلك. وعن المفيد عن درست وهشام عنهم (ع) قال: قد كان ابراهيم نبيا وليس بإمام، حتى قال الله تبارك وتعالى: (اني جاعلك للناس اماما قال ومن ذريتي) فقال الله تبارك وتعالى: لا ينهال عهدي الظالمين، من عببد صنما أو وثنا أو مثالا، لا يكون اماما. أقول: وقد ظهر معناه مما مر. وفي أمالي الشيخ مسندا، وعن مناقب ابن المغازلي مرغوعا عن ابن مسعود عن

[ 279 ]

النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية عن قول الله لابراهيم: من سجد لصنم دوني لا أجعله اماما. قال (ع) وانتهت الدعوة إلى والى أخي علي، لم يسجد أحدنا لصنم قط. وفي الدر المنثور: أخرج وكيع وابن مردويه عن علي بن أبي طالب عليه السلام عن الني في قوله: (لا ينال عهدي الظالمين) قال: لا طاعة الا في المعروف. وفي الدر اللمنثور أيضا: أخرج عبد بن حميد عن عمران بن حصين سمعت النبي يقول: لا طاعة لمخلوق في معصية الله. أقول: معانيها ظاهرة مما مر. وفي تفسير العياشي، بأسانيد عن صفوان الجمال قال: كنا بمكة فجرى الحديث في قول الله: (وإذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن) قال: فأتمهن بمحمد وعلي والائمة من ولد علي في قول الله: (ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم). اقول: والرواية مبنية على كون المراد بالكلمة الامامة كما فسرت بها في قوله تعالى: (فإنه سيهدين فجعلها كلمة باقية في عقبه الآية) فيكون معنى الاية: (واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات، هن امامته، وامامة اسحق وذريته، واتمهن بإمامة محمد، والائمة من أهل بيته من ولد اسمعيل ثم بين الامر بقوله: قال إني جاعلك للناس اماما إلى آخر الآية. وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسمعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود - 125. وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن

[ 280 ]

منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير - 126. وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسمعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم - 127. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم - 128. ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم - 129.

(بيان)

 قوله تعالى: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا، إشارة إلى تشريع الحج والامن في البيت، والمثابة هي المرجع، من ثاب يثوب إذا رجع. قوله تعالى: واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى كإنه عطف على قوله: جعلنا البيت مثابة، بحسب المعنى، فأن قوله: جعلنا البيت مثابة، لما كان إشارة إلى التشريع كان المعنى وإذ قلنا للناس ثوبوا إلى البيت وحجوا إليه، واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي وربما قيل إن الكلام على تقدير القول، والتقدير: وقلنا اتخذوا من مقام ابراهيم مصلى، والمصلى اسم مكان من الصلوة بمعنى الدعاء أي اتخذوا من مقامه عليه السلام مكانا للدعاء والظاهر ان قوله: جعلنا البيت مثابة إلخ بمنزلة التوطئة اشير به إلى مناط تشريع الصلوة ولذا لم يقل: وصلوا، في مقام ابراهيم، بل قال: واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى، فلم يعلق الامر بالصلوة في المقام، بل علق على اتخاذ المصلى منه.

[ 281 ]

قوله تعالى: وعهدنا إلى إبراهيم وإسمعيل أن طهرا، العهد هو الامر والتطهير إما تخليص البيت لعبادة الطائفين، والعاكفين، والمصلين، ونسكهم فيكون من الاستعارة بالكناية، وأصل المعنى: أن خلصا بيتي لعبادة العباد، وذلك تطهير وإما تنظيفه من الاقذار والكثافات الطارئة من عدم مبالات الناس، والركع السجود جمعا راكع وساجد وكان المراد به المصلون. قوله تعالى: وإذ قال ابراهيم رب اجعل، هذا دعاء دعا به ابراهيم يسئل به الامن على أهل مكة والرزق وقد اجيبت دعوته، وحاشا لله سبحانه أن ينقل في كلامه دعاء لا يستجيبه ولا يرده في كلامه الحق فيشتمل كلامه على هجاء لغو لغى به لاغ جاهل، وقد قال تعالى: (والحق أقول) ص - 84، وقال تعالى: (إنه لقول فصل وما هو بالهزل) الطارق - 14. وقد نقل القرآن العظيم عن هذا النبي الكريم دعوات كثيرة دعابها، وسئلها ربه كدعائه لنفسه في بادئ أمره، ودعائه عند مهاجرته إلى سورية ودعائه ومسئلته بقاء الذكر الخير، ودعائه لنفسه وذريته ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات، ودعائه لاهل مكة بعد بناء البيت، ودعائه ومسئلته بعثة النبي من ذريته، ومن دعواته ومسائله التي تجسم آماله وتشخص مجاهداته ومساعيه في جنب الله وفضائل نفسه المقدسة، وبالجملة تعرف موقعه وزلفاه من الله عز اسمه، وسائر قصصه وما مدحه به ربه، يستنبط شرح حيوته الشريفة وسنتعرض للميسور من ذلك في سورة الانعام. قوله تعالى: من آمن منهم، لما سئل عليه السلام لبلد مكة الامن، ثم سئل لاهلة أن يرزقوا من الثمرات، استشعر: أن الاهل سيكون منهم مؤمنون، وكافرون ودعائه للاهل بالرزق يعم الكافر والمؤمن، وقد تبرا من الكافرين وما يعبدونه، قال تعالى (فلما تبين أنه عدو لله تبرء منه) التوبة - 114، فشهد تعالى له: بالبرائة والتبري عن كل عدو لله، حتى أبيه، ولذلك لما استشعر ما استشعره من عموم دعوته قيدها بقوله من آمن منهم - وهو يعلم أن رزقهم من الثمرات لا يتم من دون شركة الكافرين، على ما يحكم به ناموس الحيوة الدنيوية الاجتماعية - غير أنه خص مسئلته - والله أعلم - بما يحكم لسائر عباده، ويريد في حقهم، فاجيب (ع) بما يشمل المؤمن والكافر، وفيه

[ 282 ]

بيان أن المستجاب من دعوته ما يجري على حكم العادة وقانون الطبيعة من غير خرق للعادة، وإبطال لظاهر حكم الطبيعة، ولم يقل: وارزق من آمن من أهلة من الثمرات لان المطلوب استيهاب الكرامة للبلد لكرامة البيت المحرم، ولا ثمرة تحصل في واد غير ذي زرع، وقع فيه البيت، ولو لا ذلك لم يعمر البلد، ولا وجد أهلا يسكنونه. قوله تعالى: ومن كفر فامتعه قليلا، قرء فامتعه من باب الافعال والتفعيل والامتاع والتمتيع بمعنى واحد. قوله تعالى: ثم اضطره إلى عذاب النار الخ، فيه إشارة إلى مزيد اكرام البيت وتطييب لنفس ابراهيم (ع)، كأنه قيل: ما سئلته من اكرام البيت برزق المؤمنين من أهل هذا البلد استجبته وزيادة، ولا يغتر الكافر بذلك أن له كرامة على الله، وانما ذلك اكرام لهذا البلد، واجابة لدعوتك بأزيد مما سئلته، فسوف يضطر إلى عذاب النار، وبئس المصير. قوله تعالى: واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسمعيل، القواعد جمع قاعدة وهي ما قعد من البناء على الارض، واستقر عليه الباقي، ورفع القواعد من المجاز بعد ما يوضع عليها منها، ونسبة الرفع المتعلق بالمجموع إلى القواعد وحدها. وفي قوله تعالى: من البيت تلميح إلى هذه العناية المجازية. قوله تعالى: ربنا تقبل منا أنك أنت السميع العليم، دعاء لابراهيم واسمعيل، وليس على تقدير القول، أو ما يشبهه، والمعنى يقولان: ربنا تقبل منا الخ، بل هو في الحقيقة حكاية المقول نفسه، فإن قوله: يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسمعيل حكاية الحال الماضية، فهما يمثلان بذلك تمثيلا كأنهما يشاهدان وهما مشتغلان بالرفع، والسامع يراهما على حالهما ذلك ثم يسمع دعائهما بألفاظهما من غير وساطة المتكلم المشير إلى موقفهما وعملهما، وهذا كثير في القرآن، وهو من أجمل السياقات القرآنية - وكلها جميل - وفيه من تمثيل القصة وتقريبه إلى الحس ما لا يوجد ولا شئ من نوع بداعته في التقبل بمثل القول ونحوه. وفي عدم ذكر متعلق التقبل - وهو بناء البيت - تواضع في مقام العبودية،

[ 283 ]

واستحقار لما عملا به و المعنى ربنا تقبل منا هذا العمل اليسير انك أنت السميع لدعوتنا، العليم بما نويناه في قلوبنا. قوله تعالى: ربنا واجعلنا مسلمين لك، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، من البديهي أن الاسلام على ما تداول بيننا من لفظه، ويتبادر إلى أذهاننا من معناه أول مراتب العبودية، وبه يمتاز المنتحل من غيره، وهو الاخذ بظاهر الاعتقادات والاعمال الدينية أعم من الايمان والنفاق، وابراهيم عليه السلام - وهو النبي الرسول أحد الخمسة أولي العزم، صاحب الملة الحنيفية - أجل من أن يتصور في حقه أن لا يكون قد ناله إلى هذا الحين، وكذا ابنه اسمعيل رسول الله وذبيحه، أو يكونا قد نالاه ولكن لم يعلما بذلك، أو يكونا علما بذلك وأرادا البقاء على ذلك، وهما في ما هما فيه من القربى والزلفى، والمقام مقام الدعوة عند بناء البيت المحرم، وهما أعلم بمن يسالانه، وأنه من هو، وما شأنه، على أن هذا الاسلام من الامور الاختيارية التي يتعلق بها الامر والنهى كما قال تعالى: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) البقرة - 131، ولا معنى لنسبة ما هو كذلك إلى الله سبحانه أو مسألة ما هو فعل اختياري للانسان من حيث هو كذلك من غير عناية يصح معها ذلك. فهذا الاسلام المسئول غير ما هو المتداول المتبادر عندنا منه، فإن الاسلام مراتب والدليل على أنه ذو مراتب قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت الآية) حيث يأمرهم إبراهيم بالاسلام وقد كان مسلما، فالمراد بهذا الاسلام المطلوب غير ما كان عنده من الاسلام الموجود، ولهذا نظائر في القرآن. فهذا الاسلام هو الذي سنفسره من معناه، وهو تمام العبودية وتسليم العبد كل ما له إلى ربه، وهو إن كان معنى اختياريا للانسان من طريق مقدماته إلا أنه إذا اضيف إلى الانسان العادي وحاله القلبي المتعارف كان غير اختياري بمعنى كونه غير ممكن النيل له - وحاله حاله - كساير مقامات الولاية ومراحله العالية، وكسائر معارج الكمال البعيدة عن حال الانسان المتعارف المتوسط الحال بواسطة مقدماته الشاقة، ولهذا يمكن إن يعد أمرا إلهيا خارجا عن اختيار الانسان، ويسئل من الله سبحانه أن يفيض به، وأن يجعل الانسان متصفا به.

[ 284 ]

على أن هنا نظرا أدق من ذلك، وهو ان الذي ينسب إلى الانسان ويعد اختياريا له، هو الافعال، وأما الصفات والملكات الحاصلة من تكرر صدورها فليست اختيارية بحسب الحقيقة، فمن الجائز أو الواجب ان ينسب إليه تعالى، وخاصة إذا كانت من الحسنات والخيرات التي نسبتها إليه تعالى، أولى من نسبتها إلى الانسان، وعلى ذلك جرى ديدن القرآن، كما في قوله تعالى: (رب اجعلني مقيم الصلوة ومن ذريتي) إبراهيم - 40، وقوله تعالى: (وألحقني بالصالحين) الشعراء - 83، وقوله تعالى: (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي، وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضيه) النمل - 19، وقوله تعالى: (ربنا واجعلنا مسلمين لك) الآية، فقد ظهر ان المراد بالاسلام غير المعنى الذي يشير إليه قوله تعالى: (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم) الحجرات - 14، بل معنى أرقي وأعلى منه سيجئ بيانه. قوله تعالى: وأرنا مناسكنا وتب علينا. انك أنت التواب الرحيم، يدل على ما مر من معنى الاسلام أيضا، فأن المناسك جمع منسك بمعنى العبادة، كما في قوله تعالى: (ولكل امة جعلنا منسكا) الحج - 34، أو بمعنى المتعبد، أعني الفعل المأتي به عبادة وإضافة المصدر يفيد التحقق، فالمراد بمناسكنا هي الافعال العبادية الصادرة منهما والاعمال التي يعملانها دون الافعال، والاعمال التي يراد صدورها منهما، فليس قوله: أرنا بمعنى علمنا أو وفقنا، بل التسديد بارائة حقيقة الفعل الصادر منهما، كما أشرنا إليه في قوله تعالى: (وأوحينا إليهم فعل الخيرات، وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة) الانبياء - 73، وسنبينه في محله: ان هذا الوحي تسديد في الفعل، لاتعليم للتكليف المطلوب، وكأنه إليه الاشارة بقوله تعالى: (واذكر عبادنا إبراهيم، وإسحق، ويعقوب، أولي الايدي والابصار. انا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) ص - 46. فقد تبين ان المراد بالاسلام والبصيرة في العبادة، غير المعنى الشائع المتعارف، وكذلك المراد بقوله تعالى: وتب علينا، لان إبراهيم وإسماعيل كانا نبيين معصومين بعصمة الله تعالى، لا يصدر عنهما ذنب حتى يصح توبتهما منه، كتوبتنا من المعاصي

[ 285 ]

اصادرة عنا. فان قلت: كل ما ذكر من معنى الاسلام وإرائة المناسك والتوبة مما يليق بشأن إبراهيم واسمعيل عليه السلام، لا يلزم ان يكون هو مراده في حق ذريته فانه لم يشرك ذريته معه ومع ابنه اسمعيل إلا في دعوة الاسلام وقد سال لهم الاسلام بلفظ آخر في جملة اخرى، فقال: ومن ذريتنا امة مسلمة لك ولم يقل: واجعلنا ومن ذريتنا مسلمين، أو ما يؤدي معناه فما المانع أن يكون مراده من الاسلام ما يعم جميع مراتبه حتى ظاهر الاسلام، فان الظاهر من الاسلام أيضا له آثار جميلة، وغايات نفيسة في المجتمع الانساني، يصح أن يكون بذلك بغية لابراهيم عليه السلام يطلبها من ربه كما كان كذلك عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث اكتفى صلى الله عليه وآله وسلم من الاسلام بظاهر الشهادتين الذي به يحقن الدماء، ويجوز التزويج، ويملك الميراث، وعلى هذا يكون المراد بالاسلام في قوله تعالى: ربنا واجعلنا مسلمين لك، ما يليق بشأن ابراهيم واسمعيل، وفي قوله: ومن ذريتنا امة مسلمة لك ما هو اللائق بشأن الامة التي فيها المنافق، وضعيف الايمان وقويه، والجميع مسلمون. قلت: مقام التشريع ومقام السؤال من الله مقامان مختلفان، لهما حكمان متغايران لا ينبغي أن يقاس أحدهما على الآخر، فما اكتفى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من امته بظاهر الشهادتين من الاسلام، انما هو لحكمة توسعة الشوكة والحفظ لظاهر النظام الصالح، ليكون ذلك كالقشر يحفظ به اللب الذي هو حقيقة الاسلام، ويصان به عن مصادمة الآفات الطارئة. وأما مقام الدعاء والسؤال من الله سبحانه فالسلطة فيها للحقائق والغرض متعلق هناك بحق الامر، وصريح القرب والزلفى ولا هوى للانبياء في الظاهر من جهة ما هو ظاهر ولا هوى لابراهيم عليه السلام في ذريته ولو كان له هوى لبدء فيه لابيه قبل ذريته ولم يتبرا منه لما تبين أنه عدو لله، ولم يقل في ما حكى الله من دعائه (ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتي الله بقلب سليم) الشعراء - 89، ولم يقل (واجعل لي لسان صدق في الاخرين) الشعراء، - 84، بل اكتفى بلسان ذكر في الآخرين إلى غير ذلك.

[ 286 ]

فليس الاسلام الذي ساله لذريته الا حقيقة الاسلام، وفي قوله تعالى: امة مسلمة لك، اشارة إلى ذلك فلو كان المراد مجرد صدق اسم الاسلام على الذرية لقيل: امة مسلمة، وحذف قوله: لك هذا. قوله تعالى: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم الخ دعوة للني عليه السلام وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أنا دعوة ابراهيم).

(بحث روائي)

 في الكافي عن الكتاني،: قال سئالت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل نسي أن يصلي الركعتين عند مقام ابراهيم في طواف الحج والعمرة، فقال عليه السلام: إن كان بالبلد صلى الركعتين عند مقام ابراهيم، فإن الله عز وجل يقول: واتخذوا من مقام ابراهيم: مصلى وان كان قد ارتحل، فلا آمره أن يرجع. أقول: وروى قريبا منه، الشيخ في التهذيب، والعياشي في تفسيره بعدة أسانيد وخصوصيات الحكم - وهو الصلوة عند المقام أو خلفه، كما في بعض الروايات ليس لاحد أن يصلي ركعتي الطواف إلا خلف المقام، الحديث - مستفادة من لفظة من، ومصلى من قوله تعالى: واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى الآية. وفي تفسير القمي عن الصادق (ع) في قوله تعالى: أن طهرا بيتي للطائفين الآية يعني (نح عنه المشركين). وفي الكافي عن الصادق (ع) قال إن الله عز وجل يقول في كتابه: طهرا بيتى للطائفين والعاكفين، والركع السجود، فينبغي للعبد أن لا يدخل مكة إلا وهو طاهر قد غسل عرقه، والاذى، وتطهر. أقول: وهذا المعنى مروي في روايات اخر، واستفادة طهارة الوارد من طهارة المورد، ربما تمت من آيات أخر، كقوله تعالى (الطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات)

[ 287 ]

النور - 26، ونحوها. وفي المجمع عن ابن عباس قال: لما أتي إبراهيم باسمعيل وهاجر، فوضعهما بمكة واتت على ذلك مدة، ونزلها الجرهميون، وتزوج إسمعيل امرأه منهم، وماتت هاجر، واستأذن ابراهيم سارة، فأذنت له، وشرطت عليه أن لا ينزل، فقدم إبراهيم وقد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت اسمعيل، فقال لامرأته أين صاحبك ؟ قالت له ليس هو هيهنا، ذهب يتصيد، وكان اسمعيل يخرج من الحرم يتصيد ويرجع، فقال لها ابراهيم: هل عندك ضيافة ؟ فقالت ليس عندي شئ، وما عندي أحد، فقال لها ابراهيم: إذا جاء زوجك، فاقرئيه السلام وقولي له: فليغير عتبة بابه وذهب ابراهيم فجاء اسمعيل، ووجد ريح أبيه، فقال لامرأاته: هل جاءك أحد ؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا وكذا، كالمستخفه بشأنه، قال: فما قال لك ؟ قالت: قال لى: اقرأي زوجك السلام، وقولي له: فليغير عتبة بابه، فطلقها وتزوج أخرى، فلبث ابراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم استأذن سارة: أن يزور اسمعيل وأذنت له، واشترطت عليه: أن لا ينزل فجاء ابراهيم، حتى انتهى إلى باب اسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك ؟ قالت: ذهب يتصيد وهو يجئ الآن إنشاء الله، فانزل، يرحمك الله، قال لها: هل عندك ضيافة ؟ قالت: نعم فجاءت باللبن واللحم، فدعا لها بالبركة، فلو جائت يومئذ بخبز أو بر أو شعير أو تمر لكان أكثر أرض الله برا وشعيرا وتمرا، فقالت له انزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل فجاءت بالمقام فوضعته على شقه فوضع قدمه عليه، فبقى أثر قدمه عليه، فغسلت شق رأسه الايمن ثم حولت المقام إلى شقه الايسر فغسلت شق رأسه الايسر فبقي أثر قدمه عليه، فقال لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام، وقولي له: قد استقامت عتبة بابك فلما جاء إسمعيل (ع) وجد ريح أبيه فقال لامرأته هل جائك أحد ؟ قالت نعم شيخ أحسن الناس وجها، وأطيبهم ريحا، فقال لي كذا وكذا وقلت له: كذا وغسلت رأسه، وهذا موضع قدميه على المقام، فقال اسماعيل لها: ذاك ابراهيم. أقول: وروى القمي، في تفسيره: ما يقرب منه. وفي تفسير القمي، عن الصادق عليه السلام قال: إن ابراهيم كان نازلا، في بادية

[ 288 ]

الشام فلما ولد له من هاجر إسمعيل اغتمت سارة من ذلك غما شديدا، لانه لم يكن لها ولد، وكانت تؤذي إبراهيم في هاجر وتغمه، فشكى ابراهيم ذلك إلى الله عز وجل، فأوحى الله إليه: (مثل المرئة مثل الضلع العوجاء، إن تركتها استمتعت بها، وإن أقمتها كسرتها) ثم أمره: إن يخرج إسمعيل وامه، فقال: يا رب إلى أي مكان ؟ فقال إلى حرمى وأمنى، وأول بقعة خلقتها من الارض، وهي مكة فأنزل الله عليه جبرئيل بالبراق فحمل هاجر وإسمعيل وإبراهيم وكان إبراهيم لا يمر بموضع حسن فيه شجر وزرع ونخل إلا وقال ابراهيم: يا جبرئيل إلى هيهنا، إلى هيهنا، فيقول جبرئيل لا امض، امض، حتى وافى مكة فوضعه في موضع البيت، وقد كان ابراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتى يرجع إليها، فلما نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجر، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها، فاستظلوا تحته، فلما سرحهم ابراهيم ووضعهم أراد الانصراف عنهم إلى سارة، قالت له هاجر: يا ابراهيم أتدعنا في موضع ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع ؟ فقال ابراهيم: الله الذي أمرني، أن أضعكم في هذا المكان هو يكفيكم ثم انصرف عنهم، فلما بلغ، كداء، (وهو جبل بذي طوى) التفت ابراهيم، فقال: رب انى أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع، عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلوة، فاجعل أفئده من الناس تهوي إليهم، وارزقهم من الثمرات، لعلهم يشكرون، ثم مضى وبقيت هاجر، فلما ارتفع النهار عطش اسمعيل، فقامت هاجر في موضع السعي فصعدت على الصفا، ولمع لها السراب في الوادي، فظنت أنه ماء، فنزلت في بطن الوادي، وسعت فلما بلغت المروة غاب عنها اسمعيل، عادت حتى بلغت الصفاء، فنظرت حتى فعلت ذلك سبع مرات فلما كان في الشوط السابع، وهي على المروة نظرت إلى اسمعيل وقد ظهر الماء من تحت رجليه فعادت حتى جمعت حوله رملا، فإنه كان سائلا، فزمته بما جعلت حوله، فلذلك سميت زمزم وكانت جرهم نازلة بذي المجاز وعرفات، فلما ظهر الماء بمكة عكفت الطير والوحش على الماء، فنظرت جرهم إلى تعكف الطير والوحش على ذلك المكان فأتبعتها، حتى نظروا إلى امرأة وصبي نازلين في ذلك الموضع، قد استظلا بشجرة، وقد ظهر الماء لهما، فقالوا لهاجر: من أنت وما شأنك وشأن هذا الصبي ؟ قالت: أنا أم ولد ابراهيم خليل الرحمن، وهذا ابنه، أمره الله أن ينزلنا هيهنا، فقالوا له: أتأذنين لنا أن نكون

[ 289 ]

بالقرب منكم ؟ فقالت لهم: حتى يأتي إبراهيم، فلما زارهم إبراهيم في اليوم الثالث قالت هاجر: يا خليل الله إن هيهنا قوما من جرهم يسئلونك: أن تأذن لهم، حتى يكونوا بالقرب منا، أفتأذن لهم في ذلك ؟ قال ابراهيم: نعم فأذنت هاجر لهم، فنزلوا بالقرب منهم، وضربوا خيامهم، فأنست هاجر واسمعيل بهم، فلما زارهم ابراهيم في المرة الثانية نظر إلى كثرة الناس حولهم فسر بذلك سرورا شديدا، فلما تحرك اسمعيل وكانت جرهم قد وهبوا لاسماعيل كل واحد منهم شاة، وشاتين فكانت هاجر واسمعيل، يعيشان بها فلما بلغ اسمعيل مبلغ الرجال، أمر الله ابراهيم: ان يبني البيت إلى أن قال: فلما أمر الله ابراهيم أن يبني البيت لم يدر في أي مكان يبنيه، فبعث الله جبرئيل، وخط له موضع البيت إلى أن قال فبنى ابراهيم البيت، ونقل اسمعيل من ذي طوى فرفعه في السماء تسعة اذرع، ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه ابراهيم، ووضعه في موضعه الذي هو فيه الآن، فلما بنى جعل له بابين بابا إلى الشرق، وبابا إلى الغرب، والباب الذي إلى الغرب، يسمى المستجار، ثم ألقى عليه الشجر والاذخر، وألقت هاجر على بابها كسائا كان معها وكانوا يكونون تحته، فلما بنى وفرغ منه، حج ابراهيم واسمعيل، ونزل عليهما جبرئيل يوم التروية، لثمان من ذي الحجة فقال: يا إبراهيم قم وارتو من الماء، لانه لم يكن بمنى وعرفات ماء، فسميت التروية لذلك ثم أخرجه إلى منى فبات بها ففعل به ما فعل بآدم، فقال ابراهيم لما فرغ من بناء البيت: (رب اجعل هذا بلدا آمنا، وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم الآية) قال عليه السلام: من ثمرات القلوب، أي حببهم إلى الناس، ليستأنسوا بهم، ويعودوا إليهم. أقول: هذا الذي لخصناه من أخبار القصة هو الذي تشتمل عليه الروايات الواردة في خلاصه القصة، وقد اشتملت عدة منها، وورد في اخبار أخرى: أن تاريخ بناء البيت يتضمن امورا خارقة للعادة، ففي بعض الاخبار، أن البيت أول ما وضع كان قبة من نور: نزلت على آدم، واستقرت في البقعة التي بنى إبراهيم عليها البيت، ولم تزل حتى وقع طوفان نوح، فلما غرقت الدنيا رفعه الله تعالى، ولم تغرق البقعة، فسمى لذلك البيت العتيق.

[ 290 ]

وفي بعض الاخبار: أن الله أنزل قواعد البيت من الجنة. وفي بعضها ان الحجر الاسود نزل من الجنة - وكان أشد بياضا من الثلج - فاسودت: لما مسته إيدي الكفار. وفي الكافي أيضا عن إحدهما عليه السلام قال: ان الله إمر إبراهيم ببناء الكعبة، وان يرفع قواعدها، ويرى الناس مناسكهم، فبنى إبراهيم واسمعيل البيت كل يوم ساقا، حتى انتهى إلى موضع الحجر الاسود، وقال أبو جعفر عليه السلام: فنادى أبو قبيس: ان لك عندي وديعة، فأعطاه الحجر، فوضعه موضعه. وفي تفسير العياشي عن الثوري عن أبي جعفر عليه السلام، قال سألته عن الحجر، فقال: نزلت ثلاثة أحجار من الجنة، الحجر الاسود استودعه إبراهيم، ومقام إبراهيم، وحجر بني إسرائيل. وفي بعض الاخبار: ان الحجر الاسود كان ملكا من الملائكة. أقول: ونظائر هذه المعاني كثيرة واردة في أخبار العامة والخاصة، وهي وان كانت آحادا غير بالغة حد التواتر لفظا، أو معنى، لكنها ليست بعادمة النظير في أبواب المعارف الدينية ولا موجب لطرحها من رأس. أما ما ورد من نزول القبة على آدم، وكذا سير إبراهيم إلى مكة بالبراق، ونحو ذلك، مما هو كرامة خارقة لعادة الطبيعة، فهي امور لا دليل على استحالتها، مضافا إلى ان الله سبحانه خص أنبيائه بكثير من هذه الآيات المعجزة، والكرامات الخارقة، والقرآن يثبت موارد كثيرة منها. وأما ما ورد من نزول قواعد البيت من الجنة ونزول الحجر الاسود من الجنة، ونزول حجر المقام - ويقال: انه مدفون تحت البناء المعروف اليوم بمقام إبراهيم - من الجنة وما أشبه ذلك، فذلك كما ذكرنا كثير النظائر، وقد ورد في عدة من النباتات والفواكه وغيرها: انها من الجنة، وكذا ما ورد: انها من جهنم،

[ 291 ]

ومن فورة الجحيم، ومن هذا الباب أخبار الطينة القائلة: ان طينة السعداء من الجنة، وان طينة الاشقياء من النار، أو هما من عليين، وسجين، ومن هذا الباب أيضا ما ورد: ان جنة البرزخ في بعض الاماكن الارضية، ونار البرزخ في بعض آخر، وان القبر اما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، إلى غير ذلك، مما يعثر عليه المتتبع البصير في مطاوي الاخبار، وهي كما ذكرنا بالغة في الكثرة حدا ليس مجموعها من حيث المجموع بالذى يطرح أو يناقش في صدوره أو صحة انتسابه وإنما هو من الهيات المعارف التي سمح بها القرآن الشريف، وانعطف إلى الجري على مسيرها الاخبار الذي يقضى به كلامه تعالى: ان الاشياء التي في هذه النشأه الطبيعية المشهودة جميعا نازلة إليها من عند الله سبحانه، فما كانت منها خيرا جميلا، أو وسيلة خير، أو وعاء لخير، فهو من الجنة، وإليها تعود، وما كان منها شرا، أو وسيلة شر، أو وعاء لشر، فهو من النار، وإليها ترجع، قال تعالى: (وان من شئ إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر - 21، أفاد: ان كل شئ موجود عنده تعالى وجودا غير محدود بحد، ولا مقدر بقدر، وعند التنزيل - وهو التدريج في النزول - يتقدر بقدره ويتحدد بحده، فهذا على وجه العموم، وقد ورد بالخصوص أيضا أمثال قوله تعالى: (وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج) الزمر - 6، وقوله تعالى: (وأنزلنا الحديد) الحديد - 25، وقوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) الذاريات - 22، على ما سيجئ من توضيح معناها إنشاء الله العزيز، فكل شئ نازل إلى الدنيا من عند الله سبحانه، وقد أفاد في كلامه: أن الكل راجع إليه سبحانه، فقال: (وان إلى ربك المنتهى) النجم - 42، وقال تعالى: (إلى ربك الرجعى) العلق - 8، قال: (وإليه المصير) المؤمن - 3، وقال تعالى: ألا إلى الله تصير الامور) الشورى - 53، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. وأفاد: أن الاشياء - وهي بين بدئها وعودها - تجري على ما يستدعيه بدؤها، ويحكم به حظها من السعادة والشقاء، والخير والشر، فقال تعالى: (كل يعمل على شاكلته) أسراء - 84، وقال: (ولكل وجهة هو موليها) البقرة - 148، وسيجئ توضيح دلالتها جميعا، والغرض هيهنا مجرد الاشارة إلى ما يتم به البحث،

[ 292 ]

وهو ان هذه الاخبار الحاكية عن كون هذه الاشياء الطبيعية، من الجنة، أو من النار، إذا كانت ملازمة لوجه السعادة أو الشقاوة لا تخلو عن وجه صحة، المطابقتها لاصول قرآنية ثابتة في الجملة، وان لم يستلزم ذلك كون كل واحد واحد صحيحا، يصح الركون إليه، فافهم المراد. وربما قال القائل: ان قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسمعيل الآية) ظاهر في انهما، هما اللذان بنيا هذا البيت لعبادة الله تعالى في تلك البلاد الوثنية، ولكن القصاصين ومن تبعهم من المفسرين، جاؤنا من ذلك بغير ما قصه الله تعالى علينا، وتفننوا في رواياتهم، عن قدم البيت، وعن حج آدم، وعن ارتفاعه إلى السماء وقت الطوفان وعن كون الحجر الاسود من أحجار الجنة، وقد أراد هؤلاء القصاصون أن يزينوا الدين ويرقشوه برواياتهم هذه، وهذه التزيينات بزخارف القول، وان أثرت أثرها في قلوب العامة، لكن أرباب اللب والنظر من أهل العلم يعلمون ان الشرف المعنوي الذي أفاضه الله سبحانه، بتكريم بعض الاشياء على بعض، فشرف البيت إنما هو بكونه بيتا لله، منسوبا إليه، وشرف الحجر الاسود بكونه موردا للاستلام بمنزلة يد الله سبحانه، وأما كون الحجر في أصله ياقوتة، أو درة، أو غير ذلك، فلا يوجب مزية فيه، وشرفا حقيقا له، و ما الفرق بين حجر أسود، وحجر أبيض، عند الله تعالى في سوق الحقائق، فشرف هذا البيت بتسمية الله تعالى إياه بيته، وجعله موضعا لضروب من عبادته، لا تكون في غيره - كما تقدم - لا بكون أحجاره تفضل سائر الاحجار، ولا بكون موقعه تفضل سائر المواقع، ولا بكونه من السماء، وعالم الضياء وكذلك شرف الانبياء على غيرهم من البشر ليس لمزية في أجسامهم، ولافي ملابسهم، وإنما هو لاصطفاء الله تعالى إياهم، وتخصيصهم بالنبوة، التي هي أمر معنوي، وقد كان أهل الدنيا أحسن زينة، وأكثر نعمة منهم. قال: وهذه الروايات فاسده، في تناقضها وتعارضها في نفسها، وفاسدة في عدم صحة أسانيدها، وفاسدة في مخالفتها لظاهر الكتاب. قال: وهذه الروايات خرافات إسرائيلية، بثها زنادقة اليهود في المسلمين،

[ 293 ]

ليشوهوا عليهم دينهم، وينفروا أهل الكتاب منه. اقول: ما ذكره لا يخلو من وجه في الجملة، الا انه أفرط في المناقشة، فاعترضه من خبط القول ما هو أردى وأشنع. أما قوله: أن هذه الروايات فاسدة أولا من جهة التناقض والتعارض وثانيا من جهة مخالفة الكتاب، ففيه أن التناقض أو التعارض إنما يضر لو أخذ بكل واحد واحد منها، وأما الاخذ بمجموعها من حيث المجموع (بمعنى أن لا يطرح الجميع لعدم اشتمالها على ما يستحيل عقلا أو يمنع نقلا) فلا يضره التعارض الموجود فيها وإنما نعني بذلك: الروايات الموصولة إلى مصادر العصمة، كالنبى صلى الله عليه وآله وسلم والطاهرين من أهل بيته، وأما غيرهم من مفسري الصحابة، والتابعين، فحالهم حال غيرهم من الناس وحال ما ورد من كلامهم الخالي عن التناقض، حال كلامهم المشتمل على التناقض وبالجملة لا موجب لطرح رواية، أو روايات، إلا إذا خالفت الكتاب أو السنة القطعية، أو لاحت منها لوائح الكذب والجعل، كما لا حجية إلا للكتاب والسنة القطعية، في اصول المعارف الدينية الالهية. فهناك ما هو لازم القبول، وهو الكتاب والسنة القطعية وهناك ما هو لازم الطرح، وهو ما يخالفهما من الآثار، وهناك مالا دليل على رده، ولا على قبوله، وهو ما لا دليل من جهة العقل على استحالته، ولا من جهة النقل أعني: الكتاب والسنة القطعية على منعه. وبه يظهر فساد اشكاله بعدم صحة أسانيدها، فإن ذلك لا يوجب الطرح ما لم يخالف العقل أو النقل الصحيح. وأما مخالفتها لظاهر قوله: واذ يرفع ابراهيم القواعد الآية فليت شعري: أن الآية الشريفة كيف تدل على نفى كون الحجر الاسود من الجنة ؟ أم كيف تدل على نفى نزول قبة على البقعة في زمن آدم، ثم ارتفاعها في زمن نوح ؟ وهل الآية تدل على أزيد من أن هذا البيت المبني من الحجر والطين بناء ابراهيم ؟ وأي ربط له اثباتا أو نفيا بما تتضمنه الروايات التي أشرنا إليها، نعم لا يستحسنه طبع هذا القائل، ولا يرتضيه رأيه

[ 294 ]

لعصبية مذهبية توجب نفى معنويات الحقائق عن الانبياء، واتكاء الظواهر الدينية على اصول وأعراق معنوية، أو لتبعية غير ارادية للعلوم الطبيعية المتقدمة اليوم، حيث تحكم: أن كل حادثة من الحوادث الطبيعية، أو ما يرتبط بها أي ارتباط من المعنويات يجب أن يعلل بتعليل مادي أو ما ينتهي إلى المادة، الحاكمة في جميع شؤون الحوادث كالتعليمات الاجتماعية. وقد كان من الواجب: أن يتدبر في أن العلوم الطبيعية شأنها البحث عن خواص المادة وتراكيبها وارتباط الآثار الطبيعية بموضوعاتها ذاك، الارتباط الطبيعي وكذا العلوم الاجتماعية إنما تبحث عن الروابط الاجتماعية بين الحوادث الاجتماعية فقط. وأما الحقائق الخارجة عن حومة المادة وميدان عملها، المحيطة بالطبيعة وخواصها وارتباطاتها المعنوية غير المادية مع الحوادث الكونية وما اشتمل عليه عالمنا المحسوس فهي أمور خارجة عن بحث العلوم الطبيعية والاجتماعيه، ولا يسعها أن تتكلم فيها أو تتعرض لاثباتها، أو تقضي بنفيها العلوم الطبيعية إنما يمكنها أن تقضي أن البيت يحتاج في الطبيعة إلى أجزاء من الطين والحجر، وإلى بان يبنيه ويعطيه بحركاته وأعماله هيئة البيت أو كيف تتكون الحجرة من الاحجار السود وكذا الابحاث الاجتماعية تعين الحوادث الاجتماعية التي أنتجت بناء ابراهيم للبيت، وهي جمل من تاريخ حياته، وحياة هاجر، واسمعيل، وتاريخ تهامة، ونزول جرهم، إلى غير ذلك، وأما أنه ما نسبة هذا الحجر مثلا إلى الجنة أو النار الموعودتين فليس من وظيفة هذه العلوم أن تبحث عنه، أو تنفى ما قيل، أو يقال فيه، وقد عرفت: أن القرآن الشريف هو الناطق بكون هذه الموجودات الطبيعية المادية نازلة إلى مقرها ومستقرها من عند الله سبحانه ثم راجعة إليه متوجهة نحوه (أيما إلى جنة أيما إلى نار)، وهو الناطق بكون الاعمال صاعدة إلى الله، مرفوعة نحوه، نائلة إياه، مع أنها حركات وأوضاع طبيعية، تألفت تألفا اعتباريا اجتماعيا من غير حقيقة تكوينية، قال تعالى: (ولكن يناله التقوى منكم) الحج - 37، والتقوى فعل، أو صفة حاصلة من فعل، وقال تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) الفاطر - 10، فمن الواجب على الباحث الديني أن يتدبر في هذه الآيات فيعقل أن المعارف الدينية لا مساس لها مع الطبيعيات والاجتماعيات من جهة النظر الطبيعي والاجتماعي على الاستقامة وانما اتكاؤها وركونها

[ 295 ]

إلى حقائق ومعان وراء ذلك. وأما قوله: إن شرف الانبياء والمعاهد والامور المنسوبة إليهم كالبيت والحجر الاسود ليس شرفا ظاهريا بل شرف معنوي ناش عن التفضيل الالهي فكلام حق، لكن يجب أن يفهم منه حق المعنى الذي يشتمل عليه، فما هذا الامر المعنوي الذي يتضمن الشرافة ؟ فإن كان من المعاني التي يعطيها الاحتياجات الاجتماعية لموضوعاتها وموادها نظير الرتب والمقامات التي يتداولها الدول والملل كالرئاسة والقيادة في الانسان وغلاء القيمة في الذهب والفضة وكرامة الوالدين وحرمة القوانين والنواميس فإنما هي معان يعتبرها الاجتماعات لضرورة الاحتياج الدنيوي، لا أثر منها في خارج الوهم والاعتبار الاجتماعي، ومن المعلوم أن الاجتماع الكذائي لا يتعدي عالم الاجتماع الذي صنعته الحاجة الحيوية، والله عز سلطانه أقدس ساحة من أن يتطرق إليه هذه الحاجة الطارقة على حيوة الانسان، ومع ذلك فإذا جاز أن يتشرف النبي بهذا الشرف غير الحقيقي فليجز أن يتشرف بمثله بيت أو حجر، وان كان هذا الشرف حقيقيا واقعيا من قبيل النسبة بين النور والظلمة، والعلم والجهل، والعقل والسفه بأن كان حقيقة وجود النبي غير حقيقة وجود غيره وان كانت حواسا الظاهرية لا تنال ذلك وهو اللائق بساحة قدسه من الفعل والحكم، كما قال الله تعالى: (وما خلقنا السموات والارض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق، ولكن أكثرهم لا يعلمون) الدخان - 39، وسيجئ بيانه كان ذلك عائدا إلى نسبة حقيقية معنوية غير مادية إلى ما وراء الطبيعة فإذا جاز تحققها في الانبياء بنحو فليجز تحققها في غير الانبياء كالبيت والحجر ونحوهما وإن وقع التعبير عن هذه النسب الحقيقية المعنوية بما ظاهره المعاني المعروفة عند العامة التي اصطلحت عليه أهل الاجتماع. وليت شعري: ما ذا يصنعه هؤلاء في الآيات التي تنطق بتزيين الجنة وتشريف أهلها بالذهب والفضة، وهما فلزان ليس لهما من الشرف إلا غلاء القيمة المستندة إلى عزة الوجود ؟ فما ذا يراد من تشريف أهل الجنة بهما ؟ وما الذي يؤثره معنى الثروة في الجنة ولا معنى للاعتبار المالي في الخارج من ظرف الاجتماع ؟ فهل لهذه البيانات الالهية والظواهر الدينية وجه غير انها حجب من الكلام وأستار وراءها أسرار ؟ فلئن جاز أمثال هذه البيانات في أمور نشأة الآخرة فليجز نظيرتها في بعض الامور نشأه الدنيا.

[ 296 ]

وفي تفسير العياشي عن الزبيري عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قلت له: أخبرني عن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هم ؟ قال أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنو هاشم خاصة قلت: فما الحجة في أمة محمد أنهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم ؟ قال: قول الله: وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسمعيل ربنا تقبل منا، انك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا وتب علينا انك أنت التواب الرحيم، فلما أجاب الله ابراهيم واسمعيل وجعل من ذريتهما أمة مسلمة وبعث فيها رسولا منهم يعني من تلك الامة يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وردف دعوته الاولى دعوته الاخرى فسال لهم تطهيرا من الشرك ومن عبادة الاصنام ليصح أمره فيهم ولا يتبعوا غيرهم، فقال: واجنبني وبني أن نعبد الاصنام رب انهن أضللن كثيرا من الناس، فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم، ففي هذا دلالة على أنه لا يكون الائمة والامة المسلمة، التي بعث فيها محمدا الا من ذرية ابراهيم لقوله: أجنبني وبني أن نعبد الاصنام. أقول استدلاله عليه السلام في غاية الظهور، فإن ابراهيم (ع) انما سال امة مسلمة من ذريته خاصة، ومن المعلوم من ذيل دعوته: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم اه: أن هذه الامة المسلمة هي أمة محمد (ص) لكن لا أمة محمد بمعنى الذين بعث (ص) إليهم ولا أمة محمد بمعنى من آمن بنبوته فإن هذه الامة أعم من ذرية ابراهيم واسمعيل بل امة مسلمة هي من ذرية ابراهيم (ع) ثم سال ربه أن يجنب ويبعد ذريته وبنيه من الشرك والضلال وهي العصمة، ومن المعلوم أن ذرية ابراهيم واسمعيل - وهم عرب مضر أو قريش خاصة - فيهم ضال ومشرك فمراده من بنيه في قوله: وبني، أهل العصمة من ذريتة خاصه، وهم النبي وعترته الطاهرة، فهؤلاء هم أمة محمد (ص) في دعوة ابراهيم (ع)، ولعل هذه النكتة هي الموجبة للعدول عن لفظ الذرية إلى لفظ البنين، ويؤيده قوله: (ع): فمن تبعني فإنه مني، ومن عصاني فانك غفور رحيم الآية. حيث أتى بفاء التفريع وأثبت من تبعه جزءا من نفسه، وسكت عن غيرهم كأنه ينكرهم ولا يعرفهم، هذا. وقوله عليه السلام: فسئل لهم تطهيرا من الشرك ومن عبادة الاصنام، انما سئل

[ 297 ]

ابراهيم (ع) التطهير من عبادة الاصنام الا أنه (ع) علله بالضلال فأنتج سؤال التطهير من جميع الضلال من عبادة الاصنام ومن أي شرك حتى المعاصي، فإن كل معصية شرك كما مر بيانه في قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم) فاتحة الكتاب - 6. وقوله عليه السلام وفي هذا دلالة على أنه لا يكون الائمة والامة المسلمة، إلخ أي إنهما واحد، وهما من ذرية إبراهيم كما مر بيانه. فان قلت: لو كان المراد بالامة في هذه الآيات ونظائرها كقوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس) آل عمران - 110، عدة معدودة من الامة دون الباقين كان لازمه المجاز في الكلام من غير موجب يصحح ذلك ولا مجوز لنسبة ذلك إلى كلامه تعالى، على أن كون خطابات القرآن متوجهة إلى جميع الامة ممن آمن بالنبي ضروري لا يحتاج إلى إقامة حجة. قلت: إطلاق أمة محمد وإرادة جميع من آمن بدعوته من الاستعمالات المستحدثة بعد نزول القرآن وانتشار الدعوة الاسلامية وإلا فالامة بمعنى القوم كما قال تعالى (على امم ممن معك وأمم سنمتعهم) هود - 48، وربما اطلق على الواحدة كقوله تعالى (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله) النحل - 120، وعلى هذا فمعناها من حيث السعة والضيق يتبع موردها الذي استعمل فيه لفظها، أو اريد فيه معناها. فقوله تعالى: ربنا واجعلنا مسلمين لك، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك الآية - والمقام مقام الدعاء بالبيان الذي تقدم - لا يراد به إلا عدة معدودة ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذا قوله: كنتم خير امة خرجت للناس وهو في مقام الامتنان وتعظيم القدر وترفيع الشأن لا يشمل جميع الامة، وكيف يشمل فراعنة هذه الامة دجاجلتها الذين لم يجدوا للدين أثرا إلا عفوه ومحوه، ولا لاوليائه عظما إلا كسروه وسيجئ تمام البيان في الآية إنشاء الله فهو من قبيل قوله تعالى لبني إسرائيل): (وإنى فضلتكم على العالمين) البقرة - 47، فإن منهم قارون ولا يشمله الآية قطعا، كما أن قوله تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) الفرقان - 30، لا يعم جميع هذه الامة وفيهم أولياء القرآن ورجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله تعالى.

[ 298 ]

واما قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون) البقرة - 134، فالخطاب فيه متوجة إلى جميع الامة ممن آمن بالنبي، أو من بعث إليه.

(بحث علمي)

 إذا رجعنا إلى قصة ابراهيم عليه السلام وسيره بولده وحرمته إلى أرض مكة، وإسكانهما هناك، وما جرى عليهما من الامر، حتى آل الامر، إلى ذبح إسماعيل وفدائه من جانب الله وبنائهما البيت، وجدنا القصة دورة كاملة من السير العبودي الذي يسير به العبد من موطن نفسه إلى قرب ربه، ومن أرض البعد إلى حظيرة القرب بالاعراض عن زخارف الدنيا، وملاذها، وأمانيها من جاه، ومال، ونساء وأولاد، والانقلاع والتخلص عن وسائس الشياطين، وتكديرهم صفو الاخلاص والاقبال والتوجه إلى مقام الرب ودار الكبرياء. فها هي وقائع متفرقة مترتبة تسلسلت وتألفت قصة تاريخية تحكي عن سير عبودي من العبد إلى الله سبحانه وتشمل من أدب السير والطلب والحضور ورسوم الحب والوله والاخلاص على ما كلما زدت في تدبره إمعانا زادك استنارة ولمعانا. ثم: إن الله سبحانه أمر خليله إبراهيم، أن يشرع للناس عمل الحج، كما قال (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق إلى آخر الآيات) الحج - 27، وما شرعه عليه السلام وان لم يكن معلوما لنا بجميع خصوصياته، لكنه كان شعارا دينيا عند العرب في الجاهلية إلى أن بعث الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشرع فيه ما شرع ولم يخالف فيه ما شرعه إبراهيم إلا بالتكميل كما يدل عليه قوله تعالى: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا) الانعام - 161، وقوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا، والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى، وعيسى) الشورى - 13. وكيف كان فما شرعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نسك الحج المشتمل على الاحرام والوقوف

[ 299 ]

بعرفات ومبيت المشعر والتضحية ورمى الجمرات والسعى بين الصفا والمروة والطواف والصلوة بالمقام تحكي قصة إبراهيم، وتمثل مواقفه ومواقف أهله ومشاهدهم ويا لها من مواقف طاهرة إلهية القائد إليها جذبة الربوبية والسائق نحوها ذلة العبودية. والعبادات المشروعة - على مشرعيها أفضل السلام - صور لمواقف الكملين من الانبياء من ربهم، وتماثيل تحكي عن مواردهم ومصادرهم في مسيرهم إلى مقام القرب والزلفى، كما قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة) الاحزاب - 21، وهذا أصل. وفي الاخبار المبينة لحكم العبادات وأسرار جعلها وتشريعها شواهد كثيرة على هذا المعنى، يعثر عليها المتتبع البصير. ومن يرغب عن ملة ابراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين - 130. إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين - 131. ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون - 132. أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسمعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون - 133. تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون - 134.

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336850

  • التاريخ : 29/03/2024 - 01:07

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net