• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير السور والآيات .
                    • الموضوع : القرب الإلهي.. معناه وأقسامه * .

القرب الإلهي.. معناه وأقسامه *

قال تعالى في كتابه الكريم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [سورة البقرة، 186].

من المتسالم عليه أنّ وراء كل عمل يقوم به أيّ فرد عاقل هناك غاية وهدف محدّد يقصده ذلك الفرد، وموضوع القرب الإلهي ـ بلا شك ـ هو من أهم المقاصد في حياة الإنسان المؤمن، فالأمور العبادية تفتقر إلى نية القربة لله تعالى، وبقية الأعمال الصالحة لا تتمّ على الوجه الأكمل والأتمّ بدونها. وهذا البحث الموجز يتطرّق إلى حقيقة هذا القُرب وأقسامه في نظر الآيات الكريمة والروايات الشريفة.

معنى القرب الإلهي

القرب في اللغة بمعنى الدنو [لسان العرب، مادة (قرب)]، وهذا القرب تارةً يکون من مقولة المکان وتارةً يلحظ فيه البعد الزماني، ولذلک يُقال: إنّ الشيء الفلاني (بلحاظ المکان) هو قريبٌ من الشيء المشخص الآخر وإنّ المسافة بينهما تقدّر بکذا، أو يُقال: إنّ يوم أمس (بلحاظ الزمان) هو أقرب إلى اليوم الذي يسبقه من يومنا الحالي. وهناک استعمالٌ شائعٌ آخر للفظ القرب حسب العرف العام والمعنى هو کون الشخص مورد اهتمامٍ واحترام وله قيمة ومنزلة لدى شخصٍ آخر فيُقال: فلانٌ قريب من فلانٍ مثلاً "بالمنزلة والمکانة".

وغالباً ما تُستعمل كلمة القرب (والبُعد كذلك) في معناها المادي؛ إذ عندما نستعمل هذه الكلمة في الأجسام ينتقل ذهننا تلقائياً إلى المعنى المادي للكلمة، لكن بما أنّه ثبت أنّ الاصطلاحات الخاصة بالماديات لا تستعمل فيما فوق المادة مطلقاً أو تُستعمل بضرب من المجاز، فلا نقول مثلاً عن الله تعالى إنّه حالٌّ في مكان معيّن أو إنّ له جسماً ماديّاً وغير ذلك، فمن الطبيعي لا يمكن تصوّر القرب والبُعد الماديين بالنسبة له جلّ شأنه، فهو تعالى {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [1]، وهو: >الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود، ولا وقت معدود ولا أجل ممدود ...< [2]

إذن، فاستعمال كلمة القرب بالنسبة لله لا يمكن أن يُفهم منها معنى القرب الماديّ أبداً، بل يُفهم منها القرب المعنوي قطعاً. فيتحصل من ذلك أنّ القرب من الله سبحانه لا يقصد منه إلا القرب المعنوي والروحي، والبُعد منه كذلك لا يكون إلا بمعنى البُعد المعنوي والروحي.

من هنا يمكن أن نطرح السؤال التالي: هل يتقرّب الإنسان من الله سبحانه بموته حتى نقول بأنه كان بعيداً عنه في الدنياً؟!

يجب القول هنا:

أوّلاً: لم يذكر القرآن بأنّ الإنسان يتقرّب إلى الله بموته، بل يقول إنّه يرجع إليه بموته.

ثانياً: نحن نعلم بأنّ كثيراً من محبي الله سبحانه ومطيعي أوامره يُعتبرون قريبين من الله، أما أعداؤه فهم بعيدون منه حتى بعد موتهم؛ إذ إنّ هذا القرب والبُعد متعلّق بعمل الإنسان لا غير.

تُشير الآيات القرآنية بأنّ الموت وسيلة لرجوع الإنسان لله سبحانه حيث يقول: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [3]، {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [4]، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [5].

عن أمير المؤمنين (ع) أنّه سمع رجلاً يقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، فقال: >إِنَّ قَوْلَنَا {إِنَّا لِلَّهِ} إِقْرَارٌ عَلَى أَنْفُسِنَا بِالْمُلْكِ - وقَوْلَنَا {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} إِقْرَارٌ عَلَى أَنْفُسِنَا بِالْهُلْكِ< [نهج البلاغة، الحكمة 99].

وقد فسّر عدّة من المفسّرين الرجوع إلى الله سبحانه بأنه رجوع إلى مكان يتضح فيه لنا بأن الملك كله لله فلا مالك غيره ولا يأتي بالنفع والضرر إلا هو، كما كان في ابتداء الخلق وسنعود إلى ما كنا عليه أول الخلق، وسنبتعد عن كل لوازم الحياة في الدنيا ونرجع إلى مبدأ الوجود. [6]. وبعبارة أخرى: الرجوع إلى الله سبحانه يعني التحرّر من كل أسباب الحياة المادية وإزاحة كل الحجب التي تحجبنا عن رؤية الواقع، فيمكننا عندها إدراك المالك الحقيقي وعلّة الوجود بشكل واضح.

وهذا الرجوع إلى الله لا يختصّ بالإنسان، بل إنّ كل الموجودات ترجع إلى خالق الوجود. وهذا الرجوع سيكون عن طريق تحوّل يشمل تمام عالم الوجود، كما يُشير إلى هذا المعنى القرآن بقوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [7] و{إِنَّ إِلىَ‏ رَبِّكَ الرُّجْعَى}. [8] فالنتيجة النهائية المتحصلة هنا هي أن جميع الموجودات ترجع إلى الله سبحانه، لكن لا يتقرب منه إلّا البعض منها.

القرب الإلهي في نظر الآيات والروايات

الآيات التي تتحدّث عن قرب الله تعالى بالنسبة لنا على أربعة أقسام:

أ. الآيات التي تدل على أصل وجود هذا القرب، ومؤداها أن الله سبحانه قريبٌ منا؛ مثل: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} [9].

ب. الآيات التي تدل على أن الله أقرب إلى الإنسان - بالقرب النسبي - من الآخرين؛ مثل: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيهِ مِنْکُمْ ولَکِنْ لا تُبْصِرُونَ} [10].

ج. الآيات التي تدل على أن الله سبحانه أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد ؛ مثل: {ولَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ ونَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [11].

د. الآيات التي تقول أن الله تعالى هو أقرب إلى الإنسان من نفسه من قبيل: {يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاکُمْ لِمَا يحْييکُمْ واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يحُولُ بَينَ الْمَرْءِ وقَلْبِهِ} [12].

أما البحث في المجموعات الثلاث الأُول فليس فيه مشکلٌ إلى حدٍ ما، أما المجموعة الرابعة فليس من السهل الکلام فيها، فکيف يکون الله سبحانه أقرب إلى الإنسان من نفس الإنسان؟

و على هذا الأساس لجأت بعض التفاسير إلى الاعتماد على ظاهر بعض النصوص في هذا الخصوص والتي تفسّر الحيلولة بالقدرة، فقالوا: إن المراد بقوله يحول بين المرء وقلبه "وأن الإنسان يصمم في بعض الأحيان على إنجاز عملٍ ما، وبعد ذلک يلقي الله في نفسه الندم ولم يسمح له بالاستمرار في تصميمه أو تحويله إلى واقعٍ عملي"[13]. وهذا معنىً متوسطٌ تقريباً، ولکننا إذا توفر لدينا دليلٌ عقلي يطابق مضمون الآية وتؤيّده أدلّةٌ أخرى وتعضده فلا داعي لأن نرفع أيدينا عن ظاهر الآية والتي تدل على أن الله يحول ويفصل بين الإنسان ونفسه، لأن الإنسان ليس بموجود صمدي لا جوف له، وإنما هو کسائر الموجودات الإمکانية أجوف. کما نقل المرحوم الکليني (قدس سره) هذا المفهوم في ضمن رواية عن الإمام أبي جعفر (ع) حيث قال: "إن الله عز وجل خلق ابن آدم أجوفاً"[14].

فإذا کان الإنسان أجوفاً يتخلّله الفراغ فإنّ إحاطة الحق الوجودية به هي فاصلة بين الإنسان ونفسه، وعليه فإن الله قريبٌ من کل أحد، وإذا کان الله قريباً فهو قريبٌ بکل أوصافه؛ لأنّ صفات الحق الذاتية هي عين ذاته، وإذا کان للصفات الذاتية[15] حضور، فإنّ الصفات الفعلية ستکون فعالةً ومؤثّرة تبعاً للصفات الذاتية[16].

بما أنّ الله محيطٌ بکل شيء[17]، فليس من المعقول أن يکون بعيداً عن أي شيءٍ، ولذا فقرب الله من العبد متحقّق وحاصل شاء العبد أم أبى.

و لکن إذا ما أراد الإنسان أن يقترب هو من الله سبحانه ويحقق هذه النسبة والإضافة فوسيلته إلى ذلک هي الطاعات والأعمال الصالحة. کما ورد عن الإمام الباقر (ع): "لَا يتَقَرَّبُ إِلَيهِ إِلَّا بِالطَّاعَة له[18]، وبهذه الکيفية فالطريق تبدأ بالولاية؛ أي: بالنصرة والمحبة، وإقامة أعمال القربى کالصلاة "الصلاة قربان کل تقي"[19] والزکاة التي قيل فيها: "إن الزکاة جعلت مع الصلاة قرباناً"[20] فهذه الأعمال تقرّب الإنسان من الله سبحانه وعند ما يحصل هذا القرب يکون الإنسان حبيباً لله والله حبيباً للإنسان، والآيات من قبيل قوله: {إِنْ کُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يحْبِبْکُمُ اللهُ}[21] ناظرة إلى هذه المحبّة المتبادلة[22].

کيف تکون الأعمال في طريق القرب إلى الله

إنّ القيام بکل عمل يحمل الصلاحية في نفسه للتقرّب إلى الله تعالى، وإنّ العامل لمثل هذا العمل يؤديه بنية التقرب إلى الله سبحانه؛ أي: إنّ الحسن الفعلي والفاعلي ملحوظان في العمل، فمثل هذه الأعمال تمهّد الأرضية الصالحة للتقرب من الله تعالى، وإذا ما أصبح العبد قريباً من الله فبإمکانه أن يستفيد من هذا القرب، والأعمال التي تتحلّى بمثل هذه الخصوصية تأتي على قسمين: فبعضها تکون بمنزلة الفريضة والأخرى بمنزلة النافلة. فکما أنّ نيل الجنة والفوز بها له فرائض ونوافل فکذلک الترقي والوصول إلى المراتب الإنسانية ـ وهو في الحقيقة مظهرٌ من مظاهر الجنة ـ له فرائضه ونوافله؛ أي: واجباته ومستحباته. والأمر الذي يحظى بأهميةٍ کبرى في هذا المسير ويرتقي إلى مرتبة الفريضة هو معرفة الله والإخلاص في العمل، وکلّما کانت المعرفة بدرجةٍ أعلى کلّما کان الإخلاص في العمل أکثر، وقد اعتبر القرآن الکريم العبادة وسيلة للوصول إلى المعرفة واليقين {وَاعْبُدْ رَبَّکَ حَتَّى يأْتِيکَ الْيقِينُ} [23]. ومن المسلَّمات أن هذا اليقين ليس هو الجزم بوجود المبدأ؛ لأنّ مثل هذا اليقين هو منشأ العبادة وعلّتها لا ثمرة من ثمارها البارزة والذي يعتبر من مقامات أولياء الله الصالحين؛ بل إنّ هذا اليقين هو يقينٌ بوجود الله بجميع صفاته المطلقة[24].

وأمّا بقية البرنامج الأخلاقي في طريق القرب فإنّها بمنزلة النافلة، کما يقول الإمام الصادق (ع): >فِيمَا أَوْحَى اللهُ عَزَّ وجَلَّ إِلَى دَاوُدَ (ع) يا دَاوُدُ کَمَا أَنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنَ اللهِ الْمُتَوَاضِعُونَ کَذَلِکَ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ اللهِ الْمُتَکَبِّرُونَ< [25].

لکن من الواضح أنه على الرغم من التنويه بحسن الخلق والتوصية به والإشادة بالإحسان، وإنها مما يقرب العبد من الله يبقى حکمها حکم النافلة والاستحباب، بينما يکون الأساس والأصل والمحور في هذا الطريق هو معرفة الحق تعالى والسير في طريق عبوديته، کما في قول الرسول الأکرم (ص): >يا أبا ذرّ اعبُد الله کأنک تراه، فإن لم تکن تراه فإنه يراک< [26]؛ أي: إنّ العبادة لا بد وأن تکون على أساس المعرفة الشهودية، فإن لم تکن ترى الله فإنه يراک.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) من موقع http://www.islamquest.net ، بتصرّف.

[1] سورة الأنعام، 103

[2] نهج البلاغة، الخطبة1.

[3]  سورة البقرة، 46.

[4]  سورة البقرة، 156.

[5]  سورة المؤمنون، 60.

[6]  الرازي، فخر الدين، مفاتيح الغيب، ج 3، ص 492، دار أحياء التراث العربي، الطبعة الثالثة، بيروت، 1420 ق.

[7] سورة هود، 123.

[8] سورة العلق، 8.

[9] سورة البقرة 186.

[10] سورة الواقعة 85.

[11] سورة ق، 16.

[12] سورة الأنفال، 24.

[13] الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، تفسير مجمع البيان، ج 4،ص820.

[14] الکليني، محمد بن يعقوب، الکافي، ج 6، ص282.

[15] أقسام الصفات الإلهية: 1. صفات الذات: ويکفي في انتزاعها ملاحظة الذات فقط کصفة "العلم" "القدرة"، "الحياة"..... 2. صفات الأفعال: وهذه الصفات لا يکفي في انتزاعها تصور الذات الإلهية وملاحظتها فقط، بل لا بد من تصور الذات وهي في مقام الفعل والإيجاد حال انتزاع هذه الصفات، ومن أمثال هذه الصفات: "الخالق" "الغفور" "الرازق" و .....

[16] جوادي آملي، عبد الله، حکمت عبادات" حکمة العبادة" القسم السابع. ص 213.

[17] سورة فصلت، 54.

[18] بحار الأنوار: ج 68، ص 176.

[19] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 1، الحديث637.

[20] نهج البلاغة، الخطبة 190.

[21] آل عِمران 31.

[22] جوادي آملي، عبد الله، ولايت در قرآن" الولاية في القرآن" ص112.

[23] الحجر 99.

[24] جوادي آملي، عبد الله، الولاية في القرآن، ص 112.

[25] الري شهري، محمد (الحسيني سيد حميد)، منتخب ميزان الحکمة، الرواية رقم 5212.

[26] المجلسي، بحار الأنوار، ج 17، ص 74.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1889
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 01 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19