00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الهمزة من أول السورة ـ آخر السورة من ( ص 441 ـ 456 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء العشرون)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[441]

سُورَة الهُمزة

مَكيَّة

وَعَدَدُ آيَآتِهَا تِسع آياتْ

[443]

«سورة الهُمزة»

محتوى السّورة

هذه السّورة، وهي من السور المكّية، تتحدث عن اُناس كرسوا كلّ همهم لجمع المال، وحصروا كلّ قيم الإنسان الوجودية في هذا الجمع. ثمّ هم يسخرون من الذين لا يملكون المال وبهم يستهزئون.

هؤلاء الأثرياء المستكبرون والمغرورون المحتالون أسكرهم الطغيان فراحوا يستهينون بالآخرين ويعيبونهم، ويتلذذون بما يفعلون من غيبة واستهزاء.

السّورة تتحدث في النهاية عن المصير المؤلم الذي ينتظر هؤلاء، وكيف أنّهم يلقون في جهنّم صاغرين، وأنّ نار جهنّم تتجه بلظاها أوّلاً إلى قلوبهم المليئة بالكبر والغرور، وتحرقها بالنّار، بنار مستمرة.

فضيلة السّورة:

ورد في فضيلة هذه السّورة عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من قرأ سورة الهمزة اُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمّد وأصحابه»(1).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «من قرأ ويل لكلّ همزة في فريضة من فرائضه، نفت عنه الفقر وجلبت عليه الرزق وتدفع عنه ميتة السوء»(2).

* * *

_______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص536.

2 ـ المصدر السابق.

[444]

الآيات

وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَة لُّمَزَة(1) الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعدَّدَهُ(2)يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ(3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِى الْحُطَمَةِ(4) وَمَآ أدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ(5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ(6) الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ(7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ(8) فِى عَمَد مُّمَدَّدَة(9)

سبب النّزول

قال جمع من المفسّرين إنّ آيات هذه السّورة نزلت في (الوليد بن المغيرة) الذي كان يغتاب النّبي ويطعن فيه ويستهزيء به.

وقيل إنّها نزلت في أفراد آخرين من رؤوس المشركين وأعداء الإسلام مثل (الأخنس بن شريق) و(اُمية بن خلف) و(العاص بن وائل).

ولكن، إنّ قبلنا أسباب النزول هذه فلا ينفي ذلك شمولية مفاهيم الآيات، بل إنّها تستوعب كلّ الذين يحملون هذه الصفات.

[445]

التّفسير

الويل للهمّازين واللمّازين:

تبدأ هذه السّورة بتهديد قارع وتقول:

(ويل لكلّ همزة لمزة)... لكلّ من يستهزيء بالآخرين، ويعيبهم، ويغتابهم، ويطعن بهم، بلسانه وحركاته وبيده، وعينه وحاجبه.

«الهمزة» و«اللمزة» صيغتا مبالغة، الاُولى من الهمز، وهي في الأصل الكسر. العائبون المغتابون يكسرون شخصية الآخرين، ولذلك اُطلق عليهم اسم (الهمزة).

و«اللمزة» من اللمز، وهو اغتياب الآخرين، والصاق العيوب بهم.

للمفسّرين آراء متعددة في معاني هاتين الكلمتين، هل معناهما واحد، وهو المغتابون النّاس العائبون عليهم، أو إنّ معناهما مختلف. قال بعضهم إنّ معناهما واحد، وذكرهما معاً للتأكيد.

وقيل: الهمزة هوالمغتاب، واللمزة: العائب.

وقيل: الهمزة هم العائبون بإشارة اليد والرأس. واللمزة من يعيب بلسانه.

وقيل: الاُولى إشارة إلى العائب في حضور الشخص، والثّانية للعائب في الغيبة.

وقيل: الاُولى تعني العائب في العلن، والثّانية للعائب في الخفاء، وبإشارة العين والحاجب.

وقيل: إنّ الإثنتين بمعنى الذي ينبز النّاس بالقاب قبيحة مستهجنة.

وعن ابن عباس في تفسير الكلمتين قال: «هم المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الناعتون للناس بالعيب»(1).

يبدو أن ابن عباس استلهم هذا التّفسير من كلام لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول:

_______________________________________

1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج32، ص92.

[446]

«ألا اُنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى يارسول اللّه. قال: المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبّة، الباغون للبرآء المعايب»(1).

من مجموع آراء اللغويين في الكلمتين يستفاد أنّهما بمعنى واحد. ولهما مفهوم واسع يشمل كلّ ألوان إلصاق العيوب بالنّاس وغيبتهم والطعن والاستهزاء بهم، باللسان والإشارة والنميمة والذم.

التعبير بكلمة (ويل) يحمل تهديداً شديداً لهذه الفئة. والقرآن يتشدّد تجاه هؤلاء الأفراد ويذكرهم بعبارات لا نظير لها في ذكر سائر المذنبين. فحين يذكر المنافقين الذين يسخرون من المؤمنين يتهددهم بعذاب أليم ويقول: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر اللّه لهم)(2).

مثل ذلك ذكره القرآن بشأن المنافقين المستهزئين بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية (5) من سورة (المنافقون).

الإسلام، أساساً، ينظر إلى شخصية الإنسان وكرامته باحترام بالغ، ويعدّ أيّ عمل يؤدّي إلى إهانة الآخرين ذنباً كبيراً، وورد عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «أذل النّاس من أهان النّاس»(3).

في هذا المجال ذكرنا شرحاً أوفى في تفسير الآيتين (11 و12 من سورة الحجرات.

ثمّ تذكر الآية التالية منبع ظاهرة اللمز والهمز في الأفراد، وترى أنّها تنشأ غالباً من كبر وغرور ناشئين بدورهما من تراكم الثروة لدى هؤلاء الأفراد، وتقول: (الذي جمع مالاً وعدّده) بطريق مشروع أو غير مشروع.

فهو انشدّ بالمال انشداداً جعله منشغلاً دائماً بعدّ المال والإلتذاذ ببريق

_______________________________________

1 ـ اُصول الكافي، ج2، باب النميمة، الحديث 1.

2 ـ التوبة، الآية 80.

3 ـ بحار الأنوار، ج75، ص142.

[447]

الدرهم والدينار.

تحول الدرهم والدينار عنده إلى وثن ويرى فيه شخصيته وينظر من خلاله أيضاً إلى شخصية الآخرين. ومن الطبيعي أن يكون تعامل مثل هذا الإنسان الضال الأبله بالسخرية والإستهزاء مع المؤمنين الفقراء.

«عدده» من (عدّ) بمعنى حَسَب. وقيل من (العُدّة) بمعنى تجهيز الأموال ليوم الشدّة.

وقيل: أنّها تعني أمسكه وحفظه.

والمعنى الأوّل أظهر.

على أي حال، هذه الآية تقصد الذين يدخّرون الأموال ولا ينظرون إليها باعتبارها وسيلة بل هدفاً، ولا يحدهم قيد أو شرط في جمعها، حتى ولو كان من طريق الحرام والإعتداء على حقوق الآخرين وارتكاب كلّ دنيئة ورذيلة، ويعتبرون ذلك دليلاً على عظمتهم وشخصيتهم.

هؤلاء لا يريدون المال لسد حاجاتهم الحياتية، ولذلك يزداد حرصهم على جمع المال كلّما كثرت أموالهم. وإلاّ فإن المال في الحدود المعقولة ومن الطرق المشروعة ليس بمذموم، بل إنّ القرآن الكريم عبّر عنه في موضع بأنّه «فضل اللّه» حيث يقول تعالى: (وابتغوا من فضل اللّه)(1).

وفي موضع آخر يسميه خيراً، كقوله سبحانه: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية).

مثل هذا المال ليس بالتأكيد مبعث طغيان، ولا وسيلة تفاخر، ولا دافع سخرية بالآخرين. لكن المال الذي يصبح معبوداً وهدفاً نهائياً، ويدعو أصحابه من أمثال «قارون» إلى الطغيان، هو العار والذلة والمأساة ومبعث البعد عن اللّه والخلود في

_______________________________________

1 ـ الجمعة، الآية 10.

[448]

النّار.

ومثل هذا المال لا يمكن جمعه وعدّه إلاّ بالسقوط في أوحال الحرام. لذلك ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) قال: «لا يجتمع المال إلاّ بخمس خصال: بخل شديد، وأمل طويل، وحرص غالب، وقطيعة رحم، وإيثار الدنيا على الآخرة»(1).

لأنّ الأفراد الأسخياء البعيدين عن الآمال الوهمية الطويلة يهتمون بحلال أموالهم وحرامها، ويساعدون الأقربين، ولا تتراكم الثروة عندهم غالباً، وإن زادت عائداتهم.

في الآية التالية يقول سبحانه:

(يحسب أنّ ماله أخلده)(2).

«أخلده» جاء في الآية بصيغة الماضي، ويعني أن هذا الهمزة اللمزة يحسب أنّ ماله قد صيّر منه موجوداً خالداً، لا يستطيع الموت أن يصل إليه، ولا عوامل المرض والحوادث قادرة أن تنال منه، فالمال في نظره هو المفتاح الوحيد لحل كلّ مشكلة، وهو يملك هذا المفتاح.

ما أتفه هذا التفكير!! قارون بكل ما كان يملكه من كنوز لا تستطيع العصبة أولو القوّة أن تحمل مفاتحها، لم يستطع أن يستخدم أمواله لتأخير مصيره الأسود ساعة واحدة: (فخسفنا به وبداره الأرض)(3).

الأموال التي كان يمتلكها الفراعنة: (... من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين)(4)، تحولت في ساعة إلى غيرهم: (كذلك

_______________________________________

1 ـ نور الثقلين، ج5، ص668، الحديث 7.

2 ـ «ماله» يمكن أن تكون مكونة من (مال) مضاف إلى ضمير الغائب. ويمكن أن تكون (ما) موصولة، وبعدها صلتها. جملة (أخلده) فعل ماض يتحمل معنى المضارع، أو بمعنى موجبات الخلود.

3 ـ القصص، الآية 81.

4 ـ الدخان، الآية 25 ـ 27.

[449]

وأورثناها قوماً آخرين)(1).

لذلك فإنّ هؤلاء اللاهين بأموالهم، حين تزول من أمام أعينهم الحجب والأستار يوم القيامة يرفعون عقيرتهم بالقول: (ما أغنى عنّي ماليه، هلك عني سلطانيه)(2).

الإنسان ـ أساساً ـ يهرب من الفناء والعدم ويميل إلى الخلود، وهذه الرغبة الداخلية هي من أدلة المعاد وأنّ الإنسان مخلوق للخلود، وإلاّ ما كانت فيه غريزة حبّ الخلود.

لكنّ الإنسان المغرور الأناني الدنيوي يخال خلوده كامناً في أشياء هي ذاتها عامل فنائه وانعدامه. على سبيل المثال: المال والمقام اللذان هما غالباً من أعداء بقائه يحسبهما وسيلة لخلوده.

من هنا يتبيّن أنّ الظنّ بقدرة المال على الإخلاد، هو الذي يدفع إلى جمع المال، وجمع المال أيضاً عامل على الإستهزاء والسخرية بالآخرين عند هؤلاء الغافلين.

القرآن الكريم يردّ على هؤلاء ويقول:

(كلاّ لينبذنّ في الحطمة) كلاّ، ليس الأمر كما يتصور، فسرعان ما يقذف باحتقار وذلّة في نار محطّمة (وما أدراك ما الحطمة، نار اللّه الموقدة، التي تطّلع على الأفئدة).

«لينبذنّ» من نبذ، أي ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ رمي الشيء لتفاهة قيمته.

أي إنّ اللّه سبحانه يرمي هؤلاء المغرورين المتعالين يوم القيامة في نار جهنّم كموجودات تافهة لا قيمة لها، ليروا نتيجة كبرهم وغرورهم.

_______________________________________

1 ـ الدخان، الآية 28.

2 ـ الحاقة، الآية 28 ـ 29.

[450]

«الحطمة» صيغة مبالغة من «حطّم» أي هشّم. وهذا يعني أنّ نار جهنّم تهشّم أعضاء هؤلاء. ويستفاد من بعض الرّوايات أن «الحطمة» ليست كلّ نار جهنّم، بل هي طبقة رهيبة في حرارتها.(1)

مفهوم تهشّم الأعضاء بدل احتراقها في نار جهنّم، ربّما صعب فهمه في الماضي. ولكن المسألة اليوم ليست بعجيبة بعد أن إتضحت شدّة تأثير أمواج الإنفجار، وتبيّن أن الأمواج الناتجة عن انفجار كبير قادرة على تهشيم الإنسان، بل تهشيم العمارات الضخمة باعمدتها الحديدية المستحكمة.

عبارة «نار اللّه» دليل على عظمة هذه النّار، و«الموقدة» تعني استعارها المستمر.

والعجيب أنّ هذه النّار ليست مثل نار الدنيا التي تحرق الجلد أوّلاً ثمّ تنفذ إلى الداخل، بل هي تبعث بلهبها أوّلاً إلى القلب، وتحرق الداخل وتبدأ أوّلاً بالقلب ثمّ بما يحيطه، ثمّ تنفذ إلى الخارج.

ما هذه النّار التي تبعث بشررها إلى قلب الإنسان أوّلاً؟! ما هذه النّار التي تحرق الداخل قبل الخارج؟! كلّ شيء في القيامة عجيب، ومختلف كثيراً عن هذا العالم، حتّى إحراق نارها.

لماذا لا تكون كذلك، وقلوب هؤلاء الطاغين مركز للكفر والكبر والغرور، وبؤرة حبّ الدنيا والثروة والمال؟!

لماذا لا تسيطر نار الغضب الإلهي على قلوب هؤلاء قبل أي شيء آخر وهم في هذه الدنيا احرقوا قلوب المؤمنين بسخريتهم وهمزهم ولمزهم؟! العدالة الإلهية تقتضي أن يرى هؤلاء جزاء يشبه أعمالهم.

_______________________________________

1 ـ نور الثقلين، ج3، ص17 و19، الحديث 60 و64.

[451]

الآيات الأخيرة من السّورة تقول:

(إنّها عليهم مؤصدة، في عمد ممددّة).

و«مؤصدة» من الإيصاد، بمعنى الأحكام في غلق الباب. ولذلك تسمى الغرف الكائنة في داخل الجبال المخصصة لجمع الأموال «الوصيد».

هؤلاء في الحقيقة يقبعون في غرف تعذيب مغلقة الأبواب لا طريق للخلاص منها، كما كانوا يجمعون أموالهم في الخزانات المغلقة الموصدة.

و«العمد» جمع عمود و«ممددة» تعني طويلة.

جمع من المفسّرين قال إنّها الأوتاد الحديدية العظيمة التي تغلق بها أبواب جهنّم حتى لم يعد هناك طريق للخروج منها أبداً، وهي بذلك تأكيد على الآية السابقة التي تقول: (إنّها عليهم مؤصدة).

وقيل إنّها إشارة إلى نوع من وسائل التعذيب والجزاء تشبه تلك التي يُغَلّ بها الشخص في رجله فيفقد قدرة الحركة وهذا جزاء ما كانوا يمارسونه من تعذيب للناس الأبرياء في هذه الدنيا.

وبعضهم أضاف تفسيراً ثالثاً استمده من الإكتشافات العلمية، وهو أن شعلة من نيران جهنّم تسلّط على هؤلاء مثل أعمدة طويلة. يقولون: إنّ الاكتشافات الأخيرة أثبتت أنّ أشعة اكس الخاصّة (اشعة رونتجن) تختلف عن سائر الأشعة الاُخرى التي تنتشر بشكل مخروطي، وذلك أنّها تنتشر بشكل عمودي، وقادرة على النفوذ في جميع الأجزاء الداخلية للإنسان بما في ذلك القلب. ولذلك يستفاد منها في تصوير الأعضاء الداخلية. والأشعة التي تخرج من نار جهنّم شبيهة بالأشعة المذكورة(1).

_______________________________________

1 ـ نور الثقلين، ج5، ص667، الحديث5.

[452]

ومن بين هذه التفاسير، التّفسير الأوّل أنسب. (واستناداً إلى بعض التفاسير عبارة (في عمد ممددة) تبيّن حالة جهنّم، وبعضها الآخر يرى أنّها بيان لحالة أهل جهنّم).

* * *

بحثان

1 ـ الكبر والغرور أساس الذنوب الكبيرة

الإستعلاء والتكبر على الآخرين بلاء عظيم يصيب الإنسان فيدفعه إلى ارتكاب أنواع المعاصي، الغفلة عن اللّه، والكفران بالنعم، والإنغماس في الأهواء والشهوات، والإستهانة بالآخرين، والإستهزاء بالمؤمنين...كلّها من الآثار المشؤومة لهذه الصفة الدنيئة، الأفراد الذين يعانون من عقد النقص ما أن تتوفر لهم مكنة حتى يستفحل فيهم الكبر والغرور بحيث لا يقيمون للآخرين وزناً، ويودي ذلك إلى انفصالهم عن المجتمع وانفصال المجتمع عنهم.

يغرقون في عالم وهمي، ويرون أنفسهم موجوداً متميزاً، حتى يبلغ الأمر بهم أن يروا أنفسهم من المقربين إلى اللّه. وهذا يدفعهم إلى الإستهانة بأرواح الآخرين وأعراضهم وأموالهم، وينشغلون بالهمز واللمز، ويخالون أنّهم بالصاق العيب بالآخرين وذمهم يزيدون من عظمتهم وشخصيتهم.

وفي بعض الرّوايات شبه هؤلاء الأفراد بالعقرب اللاسعة. (وإذا كان لسع العقرب عن طبيعة فيها، فلسع هؤلاء عن حقد وضغينة).

وجاء في حديث عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «رأيت ليلة الإسراء قوماً يقطع اللحم من جنوبهم ثمّ يلقمونه، ويقال: كلوا ما كنتم تأكلون من لحم أخيكم، فقلت: يا

[453]

جبرائيل من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الهمازون من اُمتك اللمازون»(1).

كما أشرنا من قبل، كان لنا وقفة أطول في هذا المجال عند تفسير سورة الحجرات.

2 ـ الحرص على جمع المال

بشأن المال والثروة، اختلفت وجهات نظر النّاس بين أفراط وتفريط، بعضهم أسبغ على المال أهمية فائقة فجعله مفتاح حلّ كلّ المشاكل. وإلى ذلك ذهب الشاعر.في قوله:

فصاحة سحبان وخط ابن مقلة وحكمة لقمان وزهد ابن أدهم

إذا اجتمعت في المرء والمرء مفلس فليس له قدر بمقدار درهم

ولذلك فإنّ دأب هؤلاء الأفراد جمع المال، ولا يدخرون وسعاً على هذا الطريق ولا يتقيدون بقيد، ولا يهتمون بحلال أو حرام ومقابل هذه المجموعة هناك من لا يعير أية أهمية للمال والثروة، يمتدحون الفقر ويشيدون به، ويرون في المال عائقاً للتقوى وللقرب الإلهي.

وإزاء ذاك الإفراط وهذا التفريط، تقف النصوص الإسلامية لتبيّن أنّ المال مطلوب، ولكن بشروط، أوّلها أن يكون وسيلة لا غاية.

والآخر، أن لا يكون الإنسان له أسيراً، بل أن يكون عليه أميراً.

والثّالث: أن يأتي بالطرق المشروعة وأن ينفق في سبيل رضا اللّه.

الرغبة في مثل هذا المال ليس دليلاً على حبّ الدنيا، بل هو دليل على الإنشداد بالآخرة. ولذلك ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه لعن الذهب والفضة، فتعجب أحد أصحابه وسأل الإمام فأجابه: «ليس حيث تذهب إليه إنّما الذهب

_______________________________________

1 ـ نور الثقلين، ج5، ص667، الحديث5.

[454]

الذي ذهب بالدين، والفضة التي أفاضت الكفر»(1).

وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: «السكر أربع سكرات: سكر الشراب، وسكر المال، وسكر النوم، وسكر الملك».(2)

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «إن كان الحساب حقّاً فالجمع لماذا؟ وإن كان الخلف من اللّه عزّوجلّ حقّاً فالبخل لماذا؟»(3).

كثيرون هم الذين ينشغلون حتى آخر حياتهم بجمع المال، ثمّ يتركونه للآخرين. هم مسؤولون عن حسابه، والآخرون ينالون ثماره، سئل أمير المؤمنين علي(عليه السلام): من أعظم النّاس حسرة؟

قال: «من رأى ماله في ميزان غيره، وأدخله به النّار، وأدخل وارثه به الجنّة»(4).

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (وكذلك يريهم اللّه أعمالهم حسرات عليهم) قال: «هو الرجل يدع المال لا ينفقه في طاعة اللّه بخلاً ثمّ يموت فيدعه لمن يعمل به في طاعة اللّه أو في معصيته» .

ثمّ قال الإمام: «فإن عمل به في طاعة اللّه رآه في ميزان فزاده حسرة، وقد كان المال له أو عمل به في معصية اللّه فهو قوّاه بذلك المال حتى عمل به في معاصي اللّه»(5).

نعم، رؤية الإنسان للمال قد تصير من المال وثناً خطراً، وقد تجعل منه وسيلة لسعادة كبرى .

نختتم هذه الوقفة بما ورد عن ابن عباس عن كلام عميق الدلالة قال: «إنّ أوّل

_______________________________________

1 ـ بحار الأنوار، ج 73، ص 141، الحديث 17.

2 ـ المصدر السابق، ص142.

3 ـ التوحيد للصدوق، نقلاً عن نور الثقلين، ج5، ص 668، الحديث 8.

4 ـ بحار الأنوار، ج73، ص142.

5 ـ المصدر السابق، الحديث 20.

[455]

درهم ودينار ضربا في الأرض نظر إليهما إبليس فلما عاينهما أخذهما فوضعهما على عينيه، ثمّ ضمهما إلى صدره، ثمّ صرخ صرخة، ثمّ ضمهما إلى صدره، ثمّ قال: أنتما قرّة عيني! وثمرة فؤادي، ما اُبالي من بني آدم إذا أحبّوكما أن لا يعبدوا! وثناً! حسبي من بني آدم أن يحبّوكما»(1).

اللّهمّ! احفظنا من سكرة المال والمقام والدنيا والشهوات.

ربّنا! نجنا من سيطرة الشيطان وعبودية الدرهم والدينار.

إلهنا! لا نجاة لنا من «الحطمة» المهشمة إلاّ بفضلك فارأف بنا يا كريم.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الهُمزة

* * *

_______________________________________

1 ـ المصدر السابق، ص137، الحديث 3.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21741497

  • التاريخ : 27/07/2024 - 07:24

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net