• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : العقائد في القرآن .
                    • الموضوع : النعيم الروحي في الآخرة كما يصفه القرآن الكريم .

النعيم الروحي في الآخرة كما يصفه القرآن الكريم

د. السيّد مهدي عيسى البطاط

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمدٍ وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.

أمّا بعد:

فإن الإنسان يتكون من روح وجسد، وأصله روحه، لذلك إذا أريد له النعيم أو العذاب فللروح النصيب الأوفر.

والنصّ الديني للمسلمين، وكذا علم الفلسفة، يثبتان أنّ هناك بقاءً للروح، وكذلك لابدّ للأرواح الصالحة أن تنعّم وللطالحة أن تعذّب، وهو ما يحكم به العقل السليم أيضاً.

إنّ علم الفلسفة لا يتطرّق إلى بيان الجزئيات وهي عنده مجهولة، وهذا ما بيّنته الآيات والروايات فالقرآن الكريم قد أشار في أماكن عدّة إلى بيان النعيم الروحي الذي يحظى به المؤمنون في الآخرة، وهو ـ بلا شك ـ أجمل وأشرف للإنسان من النعيم الجسدي.

ونحن في هذا البحث المختصر قد جمعنا بعض الآيات الكريمة وأعقبنا بعضها بروايات وأدرجناها تحت عناوين متعدّدة، وذكرنا في أغلب المواضع توضيحات وتعليقات المفسّرين ذيل الآيات المتعلّقة بذلك المطلب.

ولا بأس بأن نذكر ما للترغيب والترهيب الأخروي من أثر على النفوس، ويُعّد بيان هذه المسائل من أهمّ أساليب التبليغ الديني الناجحة، فعلى المبلّغين أن يتكلموا بما تكلّم به الله تعالى ويرغّبوا الناس بما رغّب سبحانه وتعالى به. وبعبارة أخرى: أن ينهجوا منهج القرآن في الدعوة.

ومن تلك النعم الأخروية للصالحين:

1ـ الترحيب

قال تعالى: ﴿حَتَّى إذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر/ 73].

إن هذه الآية تبيّن كيفية استقبال المؤمنين من قبل ملائكة الجنة والترحيب بهم مع البشارات.

و﴿طِبْتُمْ﴾ هنا بمعنى: لتكونوا طاهرين مطهّرين ونتمنّى لكم السعادة والسرور(1).

ولا يخفى على الإنسان ما في الاستقبال الحارّ من بسطٍ للنفس وإحساس بالعزّةِ والفخر، وهناك آيات أشارت إلى نفس المعنى، هي:

﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل/ 32].

﴿أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا﴾ [الفرقان/ 75].

﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ﴾ [ق / 34].(2)

2ـ الاحترام والتكريم

من الأمور التي تحتاجها نفسُ الإنسان هي احترام الآخرين، والإنسان السليم لا يبدل العزّة بالدنيا كلها إذا كان معها ذلّ ويعطي الدنيا كلّها من أجلِ أن لا تُسلب عزّته. فممّا يتمتّع به أهل الجنة هو الاحترام والتعظيم. وقد أشارت إلى ذلك آيات عديدة منها:

ـ ﴿أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ﴾ [المعارج/ 35].

يقول الشيخ مكارم ذيل هذه الآية: «لماذا لا يكونون مكرمين؟ وهم ضيوف الله، وقد وفَّر الله القادر الرحمن لهم جميع وسائل الضيافة، وفي الحقيقة إن هذين التعبيرين ﴿جَنَّاتٍ﴾، ﴿مُّكْرَمُونَ﴾ بإشارة إلى النِعم المادية والمعنوية التي يغرق فيها هؤلاء المكرمون» (3).

و ﴿مُّكْرَمُونَ﴾ كما قال صاحب مجمع البيان «أي: معظّمون مبجّلون» (4).

ـ ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾ [الأحزاب/ 44].

ـ ﴿وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا﴾ [النساء/ 31].

ـ ﴿فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ﴾ [الصافات / 42].

ويقول صاحب تفسير الكاشف ذيل هذه الآية: «وهذه الآية بإشارة إلى أن الفواكه والطعام والشراب مع الاهانة سموم وهموم»(5).

وقد أسقط تعالى في قوله: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾ الوسائط كلها ونسب سقيهم إلى نفسه، وهذا أفضل ما ذكره الله تعالى من النعيم الموهوب لهم في الجنة، ولعله من المزيد المذكور في قوله: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق: 35].(6)

فمن عظيم التکريم عبّر الله بأنه هو المضيف لهم کناية عن بيان قربهم ومكانتهم عند الله.

3ـ البُشرى

إن الله تعالى لم يترك نعمه إلا وأعطاها إلى أحبائه في الآخرة، ومن النعم التي يتلذّذ بها الإنسان هي البشرى؛ لذلك يُبشّر أهل الجنة بأعظم البشارات وذلك ما أشارت إليه الآيات الكريمة:

﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ...﴾ [يونس / 63، 64].

﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [الحديد / 12].

4 ـ الأمان

يقول صاحب تفسير الأمثل: «مِن أكبر نعم أهل الجنة، نعمة الأمان... وهذه النعمة من أكبر النعم المعنوية إذ أن فقدها ولو للحظةٍ واحدة مؤلم. ويدرك هذه الحقيقة من يعيش في الصحاري الخطرة أو في المناطق الحربية المتوقع فيها سقوط القنابل والانفجارات في كل لحظة، فيعكر صفو الحياة وما أثقل مرور الثواني والساعات آنذاك»(7).

وترى المؤمنين في الجنة يتمتعون بأعلى درجات الأمان والطمأنينة ويشير إلى ذلك القرآن الكريم بقوله:

ـ ﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ [سبأ / 37].

ـ ﴿ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ [الأعراف / 48].

ـ ﴿وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ [النمل / 89].

ـ ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ﴾ [الحجر / 46].

5 ـ ذكر مفاخرهم

مذمومية العجب هو في دار الدنيا، لكن هناك تبتهج الأرواح بذكر فضائلها، لذلك ينُادون المؤمنين بانجازاتهم وافتخاراتهم:

ـ ﴿وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف / 43].

ـ ﴿يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد/ 24].

ومن عظيم إنجازاتهم هو الصبر الذي أشارت إليه هذه الآية وكان سبباً لنيل الجنة.

ـ ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [الحاقة / 42].

هذا هنيئاً مريئاً لكم فأنتم أهلٌ لذلك وهذا ما حصلتم عليه بجدارتكم لما قدمتم لأنفسكم ونجحتم في الاختبار.

6ـ الفرح والسرور

فإنَّ الجنة ليس فيها حزنٌ ولا ألمٌ وإنما هي فَرَحٌ في فرح. كما قال عنها خالقها الكريم:

ـ ﴿إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ...﴾ [الطور / 17، 18].

وأيضاً: ﴿إنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ﴾ [يس / 55].

وأيضاً: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر / 34].

وأيضاً: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق / 7، 8، 9].

ـ ﴿فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾ [الإنسان / 11].

فهذا ما يلقاه عباد الرحمن الصالحون.

7ـ النشاط والانتعاش

وهو علامة السعادة والراحة ولا أحد أسعد من أهل الجنة فهم في نشاطٍ دائم لا يزول؛ وذلك لأنه:

ـ ﴿لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ﴾ [الحجر / 48].

ـ ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ...﴾ [يونس / 86].

ـ ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ﴾ [الزخرف / 70].

قال صاحب تفسير روح المعاني في معنى تحبرون «تسرّون سروراً يظهر أثرهُ، على وجوهكم»(8).

وقال الشيخ جواد مغنية في معنى ذلك: «تسرّون بلطفِ الله وضيافتهِ»(9).

8 ـ صفاء الروح وطهارتها

فإن وجود الحقد والحسد وغيرهما من الرذائل الأخلاقية في قلب الإنسان يكون سبباً لتعاسة الحياة وحزن القلب وانجلاء الراحة من النفس وكما جاء في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الحسود مغموم...»(10).

لذلك قد طهّر الله قلوب أهل الجنة من كل دنسٍ خبيث، وهذا سبب للسعادة كما يقول تعالى:

ـ ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر / 47].

وعكسهم أهل النار إذ يدخلونها ومعهم أمراضهم الأخلاقية وهذا ما يزيد العذاب عليهم أضعافاً مضاعفة.

﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ﴾ [الأعراف/ 38].

9ـ المحبوبية

قد ينتحر البعض عندما يفتقدُ من يحبّه وقد تتكدّر الحياة عند الشعور بالكراهية، وكم هو سعيد مَن يشعر أنّ مَن يحبّهم يحبّونه، فالصالحين في الجنة منعّمون بأنقى أنواع الحب وأعلى درجة منه، فقد أشار القرآن إلى عشق الحور العين للمؤمن بقوله:

﴿عُرُبًا أَتْرَابًا﴾ [الواقعة / 37].

يقول صاحب كتاب التحقيق في تعريف لفظة (عُرباً): «أنها المرأة التي تحب زوجها أو تعشقه»(11).

وفي رواية جميلة عن الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا المضمون: «إذا كان المؤمن يُحاسب، تنتظره أزواجه على عتبات الأبواب... فيجيء الرسول فيبشّرهن فيقول: قد والله انقلب فلان من الحساب قال: فيقلن: بالله؟ فيقول: قد والله لقد رأيته انقلب من الحساب، قال: فإذا جاءهن قُلن: مرحباً وأهلاً. ما أهلك الذين كنت عندهم في الدنيا بأحق بك منّا»(12).

10- مرافقة الأحباب:

ـ ﴿وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء / 69].

حقاً فلا أحد أسعد ممن يرافق كهؤلاء.

ـ ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ...﴾ [الرعد / 23].

وكم هي سعادة عظيمة أن يكون الإنسان في نعمة ويشاركه فيها مَن يحب؛ ممن كان كدّهُ وسعيه عليهم وهو يراهم اليوم بأحسن حال معه دون كدٍ ولا تعب. وكذلك من كان في الدنيا يصعب عليه فراقهم ويتألّم لفقدهم فها هم معه في رحمة ونعيم خالد لا ينغصه فيهم شيء.

وفي مقابل ذلك أهل النار إذ يقرنون مع الشياطين ومع مَن يتعوّذون مِن عذابهم، والآيات والروايات في ذلك كثيرة منها:

﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف/ 36].

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «... فكيف إذا كان بين طابقين من نارٍ ضجيع حجرٍ وقرين شيطان...» (13).

11- مزاحات لطيفة

ـ ﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾ [الطور / 23].

«أي: يتجاذبون الكؤوس في الجنة هم وجلساؤهم تجاذب ملاعبة كما يفعل الندامى فيما بينهم لشدة سرورهم»(14).

12- هدايا وجوائز

فهكذا يتعامل الله مع أحبّائه وهو يريد أن يفرحهم بكل ما هو باعث للفرح، لذلك كانت لديهم من الهدايا النصيب الوافر فلا يخفى ما للهدايا والجوائز من لذّة وفرحة خصوصاً من الغنيّ المطلق والكريم المطلق . قال تعالى :﴿لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق / 35].

جاء ذيل هذه الآية في تفسير الأصفى قوله: «تؤتى لأهل الجنة في وقت المزيد ثلاث تحف ليسا في الجنات مثلهن: احديها هدية ليس عندهم في الجنات مثلها وذلك قوله تعالى:

﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة / 17].

والثانية: السلام عليهم من ربهم فتزيد ذلك على الهدية وهو قوله:

﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ [يس / 58].

والثالثة: يقول الله تعالى إني عنكم راضٍ وهو أفضل من الهدية...»(15).

13- لهم ما يشاءون

هم أصحاب الاختيار والرأي والأمر والنهي بعد أن حُرم الكثير منهم في دار الدنيا من كثير مما يريدون. وتصف ذلك الآيات القرآنية بقولها:

ـ ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ﴾ [النحل / 31].

ـ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ [الشورى / 22].

أي: لا يوصف، ولا تهتدي العقول إلى كنه صفته، لأنّ الحق إذا قال كبير فمن ذا الذي يقدّر قدره(16).

ويقول صاحب تفسير التحرير والتنوير عن قوله تعالى: ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ «والعندية تشرف لمعنى الاختصاص الذي أفادته اللام في قوله ﴿لَهُم﴾ وعناية بما يعطونه من رغبة والمعنى: ما يشاءونه حق لهم محفوظ عند ربهم»(17).

14- الشأن الرفيع

ـ ﴿إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ [القمر / 54، 55].

يقول الشيخ جواد مغنية: «إن الله سبحانه ذكر في غير مكان من كتابه إنّ أهل الجنة يتنعمون فيها بلذةٍ معنوية لا حسيّة، كحب الله لهم، ومرضاته عنهم وارتفاع شأنهم عنده من ذلك قوله تعالى: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾(18).

ويقول صاحب تفسير البحر المديد: ﴿عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ أي: مقربين عند مليك قادر لا يقدر قدر ملكه وسلطانه، فلا شيء إلاّ وهو تحت ملكوته، سبحانه، ما أعظم شأنه. والعندية: عندية منزلة وكرامة وزلفى، لا مسافة ولا محاسبة»(19).

والعلاّمة السيّد الطباطبائي يقول ذيل هذه الآية: «والمراد بالصدق، صدق المتقين في إيمانهم وعملهم أضيف إليه المقعد لملابسة ما، ويمكن أن يراد به كون مقامهم ومالهم فيه صدقاً لا يشوبه كذب فلهم حضور لا غيبة معه، وقرب لا بعد معه، ونعمة لا نقمة معها، وسرور لا غمّ معه، وبقاء لا فناء معه»(20).

15- خبر الخلود

كل صاحب نعمة ينغص نعيمه فكرة زوالها بموته أو بخرابها أو بأمور كثيرة، ولكن الهناء الحقيقي في أن يحس الإنسان أن النعمة التي هو فيها دائمة وغير زائلة وخالدة ولا يأخذها أحد منه ولا يهدّدها شيء ولا هو يموت ويفارقها، وهذا حس عظيم يجعل الإنسان يهنأ أشد الهناء، وهو من الأحاسيس التي ليس لها نظير في الدنيا، لكن بإمكان الإنسان أن يتصوّر جانباً منها هنا ويعرف مدى قيمتها، وقد ورد الكلام عن هذا الإحساس في العديد من الآيات القرآنية:

﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾(21) وفي المقابل هم يقولون: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾(22).

16- رضى الرب

ـ ﴿وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة / 72].

وهذا أكبر النعم على الإطلاق وهو ما صرّح به القرآن.

يقول صاحب مجمع البيان: «رضى الله تعالى عنهم أكبر من ذلك كله»(23).

ويقول أحمد بن عجيبة صاحب التفسير المديد: ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ﴾ لأنه المبدأ لكل سعادة وكرامة والمؤدي إلى نيل الوصول الفوز باللقاء.

وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: «إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا: وأيّ شيءٍ أفضل من ذلك. قال: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً...».

قد أعدّ الله لأهل الإيمان الحقيقي الذين بذلوا مهجهم وأموالهم في مرضاته، جنات المعارف، تجري من تحت أفكارهم أنهار العلوم والحكم ومساكن طيبة في عكوف أرواحهم في الحضرة. متلذّذين بحلاوة الذكر والنضرة في محل المشاهدة والمكالمة والمساررة والمناجاة ورضوان من الله الذي هو نعيم الأرواح أكبر من كل شيء لأن نعيم الأرواح أجل وأعظم من نعيم الإشباع»(24).

الخلاصة

إن النعيم الروحي هو أعلى مرتبة من النعيم الجسدي؛ لذلك فإنّ الله تعالى قد أعدَّ لأوليائه كل ما هو منعم لأرواحهم، وقد ذكرنا عدّة أمور استخرجناها من الآيات القرآنية في بيان النعيم الروحي للمؤمنين وهي: الترحيب بهم عند دخولهم الجنة، احترامهم، الفرح والسرور، النشاط والانتعاش، المحبوبية، ذكر المفاخر، البُشرى، الأمان، صفاء الروح وطهارتها، مرافقة الأحباب، لهم ما يشاءون، الشأن الرفيع، رضى الرب والذي هو أكبر من جميع النعم. وفّقنا الله للأيمان والعمل الصالح.

نحن بحاجة إلى أن نذكّر أنفسنا والناس بما أخبرنا الله تعالى بما سيلاقينا غداً، وذلك ـ بلا شك ـ له أثر في صلاح النفس.

________________

(1) تفسير الأمثل، ج 15، ص 168.

(2) ومن اللافت أن حال الكافرين عكس ذلك تماماً فهم على ما عليه من العذاب وسوء العاقبة يقابلون بالّلوم والتوبيخ. فهو يتلوع ويصرخ في جهنم والملائكة يخاطبونهم لم لم تصدقوا المرسلين لم لم تكونوا من المصلين و... ونحن نرى أن أشد ما يمر به من وقع في مشكلة ومصيبة أن يواجه باللوم من الآخرين لماذا لم تنتبه لماذا ولماذا فهذا اللوم يزيد عذابه ضعفين

(3) نفس المصدر، ج 19، ص 31.

(4) تفسير مجمع البيان، ج 8، ص 692.

(5) تفسير الكاشف، ج 6، ص 338.

(6) الميزان في تفسير القرآن، ج‏20، ص 131.

(7) پيام قرآن، ج 6، ص 284، مع الترجمة.

(8) تفسير روح المعاني، ج 13، ص 98.

(9) التفسير المبين، ص 654.

(10) مستدرك الوسائل، ج 12، ص 18.

(11) التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج 8، ص 74.

(12) بحار الأنوار، ج 8، ص 198.

(13) بحار الأنوار، ج 8، ص 306. من نهج البلاغة كذلك.

(14) تفسير المراغي، ج 27، ص 26.

(15) تفسير الأصفى، ج 2، ص 1203.

(16) الجامع لأحكام القرآن، ج 16، ص 20.

(17) التحرير والتنوير، ج 25، ص 143.

(18) تفسير الكاشف، ج 7، ص 68.

(19) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، ج 5، ص 536.

(20) تفسير الميزان، ج 19، ص 89.

(21) الزمر، 73

(22) المصدر السابق.

(23) مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 5، ص 77.

(24) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، ج 2، ص 405.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2455
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 02 / 19
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19