00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة البلد من أول السورة ـ آخر السورة من ( ص 201 ـ 226 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء العشرون)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[201]

سُورَة البَلَد

مَكيَّة

وَعَدَدُ آيَآتِهَا عِشُرونَ آية

[203]

 

«سورة البَلد»

محتوى السّورة

هذه السّورة المباركة على قصرها تحمل حقائق كبرى:

1 ـ في بداية هذه السّورة، بعد قسم ذي محتوى عميق، تُقرّر الآية أنّ حياة الإنسان في هذه الدنيا مقرونة بمشاكل وأتعاب; وبذلك تُعدّ الإنسان من جهة ليصارع العقبات، ومن جهة اُخرى تبعده عن طلب الراحة المطلقة في هذا العالم، فالراحة المطلقة والنعيم المطلق في الحياة الآخرة لا غيرها.

2 ـ في مقطع آخر من هذه السّورة، إشارة إلى أهم النعم الإلهية، ثمّ ذكر جحود الإنسان بهذه النعم.

3 ـ وفي آخر هذه السّورة تقسيم النّاس إلى: «أصحاب الميمنة» و«أصحاب المشئمة»، ثمّ يأتي ذكر جانب من أعمال المجموعة الأولى وصفاتها (المجموعة المؤمنة الصالحة) وما ينتظرها من جزاء، ثمّ المجموعة الثّانية، (وهي الكافرة المجرمة) وما تواجهه من مصير.

عبارات السّورة قاطعة قارعة، والجمل قصيرة ذات إيقاع قوي، والألفاظ واضحة مؤثرة معبّرة، وشكل آياتها تدلّ على أنّها مكّية.

فضيلة السّورة:

روي عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من قرأها أعطاه اللّه الأمن من غضبه يوم

[204]

القيامة»(1).

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) قال: «من كان قراءته في فريضته «لا اُقسم بهذا البلد» كان في الدنيا معروفاً أنّه من الصالحين، وكان في الآخرة معروفاً أنّ له من اللّه مكاناً، وكان يوم القيامة من رفقاء النّبيين والشّهداء والصّالحين»(2).

* * *

_______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص490.

2 ـ ثواب الأعمال، نقلاً عن نور الثقلين، ج5، ص578.

[205]

الآيات

لاَ أُقْسِمُ بِهـذَا الْبَلَدِ(1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَـذَا الْبَلَدِ(2) وَوَالد وَمَا وَلَدَ(3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَـنَ فِى كَبَد(4) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ(5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً(6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ(7)

التّفسير

(لا اُقسم بهذا البلد)(1)

في مواضع كثيرة يبدأ القرآن بالقسم عند تعرّضه للحقائق الهامة... بالقسم الذي يؤدي بدوره إلى حركة في الفكر والعقل.. بالقسم المرتبط ارتباطاً خاصّاً بالموضوع المطروح.

وفي هذا الموضع تبدأ الآية بالقسم: قسماً بهذه المدينة المقدسة مكّة: (لا اُقسم بهذا البلد) لتقرر حقيقة من حقائق حياة الإنسان، هي إنّ هذه الحياة مقرونة

_______________________________________

1 ـ (لا): زائد للتأكيد، وقيل إنّها نافية (لمزيد من التوضيح راجع مطلع سورة القيامة).

[206]

بالآلام والأسقام.

(وأنت حلٌّ بهذا البلد)

لم يرد ذكر «مكّة» في الآية صريحاً، لكن الدلالات تشير إلى أن المقصود بالبلد مكّة، فالسّورة مكّية، وأهميّة هذه المدينة المقدّسة لا تبلغها مدينة، والمفسّرون مجمعون على ذلك.

أرض مكّة مشرّفة ومعظمة، لأنّ فيها أوّل مركز للتوحيد ولعبادة اللّه سبحانه، وكان هذا المركز مطاف أنبياء اللّه العظام... ولذلك أقسم اللّه بها... ولكنّ السّورة تشير إلى عامل آخر أضفى على هذه المدينة شرفاً وكرامة: (وأنت حِلّ بهذا البلد)... فالبلد استحق أن يقسم به اللّه لوجودك أنت أيّها النّبي الكريم فيه!

فلا يتصورنَّ كفار مكّة أنّ القرآن يقسم ببلدهم تكريماً لهم ولأوثانهم، لا فهذا البلد مكرم لما يحمله من تاريخ الرسالات السماوية.. ولما يحتضنه من رسالة خاتمة، ونبي خاتم.

وفي الآية تفسير آخر يعتبر (لا) في الآية السابقة نافية ويكون المعنى: «لا اُقسم بهذا البلد المقدس حال كون حرمته قد هتكت والأنفس والأموال والأعراض فيه قد اُحلّت واُبيحت».

ويكون ذلك ـ على هذا التّفسير ـ توبيخاً وتقريعاً لكفار قريش وهم الذين يعتبرون أنفسهم خَدَمَة الحرم وسدنته، ويكنّون له احتراماً يفوق كلّ احترام حتى أن الرجل منهم يرى قاتل أبيه فيه فلا يتعرّض له... بل حتى قيل إنّ الرجل يحمل معه شيئاً من لحاء أشجار مكّة فلا يتعرّض له أحد. فلماذا إذن لم تراعوا هذه الآداب والتقاليد في حقّ النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

لماذا تماديتم في إيذائه وإيذاء صحابته، حتى سولت لكم أنفسكم استباحة دمه؟! وقد ورد هذا التّفسير في حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام)

[207]

أيضاً(1).

(ووالد وما ولد)

للمفسّرين آراء عديدة عن المقصود بالوالد والولد في الآية.

قيل: إنّ الوالد إبراهيم الخليل والولد إسماعيل الذبيح.

والتّفسير هذا يتناسب مع القسم بمكّة... ونعلم أنّ إبراهيم وإبنه رفعا القواعد من البيت، وبذلك وضعا حجر أساس البلد الأمين. والعرب في الجاهلية كانوا يجلّون إبراهيم وإبنه ويفخرون في الإنتساب إليهما.

وقيل: إنّ المقصود بالوالد والولد آدم وذرّيته.

وقيل: آدم والأنبياء من ذرّيته.

وقيل: كلّ والد وما ولد. متوالي الأجيال.

وتعاقبها بالولادة من أعجب بدائع الكون، ولذلك خصّها اللّه تعالى بالقسم ولا يُستبعد الجمع بين هذه التفاسير وإن كان الأوّل أنسب.

(لقد خلقنا الإنسان في كبد).

وهذا هو الهدف النهائي للقسم «الكبد» كما يقول الطبرسي في مجمع البيان في الأصل بمعنى «الشدّة» ولذا يقال للّبن إذا استغلظ «تكبّد اللّبن» ولكن كما يقول الراغب في مفرداته أنّ «كبد» ألم يصيب الكَبِد، ثمّ اُطلق على كلّ ألم ومشقّة.

نعم... الإنسان يمرّ في دورة حياته بمراحل كلّها مشوبة بالألم ومقرونة بالعناء. منذ أن يستقرّ نطفة في رحم اُمه حتى ولادته، ثمّ بعد ولادته في مراحل طفولته وشبابه وشيخوخته يعاني من ألوان والمشاق والآلام، هذه طبيعة الحياة، ومن توقّع منها غير ذلك خيّبت ظنّه. يقول الشاعر:

طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأكدار والأقذار

_______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص493.

[208]

ومكلّف الأيّام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار

وهذه الحالة تشمل كلّ أبناء البشر دونما استثناء، بمن فيهم أنبياء اللّه وأولياؤه الصالحون.

وإذا خُيل إلينا أن ثمّة مجتمعات تبدو بعيدة عن الآلام والأتعاب وتعيش في دعة ورفاه، فذلك نتيجة نظرة سطحية، ولو تعمقنا في دراسة هذه المجتمعات، ونظرنا إليها عن كثب لتلمسنا ما تعانيه من عميق الألم وشدّة النصب.. ثمّ إذا كان هناك استثناءات مكانية وزمانية محدودة من هذه الحالة العامة فلا ينتقض القانون العام للحياة (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد).(1)

فما يحيط بالإنسان من مكابدة يدلّ على ضعف قدرته، هذه الحقيقة تردّ على أُولئك الذين يمتطون مركب الغرور، ويخالون أنّهم في مأمن من العقاب الإلهي أو أنّهم مانعتهم حصونهم ومناصبهم وثرواتهم، فيرتكبون الذنوب ويمارسون العدوان ويديرون ظهورهم لشريعة اللّه.

ويحتمل أنّ المقصود هم الأثرياء الذين يتصورون أنّ لا أحد بإمكانه سلب ثروتهم منهم... وقيل أنّ المراد من الآية الأشخاص الذين يتصورون بأنّه لا أحد يحاسبهم على أعمالهم.

ولكن مفهوم الآية عام بإمكانه أن يستوعب جميع هذه التّفاسير.

وقيل إنّ الآية أشارت إلى «أبي الأسد بن كلدة» وهو رجل من «جمح» كان قوياً شديد الخلق بحيث يجلس على أديم عكاظي فتجرّه عشرة رجال من تحته فينقطع ولا يبرح من مكانه(2).

غير أن إشارة الآية إلى فرد، أو أفراد مغرورين لا يمنع شمولية مفهومها.

(يقول أهلكت مالاً لبداً).

_______________________________________

1 ـ «أن» في الآية مخففة من الثقيلة والتقدير: أنّه لن يقدر عليه أحد.

2 ـ مجمع البيان، ج10، ص493.

[209]

إشارة إلى قول الذين يُطلب منهم أن ينفقوا أموالهم في الخيرات، فيأبون ويقولون بغرور: إننا أنفقنا في هذا السبيل كثيراً من الأموال، بينما لم ينفق هؤلاء شيئاً، وإنّ أعطوا لأحد شيئاً فللرياء ولتحقيق هدف شخصي.

وقيل إنّها نزلت في نفر أنفقوا الأموال الطائلة في معاداة الرّسول والرسالة، وتباهوا بذلك، يؤيد ذلك قول «عمرو بن عبد ود» في حرب الخندق حين عرض عليه علي(عليه السلام) الإسلام قال: فأين ما أنفقت فيكم مالاً لبداً؟(1) أي أنفقت مالاً كثيراً في عداوة النّبي.

وقيل إنّها نزلت في بعض رجال قريش وهو «الحرث بن عامر»، وذلك أنّه أذنب ذنباً، فستفتى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، فأمره أن يكفّر. فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات، منذ دخولي دين محمّد(2).

والجمع بين التّفاسير المذكورة جائز، وإن كان التّفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع سياق الآيات التالية:

والفعل «أهلكت» يوحي إبادة الأموال وعدم الحصول على عائد منها.

و«لبد»: تعني الشيء المتراكم، وهنا تعني المال الوفير.

(أيحسب أن لم يره أحد).

إنّه غافل عن هذه الحقيقة... حقيقة اطلاع الباري تعالى على كلّ الاُمور وعلى ظواهر الأعمال، بل على ما يختلج في أعماق النفس والقلب، وما يدور في الخلد والنّية... وهل من المعقول أن لا يحيط المطلق الحق بكلّ شيء؟! هؤلاء الغافلون دفعهم جهلهم لأن يروا أنفسهم بمعزل عن الرقابة الإلهية.

نعم، اللّه سبحانه يعلم مصدر حصولهم على هذه الأموال، ويعلم السبيل الذي انفقوها فيه.

_______________________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص580، الحديث 10.

2 ـ مجمع البيان، ج10، ص493.

[210]

وروي عن ابن عباس أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربعة: عن عمره فيما أفناه، وعن ماله من اين جمعه، وفى ماذا أنفقه، وعن عمله ماذا عمل به، وعن حبّنا أهل البيت»(1).

بعبارة موجزة: كيف يعتري الإنسان الغرور ويدعي القدرة وحياته ممزوجة بالآلام والأكدار؟! وكيف يدعي أنّه أنفق مالاً كثيراً في سبيل اللّه بينما الباري سبحانه عليم بنواياه، عليم بالطريق غير المشروع للحصول على هذه الأموال، وعليم بأهداف الرياء والذاتية في إنفاق هذه الأموال.

* * *

_______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص494; وبهذا المعنى أيضاً ورد في تفسير روح البيان ،ج10، ص435.

[211]

الآيات

أَلَمْ نَجْعَلْ لَّهُ عَيْنَينِ(8) وَلِسَانَاً وَشَفَتَيْنِ(9) وَهَدَيْنَـهُ الْنَّجْدَيْنِ(10)

التّفسير

نعمة العين واللسان والهداية:

استتباعاً للآيات السابقة وما دار فيها من حديث عن الغرور والغفلة في الطاغين، تذكر هذه الآيات الكريمة جانباً من أهم ما أنعم اللّه به على الإنسان من نعم مادية ومعنوية... كي تكسر روح الغرور، وتدفع إلى التفكير في خالق هذه النعم، ولكي تحرّك روح الشكر في نفس الكائن البشري ومن ثمّ تسوقه إلى معرفة الخالق:

(ألم نجعل له عينين؟ ولساناً وشفتين؟ وهديناه النجدين)

في هذه العبارات القصيرة إشارة إلى ثلاث نعم مادية هامّة ونعمة معنوية كبرى هي بمجموعها من أعظم النعم الإلهية: نعمة العين واللسان والشفة من جانب، ونعمة الهداية ومعرفة الخير والشرّ من جانب آخر.

«النجد»: في الأصل يعني المكان المرتفع، ويقابلها «تهامة» وهي الأرض

[212]

المنخفضة، وهنا كناية عن الخير والشرّ وعن سير السعادة والشقاء(1).

ويكفي أن نذكر في النعم السابقة أنّ:

«العين»: أهم وسيلة لإرتباط الإنسان بالعالم الخارجي، عجائب العين تدفع الإنسان حقّاً إلى الخضوع أمام خالقه، الطبقات السبع للعين وهي المسماة بالقرنية، والمشيمية، والعنبية، والجلدية، والزلالية، والزجاجية، والشبكية، لكلّ منها تركيب عجيب دقيق مدهش، روعيت فيها القوانين الفزيائية والكيمياوية المتعلقة بالنور وانعكاساته على أدق وجه، حتى إن أعقد أجهزة التصوير تعتبر تافهة مقارنة بهذا العضو.

لو لم يكن في الكون سوى الإنسان، ولم يكن من وجود الإنسان سوى العين، لكانت مطالعة هذا العضو كافية وحدها لمعرفة علم اللّه الواسع وقدرته الجبّارة جلّ وعلا.

وأمّآ «اللسان»، فهو أهم وسائل ارتباط الإنسان بغيره من ابناء جلدته، ونقل المعلومات وتبادلها بين أبناء البشر في الجيل الواحد وفي الأجيال المتعاقبة، وبدون هذه الوسيلة الهامّة من وسائل الإرتباط ما كان بامكان الإنسان اطلاقاً أن يرتقي إلى ما ارتقى إليه في العلم والمعرفة.

و«الشفتان»: تلعبان أوّلاً دوراً هامّاً في النطق، إذ أن الشفتين مخرج لكثير من الحروف، والشفتان تقومان بدور أيضاً في هضم الطعام والمحافظة على رطوبة الفم، وشرب الماء، ترى لو انعدمت الشفتان فماذا كان وضع الإنسان في أكله وشربه ونطقه والمحافظة على ماء فمه وحتى جمال وجهه وشكله؟!

إنّ درك الحقائق يتمّ أوّلاً بالعين واللسان... ولذلك تقدم ذكرهما في

_______________________________________

1 ـ وري عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أنّه قيل له: إنّ اُناساً يقولون في قوله (وهديناه النجدين) أنّهما الثديان (أي ثديا الاُم) فقال: «لا، هما الخير والشرّ» مجمع البيان، ذيل الآيات المذكورة، وضمناً التعبير بـ «نجد» على الخير من أجل عظمته وفي مورد الشرّ من باب التغليب.

[213]

السياق... ثمّ تبع ذلك ذكر الهداية، الهداية العقلية والفطرية (وهديناه النجدين)، ويشمل التعبير أيضاً «الهداية التشريعية» التي ينهض بمسؤوليتها الأنبياء والأولياء.

نعم... لقد أنعم اللّه على الإنسان بالبصر والبصيرة، وأنعم عليه بهداية الإرشاد إلى الطريق والتحذير من مغبة الإنحراف عنه، كي تكتمل الحجّة على الإنسان.

ومع كلّ هذه النعم، نعم الهداية، لو انحرف الإنسان عن جادة الحقّ، فلا يلومنّ إلاّ نفسه.

عبارة (وهديناه النجدين) إضافة لما لها من مدلول على مسألة الإختيار وحرية الإنسان، تدلّ أيضاً على ما يتطلبه طريق الخير من جهد وعناء، لأنّ «النجد» مكان مرتفع وتسلق المكان المرتفع يتطلب كداً وسعياً وجهداً، غير أن طريق الشرّ له مشاكله ومصاعبه أيضاً، فأولى بالإنسان أن يبذل الجهد والسعي على طريق الخير.

مع ذلك، فانتخاب الطريق بيد الإنسان... الإنسان هو الذي يتحكم في عينه ولسانه فيم يستعملها... في الحلال أو الحرام، وهو الذي يختار إحدى الجادتين «الخير» أو «الشر».

وفي الحديث القدسي أن اللّة سبحانه يخاطب أبناء آدم يقول: «يا ابن آدم إنّ نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فاطبق، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فاطبق...»(1).

فاللّه سبحانه منح هذه النعم، ومنح وسائل السيطرة عليها، وتلك من الألطاف الإلهية الكبرى.

والملفت للنظر أنّ الآيات التي نحن بصددها أشارت إلى الشفتين بعد اللسان،

_______________________________________

1 ـ نور الثقلين، ج5، ص581.

[214]

ولكن لم تشر إلى الجفنين بعد ذكر العين، ولعل ذلك يعود إلى أهمية الشفتين في الكلام والطعام وغيرها من الاُمور أهمية تفوق بكثير أهمية الجفنين، وقد يعود أيضاً إلى أن السيطرة على اللسان أهم وأخطر بكثير من السيطرة على العين.

* * *

بحوث

1 ـ عجائب العين

العين يشبهونها عادة بآلة التصوير (الكاميرا)، فهي تلتقط الصور من عدستها الدقيقة، بدلاً من أن تعكسها على اللوح الحساس (الفيلم) كما تفعل الكاميرا، تعكس الصور على شبكية العين، ومن ثمّ تنتقل عن طريق الأعصاب البصرية إلى الدماغ.

آلة التصوير الدقيقة الظريفة هذه قد تلتقط يومياً ملايين الصور، غير أنّها من جهات مختلفة لا يمكن مقارنتها حتى بأعقد وأحدث أجهزة التصوير، لأنّه:

1 ـ فتحة تنظيم النور (ديافراغم) في جهاز العين، وهو بؤبؤ العين، يعمل بشكل تلقائي أمام تغيير النور، فيتقلص أمام النور القوي، ويتسع أمام النور الضعيف، بينما أجهزة التصوير بحاجة إلى تنظيم بيد المصور.

2 ـ عدسة العين خلافاً لأنواع عدسات أجهزة التصوير تتغير بتغير بعد الصورة عنها، فيكون قطرها حيناً 5،1 ملم، ويصل أحياناً إلى 8 ملم، وهذا التغيير يتمّ بواسطة عضلات تتقلص وتنبسط حسب بُعد الصورة المرئية، فعدسة العين تستطيع أن تعمل ما تعمله مئات العدسات الزجاجية.

3 ـ العين تستطيع أن تتحرك في الجهات الأربع بمساعدة العضلات وتلتقط الصور في الإنحاء المختلفة.

4 ـ والمهم، أن أجهزة التصوير بحاجة إلى تبديل أفلامها، فإذا انتهت حلقة

[215]

فيلم، فلابدّ من فيلم آخر. لكن عين الإنسان تلتقط الصور طوال عمر الإنسان دون أن تحتاج إلى تعويض شيء، ويعود السبب إلى أن الشبكية التي تنعكس عليها الصور تحتوي على نوعين من الخلايا «المخروطية»، و«الإسطوانية» فيها مادة حساسة للغاية تجاه النور تتحلل بأقل شعاع من نور في الشبكية وتتحول إلى أمواج تنتقل إلى الدماغ، ثمّ يزول الأثر وتستعد الشبكية لإلتقاط صور جديدة.

5 ـ أجهزة التصوير مصنعة من مواد قويّة جدّاً، لكن جهاز العين لطيف وظريف إلى درجة كبيرة، لذلك وضع في محفظة عظيمة مستحكمة، والعين مع ظرافتها ولطافتها أكثر دواماً بكثير من الحديد والفولاذ.

6 ـ مسألة تنظيم النور ذات أهمية فائقة للمصورين، وقد يطول الزمن بالمصور كي يستطيع تنظيم إضاءة الصورة، بينما تستطيع العين في جميع ظروف النور القوي والمتوسط والضعيف بل حتى في الظلام شريطة وجود بصيص من النور أن تلتقط الصور، وهذا من عجائب العين.

7 ـ حين ننتقل فجأة من النور إلى الظلمة، أو حين تنطفيء مصابيح الغرفة في الليل، لا تستطيع أعيننا في البرهة الاُولى أن ترى شيئاً، ثمّ بالتدريج تعتاد العين على الظرف الجديد فترى ما حولها، وهذا التعوّد هو تعبير بسيط عن التحول المعقد الذي يحدث في العين، ويؤدي خلال لحظات بسيطة إلى الإنسجام بين العين والظروف الجديدة.

وعكس ذلك يحدث عندما ننتقل من الظلام إلى النور، فالعين في البداية لا تتحمل النور القوي، ولكن بعد لحظات تتواءم مع الظرف الجديد، ومثل هذه الخصائص لا توجد اطلاقاً في أجهزة التصوير.

8 ـ أجهزة التصوير تستطيع أن تصور زاوية محدودة ممّا يقع أمامها، بينما عين الإنسان تستطيع أن تلتقط كلّ ما في نصف الدائرة الاُفقية أيامها بزاوية مقدارها 180 درجة تقريباً.

[216]

9 ـ من عجائب العينين أنّهما تلتقطان الصورة لتعكساها معاً في نقطة واحدة، وإذا اختل هذه التنظيم تصاب العين بالحول ويرى الفرد الشيء الواحد شيئين.

10 ـ ومن الطريف أن صورة الأجسام تنعكس على الشبكية مقلوبة، بينما لا نرى نحن الأشياء مقلوبة.

11 ـ سطح العين يجب أن يبقى رطباً دائماً، وإذا جفّ اضرّ بالعين كثيراً، وهذه الرطوبة تفرزها الغدد الدمعيّة، فتدخل العين من جانب وتخرج عن طريق قنوات دقيقة تقع في جانب من العين إلى الأنف، فترطب الأنف أيضاً.

وإذا جفت الغدد الدمعية، تتعرض العين للخطر، وتتعذر حركة الأجفان، وإن زاد نشاط هذه الغدد أكثر من المطلوب يسيل الدمع باستمرار على الوجه، وإذا انسدّ طريق القنوات التي تدفع الدمع من العين إلى الأنف، فلابدّ للفرد أن ينشغل دائماً بتجفيف الماء المتصبب على وجهه.

12 ـ تركيب الدمع معقد فيه أكثر من عشرة عناصر تشكل معاً أفضل سائل للحفاظ على العيم.

بعبارة موجزة عجائب العين من الكثرة بحيث تتطلب كتابة المجلدات الضخام، وليست هي أكثر من شحمة صغيرة، وحقّاً ما قاله أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «اعجبوا لهذا الإنسان ينظر بشحم ويتكلم بلحم، ويسمع بعظم، ويتنفس من خرم»(1).

2 ـ عجائب اللسان

اللسان بدوره من الأعضاء الهامة في بدن الإنسان، وينهض باعباء هامّة فهو عامل مهم في مضغ الطعام وبلعه، يدفع باللقمة إلى الأسنان ويلتقطتها دون أن

_______________________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 8.

[217]

يتعرض هو للقطع.

وقد يحدث نادراً أن يقع اللسان في مصيدة الأسنان أثناء الأكل، فنستغيث من الألم، ونفهم عندئذ مدى مهارة اللسان في تجنب الإنزلاق تحت الأسنان مع أنّه ملاصق لها!!

واللسان بعد ذلك ينظف جوف الفم والأسنان من بقايا الطعام.

وأهم من ذلك، دور اللسان في الكلام بتحركه السريع المتواصل المنظم في الجهات الست، وهو دور عجيب، والإمعان فيه يثير الدهشة والحيرة فقد يسرّ اللّه تعالى للانسان وسيلة سهلة للتكلم وفي متناول الجميع فلا يصيبها تعب ولا نصب ولا ملل ولا تكلّف الإنسان خرجاً!!

وأعجب من ذلك موضوع استعداد الإنسان للكلام، وهذا الإستعداد أودعه اللّه في الإنسان ليستطيع من خلال تكوين الجمل باشكال لا تعدّ ولا تحصى أن يبيّن ما لا نهاية له من الغايات.

وأهم من ذلك أيضاً تنوّع اللغات وقابلية الإنسان على وضع لغات مختلفة، وتتّضح هذه الأهمية من خلال مطالعة مفردات آلاف اللغات المنتشرة في العالم... حقّاً «العظمة للّه الواحد القهار!».

3 ـ هداية النجدين

«النجد» كما ذكرنا الإرتفاع أو الأرض المرتفعة، و«النجدين» هنا طريق الخير وطريق الشر، وورد في الحديث عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «يا أيّها النّاس! هما نجدان: نجد الخير ونجد الشرّ، فما جعل نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير».(1)

_______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص 494; وتفسير القرطبي، ج 10، ص 7155.

[218]

تحمل «التكليف» والمسؤولية غير ممكن دون شك، بغير المعرفة والوعي وحسب هذه الآية فإنّ اللّه سبحانه منح الإنسان هذه المعرفة.

وهذه المعرفة يحصل عليها الإنسان من ثلاثة طرق: من الإدراكات العقلية والإستدلال، ومن طريق الفطرة والوجدان دون الحاجة إلى الاستدلال، ومن طريق الوحي وتعاليم الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، وكل ما يحتاجه البشر ليطوي مسيرة تكامله قد بيّنه اللّه سبحانه له بواحد من هذه الطرق أو في كثير من الحالات بالطرق الثلاثة معاً.

ويلاحظ أن الحديث المذكور يصرّح بأن نجد الشرّ ليس أحبّ إلى طبع الإنسان من نجد الخير، وهذا يردّ على القائلين بأن الإنسان مطبوع على الشرّ وإن سلوك طريق الشرّ أيسر له وأسهل.

ومن المؤكّد أن البيئة الإجتماعية لو خلت من التربية الخاطئة والإنحرافات لوفرت الأجواء لرغبة متزايدة في الإنسان نحو الخير، ولعل تعبير «نجد» وهي الأرض المرتفعة لطريق الخير يعود إلى أن الأرض المرتفعة ذات هواء أنقى وجوّ أبهج، وإنّما اطلق النجد للشرور أيضاً من باب التغليب(1).

وقيل أيضاً أنّ التعبير بالنجدين إشارة إلى ظهور طريقي الخير والشرّ وبروزهما، كبروز وظهور الأرض المرتفعة.

* * *

_______________________________________

1 ـ كما يقال للشمس والقمر: القمران.

[219]

الآيات

فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ(11) وَمَآ أَدْرَاكَ مَآ الْعَقَبَةُ(12) فَكُّ رَقَبَة(13)أَوْ إِطْعَـمٌ فِى يَوْم ذِى مَسْغَبَة(14) يَتِيمَاً ذَا مَقْرَبَة(15) أَوْ مِسْكِينَاً ذَا مَتْرَبَة(16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ(17) أُوْلَـئِكَ أَصْحَـبُ الْمَيْمَنَةِ(18)وَالَّذِينَ كَفَرُوا بآيَـتِنَا هُم أَصْحَـبُ الْمَشْئَمَةِ(19) عَلَيْهِم نَارٌ مُؤْصَدَةٌ(20)

التّفسير

العقبة!

بعد ذكر النعم الكبيرة في الآيات السابقة، تنحي هذه الآيات باللائمة على اُولئك الذين يكفرون بهذه النعم، ولا يسخرونها على طريق النجاة، يقول سبحانه: (فلا اقتحم العقبة)(1)

_______________________________________

1 ـ الظاهر أن (لا) في الآية «نافية» و«خبرية» ونستبعد أن تكون على وجه الدعاء على ضمير الفعل أو أن تكون استفهامية،والإشكال الوحيد الذي يرد على أنّها خبرية هو عدم تكرارها لأنّ (لا) النافية حين تدخل على الفعل الماضي تكرر عادة كقوله سبحانه: (فلا صدق ولا صلى)، ولم تتكرر في الآية. ويذكر «الطبرسي» في «مجمع البيان» مواضع من أقوال العرب لم تتكرر فيها (لا) النافية مع دخولها على الفعل الماضي، وإلى ذلك ذهب أيضاً «الفخر الرازي» و«القرطبي»، وقيل إنّ (لا) إذا كانت بمعنى «لم» لا يلزم تكرارها وبعضهم احتمل التكرار في التقدير والمعنى: فلا اقتحم العقبة، ولا فك رقبة، ولا أطعم في يوم ذي مسغبة.

[220]

وما المقصود من العقبة؟ الآيات التالية تفسّرها:

(وما أدراك ما العقبة؟ فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة).

من هنا فالعقبة التي لم يتهيأ الكافرون بأنعم اللّه لإجتيازها هي: فك رقبة عبد من الرقبة أي تحريره أو إطعام في يوم الضائقة الإقتصادية والمجاعة، يتيماً ذا قربى أو فقيراً قد لصق بالتراب من شدّة فقره، العقبة هي مجموعة أعمال الخير التي تتجه لخدمة النّاس والأخذ بيد الضعفاء والمعوزين، كما إنّها أيضاً مجموعة من المعتقدات الصحيحة الخالصة تشير إليها الآيات التالية.

نعم، إن اجتياز هذه العقبة ليس بالأمر اليسير لما لأغلب النّاس من التصاق بالمال والثروة.

ليس الإسلام والإيمان بالقول والإدعاء، بل أمام كلّ إنسان مسلم ومؤمن عقبات يجب أن يجتازها الواحدة بعد الاُخرى، مستمداً العون من اللّه سبحانه ومن روح الإيمان والإخلاص.

بعضهم ذهب إلى أنّ «العقبة» هنا تعني أهواء النفس التي حثّ الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)على مقاومتها ومجاهدتها، ويسمى ذلك «الجهاد الأكبر»، واستناداً إلى هذا التّفسير يكون فك الرقبة وإطعام المسكين من المصاديق البارزة لإجتياز عقبة هوى النفس.

ومن المفسّرين من قال إنّ «العقبة» هي الصراط الصعب يوم القيامة، كما جاء في حديث رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم):

[221]

«إن أمامكم عقبة كؤوداً لا يجوزها المثقلون، وأنا أريد أن أخفف عنكم لتلك العقبة»(1)

وهذا الحديث طبعاً لايمكن أن يكون تفسيراً للآية، غير أن بعض المفسّرين فهموا منه ذلك، وهذا الفهم لا يتناسب مع التّفسير الصريح لكلمة «العقبة» في الآيات التالية، إلاّ إذا اعتبرنا العقبة الكؤود يوم القيامة تجسيداً للطاعات الثقيلة الصعبة في هذا العالم، واجتياز تلك العقبات فرع لإجتياز هذه الطاعات «تأمل بدقّة».

تعبير «اقتحم» في الآية اصله من «الإقتحام» وهو الدخول في عمل صعب مخيف (مفردات الراغب)، أو الولوج والعبور بشدّة ومشقّة (تفسير الكشّاف) وهذا يعني أن اجتياز هذه العقبة ليس بالأمر اليسير، كما أنّه تأكيد على ما ورد في أوّل السّورة بشأن ما يكابد الإنسان في حياته: (لقد خلقنا الإنسان في كبد).

وعن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قال: «إنّ الجنّة حفت بالمكاره وإنّ النّار حفت بالشهوات»(2).

* * *

ملاحظات

وهنا يلزم الإلتفات إلى عدّة ملاحظات:

1 ـ المقصود من «فك رقبة» على الظاهر هو تحرير العبد والرقيق.

روي أنّ أعرابياً جاء إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه علمني عملاً يدخلني الجنّة.

_______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص 495.

2 ـ نهج البلاغة، الخطبة 176.

[222]

أجابه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): «إن كنت أقصرت الخطبة لقد عرضت المسألة(1)اعتق النسمة وفك الرقبة».

فقال الأعرابي: أوَليسا واحداً؟!

قال: «لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها»

ثمّ قال: «والفيء على ذي الرحم الظالم، فإنّ لم يكن ذلك فأطعم الجائع واسق الظمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، فإنّ لم تطق ذلك، فكفّ لسانك إلاّ من الخير»(2).

2 ـ قال بعض المفسّرين أن معنى «فك رقبة» تحرير الفرد رقبته من الذنوب بالتوبة، أو تحرير نفسه من العذاب الإلهي بتحمل الطاعات، غير أن ما جاء في الآيات التالية من توصية باليتيم والمسكين يؤيد أن المقصود هو تحرير رقبة العبد.

3 ـ «المسغبة» من «سغب» على وزن «غضب» وهو الجوع، و«يوم ذي مسغبة» أي وقت المجاعة، والجياع موجودون في المجتمع عادة، والآية إنّما تؤكّد على إطعامهم في زمان المجاعة لأهمية الموضوع، وإلاّ فإنّ الجياع هو دائماً من أفضل الأعمال.

وروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من أشبع جائعاً في يوم سغب ادخله اللّه يوم القيامة من باب من أبواب الجنّة لا يدخلها إلاّ من فعل مثل ما فعل»(3).

4 ـ «المقربة» بمعنى القرابة والرحم، والتأكيد على الأقرباء من اليتامى في الآية إنّما هو لمراعاة الأولوية وللتأكيد على تصاعد المسؤولية تجاههم، لا لحصر الإطعام بهذا القسم من اليتامى.

_______________________________________

1 ـ أي لقد طرحت بوضوح سؤالك، وإن كنت اجملت في الكلام.

2 ـ نور الثقلين، ج5، ص 583.

3 ـ مجمع البيان، ج10، ص 495.

[223]

ثمّ إنّ غمط حقوق اليتامى في ذلك العصر خاصة على يد الأقرباء استدعى التحذير من هذه العقبة بالذات.

وذهب «أبو الفتوح الرازي» إلى أنّ «المقربة» ليست من القرابة، بل من «القرب» إشارة إلى التصاق بطون الجياع من شدّة الجوع(1). ونستبعد كثيراً هذا المعنى في تفسير الآية.

5 ـ «المتربة» مصدر ميمي من «ترب»، وساكن التراب من شدّة فقره هو ذو المتربة، والتأكيد على هذا النمط من المساكين لأولويتهم أيضاً، إذ إطعام أي مسكين عمل مستحسن.

وروي أنّ الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) إذا أكل أتى بصحفة فتوضع قرب مائدته، فيعمد إلى أطيب الطعام ممّا يؤتى به فيأخذ من كلّ شيء شيئاً فيضع في تلك الصفحة ثمّ يأمر بها للمساكين، ثمّ يتلو هذه الآية: (فلا اقتحم العقبة)

ثمّ يقول: «علم اللّه عزّوجلّ أنّه ليس كلّ إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل إلى الجنّة»(2).

ثمّ تواصل الآية التالية بيان طبيعة هذه العقبة، وسبل اجتيازها فتقول: (ثمّ كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة).

فالقادرون على اجتياز هذه العقبة متحلون بالإيمان ومتواصون بالصبر والإستقامة على الطريق، ومتواصون بالرحمة والعطف.

وبهذا السياق القرآني لبيان طبيعة العقبة نفهم أن القادرين على اجتيازها هم المتحلون بالإيمان والخلق الكريم كالتواصي بالصبر والرحمة، وذوو أعمال البّر والإحسان كتحرير العبيد وإطعام الأيتام والمساكين، إنّهم بعبارة اُولئك الذين يلجون ميادين الإيمان والأخلاق والعمل ويخرجون منها ظافرين منتصرين.

_______________________________________

1 ـ تفسير أبي الفتوح الرازي، ج12، ص 96.

2 ـ تفسير الميزان، ج20، ص 295، نقلاً عن الكافي.

[224]

العطف بالحرف «ثمّ» لا يعني دائماً التأخير الزمني، أي لا يعني أن عملية الإطعام والإنفاق يجب أن تتقدم على الإيمان، بل إن هذا الحرف في مثل هذه الموارد ـ كما صرّح بذلك جمع من المفسّرين ـ لبيان علو المرتبة، إذ من المؤكّد أنّ رتبة الإيمان والتوصية بالصبر والمرحلة أسمى وأعلى من مساعدة المحتاجين، بل الأعمال الصالحة تنبثق من ذلك الإيمان وتلك الأخلاق، وكلّ ما يفعله الإنسان تجد جذوره في معتقداته وأخلاقياته.

واحتمل بعضهم أن «ثمّ» تفيد هنا التأخير الزمني، لأن أعمال الخير قد تكون منطلقاً للتوجه نحو الإيمان، وهي بخاصة ذات تأثير في ترسيخ دعائم الأخلاق، إذ أن أخلاق الإنسان تبدأ بشكل «فعل» ثمّ تتحول إلى «حالة» ثمّ تتحول إلى «عادة» ثمّ تصبح «ملكة».

والتعبير بكلمة «تواصوا» وتعني تبادل التوصية، لها دلالة اجتماعية هامّة، هي إن عملية التواصي بالسير على طريق الحق وبالإستقامة على طاعة اللّه ومكافحة جموح الأهوآء النفسية، وبالحبّ والرحمة ليست عملية فردية يل يجب أن يتخذ طابعاً اجتماعياً عامّاً في كلّ المجتمع الإيماني، وكلّ الأفراد مسؤولون أن يوصي بعضهم الآخر بحفظ هذه الاُصول. وعن هذا الطريق أيضاً تتعمق عرى التلاحم والإجتماعي.

وقال بعضهم إنّ «الصبر» في الآية إشارة إلى توطين النفس على طاعة اللّه والإهتمام بأوامره، و«المرحمة» إشارة إلى علاقة الودّ مع النّاس، ونعلم أن أساس الدين هو تنظيم هذه الرابطة بين العبد وربّه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان.

وفي خاتمة هذه الأوصاف تذكر السّورة مكانة المتحلين بها فتقول: (اُولئك أصحاب الميمنة).

فصحيفة أعمالهم تسلّم إليهم، في محضر اللّه سبحانه وتعالى، بيدهم اليمنى.

ويحتمل أن تكون «الميمنة» من «اليُمن» والبركة، أي إنّ أصحاب هذه

[225]

الصفات ذوو بركة لأنفسهم ولمجتمعهم.

ثمّ تتعرض الآية لتصوير حالة الفاشلين في إجتياز «العقبة» فتقول:

(والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة).

و«المشئمة» من «الشؤم» تقابل «الميمنة» من «اليُمن»، أي إنّ هؤلاء الكافرين مشؤومون لا يُمن فيهم ولا بركة، بل هم عامل شقاء لأنفسهم ولمجتمعهم ثمّ إنّ علامة شؤم الفرد يوم القيامة تسلّمه صحيفة أعماله بيده اليسرى، ومن هنا ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ «المشئمة» هي اليسار مقابل اليمين، أي إنّ الذين كفروا بآيات اللّه الذين يتسلمون صحائف أعمالهم بيدهم اليسرى خاصّة وأنّ مادة «شؤم» جاءت في اللغة بمعنى اليسار أيضاً(1).

وفي الآية الأخيرة من السّورة إشارة قصيرة ذات دلالة عميقة إلى جزاء هذه الفئة الأخيرة: (عليهم نار مؤصدة).

و«الإيصاد» إحكام الغلق، وواضح أنّ الإنسان ـ حين يكون في غرفة حارّة الجوّ ـ يتوق إلى فتح أبوابها، ليهبّ عليه نسيم يلطف الهواء، فما بالك إذا كان في محرقة جهنّم والأبواب كلها موصدة عليه؟!

اللّهم! قنا عذاب جهنّم إنّ عذابها كان غراماً...

اللّهم! وفقنا لإجتياز ما يعتري طريقنا من عقبات.. ولا توفيق إلاّ بك.

اللّهم! اجعلنا من أصحاب الميمنة: واحشرنا مع الصالحين والأبرار.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة البلد

* * *

_______________________________________

1 ـ تفسير أبي الفتوح الرازي، ج12، ص97، ولسان العرب، مادة شأم.

[227]




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21338462

  • التاريخ : 29/03/2024 - 11:00

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net