• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : العقائد في القرآن .
                    • الموضوع : المعاد في الرؤية القرآنية (*) .

المعاد في الرؤية القرآنية (*)

السيد محمد الشجاعي / كاتب وباحث إسلامي

مقدمة

تناولنا في هذا البحث مسألة المعاد ورجوع الموجودات إلى المبدأ المتعال بصفة اجمالية، وعود الإنسان بصفة تفصيلية، وذلك على ضوء الآيات والروايات والتحقيقات الحكمية والعرفانية، ونظراً لعمق المسألة ولطافتها وما تحمله من اسرار شأنها شأن الحقائق القرآنية والوجودية ركزنا أكثر على النصوص الدينية وما تنطوي عليه من كنوز ودقائق وجعلناها محور دراستنا هذه.

الرجوع الكلي

يُعدّ المعاد أو الرجوع إلى الحق تعالى في النصوص الدينية مسألة كلية وعامة لا تطال خصوص الإنسان أو طيفاً خاصاً من الموجودات، كما توهم ذلك بعض الباحثين، فبالرجوع إلى الآيات القرآنية والروايات، والتأمل القليل في الاشارات التي تنطوي عليها؛ نعلم بكلية المسألة وعموميتها.

فأصل الوجود من المبدأ المتعال، وإلى هذا المبدأ يعود في نهايته، وهذا العَود يتم على اساس حب الموجود لجمال الوجود المطلق وجلاله ولكمالاته العالية وغير المتناهية.

وهذا العلم أو الشعور سارٍ في جميع مراتب الوجود؛ مما يجعل كل وجود ينال حظّه من هذا الشعور بما يتناسب من هذا الشعور بما يتناسب مع مرتبته الوجودية، وليس صحيحاً ما يقال: ان بعض المراتب لا تتحلى بهذه الحيثية وبالتالي كل مفردة وجودية نالت حظاً من هذا الوصف الجمالي ما فتئت تتحرك بعشق نحو أعلى مرتبة منه.

المعاد الكلي في القرآن

إنّ الآيات القرآنية التي تشير إلى عموم المعاد وأنه أمر كلي وشامل كثيرة كما لا يخفى على المحققين ونحن نشير فيما يلي إلى الآيات التي لها لحن خاص يتصل بهذه المسألة:

1. {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]

فالعبارة هذه: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} تشير بصراحة إلى أن اصل المسألة أي: ان الخلق الذي أوجدناه أول مرة هو نفسه الذي نعيده في المرة الاخيرة.

2. {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 4].

بعدما بيّن الله عز وجل رجوع الناس جميعهم إليه تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا}، وأن هذا الأمر يمثل وعد الله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا}، عمد إلى بيان حقيقة اخرى وهي ان هذا العود يمثل زاوية من عملية عود كلية تتمثل في اعادة جميع الخلق.

وبعبارة اجلى: فإنّه تعالى بعدما بيّن عود خصوص الإنسان إلى الدار الآخرة وأن هذا العود وعد الهي حق، تعرض إلى مسالة كلية تتضمن عود الإنسان وأنه حتمي لا يمكن أن يتخلف، وهذه المسألة الكلية هي أنه تعالى كما بدأ الخلق أول مرة يعيده هو بذاته إليه تعالى {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}.

3. {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 19ـ20].

يذكّر الله تعالى في الآية الاولى الكفار الذين غفلوا عن مسألة العود إلى الله تعالى مبيّناً لهم بقصد الهداية والارشاد أن هذا الامر كلي يطال جميع الخلق ويحثهم على التفكر في سياق هذه الهداية الشاملة، المشيرة إلى حقيقةٍ، هي أنهم اذا تأملوا جيداً في نظام الوجود يجدون أن بدء الخلق كما كان هيّناً بالنسبة إلى الذات المقدسة كذلك عَود الخلق يكون سهلاً ويسيراً، وفي النهاية يلتفتون إلى ان رجوعهم إليه تعالى لا محالة واقع كذلك. وفي الآية الثانية يشوقهم إلى السير في الارض حتى ينظروا في خلق الله تعالى كيف بدأ وكيف يعود متصلاً إلى نشأةٍ اخرى، وكل ذلك خاضعٌ لقدرته تعالى ومشيئته.

فبالتأمل في مضمون الآيتين الكريمتين والتدبر جيداً في السياق، يتجلّى لنا أن الله تعالى يريد من خلال هذا الارشاد أن يبيّن لهؤلاء الغافلين عن المعاد أنّ رجوع الإنسان إلى الله تعالى يقع في سياق كلي وشامل، هو عَود الخلق بأجمعهم إلى الله تعالى.

وبعبارة واضحة: ان الله تعالى يريد ان يفهم الناس هذه الحقيقة وهي انه لما كان الوجود وعوده بمشية الحق تعالى وان هذا العود والحركة نحوه تعالى امر معلوم لديكم اذا تدبرتم في آياته تعالى وانه سنة كلية يخضع لها الوجود، فكذلك أنتم بوصفكم قطعة من الوجود لا تُستثنون عن هذه السنة؛ فمصيركم الرجوع لا محالة إلى الحق تعالى.

4. {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إليه تُرْجَعُونَ} [الروم: 11].

إنّ التأمل جيداً في الآية المباركة يوصلنا إلى هذه الحقيقة، وهي ان الله تعالى هو الذي بدأ الخلق {يَبْدَأُ الْخَلْقَ}، ثمّ هو الذي يعيده {ثُمَّ يُعِيدُهُ}، فالانسان بوصفه مفردة من مفردات الخلق لا يُستثنى عن هذا الأمر الكلي والسنة الحاكمة؛ فهو كذلك يعود {ثُمَّ إليه تُرْجَعُونَ}.

5. {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27]

إنّ الآية المباركة تشير إلى السُّنة ذاتها، الا أنها تتضمن نكتة جديدة وهي أن عملية الاعادة (أي الحشر) ليست عسيرة بالنسبة إلى الله تعالى وأن هذا العَود الكلي شأنه شأن أصل الخلق، يتحقّق على أساس المشيّة الالهية المطلقة وبمقتضى ارادته تعالى النافذة، فكما أن الوجود تحقق وفق نظام يمثل تجلياً للمشية الالهية، كذلك العَود إليه تعالى سيتحقق وفق سُنن حاكمة وقوانين متقنة تمثل بدورها تجلياً للإرادة الالهية.

بعبارة واضحة: إنّ العناية الالهية اقتضت أن تكون مفردات الخلق بنحوٍ يجعلها تتحرك تجاه امر مرتكز في فطرتها، متبعة في ذلك سبلاً محددة وفق سنن خاضعة لإرادته تعالى لا تختلف ولا تتخلف، وكل هذا هيّن بالنسبة إلى الله تعالى، فكما أن إيجاد الموجودات أو تحقّقها يخضع لسلسلة من السُّنن الحاكمة التي تمثّل المشيّة الالهية، رجوعها أيضاً أو حركتها نحو الحق تعالى يبدأ من أوّل تحقّقها الخارجي وفق سُننٍ حاكمة محددة، إلى أن تصل إلى الحق تعالى.

وإذا شئنا التمثيل لهذه الحقيقة بمثال مادّي نقول: إنّ التراب بوصفه حقيقة خارجية أوجده الله تعالى بإراداته وفق سلسلة من السنن الحاكمة والاسباب القاهرة، يتحرك وفق سنن تكوينية وأسباب حاكمة مفجراً ما أودع فيه من قابليات وقاطعاً مراحل تكاملية ومراتب عروجية حتى يصير نباتاً معيناً، فهذا التراب إن وجد في الخارج وفق سنن تكوينية حاكمة وعلل قاهرة خاضعة لربوبية الله ومسلّمة لإرادته تعالى، فحركته نحو النباتية تخضع لسُنن قاهرة وعلل حاكمة تحت هيمنةٍ إلهية شاملة، فكذلك عَود الخلق إلى الحق تعالى ورجوعه إليه أمرٌ يخضع لقوانين قاهرة وأسباب حاكمة، تحت هيمنة إرادته ومشيّته، وكل ذلك هيّن وسهل بالنسبة إليه تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}.

6. {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [يونس: 34]

إنّ الآية المباركة تُشير ـ زيادة على تعرّضها للإعادة الكلّية ـ إلى حقيقة اخرى، وهي أن هذه الاعادة الكلّية مظهر للقدرة الالهية المطلقة، فهو تعالى الوحيد الذي يخلق بنحو يجعل كل المخلوقات ترجع وتعود إليه. يخاطب عز وجل نبيه قائلاً: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}، ثمّ يجيبه تعالى قائلاً: {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه}.

7. {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الاسراء: 51].

هذه الآية تُشير إلى أن إعادة الإنسان من أفعال مبدأ الوجود الذي أوجد الإنسان في البداية {الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، يعني أن موجد الإنسان بَدواً هو مُعيده مرّة ثانية، وفيه إشارة إلى هذا الأصل، وهو أن إيجاد المخلوق ملازم لإعادته.

ما ذكرناه من نصوص قرآنية يمثّل نموذجاً من الآيات التي تنطوي ـ في مجموعها ـ على مضمونٍ واحد، وهو: ان ايجاد المخلوق يلازم الاعادة والرجوع، فالآيات السابقة تحكي عن هذه الحقيقة، وهي أن ارادة الله اذا تعلقت بإعادة المخلوق وارجاعه نحو المبدأ، فهذه الاعادة لا تتم إلا إذا تم الجعل والايجاد في المرّة الاولى.

إعادة الموجود ملازم للخلقة

تأسيساً على ما سبق؛ وبالتأمل في محتوى الآيات السابقة، نصل إلى حقيقةٍ مهمة، حاصلها: ان الخلق والايجاد ملازم للإعادة والارجاع، بمعنى ان اعطاء الوجود لكل موجود من جانب الحق تعالى لا ينفك عن خصوصيات العَود والحركة نحو المبدأ (الحق تعالى)، وأن هذه الخاصية أودعتها العناية الالهية في صميم كيانه، وبالتالي تقتضيها ذات كل مخلوق.

وببيانٍ آخر: أن كل مخلوق أودعت العناية الالهية في صميم ذاته الشعور بالكمال المطلق واللامتناهي، فينجذب بطبعه نحو هذا الكمال المطلق، ويشرع في طيّ مراحل العروج والسير في مراتب الكمال، إلى أن ينتهي به المطاف إلى الحق تعالى: {وَأَنَّ إلى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42]، فبمجرّد ان تتحقّق عملية الخلق أو الإيجاد يشرع الموجود (متعلّق الإيجاد) في الحركة والسير، وذلك لما أودع في فطرته من شعور بالكمال المطلق، والنسبة الحُبّية التي تحرّكه نحو هذا الكمال.

فإذاً كل مخلوق مجهز بهيئة وجودية خاصة يمتلك في أعماقه الشعور بالكمال الذي لا يتناهى، ويتحرك نحوه بما يناسب هذا الشعور، ويسعى جاهداً للوصول إلى هذا الكمال اللامتناهي (الحق تعالى).

الموجودات والهداية نحو المبدأ

تتمثّل هذه الهداية في الهداية التكوينية الكلّية التي أشارت إليها الآيات القرآنية في مواطن متعددة، وقد أشار إلى هذه الحقيقة النبي موسى في جوابه لفرعون حينما سأله عن هوية الحق تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، أي: ربي الذي أدعوك إليه، هو الذي ألبس كل شيء حلّة الوجود وهندسه بهندسة خاصة: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} وهذه الهندسة التكوينية هي التي تهديه إلى الطريق الذي يتعيّن عليه اتّباعه في سيره نحو المقصود، فإنّ لكلمة: (خلقه) التي جاءت في الآية الشريفة والتي تعني: (الخلقة الخاصة) التي يتمتع بها كل مخلوق، معنًى سامياً وعميقاً جداً، وأعمق منها كلمة: (ثم هدى) التي تشير إلى الهداية إلى المقصد، وهذه الهداية مترتبة على إعطاء الوجود الخاص والهندسة الخاصة.

وبتعبير آخر: ما تحقّق في المرحلة الاولى هو اعطاء الوجود الذي يحمل في صميمه الهندسة الخاصة، ثم الهداية إلى المقصد الأسنى والكمال الذي لا يتناهى بما يتناسب مع ذلك التصميم وتلك الهندسة؛ مما يجعله يتحرك بحب وشوق نحو ذلك الكمال اللامتناهي والمقصد الأسمى، وهذا التحليل يجلّي لنا معنى الآية الكريمة: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه} وأشباهها من الآيات الاخرى، فالوجود وما أودع فيه من الشعور باللامتناهي، والتعلق الحُبّي به والحركة نحوه، وتعيين الطريق... كل ذلك هداية وعناية منه تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}.

تسبيح الموجودات

كلّ منّا تمرّ عليه الآيات التي تُشير إلى تسبيح المخلوقات والاشياء جميعاً، وكلّنا نعلم بها بنحو الاجمال، واللافت أننا لم نتأمل بما فيه الكفاية في معنى التسبيح والنكات التي تنطوي عليها تلك الآيات المباركة. والقرآن الكريم زيادة على تعرّضه إلى تسبيح جميع المخلوقات يُشير أيضاً إلى ان هذا الأمر غير معلوم لدى الناس العاديين.

وسوف نُشير فيما يلي إلى الآيات التي تناولت هذا الامر:

1. {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الاسراء: 44].

فالآية المباركة بعد أن أشارت إلى تسبيح الجمادات ومَن فيهن، أي: مَن يشعر ويعقل من الموجودات، دلّت على أن الإنسان العادي لا يفقه نوعية هذا التسبيح ولا كيفيته {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}. لكن هذا الحكم لا يطال الجميع، بل يُستثنى منه اربابُ الحقائق والبصيرة من الانبياء والاولياء، وأصحاب الكشف والشهود، وهذه المعرفة بدورها مختلفة (مشكّكة) حسب المرتبة الكمالية التي يحتلها النبي أو الولي، فالنبي أو الولي يُدرك ببصيرته ماهية هذا التسبيح، ويرى ذرّات الوجود مريدة للحق تعالى ومسبحة له كما هي في واقعها وحقيقتها.

2. {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الانبياء: 79].

فهذه الآية تشير بصراحة إلى أن الجمادات والحيوانات تسبّح خالقها مع نبي الله داود (عليه السلام)، وهذا لا يعني أنها سبّحت الله تعالى لتواجدها مع النبي داود (عليه السلام)، وبالتالي يكون فعلها استثناءً من القاعدة، وفي غير هذا الحالة لا يصدر عنها التسبيح! بل المراد من الآية المباركة هو أن النبي داود (عليه السلام) لكونه متمحّضاً في العبودية {أَوَّابٌ} صار بصره حديداً؛ مما جعله يرى من أفق عالية حقائقَ الاشياء، وهي تسبح الحق تعالى.

3. {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص: 18].

الآية تُشير إلى الحقيقة نفسها، أي: إنّ الجبال التي هي من الجمادات تسبح الله تعالى برفقة نبي الله داود (عليه السلام)، وهذا الفعل يدل على ان الجبال تتحرّك بشوق وحُب نحو الحق تعالى.

إنّ النبي داود (عليه السلام) تمثّل بحقيقة العبودية وانعجنت هويته بالحب الحقيقي، وفنى بتمام كيانه في الذات الالهية تمام الفناء؛ الامر الذي جعله يترقّى إلى قمّة الكمال المطلق، بحيث اشرف على جميع ذرّات الوجود (المادّية منها وغير المادّية)، مشاهداً لتسبيحها وحُبّها للذات الالهية وتحرّكها العبادي نحوها، وكل مَن كان في محضره (عليه السلام) وشاهد ذلك التضرّع وذلك البكاء وتلك المناجاة الالهية، اهتز كيانه وتحرّك عاشقاً ومُريداً للذات المقدسة والكمال المطلق، وجاء في الآية المباركة ذكرُ الجبال خاصة؛ لأنّ الجبال مظهرٌ للصلابة والشدّة، حيث يستبعد منها التسبيح الذي لا يُسانخ تلك الأوصاف.

4. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [النور: 41ـ42]. هاتان الآيتان المباركتان خطابٌ لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) يحثّه على التأمّل في المخلوقات وهي تسبّح خالقها وتصلي له تعالى؛ وبالتأمّل جيداً في الآيتين وما تنطويان عليه من نكات علمية نهتدي إلى حقائق متعالية.

ففي المرحلة الاولى نهتدي إلى حقيقة، وهي: ان الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) يتحلّى برؤية إلهية عالية للأشياء؛ بحيث يرى ـ من أفقٍ أعلى (المرتبة الكمالية المتعالية)ـ المخلوقات مسبّحة ومصلّية لله تعالى؛ الأمر الذي يكشف عن أن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ليس من صنف المحجوبين الذين لا يبصرون تلك الحقائق والمواصفات.

وفي المرحلة الثانية نهتدي إلى أن كل مخلوق يمارس التسبيح والصلاة بوعي منه وشعور {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}، وهذا يؤيّد ما ذكرناه سابقاً، من أن المخلوق يتّصف بصفات الكمال كالعلم بالكمال المطلق حسب مرتبته الوجودية وهندسته الالهية؛ مما يدفعه إلى الحركة بحبٍّ وشوق نحو هذا الكمال، طالباً للزلفى والقرب منه، وكلّما تأمّلنا جيداً في محتوى العبارة: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} نصل إلى نتائج رفيعة، بخاصة اذا ركّزنا على البنية النحوية للجملة؛ فإنّ قوله تعالى: {كُلٌّ} يفيد أن هاته الاعمال (الصلاة والتسبيح) خاصتان بكل مخلوق، وليس صحيحاً قول من قال بالتساوي بينهما كمّاً وكيفاً، مرتكزاً في ذلك على المقايسة الخاطئة التي أشرنا إليها سابقاً، فمن الخطأ ـ إذاً ـ أن نتوقّع من باقي المخلوقات أن تسبّح وتصلّي كصلاة الإنسان وتسبيحه بذات الكمّية والكيفية.

وعليه؛ فإنّ تسبيح ذرات الوجود وحركتها نحو الباري تعالى ليست أموراً مُدرَكة ومعلومة لجميع الناس، بل الأنبياء والأولياء وأصحاب الكشف والشهود هم الذين يحيطون بهذه الموجودات وما يصدر عنها من أفعال إلهية جميلة، من قبيل الحُب والتسبيح والصلاة وما أشبه ذلك، فالأساس في المسألة هو رفع الحجب والموانع التي تمنع من الانفتاح على تلك الحالة الإلهية، وإذا تحقّق هذا الأمر في الإنسان انكشفت له ذرات الوجود كلّها على حقيقتها، وحينها يرى فيها حيثيات إلهية، مثل: الصلاة والتسبيح، وما أشبه ذلك، وما ترويه الاحاديث من أن الاشياء تغرق في التسبيح حينما يمر عليها الرسول الاكرم (صلّى الله عليه وآله)، ينتمي إلى هذا الباب أيضاً.

الحركة العبودية حركة تسبيحية

تأسيساً على ما سبق نُدرك أن العبودية هي ذلك التسبيح والتنزيه؛ إذ إنّ هويتها تتمثل في الانقطاع عن الاغيار والتعلق بالحق تعالى والتحرّك نحوه، وهذا لا يتأتى إلا إذا تجاوز السالك والمتحرك كل شيء بداعي الحُب والشوق إلى الكمال المطلق الذي لا يشوبه نقص أو عيب، أما الاشياء الاخرى (غير الحق تعالى)، فهي عنده آيات لله تعالى ومظاهر أسمائه الجمالية والجلالية ومجالي صفاته الكمالية، لا تمثل في ذاتها شيئاً، بل هي فقيرة ومحدودة يلفّها النقص من جميع الجهات، ولو انقطعت العناية الالهية عنها وتوقف عنها الفيض الالهي لضمّها البطلان المحض؛ ولصارت لا شيء.

وعلى هذا؛ مَن تحقّق بالعبودية ـ وحصل له الانكسار وفنى في الله تعالى ـ كان لسان حاله: (وجدتك أهلاً للعبادة) [عوالي اللئالي، للاحسائي، ج 2، ص 11].

إذاً؛ العبودية في ماهيتها هي تجاوز عن الأغيار بأية كيفية كانت، وحركة تسبيحية نحو الحق تعالى بقصد الوصال؛ وعلى أساس هذه القراءة يمكننا فهم جملة كبيرة من الآيات والروايات نشير فيما يلي إلى بعضها:

1. {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الانبياء: 19ـ20].

فالآية تُشير إلى سر عدم اتصاف مَن عنده تعالى بالتكبر على عبادته، وهو كونهم يسبّحونه تعالى ليلاً ونهاراً، ولا يملّون من هذا العمل المبارك، غير خفي أن المقصود من التسبيح هو تلك الحركة العبودية نحو ذلك الكمال المطلق بحبٍّ وشوق، وهذه الشاخصة لا تفارقهم ولا تنفكّ عنهم أبداً، يمارسونها بقصد الوصل التام ولا يلتفتون إلى غيره تعالى، بل لا يلتفتون حتى إلى الطريق الذي يقطعونه في مسيرهم التكاملي هذا، ونوعية هذا التسبيح تختلف عن التسبيح القولي: (التلفّظ بكلمة سبحان الله)، فإنّ التسبيح بهذا المعنى يمثّل مرتبة من التسبيح الكلّي والحركة العبودية، لا كلّ مراتب التسبيح.

2. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الاحزاب: 41ـ42].

فالآية عبارة عن توجيه الأمر للمؤمنين بذكر الله تعالى كثيراً، وتأمرهم بالتسبيح المستمر والمتصل، وجليٌّ أنّ كلمة التسبيح ـ هنا ـ تعني تلك الحركة العبودية التي مرّت علينا، وليس المراد منها قسماً من معناها المتمثّل في التقديس والتنزيه اللسانيين.

3. {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130].

إنّ الآية المباركة تأمر النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بالتسبيح في وقت يطال اليوم كلّه بنهاره وبليله، ولا يهمّنا الآن ما استنبطه علماؤنا من فقهيات وغيرها من الآية المباركة، ما نركّز عليه هنا هو أنّ الله تعالى أمر نبيّه بالتسبيح في جميع الأوقات والحالات، ممّا يعني أنّ العمل يمثل حركة متواصلة ودؤوبة للنبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) نحو الحق تعالى، والغاية التي ذكرتها الآية المباركة: {لَعَلَّكَ تَرْضَى} لهذه الحركة، لا يعلم مغزاها ومدلولها إلا أرباب الاذواق، وما استنبطه فقهاؤنا العظام يؤيّد هذا المعنى الذي ذهبنا إليه؛ إذ معنى التسبيح في الآية المباركة عندهم هو الصلاة اليومية، والصلاة من مصاديق التسبيح الكلي، أو شأن من شؤون تلك الحركة الحُبّية والمتصلة نحو الحق تعالى.

كان ذلك نموذجاً من الآيات الكثيرة التي تناولت مفردة التسبيح وبيّنت انها حركة حُبّية متصلة نحو الحق تعالى، يطوي السالك في أثنائها مراحل متعاقبة متجاوزاً إياها إلى مرتبةٍ أعلى: (الكمال المطلق) لا يرضى عنها بديلاً، ونوعية هذه الحركة العبودية لا تهمّ في حدّ ذاتها؛ إذ قد تكون صلاةً أو صوماً أو حجاً أو جهاداً أو ذكراً باللسان وما أشبه ذلك، وهذه الحركة في محضر الحق تعالى يصدق عليها هذه الكلمة النورانية: (وجدتك أهلاً للعبادة) و (تلك عبادة الأحرار).

النصوص الدالّة على التسبيح الكلّي دالّة على العود الكلّي

وصلنا من خلال التحليل السابق إلى حقيقة، وهي أن المخلوقات بتمامها تسبّح الله تعالى، وأنّ هذا العمل (التسبيح) عبارة عن حركة حُبّية متصلة نحوه تعالى، وتوصّلنا أيضاً إلى أنّ ملازمة هذا العمل للعَود الكلّي الذي نحن بصدده أمر لا يمكن الشك فيه، ولتجلية الموضوع أكثر ودفع أي شك قد يعلق في الأذهان، إليك فيما يلي جملة اخرى من الآيات والروايات، تُشير إلى الحقيقة ذاتها:

1. {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد: 1]

2. {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد: 13]

3. {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر: 75]

4. {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر: 7]

5. {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5]

إذ إن الآيات أعلاه تُشير بصراحة إلى أن المخلوقات جميعها تسبّح الله تعالى، حيث يُشير بعضها إلى تسبيح الملائكة، فيما يُشير بعضها إلى تسبيح الرعد والسموات والأرض، كما تُشير الآية التي مرّ ذكرها: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} إلى التسبيح الكلّي والعام؛ إذ إن كلمة (شيء) تطال جميع ما سوى الله تعالى، وبالتالي لا يمكن أن يخلو مخلوق عن هذا العمل المقدس.

أمّا الروايات التي تُشير إلى هذا المعنى فهي ما يلي:

1. في كتاب الدر المنثور: إنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (إنّ نوحاً لما حضرته الوفاة قال لابنيه: آمركما (بسبحان الله) و (بحمده)؛ فإنها صلاة كلّ شيء وبها يُرزق كلّ شيء) [تفسير الآلوسي، ج15، ص 84]. إذا تأمّلنا جيداً في هذه الرواية نصل إلى نكتة مهمة، وهي أنّ التسبيح والتحميد صلاة الشيء ورزق له أيضاً؛ ممّا يعني أنّ اتصال هذا العمل المبارك موجِبٌ لبقاء الشيء، وجبران نقصه.

2. في تفسير العياشي: عن زرارة، قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، فقال: ما ترى أن تنقض الحيطان تسبيحها) [تفسير العياشي، ج 2، ص294].

3. في تفسير العياشي: عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام) قال: (نهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يُوسم البهائم، وأن يُضرب وجهها؛ فإنّها تسبّح بحمد ربّها) [المصدر السابق].

4. في الدر المنثور: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (إنّ النمل يُسبّحنَ) [الدر المنثور للسيوطي، ج4، ص 183].

5. في الدر المنثور: نهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن قتل الضفادع وقال: (نعيقها تسبيح) [المصدر السابق].

6. في الدر المنثور: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (آجال البهائم كلّها وخشاش الأرض والنمل والبراغيث والجراد والخيل والبغال والدواب كلّها وغير ذلك آجالها في التسبيح، فإذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها، وليس إلى ملك الموت منها شيء) [المصدر السابق: ص184]. والرواية الشريفة تُشير بصراحة إلى أنّ الواقعيات المذكورة تعيش بالتسبيح ونهايتها بالتسبيح، وأنّ قابض أرواحها هو الله تعالى نفسه، ولا علاقة لملك الموت قابض أرواح الناس بهذه الموجودات، وأما كيف تُقبض أرواحها؟ وبأيّ طريق؟ فنترك بيانه لأهله.

7. في الدر المنثور أيضاً: عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إنّه مرّ على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحلهم، فقال: اركبوها سالمة ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق؛ فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكراً لله منه) [المصدر السابق: ص111]. وتُشير الرواية الشريفة إلى نكتة في غاية الروعة، وهي أن الدواب وغيرها دائماً في حالة تسبيح، وتسبيحها قد يفوق تسبيح الإنسان الغافل الذي يركبها.

هذه نماذج من الروايات التي تُشير إلى الحقيقة التي حقّقناها في البحوث التي مرّت علينا، وهي تلك الحركة الحُبّية المتصلة التي يطويها المخلوق نحو الحق تعالى.

دلائل العَود الكلّي أمر عام وكلّي

الأدلّة التي تتعرّض إلى عموم العَود أدلة عامة، تشكّل رؤية قرآنية عميقة نلمحها في شريحة كبيرة من الآيات والروايات، وندركها بالشهود والبرهان، وبعبارةٍ مختصرة: إن القرآن الكريم يتعرّض من أوله إلى آخره إلى الوجود والنسق الذي يخضع له، ومن أين جاء؟ وما هو الطريق الذي يسلكه؟ وما هي كيفية السلوك؟ وإلى أين ينتهي؟ ومن خلال هذا التوضيح نريد للإنسان بوصفه مفردة من هذا النسق الخاص أن يلتفت إلى نفسه وينتبه عن غفلته، وأن يتحرّك في هذا الطريق حتى يعيش الانسجام مع هذا النسق، وأن لا يتحرك خلاف الجهة التي تتحرك إليها جميع موجودات العالم، وإلا واجه قاهرية الحق تعالى وغضبه.

ونلمس هذه الحقيقة أيضاً في الادعية التي وصلت إلينا من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، معدن العلم والعرفان وأهل العصمة والطهارة؛ ولعلّ حثّ المؤمنين على قراءة هذه الادعية والتدبّر في مضامينها العالية هو للوقوف على الأسرار التي تنطوي عليها، والمعارف العالية التي تثيرها، والمتصلة معانيها بالمبدأ والمعاد وما أشبه ذلك، زيادة على ما في هذه القراءة من ثواب وبركة، وبذلك يُبصِر الإنسان الحقائق وينجو من الغفلة المميتة، وتتّسع رؤيته إلى الوجود والنسق الدقيق الذي يخضع له.

وفيما يلي بعض الروايات التي تُشير إلى العَود الكلّي:

1. الفصل السادس عشر من الجوشن الكبير: (يا من هو رب كل شيء، يا من هو إله كل شيء) [البلد الامين والدرع الحصين للشيخ الكفعمي، ص 403].

فإن المقطع الشريف يُشير ـ كما هو جليّ ـ إلى ربوبية الحق تعالى المطلقة، وإلهيَّته الشاملة لكل شيء؛ ممّا يعني أنّ كلّ مَن في الوجود مربوبٌ وخاضعٌ له تعالى، وهذا عين المعنى الذي حقّقناه.

2. الفصل السابع والثلاثون من الدعاء نفسه: (يا مَن كلّ شيءٍ خاضعٌ له، يا مَن كلّ شيءٍ خاشعٌ له، يا مَن كلّ شيءٍ كائنٌ له، يا مَن كلّ شيءٍ موجودٌ به، يا مَن كلّ شيءٍ منيبٌ إليه، يا مَن كلّ شيءٍ خائفٌ منه، يا مَن كلّ شيء قائمٌ به، يا مَن كلّ شيءٍ صائر إليه، يا مَن كلّ شيءٍ يسبّح بحمده، يا مّن كلّ شيء هالكٌ إلا وجهه) [المصدر السابق: ص 405].

فهذه العبارة المباركة تُشير إلى الحقيقة التي مرّت علينا بهذه الجملة (يا مَن كلّ شيءٍ منيبٌ إليه)، أي: إنّ كلّ شيءٍ يعود إلى الحقّ تعالى، وبهذه الجملة أيضاً (يا مَن كلّ شيءٍ يسبّح بحمده) أي: إنّ الأشياء تسبح الله في حركتها التكاملية، وتشير أيضاً إلى الغاية من الحركة التكاملية بالجملة (يا من كل شيء هالك الا وجهه) أي: ان نهاية الحركة نحو الحق تعالى هي (وجهه تعالى)؛ حيث تتجلّى الأشياء في نهاية تكاملها بوجهها الخفي، وتبقى بإبقائه تعالى إياها.

3. في الفصل السابق أيضاً: (يا أوّل كل شيءٍ وآخره، يا إله كل شيءٍ ومليكه، يا رب كل شيءٍ وصانعه، يا بارئ كل شيءٍ وخالقه، يا قابض كل شيءٍ وباسطه، يا مُبدئ كل شيءٍ ومُعيده) [المصدر السابق: ص 410].

فالعبارة الشريفة من الدعاء تُشير إلى الحقيقة نفسها التي نحن بصدد توضيحها؛ إذ تشير الجملة: (يا إله كل شيءٍ ومليكه) إلى أن الله تعالى معبود كل شيء، وبالجملة: (يا مبدئ كلّ شيءٍ ومُعيده) تُشير إلى أن الله تعالى هندس الأشياء بحيث يلازم عَودُها إلى مصدرها إيجادَها وخلقها في أول مرة.

كانت هذه نماذج من الروايات الشريفة والنورانية التي تناولت تلك الحقيقة بعبارات جميلة ولطيفة، والتدبّر فيها بنحوٍ أعمق نُوكله إلى القارئ الكريم.

ــــــــــــــــ

(*) المقال مختصر من مجلة الإصلاح الحسيني، العدد 5 ـ السنة الثانية ـ 2013 م ـ 1435 هـ ، ص 305- 333، ترجمة: الشيخ فضيل الجزائري.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1771
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 04 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 20