00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص ( 97 ـ 198) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء الأول )   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

[97]

(بحث روائي)

 إستفاضت الروايات عن أئمة أهل البيت عليه السلام أنهم قالوا: (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين الحديث). وفي العيون بعدة طرق لما إنصرف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من صفين قام إليه شيخ ممن شهد الواقعة معه فقال يا أمير المؤمنين أخبرنا من مسيرنا هذا أبقضاء من الله وقدر، فقال له أمير المؤمنين (أجل يا شيخ فو الله ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد الا بقضاء من الله وقدر)، فقال الشيخ عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين فقال: (مهلا يا شيخ لعلك تظن قضاء حتما وقدرا لازما، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والامر والنهي والزجر، ولسقط معنى الوعد والوعيد، ولم تكن على مسئ لائمة ولا لمحسن محمدة، ولكان المحسن أولى باللائمة من المذنب والمذنب أولى بالاحسان من المحسن، تلك مقالة عبدة الاوثان وخصماء الرحمن وقدرية هذه الامة ومجوسها. يا شيخ إن الله كلف تخييرا ونهى تحذيرا، وأعطى على القليل كثيرا ولم يعص مغلوبا، ولم يطع مكروها ولم يخلق السموات والارض وما بينهما باطلا. ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار الحديث). أقول: قوله: بقضاء من الله وقدر إلى قوله: عند الله أحتسب عنائي. ليعلم أن من أقدم المباحث التي وقعت في الاسلام موردا للنقض والابرام، وتشاغبت فيه الانظار مسألة الكلام ومسألة القضاء والقدر وإذ صوروا معنى القضاء والقدر وإستنتجوا نتيجتة فإذا هي أن الارادة الالهية الازلية تعلقت بكل شئ من العالم فلا شئ من العالم موجودا على وصف الامكان، بل إن كان موجودا فبالضرورة، لتعلق الارادة بها واستحالة تخلف مرادة تعالى عن إرادتة، وان كان معدوما فبالامتناع لعدم تعلق الارادة بها وإلا لكانت موجودة، وإذا اطردت هذه القاعدة في الموجودات وقع الاشكال في الافعال الاختيارية الصادرة منا فانا نرى في بادي النظر أن نسبة هذه الافعال وجودا وعدما الينا متساوية، وإنما يتعين واحد من الجانبين بتعلق الارادة به

[ 98 ]

بعد إختيار ذلك الجانب فأفعالنا إختيارية، والارادة مؤثرة في تحققه سبب في إيجاده، ولكن، فرض تعلق الارادة الالهية الازلية المستحيلة التخلف بالفعل يبطل إختيارية الفعل أولا، وتأثير إرادتنا في وجود الفعل ثانيا وحينئذ لم يكن معنى للقدرة قبل الفعل على الفعل، ولا معنى للتكليف لعدم القدرة قبل الفعل وخاصة في صورة الخلاف والتمرد فيكون تكليفا بما لا يطاق، ولا معنى لاثابة المطيع بالجبر لانه جزاف قبيح، ولا معنى لعقاب العاصي بالجبر لانه ظلم قبيح إلى غير ذلك من اللوازم، وقد إلتزم الجميع هؤلاء الباحثون فقالوا القدرة غير موجودة قبل الفعل، والحسن والقبح أمران غير واقعيين لا يلزم تقيد أفعاله تعالى بهما بل كل ما يفعله فهو حسن ولا يتصف فعله تعالى بالقبح، فلا مانع هناك من الترجيح بلا مرجح، ولا من الارادة الجزافية، ولا من التكليف بما لا يطاق، ولا من عقاب العاصي وإن لم يكن النقصان من قبله إلى غير ذلك من التوالي تعالى عن ذلك. وبالجملة كان القول بالقضاء والقدر في الصدر الاول مساوقا لارتفاع الحسن والقبح والجزاء بالاستحقاق ولذلك لما سمع الشيخ منه عليه السلام كون المسير بقضاء وقدر قال وهو في مقام التأثر واليأس: عند الله أحتسب عنائي أي إن مسيري وإرادتي فاقدة الجدوى من حيث تعلق الارادة الالهية بها فلم يبق لي إلا العناء والتعب من الفعل فأحتسبه عند ربي فهو الذي أتعبني بذلك فأجاب عنه الامام عليه السلام بقوله: لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب الخ، وهو أخذ بالاصول العقلائية التي أساس التشريع مبني عليها واستدل في آخر كلامه عليه السلام بقوله: ولم يخلق السموات والارض وما بينهما باطلا الخ، وذلك لان صحة الارادة الجزافية التي هي من لوازم ارتفاع الاختيار يوجب إمكان تحقق الفعل من غير غاية وغرض وهو يوجب امكان إرتفاع الغاية عن الخلقة والايجاد، وهذا الامكان يساوق الوجوب، فلا غاية على هذا التقدير للخلقة والايجاد، وذلك خلق السموات والارض وما بينهما باطلا، وفيه بطلان المعاد وفيه كل محذور، وقوله ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكروها كان المراد لم يعص والحال أن عاصيه مغلوب بالجبر ولم يطع والحال أن طوعه مكروه للمطيع. وفي التوحيد والعيون عن الرضا عليه السلام قال: ذكر عنده الجبر والتفويض فقال:

[ 99 ]

ألا أعلمكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلا كسرتموه ؟ قلنا إن رأيت ذلك، فقال إن الله عز وجل لم يطع بإكراه، ولم يعص بغلبة ولم يهمل العباد في ملكة، هو المالك لما ملكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه فان إئتمر العباد بطاعته لم يكن الله منها صادا، ولا منها مانعا وان إئتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وان لم يحل فعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه ثم قال عليه السلام من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه. اقول: قد عرفت أن الذي ألزم المجبرة أن قالوا بما قالوا هو البحث في القضاء والقدر وإستنتاج الحتم واللزوم فيهما وهذا البحث صحيح وكذلك النتيجة أيضا نتيجة صحيحة غير أنهم اخطأوا في تطبيقها، واشتبه عليهم أمر الحقائق والاعتباريات، واختلط عليهم الوجوب والامكان، توضيح ذلك أن القضاء والقدر على تقدير ثبوتهما ينتجان أن الاشياء في نظام الايجاد والخلقة على صفة الوجوب واللزوم فكل موجود من الموجودات وكل حال من أحوال الموجود مقدرة محدودة عند الله سبحانه، معين له جميع ما هو معه من الوجود وأطواره واحواله لا يتخلف عنه ولا يختلف، ومن الواضح أن الضرورة والوجوب من شؤون العلة فإن العلخ التامة هي التي إذا قيس إليها الشئ صار متصفا بصفة الوجوب وإذا قيس إلى غيرها أي شئ كان لم يصر إلا متصفا بالامكان، فانبساط القدر والقضاء في العالم هو سريان العلية التامة والمعلولية في العالم بتمامه وجميعه، وذلك لا ينافي سريان حكم القوة والامكان في العام من جهة أخرى وبنظر آخر فالفعل الاختياري الصادر عن الانسان بإرادته إذا فرض منسوبا إلى جميع ما يحتاج إليه في وجوده من علم وإرادة وأدوات صحيحة ومادة يتعلق بها الفعل وسائر الشرائط الزمانية والمكانية كان ضروري الوجود، وهو الذي تعلقت به الارادة الالهية الازلية لكن كون الفعل ضروريا بالقياس إلى جميع أجزاء علته التامة ومن جهتها لا يوجب كونه ضروريا إذا قيس إلى بعض أجزاء علته التامة كما إذا قيس الفعل إلى الفاعل دون بقية أجزاء علته التامة فإنه لا يتجاوز حد الامكان، ولا يبلغ البتة حد الوجوب فلا معنى لما زعموه أن عموم القضاء وتعلق الارادة الالهية بالفعل يوجب زوال القدرة وارتفاع الاختيار، بل الارادة الالهية إنما تعلقت بالفعل بجميع شؤونه وخصوصيانه الوجودية ومنها إرتباطاته بعلله وشرائط وجوده، وبعبارة أخرى تعلقت الارادة

[ 100 ]

الالهية بالفعل الصادر من زيد مثلا لا مطلقا بل من حيث أنه فعل إختياري صادر من فاعل كذا في زمان كذا ومكان كذا فإذن تأثير الارادة الالهية في الفعل يوجب كون لفعل إختياريا وإلا تخلف متعلق الارادة الالهية عنها فإذن تأثير الارادة الالهية في صيرورة الفعل ضروريا يوجب كون الفعل إختياريا أي كون الفعل ضروريا بالنسبة إلى الارادة الالهية ممكنا إختياريا بالنسبة إلى الرادة الانسانية الفاعلية، فالارادة في طول الارادة وليست في عرضها حتى تتزاحما، ويلزم من تأثير الارادة الالهية بطلان تأثير الارادة الانسانية فظهر أن ملاك خطأ المجبرة فيما أخطأوا فيه عدم تمييزهم كيفية تعلق الارادة الالهية بالفعل، وعدم فرقهم بين الارادتين الطوليتين وبين الارادتين العرضيتين وحكمهم ببطلان تأثير إراد العبد في الفعل لتعلق إرادة الله تعالى به. والمعتزلة وإن خالفت المجبرة في إختيارية افعال العبد وسائر اللوازم إلا إنهم سلكوا في أثباته مسلكا لا يقصر من قول المجبرة فسادا، وهو أنهم سلموا للمجبرة أن تعلق ارادة الله بالفعل يوجب بطلان الاختيار، ومن جهة أخرى أصروا على اختيارية الافعال الاختيارية فنفوا بالاخرة تعلق الارادة الالهية بالافعال فلزمهم إثبات خالق آخر للافعال وهو الانسان، كما أن خالق غيرها هو الله سبحانه فلزمهم محذور الثنوية، ثم وقعوا في محاذير اخرى أشد مما وقعت فيه المجبرة، كما قال عليه السلام: مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه الحديث. فمثل هذا مثل المولى من الموالي العرفية يختار عبدا من عبيده ويزوجه إحدى فتياته ثم يقطع له قطيعة ويخصه بدار وأثاث وغير ذلك مما يحتاج إليه الانسان في حيوته إلى حين محدود وأجل مسمى، فإن قلنا إن المولى وإن اعطى لعبده ما أعطى وملكه ما ملك فإنه لا يملك وأين العبد من الملك كان ذلك قول المجبرة، وان قلنا أن للمولى باعطائه المال لعبده وتمليكه جعله مالكا وإنعزل هو عن المالكية وكان المالك هو العبد كان ذلك قول المعتزلة، ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين وقلنا: أن المولى مقامه في المولوية وللعبد مقامه في الرقية وإن العبد إنما يملك في ملك المولى، فالمولى مالك في عين أن العبد مالك فهنا ملك على ملك كان ذلك القول الحق الذى رآه أئمة أهل البيت عليه السلام، وقام عليه البرهان هذا

[ 101 ]

وفي الاحتجاج فيما سأله عباية بن ربعي الاسدي عن أمير المؤمنين على عليه السلام في معنى الاستطاعة، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: تملكها من دون الله أو مع الله ؟ فسكت عباية بن ربعي فقال له قل يا عباية، قال: وما أقول يا امير المؤمنين ؟ قال: تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك فإن ملككها كان ذلك من عطائه وإن سلبكها كان ذلك من بلائه وهو المالك لما ملكك والقادر على ما عليه أقدرك الحديث. أقول: ومعنى الرواية واضح مما بيناه آنفا. وفي شرح العقائد للمفيد قال: وقد روى عن أبي الحسن الثالث عليه السلام إنه سئل عن أفعال العباد أهي مخلوقة لله تعالى ؟ فقال عليه السلام: لو كان خالقا لها لما تبرا منها وقد قال سبحانه: إن الله برئ من المشركين ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنما تبرا من شركهم وقبائحهم. اقول للافعال جهتان: جهة ثبوت ووجود، وجهة الانتساب إلى الفاعل، وهذه الجهة الثانية هي التي تتصف بها الافعال باأنها طاعة أو معصية أو حسنه أو سيئة فإن النكاح والزنا لا فرق بينهما من جهة الثبوت والتحقق، وإنما الفرق الفارق هو أن النكاح موافق لامر الله تعالى، والزنا فاقد للموافقة المذكورة، وكذا قتل النفس بالنفس وقتل النفس بغير نفس، وضرب اليتيم تأديبا وضربه ظلما، فالمعاصي فاقدة لجهة من جهات الصلاح أو لموافقة الامر أو الغاية الاجتماعية بخلاف غيرها، وقد قال تعالى: (الله خالق كل شئ) الزمر - 62، والفعل شئ بثبوته ووجوده، وقد قال عليه السلام: (كل ما وقع عليه اسم شئ فهو مخلوق ما خلا الله الحديث) ثم قال تعالى: (الذي أحسن كل شئ خلقه) السجدة - 7، فتبين أن كل شئ كما أنه مخلوق فهو في أنه مخلوق حسن، فالخلقة والحسن متلازمان متصاحبان لا ينفك أحدهما عن الآخر أصلا، ثم إنه تعالى سمى بعض الافعال سيئة فقال: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) الانعام - 160، وهي المعاصي التي يفعلها الانسان بدليل المجازاة، وعلمنا بذلك أنها من حيث أنها معاص عدمية غير مخلوقة وإلا كانت حسنة، وقال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) الحديد - 22، وقال: (ما أصاب من مصيبة

[ 102 ]

إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه) التغابن - 11، وقال: (ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) الشورى - 30، وقال: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) النساء - 79، وقال: (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك، قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) النساء - 78، علمنا بذلك أن هذه المصائب إنما هي سيئات نسبية بمعنى أن الانسان المنعم بنعمة من نعم الله كالامن والسلامة والصحة والغنى يعد واجدا فإذا فقدها لنزول نازلة وإصابة مصيبة كانت النازلة بالنسبة إليه سيئة لانها مقارنة لفقد ما وعدم ما، فكل نازلة فهى من الله وليست من هذه الجهة سيئة وإنما هي سيئة نسبية بالنسبة إلى الانسان وهو واجد، فكل سيئة فهي أمر عدمي غير منسوب من هذه الجهة إلى الله سبحانه البتة وإن كانت من جهة أخرى منسوبة إليه تعالى بالاذن فيه ونحو ذلك. وفي قرب الاسناد عن البزنطي، قال: قلت: للرضا عليه السلام إن أصحابنا بعضهم يقول: بالجبر، وبعضهم بالاستطاعة فقال لي: (أكتب، قال الله تبارك وتعالى يا بن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوتي أديت إلي فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعا بصيرا قويا، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذلك اني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني، وذلك أني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون، فقد نظمت لك كل شئ تريد الحديث) وهو أو ما يقربه مروي بطرق عامية وخاصية اخرى وبالجملة فالذي لا تنسب إلى الله سبحانه من الافعال هي المعاصي من جهة أنها معاص خاصة، وبذلك يعلم معنى قوله عليه السلام في الرواية السابقة، لو كان خالقا لها لما تبرأ منها إلى قوله وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم الحديث. وفي التوحيد: عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام (قالا: إن الله عز وجل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها، والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون) قال: فسئلا عليها السلام هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة ؟ قالا نعم أوسع مما بين السماء والارض

[ 103 ]

وفي التوحيد عن محمد بن عجلان، قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام فوض الله الامر إلى العباد ؟ قال: (الله أكرم من أن يفوض إليهم) قلت: فأجبر الله العباد على أفعالهم فقال: (الله أعدل من أن يجبر عبدا على فعل ثم يعذبه عليه). وفي التوحيد أيضا عن مهزم، قال قال أبو عبد الله عليه السلام أخبرني عما اختلف فيه من خلفك من موالينا، قال: قلت: في الجبر والتفويض ؟ قال: فاسألني قلت: أجبر الله العباد على المعاصي ؟ قال: (الله أقهر لهم من ذلك) قلت: ففوض إليهم ؟ قال الله أقدر عليهم من ذلك، قال قلت فأي شئ هذا، أصلحك الله ؟ قال: فقلب يده مرتين أو ثلاثا ثم قال: (لو أجبتك فيه لكفرت). اقول: قوله عليه السلام: الله أقهر لهم من ذلك، معناه أن الجبر إنما هو لقهر من المجبر يبطل به مقاومة القوة الفاعلة، وأقهر منه وأقوى أن يريد المريد وقوع الفعل الاختياري من فاعله من مجرى إختياره فيأتي به من غير أن يبطل إرادته وإختياره إو ينازع إرادة الفاعل إرادة الآمر. وفي التوحيد أيضا عن الصادق عليه السلام قال: قال: (رسول الله: من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أن الخير والشر بغير مشية الله فقد أخرج الله من سلطانه) وفي الطرائف: روي أن الحجاج بن يوسف كتب إلى الحسن البصري وإلى عمرو بن عبيد وإلى واصل بن عطاء وإلى عامر الشعبي أن يذكروا ما عندهم وما وصل إليهم في القضاء والقدر، فكتب إليه الحسن البصري أن احسن ما انتهى إلي ما سمعت أمير المؤمنين علي بن ابى طالب عليه السلام، إنه قال: أتظن ان الذي نهاك دهاك ؟ وإنما دهاك أسفلك وأعلاك، والله برئ من ذاك). وكتب إليه عمرو بن عبيد أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (لو كان الزور في الاصل محتوما لكان المزور في القصاص مظلوما). وكتب إليه واصل بن عطاء أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (أيدلك على الطريق ويأخذ عليك المضيق ؟ وكتب إليه الشعبي أحسن ما سمعت في القضاء والقدر

[ 104 ]

قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (كلما استغفرت الله منه فهو منك، وكلما حمدت الله عليه فهو منه) فلما وصلت كتبهم إلى الحجاج ووقف عليها قال: لقد أخذوها من عين صافية. وفي الطرائف أيضا روى أن رجلا سأل جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن القضاء والقدر فقال: (ما أستطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل الله) يقول الله للعبد: لم عصيت، لم فسقت، لم شربت الخمر، لم زنيت ؟ فهذا فعل العبد، ولا يقول له لم مرضت، لم قصرت، لم إبيضضت، لم إسوددت ؟ لانه من فعل الله تعالى. وفي النهج سئل عليه السلام عن التوحيد والعدل فقال: (التوحيد أن لا تتو همه، والعدل أن لا تتهمه). اقول: والاخبار فيما مر متكاثرة جدا غير أن الذي نقلناه حاو لمعاني ما تركناه ولئن تدبرت فيما تقدم من الاخبار وجدتها مشتملة على طرق خاصة عديدة من الاستدلال. منها: الاستدلال بنفس الامر والنهي والعقاب و الثواب وأمثالها على تحقق الاختيار من غير جبر ولا تفويض، كما في الخبر المنقول عن امير المؤمنين علي عليه السلام فيما أجاب به الشيخ، وهو قريب المأخذ مما استفدناه من كلامه تعالى. ومنها: الاستدلال بوقوع امور في القرآن لاتصدق لو صدق جبر أو تفويض، كقوله تعالى: (لله ملك السموات والارض وقوله: (وما ربك بظلام للعبيد)، وقوله تعالى: (قل ان الله لا يأمر بالفحشاء الآية، ويمكن أن يناقش فيه بأن الفعل إنما هو فاحشة أو ظلم بالنسبة إلينا وأما إذا نسب إليه تعالى فلا يسمى فاحشة ولا ظلما فلا يقع منه تعالى فاحشة ولا ظلم، ولكن صدر الآية بمدلولها الخاص يدفعها فإنه تعالى يقول: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليه آبائنا والله أمرنا بهذا قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) الآية، فالاشارة بقوله بهذا يوجب أن يكون النفي اللاحق متوجها إليه سواء سمي فحشاء أو لم يسم.

[ 105 ]

ومنها: الاستدلال من جهة الصفات وهو أن الله تسمى بأسماء حسنى وإتصف بصفات عليا لا تصدق ولا تصح ثبوتها على تقدير جبر أو تفويض فانه تعالى قهار قادر كريم رحيم، وهذه صفات لا تستقر معانيها إلا عند ما يكون وجود كل شئ منه تعالى ونقص كل شئ وفساده غير راجع إلى ساحة قدسه كما في الروايات التي نقلناها عن التوحيد. ومنها: الاستدلال بمثل الاستغفار وعروض اللوم فان الذنب لو لم يكن من العبد لم يكن معنى لاستغفاره ولو كان الفعل كله من الله لم يكن فرق بين فعل وفعل في عروض اللوم على بعضها وعدم عروضه على بعض آخر. وهيهنا روايات أخر مروية فيما ينسب إليه سبحانه من معنى الاضلال والطبع والاغواء وغير ذلك. ففى العيون عن الرضا عليه السلام في قوله تعالى: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) قال عليه السلام (إن الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه لكنه متى علم إنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة و اللطف وخلى بينهم وبين اختيارهم). وفي العيون ايضا عنه عليه السلام في قوله تعالى: ختم الله على قلوبهم، قال: الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم، كما قال الله تعالى: بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا. وفي المجمع عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: إن الله لا يستحي الآية، هذا القول من الله رد على من زعم إن الله تبارك وتعالى يضل العباد ثم يعذبهم على ضلالتهم الحديث، أقول: قد مر بيان معناها.

(بحث فلسفي)

 لا ريب ان الامور التي نسميها أنواعا في الخارج هي التي تفعل الافاعيل النوعية، وهي موضوعاتها، فإنا انما أثبتنا وجود هذه الانواع ونوعيتها الممتازة عن غيرها

[ 106 ]

من طريق الآثار والافاعيل، بأن شاهدنا من طرق الحواس أفاعيل متنوعة وآثارا مختلفة من غير أن تنال الحواس في إحساسها امرا وراء الآثار العرضية، ثم أثبتنا من طريق القياس والبرهان علة فاعلة لها وموضوعا يقومها ثم حكمنا باختلاف هذه الموضوعات أعني الانواع لاختلاف الآثار والافاعيل المشهودة لنا، فالاختلاف المشهود في آثار الانسان وساير الانواع الحيوانية مثلا هو الموجب للحكم بأن هناك انواعا مختلفة تسمى بكذا وكذا ولها آثار وأفاعيل كذا وكذا، وكذا، الاختلافات بين الاعراض والافاعيل إنما نثبتها ونحكم بها من ناحية موضوعاتها أو خواصها. وكيف كان فالافاعيل بالنسبة إلى موضوعاتها تنقسم بانقسام أولى إلى قسمين: الاول: الفعل الصادر عن الطبيعة من غير دخل للعلم في صدوره كأفعال النشوء والنمو والتغذي للنبات والحركات للاجسام، ومن هذا القبيل الصحة والمرض وأمثال ذلك فإنها وأن كانت معلومة لنا وقائمة بنا الا أن تعلق العلم بها لا يؤثر في وجودها وصدورها شيئا وانما هي مستندة تمام الاستناد إلى فاعلها الطبيعي، والثاني: الفعل الصادر عن الفاعل من حيث أنه معلوم تعلق به العلم كما في الافعال الارادية للانسان وساير ذوات الشعور من الحيوان، فهذا القسم من الفعل انما يفعله فاعله من حيث تعلق العلم به وتشخيصه وتمييزه، فالعلم فيه انما يفيد تعيينه وتمييزه من غيره، وهذا التمييز والتعيين انما يتحقق من جهة انطباق مفهوم يكون كمالا للفاعل انطباقا بواسطة العلم، فإن الفاعل أي فاعل كان إنما يفعل من الفعل ما يكون مقتضى كماله وتمام وجوده فالفعل الصادر عن العلم إنما يحتاج إلى العلم من جهة أن يتميز عند الفاعل ما هو كمال له عن ما ليس بكمال له. ومن هنا ما نرى أن الافعال الصادرة عن الملكات كصدور أصوات الحروف منظمة عن الانسان المتكلم، وكذا الافعال الصادرة عنها مع اقتضاء ما ومداخلة من الطبيعة كصدور التنفس عن الانسان، وكذا الافعال الصادرة عن الانسان بغلبة الحزن أو الخوف أو غير ذلك كل ذلك لا يحتاج إلى ترو من الفاعل، إذ ليس هناك إلا صورة علمية واحدة منطبقة على الفعل والفاعل لاحالة منتظرة لفعلة، فيفعل البتة، واما الافعال التي لها صور علمية متعددة تكون هي من جهة بعضها مصداق

[ 107 ]

كمال الانسان حقيقة أو تخيلا، ومن جهة بعضها غير مصداق لكماله الحقيقي أو التخيلي كما أن الخبز بالنسبة إلى زيد الجائع كذلك فإنه مشبع رافع لجوعه ويمكن أن يكون مال الغير ويمكن أن يكون مسموما ويمكن ان يكون قذرا يتنفر عنه الطبع، وهكذا والانسان انما يتروى فيما يتروى لترجيح أحد هذه العناوين في انطباقه على الخبز مثلا، فإذا تعين أحد العناوين وسقطت بقيتها وصار مصداقا كمال الفاعل لم يلبث الفاعل في فعله أصلا، والقسم الاول: نسميه فعلا إضطراريا كالتأثيرات الطبيعية. والقسم الثاني: نسميه فعلا إراديا كالمشي والتكلم. والفعل الارادي: الصادر عن علم وارادة ينقسم ثانيا إلى قسمين: فإن ترجيح احد جانبي الفعل والترك إما مستند إلى نفس الفاعل من غير أن يتأثر عن آخر كالجائع الذي يتروى في أكل خبز موجود عنده حتى رجح أن يبقيه ولا يأكله لانه كان مال الغير من غير إذن منه في التصرف فانتخب الحفظ واختاره أو رجح الاكل فأكله إختيارا، وإما أن يكون الترجيح والتعيين مستندا إلى تأثير الغير كمن يجبره جبار على فعل بتهديده بقتل أو نحوه ففعله إجبارا من غير أن يكون متعينا بانتخابه واختياره والقسم الاول. يسمى فعلا اختياريا، والثاني فعلا اجباريا هذا، وانت تجد بجودة التأمل أن الفعل الاجباري وإن أسندناه إلى إجبار المجبر وأنه هو الذي يجعل أحد الطرفين محالا وممتنعا بواسطة الاجبار فلا يبقى للفاعل إلا طرف واحد، لكن الفعل الاجباري أيضا كالاختياري لا يقع إلا بعد ترجيح الفاعل المجبور جانب الفعل على الترك وإن كان الذي يجبره هو المتسبب إلى الفعل بوجه، لكن الفعل ما لم يترجح بنظر الفاعل وإن كان نظره مستندا بوجه إلى اجبار المجبر وتهديده لم يقع، والوجدان الصحيح شاهد على ذلك، ومن هنا يظهر أن تقسيم الافعال الارادية إلى إختيارية وجبرية ليس تقسيما حقيقيا ينوع المقسم إلى نوعين مختلفين بحسب الذات والآثار، فإن الفعل الارادي انما يحتاج إلى تعيين وترجيح علمي يعين للفاعل مجرى فعله، وهو في الفعل الاختياري والجبري على حد سواء، وأما أن ترجيح الفاعل في أحدهما مستند إلى رسله وفي آخر إلى آخر فلا يوجب إختلافا نوعيا يؤدي إلى اختلاف الآثار. ألا ترى أن المستظل تحت حائط إذا شاهد أن الحائط يريد أن ينقض، فخرج خائفا عد فعله هذا إختياريا ؟ وأما إذا هدده جبار بأنه لو لم يقم لهدم الحائط عليه، فخرج خائفا عد فعله هذا اجباريا من غير فرق

[ 108 ]

بين الفعلين والترجيحين أصلا غير أن أحد الترجيحين مستند إلى ارادة الجبار. فان قلت: كفى فرقا بين الفعلين أن الفعل الاختياري يوافق في صدوره مصلحة عند الفاعل وهو فعل يترتب عليه المدح والذم ويتبعه الثواب والعقاب إلى غير ذلك من الآثار، وهذا بخلاف الفعل الاجباري فانه لا يترتب عليه شئ من ذلك. قلت: الامر على ما ذكر، غير أن هذه الآثار انما هي بحسب اعتبار العقلاء على ما يوافق الكمال الاخير الاجتماعي، فهي آثار اعتبارية غير حقيقية، فليس البحث عن الجبر والاختيار بحثا فلسفيا لان البحث الفلسفي انما ينال الموجودات الخارجية وآثارها العينية، وأما الامور المنتهية إلى أنحاء الاعتبارات العقلائية، فلا ينالها بحث فلسفي ولا يشملها برهان البتة، وان كانت معتبرة في بابها، مؤثرة أثرها، فالواجب، أن نرد البحث المزبور من طريق آخر، فنقول: لا شك أن كل ممكن حادث مفتقر إلى علة، والحكم ثابت من طريق البرهان، ولا شك ايضا أن الشئ ما لم يجب لم يوجد إذ الشئ ما لم يتعين طرف وجوده بمعين كانسبته إلى الوجود والعدم بالسوية، ولو وجد الشئ وهو كذلك لم يكن مفتقرا إلى علة وهف، فإذا فرض وجود الشئ كان متصفا بالضرورة ما دام موجودا، وهذه الضرورة انما إكتسبها من ناحية العلة، فإذا أخذنا دار الوجود بأجمعها كانت كسلسلة مؤلفة من حلقات مترتبة متوالية كلها واجبة الوجود، ولا موقع لامر ممكن الوجود في هذه السلسلة. ثم نقول: هذه النسبة الوجوبية انما تنشأ عن نسبة المعلول إلى علتها التامة البسيطة أو المركبة من امور كثيرة كالعلل الاربع والشرائط والمعدات وأما إذا نسب المعلول المذكور إلى بعض أجزاء العلة أو إلى شئ آخر لو فرض كانت النسبة نسبة الامكان بالضرورة، بداهة أنه لو كانت بالضرورة كانت العلة التامة وجودها مستغنى عنه وهي علة تامة هف، ففي عالمنا الطبيعي نظامان: نظام الضرورة ونظام الامكان، فنظام الضرورة منبسط على العلل التامة ومعلولاتها ولا يوجد بين أجزاء هذا النظام أمر إمكاني البتة لا ذات ولا فعل ذات ونظام الامكان منبسط على المادة والصور التي في قوة المادة التلبس بها والآثار التي يمكنها أن تقبلها، فإذا فرضت فعلا من أفعال الانسان الاختيارية ونسبتها إلى تمام علتها، وهي الانسان والعلم والارادة

[ 109 ]

ووجود المادة القابلة وتحقق الشرائط المكانية والزمانية وإرتفاع الموانع، وبالجملة كل ما يحتاج إليه الفعل في وجوده كان الفعل واجبا ضروريا، وإذا نسب إلى الانسان فقط، ومن المعلوم أنه جزء من أجزاء العلة التامة كانت النسبة بالامكان. ثم نقول: سبب الاحتياج والفقر إلى العلة كما بين في محله كون الوجود (وهو مناط الجعل) وجودا إمكانيا، أي رابطا بحسب الحقيقة غير مستقل بنفسه، فما لم ينته سلسلة الربط إلى مستقل بالذات لم ينقطع سلسلة الفقر والفاقة. ومن هنا يستنتج اولا: أن المعلول لا ينقطع بواسطة استناده إلى علته عن الاحتياج إلى العلة الواجبة التي إليها تنتهي سلسلة الامكان. وثانيا: ان هذا الاحتياج حيث كان من حيث الوجود كان الاحتياج في الوجود مع حفظ جميع خصوصياته الوجودية وارتباطاته بعلله وشرائطه الزمانية والمكانية إلى غير ذلك. فقد تبين بهذا أمران الأول: أن الانسان كما أنه مستند الوجود إلى الارادة الالهية على حد سائر الذوات الطبيعية وأفعالها الطبيعية فكذلك أفعال الانسان مستنده الوجود إلى الارادة الالهية على حد سائر الذوات الطبيعية وأفعالها الطبيعية فكذالك أفعال الانسان مستندة الوجود إلى الارادة الالهية، فما ذكره المعتزلة من كون الافعال الانسانية غير مرتبطة الوجود بالله سبحانه وإنكار القدر ساقط من اصله، وهذا الاستناد حيث أنه إستناد وجودي فالخصوصيات الوجودية الموجودة في المعلول دخيلة فيه، فكل معلول مستند إلى علته بحده الوجودي الذي له، فكما أن الفرد من الانسان إنما يستند إلى العلة الاولى بجميع حدوده الوجودية من أب وأم وزمان ومكان وشكل وكم وكيف وعوامل أخر مادية، فكذلك فعل الانسان إنما يستند إلى العلة الاولى مأخوذا بجميع خصوصياته الوجودية، فهذا الفعل إذا إنتسب إلى العلة الاولى والارادة الواجبة مثلا لا يخرجه ذلك عما هو عليه ولا يوجب بطلان الارادة الانسانية مثلا في التأثير، فإن الارادة الواجبية إنما تعلقت بالفعل الصادر من الانسان عن إرادة وإختيار، فلو كان هذا الفعل حين التحقق غير إرادي وغير إختياري لزم تخلف إرادته تعالى عن مراده وهو محال، فما ذهب إليه المجبرة من الاشاعرة من أن تعلق الارادة الالهية بالافعال الارادية يوجب بطلان تأثير الارادة والاختيار فاسد جدا، فالحق الحقيق بالتصديق

[ 110 ]

أن الافعال الانسانية لها نسبة إلى الفاعل ونسبة إلى الواجب، وإحدى النسبتين لا توجب بطلان الاخرى لكونهما طوليتين لا عرضيتين. الثاني: أن الافعال كما أن لها إستنادا إلى عللها التامة (وقد عرفت أن هذه النسبة ضرورية وجوبية كسائر الموجودات المنسوبة إلى عللها التامة بالوجوب) كذلك لها إستنادا إلى بعض اجزاء عللها التامة كالانسان مثلا، وقد عرفت أن هذه النسبة بالامكان فكون فعل من الافعال ضروري الوجود بملاحظة علته التامة الضرورية لا يوجب عدم كون هذا الفعل ممكنا بنظر آخر، إذ النسبتان ثابتتان وهما غير متنافيتين كما مر فما ذكره جمع من الماديين من فلاسفة العصر الحاضر من شمول الجبر لنظام الطبيعة وإنكار الاختيار باطل جدا بل الحق أن الحوادث بالنسبة إلى عللها التامة واجبة الوجود بالنسبة إلى موادها وأجزاء عللها ممكنة الوجود، وهذا هو الملاك في أعمال الانسان وأفعاله فبنائه في جميع مواقف عمله على أساس الرجاء والتربية والتعليم ونحو ذلك، ولا معنى لابتناء الواجبات والضروريات على التربية والتعليم، ولا الركون إلى الرجاء فيها وهو ظاهر. كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فاحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون - 28. هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى إلى السماء فسويهن سبع سموات وهو بكل شئ عليم - 29.

(بيان)

 رجوع ثان إلى ما في بدء الكلام فإنه تعالى بعد ما بين في أول السورة ما بين أوضحة بنحو التلخيص بقوله: يا أيها الناس أعبدوا ربكم إلى بضع آيات، ثم رجع

[ 111 ]

إليه ثانيا وأوضحه بنحو البسطو التفصيل بقوله: كيف تكفرون إلى إثنتي عشرة آية، ببيان حقيقة الانسان وما أودعه الله تعالى فيه من ذخائر الكمال وما تسعه دائرة وجوده وما يقطعه هذا الموجود في مسير وجوده من منازل موت وحيوة ثم موت ثم حيوة ثم رجوع إلى الله سبحانه وإن إلى ربك المنتهي وفيه ذكر جمل ما خص الله تعالى به الانسان من مواهب التكوين والتشريع، أنه كان ميتا فأحياة ثم لا يزال يميته ويحييه حتى يرجعه إليه، وقد خلق له ما في الارض وسخر له السموات وجعله خليفته في الارض وأسجد له ملائكته وأسكن أباه الجنة وفتح له باب التوبة وأكرمه بعبادته وهدايته، وهذا هو المناسب لسياق قوله: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم الخ، فإن السياق سياق العتبى والامتنان. قوله تعالى: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا. الآية قريبة السياق من قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا إثنتين وأحييتنا إثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) المؤمن - 11، وهذه من الآيات التي يستدل بها على وجود البرزخ بين الدنيا والآخرة، فإنها تشتمل على إماتتين، فلو كان إحديهما الموت الناقل من الدنيا لم يكن بد في تصوير الاماتة الثانية من فرض حيوة بين الموتين وهو البرزخ، وهو إستدلال تام اعتني به في بعض الروايات ايضا، وربما ذكر بعض المنكرين للبرزخ أن الآيتين أعني قوله: كيف تكفرون الآية، وقوله: قالوا ربنا الآية، متحدتا السياق، وقد اشتملتا على موتين وحيوتين، فمدلولهما واحد، والآية الاولى ظاهرة في أن الموت الاول هو حال الانسان قبل ولوج الروح في الحيوة الدنيا، فالموت والحيوة الاوليان هما الموت قبل الحيوة الدنيا والحيوة الدنيا والموت والحيوة الثانيتان هما الموت عن الدنيا والحيوة يوم البعث، والمراد بالمراتب في الآية الثانية هو ما في الآية الاولى، فلا معنى لدلالتها على البرزخ، وهو خطأ فان الآيتين مختلفتان سياقا إذا المأخوذ في الاية الاولى، موت واحد وإماتة واحدة وإحيائان، وفي الآية الثانية إماتتان وإحيائان، ومن المعلوم أن الاماتة لا يتحقق لها مصداق من دون سابقة حيوة بخلاف الموت، فالموت الاول في الآية الاولى غير الاماتة الاولى في الآية الثانية، فلامح في قوله تعالى. أمتنا إثنتين وأحييتنا إثنتين، الاماتة الاولى هي التي بعد الدنيا والاحياء الاول بعدها للبرزخ والاماتة والاحياء الثانيتان للاخرة يوم البعث، وفي قوله تعالى: وكنتم أمواتا فأحياكم

[ 112 ]

إنما يريد الموت قبل الحيوة وهو موت وليس بإماتة والحيوة هي الحيوة الدنيا، وفي قوله تعالى: ثم إليه ترجعون حيث فصل بين الاحياء والرجوع بلفظ ثم تأييد لما ذكرنا هذا. قوله تعالى: وكنتم أمواتا، بيان حقيقة الانسان من حيث وجوده فهو وجود متحول متكامل يسير في مسير وجوده المتبدل المتغير تدريجا ويقطعه مرحلة مرحلة، فقد كان الانسان قبل نشأته في الحيوة الدنيا ميتا ثم حيي بإحياء الله ثم يتحول بإماتة وإحياء وهكذا وقد قال سبحانه: (وبدأ خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه) السجدة - 9، وقال تعالى: (ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) المؤمنون - 14، وقال تعالى: (وقالوا أإذا ضللنا في الارض أئنا لفي خلق جديد، بل هم بلقاء ربهم كافرون. قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم) السجدة - 11، وقال تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) طه - 55. والآيات كما ترى (وسنزيدها توضيحا في محالها) تدل على أن الانسان جزء من الارض غير مفارقها ولا مباين معها، إنفصل منها ثم شرع في التطور بأطواره حتى بلغ مرحلة أنشئ فيها خلقا آخر، فهو المتحول خلقا آخر والمتكامل بهذا الكمال الجديد الحديث، ثم يأخذ ملك الموت هذا الانسان من البدن نوع أخذ يستوفيه ثم يرجع إلى الله سبحانه، فهذا صراط وجود الانسان. ثم إن الانسان صاغه التقدير صوغا يرتبط به مع سائر الموجودات الارضية والسماوية من بسائط العناصر وقواها المنبجسة منها ومركباتها من حيوان ونبات ومعدن وغير ذلك من ماء أو هواء وما يشاكلها، وكل موجود من الموجودات الطبيعية كذلك، أي إنه مفطور على الارتباط مع غيره ليفعل وينفعل ويستبقي به موهبة وجوده غير أن نطاق عمل الانسان ومجال سعية أوسع، كيف ؟ وهذا الموجود الاعزل على أنه يخالط الموجودات الاخر الطبيعية بالقرب والبعد والاجتماع والافتراق بالتصرفات البسيطة لغاية مقاصده البسيطة في حيوته، فهو من جهة تجهيزة بالادراك والفكر يختص بتصرفات خارجة عن طوق سائر الموجودات بالتفصيل والتركيب والافساد والاصلاح، فما من موجود إلا وهو في تصرف الانسان، فزمانا يحاكي

[ 113 ]

الطبيعة بالصناعة فيما لا يناله من الطبيعة وزمانا يقاوم الطبيعة بالطبيعة، وبالجملة فهو مستفيد لكل غرض من كل شئ، ولا يزال مرور الدهور على هذا النوع العجيب يؤيده في تكثير تصرفاته وتعميق أنظاره ليحق الله الحق بكلماته، وليصدق قوله: (سخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه) الجاثية - 13، وقوله: (ثم استوى إلى السماء) البقرة - 29، وكون الكلام واقعا موقع بيان النعم لتمام الامتنان يعطي أن يكون الاستواء إلى السماء لاجل الانسان فيكون تسويتها سبعا أيضا لاجله، وعليك بزيادة التدبر فيه. فذاك الذي ذكرناه من صراط الانسان في مسير وجوده، وهذا الذي ذكرناه من شعاع عمله في تصرفاته في عالم الكون هو الذي يذكره سبحانه من العالم الانساني ومن أين يبتدي وإلى أين ينتهي. غير أن القرآن كما يعد مبدأ حيوته الدنيوية آخذة في الشروع من الطبيعة الكونية ومرتبطة بها (أحيانا) كذلك يربطها بالرب تعالى وتقدس، فقال تعالى: (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) مريم - 8، وقال تعالى: (إنه هو يبدئ ويعيد) البروج - 13، فالانسان وهو مخلوق مربى في مهد التكوين مرتضع من ثدي الصنع والايجاد متطور بأطوار الوجود يرتبط سلوكه بالطبيعة الميتة، كما انه من جهة الفطر والابداع مرتبط متعلق بأمر الله وملكوته، قال تعالى: (انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) يس - 82، وقال تعالى: (انما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) النحل - 40، فهذا من جهة البدء وأما من جهة العود والرجوع فيعد صراط الانسان متشعبا إلى طريقين طريق السعادة وطريق الشقاوة، فاما طريق السعادة فهو أقرب الطرق يأخذ في الانتهاء إلى الرفيع الاعلى ولا يزال يصعد الانسان ويرفعه حتى ينتهي به إلى ربه، وأما طريق الشقاوة فهو طريق بعيد يأخذ في الانتهاء إلى اسفل السافلين حتى ينتهي إلى رب العالمين، والله من ورائهم محيط، وقد مر بيان ذلك في ذيل قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم من سورة الفاتحة. فهذا اجمال القول في صراط الانسان، واما تفصيل القول في حيوته قبل الدنيا

[ 114 ]

وفيها وبعد الدنيا فسيأتي كل في محله، غير ان كلامه تعالى انما يتعرض لذلك من جهة ارتباطه بالهداية والضلال والسعادة والشقاء، ويطوي البحث عما دون ذلك الا بمقدار يماس غرض القرآن المذكور. وقوله تعالى: فسويهن سبع سموات، سيأتي الكلام في السماء في سورة حم السجدة انشاء الله تعالى. وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون - 30. وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين - 31. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم - 32. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون - 33.

(بيان)

 الآت تنبئ عن غرض انزال الانسان إلى الدنيا وحقيقة جعل الخلاقة في الارض وما هو آثارها وخواصها، وهي على خلاف سائر قصصه لم يقع في القرآن الا في محل واحد وهو هذا المحل.

[ 115 ]

قوله تعالى: واذ قال ربك الخ، سيأتي الكلام في معنى القول منه تعالى وكذا القول من الملائكة والشيطان انشاء الله. قوله تعالى: قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، إلى قوله: ونقدس لك. مشعر بأنهم انما فهموا وقوع الافساد وسفك الدماء من قوله سبحانه: اني جاعل في الارض خليفة، حيث أن الموجود الارضي بما انه مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية، والدار دار التزاحم، محدودة الجهات، وافرة المزاحمات، مركباتها في معرض الانحلال، وانتظاماتها واصلاحاتها في مظنة الفساد ومصب البطلان، لا تتم الحيوة فيها الا بالحيوة النوعية، ولا يكمل البقاء فيها الا بالاجتماع والتعاون، فلا تخلو من الفساد وسفك الدماء، ففهموا من هناك أن الخلافة المرادة لا تقع في الارض الا بكثرة من الافراد ونظام اجتماعي بينهم يفضي بالاخرة إلى الفساد والسفك و، الخلافة وهي قيام شئ مقام آخر لا تتم إلا بكون الخليفة حاكيا للمستخلف في جميع شؤنه الوجودية وآثاره وأحكامه وتدابيره بما هو مستخلف، والله سبحانه في وجوده مسمى بالاسماء الحسنى متصف بالصفات العليا، من اوصاف الجمال والجلال، منزه في نفسه عن النقص ومقدس في فعله عن الشر والفساد جلت عظمته، والخليفة الارضي بما هو كذلك لا يليق بالاستخلاف ولا يحكي بوجوده المشوب بكل نقص وشين الوجود الالهي المقدس المنزه عن جميع النقائص وكل الاعدام، فأين التراب ورب الارباب، وهذا الكلام من الملائكة في مقام تعرف ما جهلوه واستيضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا الخليفة، وليس من الاعتراض والخصومة في شئ والدليل على ذلك قولهم فيما حكاه الله تعالى عنهم: انك أنت العليم الحكيم حيث صدر الجملة بأن التعليلية المشعرة بتسلم مدخولها فافهم، فملخص قولهم يعود إلى ان جعل الخلافة انما هو لاجل ان يحكي الخليفة مستخلفه بتسبيحه بحمده وتقديسه له بوجوده، والارضية لا تدعه يفعل ذلك بل تجره إلى الفساد والشر، والغاية من هذا الجعل وهي التسبيح والتقديس بالمعنى الذي مر من الحكاية حاصلة بتسبيحنا بحمدك وتقديسنا لك، فنحن خلفائك أو فاجعلنا خلفاء لك، فما فائدة جعل هذه الخلافة الارضية لك ؟ فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله: أني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الاسماء كلها. وهذا السياق: يشعر اولا: بأن الخلافة المذكورة انما كانت خلافة الله تعالى،

[ 116 ]

لا خلافة نوع من الموجود الارضي كانوا في الارض قبل الانسان وانقروضوا ثم أراد الله تعالى أن يخلفهم بالانسان كما إحتمله بعض المفسرين، وذلك لان الجواب الذي اجاب سبحانه به عنهم وهو تعليم آدم الاسماء لا يناسب ذلك، وعلى هذا فالخلافة غير مقصورة على شخص آدم عليه السلام بل بنوه يشاركونه فيها من غير إختصاص، ويكون معنى تعليم الاسماء إيداع هذا العلم في الانسان بحيث يظهر منه آثاره تدريجا دائما ولو اهتدى إلى السبيل أمكنه أن يخرجه من القوة إلى الفعل، ويؤيد عموم الخلافة قوله تعالى (إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) الاعراف - 69، وقوله تعالى (ثم جعلناكم خلائف في الارض) يونس - 14، وقوله تعالى (ويجعلكم خلفاء الارض) النحل - 62. وثانيا: إنه سبحانه لم ينف عن خليفة الارض الفساد وسفك الدماء، ولا كذب الملائكة في دعويهم التسبيح والتقديس، وقررهم على ما ادعوا، بل انما أبدا شيئا آخر وهو أن هناك أمرا لا يقدر الملائكة على حمله ولا تتحمله ويتحمله هذا الخليفة الارضي فانه يحكي عن الله سبحانه أمرا ويتحمل منه سرا ليس في وسع الملائكة، ولا محالة يتدارك بذلك أمر الفساد وسفك الدماء، وقد بدل سبحانه قوله: قال إنى أعلم مالا تعلمون ثانيا بقوله: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض، والمراد بهذا الغيب هو الاسماء لا علم آدم بها فإن الملائكة ما كانت تعلم أن هناك أسماء لايعلمونها، لا أنهم كانوا يعلمون وجود أسماء كذلك ويجهلون من آدم أنه يعلمها، وإلا لما كان لسؤاله تعالى إياهم عن الاسماء وجه وهو ظاهر بل كان حالمقام أن يقتصر بقوله: قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم حتى يتبين لهم أن آدم يعلمها لا أن يسئل الملائكة عن ذلك، فإن هذا السياق يعطي أنهم ادعوا الخلافة وأذعنوا بإنتفائها عن آدم وكان اللازم أن يعلم الخليفة بالاسماء فسئلهم عن الاسماء فجهلوها وعلمها آدم، فثبت بذلك لياقته لها وإنتفائها عنهم، وقد ذيل سبحانه السؤال بقوله: إن كنتم صادقين، وهو مشعر بأنهم كانوا إدعوا شيئا كان لازمه العلم بالاسماء. وقوله تعالى: وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم، مشعر بأن هذه الاسماء أو أن مسمياتها كانوا موجودات أحياء عقلاء، محجوبين تحت حجاب الغيب وأن العلم بأسمائهم كان غير نحو العلم الذي عندنا بأسماء الاشياء، وإلا كانت الملائكة بانباء آدم إياهم بها

[ 117 ]

عالمين وصائرين مثل آدم مساوين معه، ولم يكن في ذلك اكرام لآدم ولا كرامة حيث علمه الله سبحانه أسماء ولم يعلمهم، ولو عملهم إياها كانوا مثل آدم أو أشرف منه، ولم يكن في ذلك ما يقنعهم أو يبطل حجتهم، وأي حجة تتم في أن يعلم الله تعالى رجلا علم اللغة ثم يباهي به ويتم الحجة على ملائكة مكرمين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون بأن هذا خليفتي وقابل لكرامتي دونكم ؟ ويقول تعالى أنبئوني باللغات التي سوف يضعها الآدميون بينهم للافهام والتفهيم إن كنتم صادقين في دعويكم أو مسئلتكم خلافتي، على أن كمال اللغة هو المعرفة بمقاصد القلوب والملائكة لا تحتاج فيها إلى التكلم، وانما تتلقى المقاصد من غير واسطة، فلهم كمال فوق كمال التكلم، وبالجملة فما حصل لملائكة من العلم بواسطة انباء آدم لهم بالاسماء هو غير ما حصل لآدم من حقيقة العلم بالاسماء بتعليم الله تعالى فأحد الامرين كان ممكنا في حق الملائكة وفي مقدرتهم دون الآخر، وآدم انما استحق الخلافة الالهية بالعلم بالاسماء دون انبائها إذ الملائكة انما قالوا في مقام الجواب: سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا، فنفوا العلم. فقد ظهر مما مر ان العلم بأسماء هؤلاء المسميات يجب أن يكون بحيث يكشف عن حقائقهم وأعيان وجوداتهم، دون مجرد ما يتكفله الوضع اللغوي من اعطاء المفهوم فهؤلاء المسميات المعلومة حقائق خارجية، ووجودات عينية وهى مع ذلك مستورة تحت ستر الغيب غيب السموات والارض، والعلم بها على ما هي عليها كان اولا ميسورا ممكنا لموجود أرضي لا ملك سماوي، وثانيا: دخيلا في الخلافة الالهية. والاسماء في قوله تعالى: وعلم آدم الاسماء كلها، جمع محلى باللام وهو يفيد العموم على ما صرحوا به مضافا إلى انه مؤكد بقوله: كلها، فالمراد بها كل اسم يقع لمسمى ولا تقييد ولا عهد، ثم قوله: عرضهم، دال على كون كل اسم أي مسماه ذا حيوة وعلم وهو مع ذلك تحت حجاب الغيب، غيب السموات والارض. واضافة الغيب إلى السموات والارض وان امكن أن يكون في بعض الموارد اضافة من، فيفيد التبعيض لكن المورد وهو مقام اظهار تمام قدرته تعالى واحاطته وعجز الملائكة ونقصهم يوجب كون اضافة الغيب إلى السموات والارض اضافة اللام، فيفيد أن الاسماء امور غائبة عن العالم السماوي والارضي، خارج محيط الكون، و إذا تأملت هذه الجهات

[ 118 ]

اعني عموم الاسماء وكون مسمياتها أولي حيوة وعلم وكونها غيب السموات والارض قضيت بإنطباقها بالضرورة على ما اشير إليه في قوله تعالى: (وان من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم) الحجر - 21، حيث أخبر سبحانه بأنه كل ما يقع عليه اسم شئ فله عنده تعالى خزائن مخزونة باقية عنده غير نافده، ولا مقدرة بقدر، ولا محدودة بحد، وأن القدر والحد في مرتبة الانزال والخلق، وأن الكثرة التي في هذه الخزائن ليست من جنس الكثرة العددية الملازمة للتقدير والتحديد بل تعدد المراتب والدرجات، وسيجئ بعض الكلام فيها في سورة الحجر انشاء الله تعالى. فتحصل ان هؤلاء الذين عرضهم الله تعالى على الملائكة موجودات عالية محفوظة عند الله تعالى، محجوبة بحجب الغيب، أنزل الله سبحانه كل اسم في العالم بخيرها وبركتها واشتق كل ما في السموات والارض من نورها وبهائها، وأنهم على كثرتهم وتعددهم لا يتعددون تعدد الافراد، ولا يتفاوتون تفاوت الاشخاص، وانما يدور الامر هناك مدار المراتب و الدرجات ونزول الاسم من عند هؤلاء انما هو بهذا القسم من النزول. وقوله تعالى: وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وكان هذان القسمان من الغيب النسبي الذي هو بعض السموات والارض، ولذلك قوبل به قوله: أعلم غيب السموات والارض، ليشمل قسمي الغيب أعني الخارج عن العالم الارضى والسماوي وغير الخارج عنه. وقوله تعالى: كنتم تكتمون، تقييد الكتمان بقوله: كنتم، مشعر بأن هناك امرا مكتوما في خصوص آدم وجعل خلافته، ويمكن أن يستظهر ذلك من قوله تعالى في الآية التالية: (فسجدوا الا ابليس أبى واستكبر وكان من الكافرين). فيظهر أن ابليس كان كافرا قبل ذلك الحين، وأن إبائه عن السجدة كان مرتبطا بذلك فقد كان أضمره هذا. ويظهر بذلك أن سجدة الملائكة وإباء إبليس عنها كانت واقعة بين قوله تعالى: قال اني أعلم ما لا تعلمون وبين قوله: اعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون، ويظهر السر أيضا في تبديل قوله: اني أعلم ما لا تعلمون ثانيا بقوله: اني أعلم غيب السموات والارض.

[ 119 ]

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام، قال: ما علم الملائكة بقولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، لو لا انهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء اقول: يمكن أن يشير بها إلى دورة في الارض سابقة على دورة بني آدم هذه كما وردت فيه الاخبار ولا ينافي ذلك ما مر أن الملائكة فهمت ذلك من قوله تعالى: إني جاعل في الارض خليفة، بل لا يتم الخبر بدون ذلك، والا كان هذا القول قياسا من الملائكة مذموما كقياس ابليس. وفي تفسير العياشي أيضا عنه عليه السلام قال زرارة: دخلت على أبي جعفر عليه لسلام فقال: أي شئ عندك من احاديث الشيعة فقلت: ان عندي منها شيئا كثيرا فقد هممت أن اوقد لها نارا فأحرقها فقال عليه السلام: وارها تنس ما أنكرت منها فخطر على بالي الآدميون فقال: ما كان علم الملائكة حيث قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ قال: وكان يقول أبو عبد الله عليه السلام: إذا حدث بهذا الحديث هو كسر على القدرية، ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: ان آدم عليه السلام كان له في السماء خليل من الملائكة، فلما هبط آدم من السماء إلى الارض استوحش الملك وشكى إلى الله تعالى وسأله أن يأذن له، فأذن له فهبط عليه فوجده قاعدا في قفرة من الارض، فلما رآه آدم وضع يده على رأسه وصاح صيحة، قال أبو عبد الله عليه السلام: يروون انه أسمع عامة الخلق فقال له الملك: يا آدم ما أراك الا وقد عصيت ربك وحملت على نفسك ما لا تطيق، اتدري ما قال لنا الله فيك فرددنا عليه ؟ قال: لا، قال: قال: اني جاعل في الارض خليفة، قلنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ فهو خلقك أن تكون في الارض أيستقيم أن تكون في السماء ؟ قال أبو عبد الله عليه السلام والله عزى بها آدم ثلثا. أقول: ويستفاد من الرواية ان جنة آدم كانت في السماء وسيجئ فيه روايات أخر أيضا. وفي تفسير العياشي ايضا عن أبي العباس عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته

[ 120 ]

عن قول الله: وعلم آدم الاسماء كلها، ما ذا علمه ؟ قال: الارضين والجبال والشعاب والاودية، ثم نظر إلى بساط تحته، فقال وهذا البساط مما علمه. وفي التفسير ايضا عن الفضيل بن العباس عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله: وعلم آدم الاسماء كلها، ما هي ؟ قال: أسماء الاودية والنبات والشجر والجبال من الارض. وفي التفسير أيضا عن داود بن سرحان العطار، قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فدعا بالخوان فتغذينا ثم دعا بالطست والدست سنانه فقلت: جعلت فداك، قوله: وعلم آدم الاسماء كلها، الطست والدست سنانه منه، فقال عليه السلام: الفجاج والاودية وأهوى بيده كذا وكذا. وفي المعاني عن الصادق عليه السلام: إن الله عز وجل علم آدم أسماء حججه كلها ثم عرضهم وهم أرواح على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين بأنكم أحق بالخلافة في الارض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم فقالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال الله تبارك وتعالى: يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبئهم بأسمائهم وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله عز ذكره، فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته، ثم غيبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم، وقال لهم: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون. أقول: وبالرجوع إلى ما مر من البيان تعرف معنى هذه الروايات وان لا منافاة بين هذه وما تقدمها، إذ قد تقدم أن قوله تعالى: وإن من شئ إلا عندنا خزائنه تعطي أنه مامن شئ إلا وله في خزائن الغيب وجود، وإن هذه الاشياء التي قبلنا إنما وجدت بالنزول من هناك، وكل اسم وضع بحيال مسمى من هذه المسميات فهى اسم لما في خزائن الغيب، فسواء قيل: إن الله علم آدم ما في خزائن غيبه من الاشياء وهي غيب السموات والارض، أو قيل: إنه علم آدم أسماء كل شئ وهي غيب السموات والارض كان المؤدي والنتيجة واحدا وهو ظاهر.

[ 121 ]

ويناسب المقام عدة من أخبار الطينة كما رواه في البحار عن جابر بن عبد الله قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أول شئ خلق الله ما هو ؟ فقال نور نبيك يا جابر خلقه الله ثم خلق منه كل خير، ثم أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء الله، ثم جعله أقساما، فخلق العرش من قسم، والكرسي من قسم، وحملة العرش وسكنة الكرسي من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الحب ما شاء الله، ثم جعله أقساما، فخلق القلم من قسم، واللوح من قسم، والجنة من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الخوف ما شاء الله، ثم جعله أجزاء فخلق الملائكة من جزء، والشمس من جزء والقمر من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما شاء الله، ثم جعله أجزاء، فخلق العقل من جزء والعلم والحلم من جزء، والعصمة والتوفيق من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء الله، ثم نظر إليه بعين الهيبة فرشح ذلك النور وقطرت منه مائة ألف واربعة وعشرون ألف قطرة، فخلق الله من كل قطرة روح نبي ورسول، ثم تنفست أرواح الانبياء فخلق الله من أنفاسها أرواح الاولياء والشهداء والصالحين. أقول: والاخبار في هذه المعاني كثيرة، متظافرة وأنت إذا أجلت نظرة التأمل والامعان فيها وجدتها شواهد على ما قدمناه، وسيجئ شطر من الكلام في بعضها. وإياك أن ترمي أمثال هذه الاحاديث الشريفة المأثورة عن معادن العلم ومنابع الحكمة بأنها من اختلاقات المتصوفة وأوهامهم فللخلقة أسرار، وهو ذا العلماء من طبقات أقوام الانسان لا يألون جهدا في البحث عن أسرار الطبيعة، منذ أخذ البشر في الانتشار، وكلما لاح لهم معلوم واحد بان لهم مجاهيل كثيرة، وهي عالم الطبيعة أضيق العوالم وأخسها فما ظنك بما ورائها، وهي عوالم النور والسعة. وإذ قلنا للملائكة أسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين - 34.

[ 122 ]

(بيان)

قد عرفت أن قوله تعالى: وما كنتم تكتمون، فيه دلالة على وقوع أمر مكتوم ظاهر بعد أن كان مكتوما، ولا يخلو ذلك عن مناسبة مع قوله: أبى واستكبر وكان من الكافرين حيث لم يعبر أبي واستكبر وكفر، وعرفت أيضا أن قصه السجدة كالواقعة أو هي واقعة بين قوله تعالى: إني اعلم ما لا تعلمون، وقوله: واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون، فقوله تعالى: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، كالجملة المستخرجة من بين الجمل ليتخلص بها إلى قصة الجنة، فإن هذه الآيات كما عرفت إنما سيقت لبيان كيفية خلافة الانسان وموقعه وكيفية نزوله إلى الدنيا وما يؤول إليه أمره من سعادة وشقاء، فلا يهم من قصة السجدة هيهنا إلا إجمالها المؤدي إلى قصة الجنة وهبوط آدم هذا، فهذا هو الوجه في الاضراب عن الاطناب إلى الايجاز، ولعل هذا هو السر أيضا في الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله تعالى: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا، بعد قوله: وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل. وعلى ما مر فنسبة الكتمان إلى الملائكة وهو فعل إبليس بناء على الجري على الدأب الكلامي من نسبة فعل الواحد إلى الجماعة إذا اختلط بهم ولم يتميز منهم، ويمكن أن يكون له وجه آخر، وهو أن يكون ظاهر قوله تعالى: إني جاعل في الارض خليفة، إطلاق الخلافة حتى على الملائكة كما يؤيده ايضا أمرهم ثانيا بالسجود، ويوجب ذلك خطورا في قلوب الملائكة، حيث أنها ما كانت تظن أن موجودا أرضيا يمكن ان يسود على كل شئ حتى عليهم، ويدل على هذا المعنى بعض الروايات كما سيأتي. وقوله تعالى: أسجدوا لآدم، يستفاد منه جواز السجود لغير الله في الجملة إذا كان تحية وتكرمة للغير وفيه خضوع لله تعالى بموافقة أمره، ونظيره قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا قال: يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا) يوسف - 100، وملخص القول في ذلك أنك قد عرفت في سورة الفاتحة أن العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام العبودية وإتيان ما يثبت ويستثبت به ذلك فالفعل العبادي يجب أن يكون فيه صلاحية إظهار مولوية المولى أو عبدية العبد كالسجود والركوع والقيام أمامه حينما يقعد، والمشي خلفه حينما يمشي

[ 123 ]

وغير ذلك، وكلما زادت الصلاحية المزبورة إزدادت العبادة تعينا للعبودية، وأوضح الافعال في الدلالة على عز المولوية وذل العبودية السجدة، لما فيها من الخرور على الارض، ووضع الجبهة عليها، واما ما ربما ظنه بعض: من أن السجدة عبادة ذاتية، فليس بشئ، فإن الذاتي لا يختلف ولا يتخلف. وهذا الفعل يمكن أن يصدر بعينه من فاعله بداع غير داع التعظيم والعبادة كالسخرية والاستهزاء فلا يكون عبادة مع اشتماله على جميع ما يشتمل عليه وهو عبادة نعم معنى العبادة أوضح في السجدة من غيرها، وإذا لم يكن عبادة ذاتية لم يكن لذاته مختصا بالله سبحانه، بناء على أن المعبود منحصر فيه تعالى، فلو كان هناك مانع لكان من جهة النهي الشرعي أو العقلي والممنوع شرعا أو عقلا ليس إلا إعطاء الربوبية لغيره تعالى، وأما تحية الغير أو تكرمته من غير إعطاء الربوبية بل لمجرد التعارف والتحية فحسب، فلا دليل على المنع من ذلك، لكن الذوق الديني المتخذ من الاستيناس بظواهره يقضي باختصاص هذا الفعل به تعالى، والمنع عن استعماله في غير مورده تعالى، وان لم يقصد به إلا التحية والتكرمة فقط، وأما المنع عن كل ما فيه إظهار الاخلاص لله، بإبراز المحبة لصالحي عباده أو لقبور أوليائه أو آثارهم فمما لم يقم عليه دليل عقلي أو نقلي أصلا، وسنعود إلى البحث عن هذا الموضوع في محل يناسبه إن شاء الله تعالى. (بحث روائي) في تفسير العياشي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما أن خلق الله آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له فقالت الملائكة في انفسها: ما كنا نظن أن الله خلق خلقا أكرم عليه منا فنحن جيرانه ونحن أقرب الخلق إليه، فقال الله: ألم أقل لكم إني أعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون، فيما أبدوا من أمر بني الجان وكتموا ما في أنفسهم، فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش وفي التفسير أيضا عن علي بن الحسين عليه السلام: ما في معناه وفيه: فلما عرفت الملائكة أنها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش، وأنها كانت عصابة من الملائكه وهم الذين كانوا حول العرش، لم يكن جميع الملائكة إلى أن قال: فهم يلوذون حول العرش إلى يوم القيامة.

[ 124 ]

اقول: يمكن أن يستفاد مضمون الروايتين من قوله حكاية عن الملائكة: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك إلى قوله: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. وسيجئ أن العرش هو العلم، وبذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام فافهم ذلك، وعلى هذا كان المراد من قوله تعالى: وكان من الكافرين، قوم إبليس من الجان المخلوقين قبل الانسان. قال تعالى: (ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حماء مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم) الحجر - 27، وعلى هذه الرواية فنسبة الكتمان إلى جميع الملائكة لا تحتاج إلى عناية زائدة، بل هي على حقيقتة، فإن المعنى المكتوم خطر على قلوب جميع الملائكة، ولا منافاة بين هذه الرواية وما تفيد أن المكتوم هو ما كان يكتمه إبليس من الاباء عن الخضوع لآدم، والاستكبار لو دعي إلى السجود، لجواز استفادة الجميع كما هو كذلك. وفي قصص الانبياء عن أبي بصير، قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: سجدت الملائكة ووضعوا أجباههم على الارض ؟ قال: نعم تكرمة من الله تعالى وفي تحف العقول قال: إن السجود من الملائكة لآدم إنما كان ذلك طاعة لله ومحبة منهم لادم. وفي الاحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه: إن يهوديا سأل أمير المؤمنين عليه السلام عن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مقابلة معجزات الانبياء، فقال: هذا آدم أسجد الله له ملائكته، فهل فعل بمحمد شيئا من هذا ؟ فقال علي: لقد كان ذلك، ولكن أسجد الله لآدم ملائكتة، فإن سجودهم لم يكن سجود طاعة انهم عبدوا آدم من دون الله عز وجل، ولكن اعترافا لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أعطي ما هو أفضل من هذا، إن الله جل وعلا صلى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها، وتعبد المؤمنون بالصلوة عليه فهذه زيادة له يا يهودي. وفي تفسير القمي: خلق الله آدم فبقي أربعين سنة مصورا، وكان يمر به إبليس اللعين فيقول: لامر ما خلقت ؟ فقال: العالم، فقال إبليس: (لئن أمرني الله

[ 125 ]

بالسجود لهذا لعصيته) إلى أن قال: ثم قال الله تعالى للملائكة: أسجدوا لآدم فسجدوا فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد. 125 وفي البحار عن قصص الانبياء عن الصادق عليه السلام قال: أمر إبليس بالسجود لآدم فقال: يا رب وعزتك إن أعفيتني من السجود لادم لاعبدنك عبادة ما عبدك أحد قط مثلها، قال الله جل جلاله: إني احب أن اطاع من حيث اريد وقال: إن إبليس رن أربع رنات: أولهن يوم لعن، ويوم أهبط إلى الارض، ويوم بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم على فترة من الرسل، وحين أنزلت أم الكتاب، ونخر نخرتين: حين أكل آدم من الشجرة، وحين أهبط من الجنة، وقال في قوله تعالى: فبدت لهما سوآتهما، وكانت سوآتهما لا ترى فصارت ترى بارزة، وقال الشجرة التي نهى عنها آدم هي السنبلة. اقول: وفي الروايات - وهي كثيرة - تأييد ما ذكرناه في السجدة. وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين - 35. فأزلهما الشيطان عنها فاخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين - 36. فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم - 37. قلنا إهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون - 38. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون - 39.

[ 126 ]

(بيان)

قوله تعالى: قلنا يا آدم اسكن، على أن قصة سجود الملائكة لآدم تكررت في عدة مواضع من القرآن الكريم. لم يقع قصة الجنة إلا في ثلث مواضع: احدهما: هيهنا من سورة البقرة. الثاني: في سورة الاعراف. قال الله تعالى: (ويا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ورى عنهما وقال: ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين. فدليهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناديهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين. قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. قال: إهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين. قال: فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون) الآيات 19، 25. والثالث: في سورة طه. قال الله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما. وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى. فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقي. إن لك ألاتجوع فيها ولا تعرى، وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى. فوسوس إليه الشيطان فقال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى. فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصي آدم ربه فغوى. ثم إجتباه ربه فتاب عليه وهدى: قال: اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فاما ياتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال: رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى). الآيات. وسياق الآيات وخاصة قوله تعالى في صدر القصة: إني جاعل في الارض خليفة يعطي أن آدم عليه السلام إنما خلق ليحيى في الارض ويموت

[ 127 ]

فيها وإنما أسكنهما الله الجنة لاختبارهما ولتبدو لهما سوآتهما حتى يهبطا إلى الارض، وكذا سياق قوله تعالى في سورة طه: فقلنا يا آدم، وفي سورة الاعراف: ويا آدم أسكن حيث سبك قصة الجنة مع قصة إسجاد الملائكة كلتيهما كقصة واحدة متواصلة، وبالجملة فهو عليه السلام كان مخلوقا ليسكن الارض، وكان الطريق إلى الاستقرار في الارض هذا الطريق، وهو تفضيله على الملائكة لاثبات خلافته، ثم أمرهم بالسجدة، ثم إسكان الجنة. والنهي عن قرب الشجرة المنهية حتى يأكلا منها فيبدو لهما سوآتهما فيهبطا إلى الارض، فأخر العوامل للاستقرار في الارض، وانتخاب الحيوة الدنيوية ظهور السوأة، وهي العورة بقرينة قوله تعالى: وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة فهو التمايل الحيواني ويستلزم التغذي والنمو ايضا فما كان لابليس هم إلا ابداء سوآتهما، وآدم وزوجته وإن كانا قد سواهما الله تعالى تسوية أرضية بشرية ثم أدخلهما الجنة لم يمكثا بعد التسوية، ولم يمهلا كثيرا، ليتم في الدنيا إدراكهما لسوآتهما ولا لغيرها من لوازم الحيوة الدنيا واحتياجاتها حتى أدخلهما الله الجنة، وانه إنما أدخلهما الله الجنة حين أدخلهما ولما ينفصلا ولما ينقطع إدراكهما عن عالم الروح والملائكة، والدليل على ذلك قوله تعالى: ليبدي لهما ما ووري عنهما ولم يقل ما كان ووري عنهما، وهو مشعر بأن مواراة السوآة ما كانت ممكنة في الحيوة الدنيا إستدامة وإنما تمشت دفعة ما واستعقب ذلك، إسكان الجنة فظهور السوآة كان مقضيا محتوما في الحيوة الارضية ومع أكل الشجرة، ولذلك قال تعالى: فلا يخرجنكما من الجنة فتشقي، وقال تعالى: وأخرجهما مما كانا فيه وأيضا هو تعالى غفر خطيئتهما بعد ما تابا ولم يرجعهما إلى الجنة بل أهبطهما إلى الدنيا ليحييا فيها ولو لم تكن الحيوة الارضية مع أكل الشجرة وظهور السوآة حتما مقضيا، والرجوع إلى الجنة مع ذلك محالا، لرجعا إليها بعد حط الخطيئة، فالعامل في خروجهما من الجنة وهبوطهما هو الاكل من الشجرة وظهور السوآة، وكان ذلك بوسوسة الشيطان اللعين، وقد قال تعالى في سورة طه في صدر القصة: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما). ثم ساق تعالى القصة. فهل هذا العهد هو قوله تعالى: لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ؟ أو أنه قوله تعالى: ان هذا عدو لك ولزوجك أو أنه العهد بمعني الميثاق العمومي المأخوذ من جميع الانسان، ومن الانبياء خاصة بوجه آكد وأغلظ.

[ 128 ]

والاحتمال الاول غير صحيح لقوله تعالى: (فوسوس لهما الشيطان وقال ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة الا ان تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما اني لكما لمن الناصحين) الآيتان فهما قد كانا حين اقتراف الخطيئة واقتراب الشجرة على ذكر من النهي، وقد قال تعالى: فنسي ولم نجد له عزما) فالعهد المذكور ليس هو النهى عن قرب الشجرة وأما الاحتمال الثاني (وهو ان يكون العهد المذكور هو التحذير عن اتباع ابليس فهو وان لم يكن بالبعيد كل البعيد، لكن ظواهر الآيات لا تساعد عليه فإن العهد مخصوص بآدم عليه السلام كما هو ظاهر الآية. مع ان التحذير عن ابليس كان لهما معا، وأيضا ذيل الآيات وهو على طبق صدرها في سورة طه يناسب العهد بمعنى الميثاق الكلي، لا العهد بمعنى التحذير عن ابليس، قال تعالى: (فاما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى الآيات) فبحسب التطبيق ينطبق قوله تعالى: (ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا) على نسيان العهد وهو كما ترى مع العهد بمعنى الميثاق على الربوبية والعبودية أنسب منه مع التحذير من ابليس، إذ لا كثير مناسبة بحسب المفهوم بين الاعراض عن الذكر واتباع ابليس، واما الميثاق على الربوبية فهو له انسب، فان الميثاق على الربوبية هو ان لا ينسى الانسان كونه تعالى ربا له أي مالكا مدبرا أي لا ينسى الانسان أبدا ولا في حال أنه مملوك طلق لا يملك لنفسه شيئا لا نفعا وضرا ولا موتا ولا حيوة ولا نشورا، أي لا ذاتا ولا وصفا ولا فعلا. والخطيئة التي تقابله هو إعراض الانسان عن ذكر مقام ربه والغفلة عنه بالالتفات إلى نفسه أو ما يعود ويرجع إلى نفسه من زخارف الحيوة الدنيا الفانية البالية هذا. لكنك إذا امعنت النظر في الحيوة الدنيا على اختلاف جهاتها وتشتت أطرافها وانحائها ووحدتها واشتراكها بين المؤمن والكافر وجدتها بحسب الحقيقة والباطن مختلفة في الموردين بحسب ذوق العلم بالله تعالى والجهل به فالعارف بمقام ربه إذا نظر إلى نفسه وكذلك إلى الحيوة الدنيا الجامعه لاقسام الكدورات وانواع الآلام وضروب المكاره من موت وحياة، وصحة وسقم، وسعة واقتار، وراحة وتعب، ووجدان وفقدان.

[ 129 ]

على ان الجميع (أعم مما في نفس الانسان أو في غيره) مملوكة لربه، لا استقلال لشئ منها وفيها، بل الكل ممن ليس عنده الا الحسن والبهاء والجمال والخير على ما يليق بعزتة وجلاله، ولا يترشح من لدنه الا الجميل والخير، فإذا نظر إليها وهي هكذا لم ير مكروها يكرهه ولا مخوفا يخافه، ولا مهيبا يهابه، ولا محذورا يحذره، بل يرى كل ما يراه حسنا محبوبا الا ما يأمره ربه أن يكرهه ويبغضه، وهو مع ذلك يكرهه لامره، ويحب ما يحب ويلتذ ويبتهج بأمره، لا شغل له إلا بربه، كل ذلك لما يرى الجميع ملكا طلقا لربه لا نصيب ولا حظ لشئ غيره في شئ منها، فما له ولمالك الامر وما يتصرف به في ملكه ؟ من احياء واماتة، ونفع وضر وغيرها، فهذه هي الحيوة الطيبة التي لا شقاء فيها البتة وهي نور لا ظلمة معه، وسرور لا غم معه، ووجدان لا فقد معه، وغنى لا فقر معه كل ذلك بالله سبحانه، وفي مقابل هذه الحيوة حيوة الجاهل بمقام ربه، إذ هذا المسكين بانقطاعه عن ربه لا يقع بصره على موجود من نفسه وغيره الا رآه مستقلا بنفسه ضارا أو نافعا خيرا أو شرا فهو يتقلب في حيوته بين الخوف عما يخاف فوته، والحذر عما يحذر وقوعه، والحزن لما يفوته، والحسرة لما يضيع عنه من جاه أو مال أو بنين أو اعوان وساير ما يحبه ويتكل ويعتمد عليه ويؤثره. كلما نضج جلده بالاعتياد بمكروه والسكون إلى مرارة بدل جلدا غيره، ليذوق العذاب بفؤاد مضطرب قلق، وحشى ذائب محترق، وصدر ضيق حرج، كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون. إذا عرفت هذا علمت: أن مرجع الامرين أعني نسيان الميثاق وشقاء الحيوة الدنيا واحد، وان الشقاء الدنيوي من فروع نسيان الميثاق. وهذا هو الذي يشعر به كلامه سبحانه حيث أتى بالتكليف الجامع لاهل الدنيا في سورة طه فقال تعالى: (فاما يأتينكم مني هدى فمن إتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. وبدل ذلك في هذه السورة بقوله: (فمن إتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

[ 130 ]

ومن هنا تحدس إن كنت ذا فطانة أن الشجرة كانت شجرة في اقترابها تعب الحيوة الدنيا وشقائها، وهو أن يعيش الانسان في الدنيا ناسيا لربه، غافلا عن مقامه، وأن آدم عليه السلام كأنه أراد أن يجمع بينها وبين الميثاق المأخوذ عليه، فلم يتمكن فنسي الميثاق ووقع في تعب الحيوة الدنيا، ثم تدورك له ذلك بالتوبة. قوله تعالى: (وكلا منها رغدا) الرغد الهناء وطيب العيش وأرغد القوم مواشيهم تركوها ترعى كيف شاءت، وقوم رغد، ونساء رغد، أي ذووا عيش رغيد. وقوله تعالى: (ولا تقربا هذه الشجرة) وكأن النهي انما كان عن أكل الثمرة وانما تعلق بالقرب من الشجرة ايذانا بشدة النهى ومبالغة في التأكيد ويشهد بذلك قوله تعالى (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما) الاعراف - 22. وقوله تعالى: (فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما) طه - 121، فكانت المخالفة بالاكل فهو المنهى عنه بقوله: ولا تقربا. قوله تعالى: فتكونا من الظالمين، من الظلم لا من الظلمة على ما إحتمله بعضهم وقد إعترفا بظلمهما حيث قالا على ما حكاه الله تعالى عنهما: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا. إلا أنه تعالى بدل في سورة طه هذه الكلمة أعني قوله: (فتكونا من الظالمين من قوله: (فتشقى والشقاء هو التعب ثم فسر التعب وفصله، فقال، (ان لك الا تجوع فيها ولا تعرى وإنك لا تظمأ فيها و لاتضحى الآيات). ومن هنا يظهر أن وبال هذا الظلم انما كان هو الوقوع في تعب حيوة هذه الدنيا من جوع وعطش وعراء وعناء وعلى هذا فالظلم منهما انما هو ظلمهما لانفسهما، لا بمعنى المعصية المصطلحة والظلم على الله سبحانه. ومن هنا يظهر أيضا أن هذا النهى اعني قوله: ولا تقربا، إنما كان نهيا تنزيهيا إرشاديا يرشد به إلى ما فيه خير المكلف وصلاحه في مقام النصح لا نهيا مولويا. فهما انما ظلما أنفسهما في ترك الجنة على ان جزاء المخالفة للنهى المولوي التكليفي

[ 131 ]

يتبدل بالتوبة إذا قبلت ولم يتبدل في موردهما، فانهما تابا وقبلت توبتهما ولم يرجعا إلى ما كانا فيه من الجنة ولو لا أن التكليف إرشادى ليس له الا التبعة التكوينية دون التشريعية لاستلزام قبول التوبة رجوعهما إلى ما كانا فيه من مقام القرب وسيأتي لهذا الكلام بقية فيما سيأتي ان شاء الله. قوله سبحانه: فأزلهما الشيطان، الظاهر من هذه الجملة كنظائرها وإن لم يكن أزيد من وسوسة الشيطان لهما مثل ما يوسوس لنا (بني آدم) على نحو القاء الوسوسة في القلب من غير رؤية الشخص. لكن الظاهر من أمثال قوله تعالى في سورة طه: (فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك) يدل على أنه تعالى أراهما الشيطان وعرفهما إياه بالشخص والعين دون الوصف وكذا قوله تعالى حكاية عن الشيطان: (يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد الآية حيث أتى بالكلام في صورة حكاية الخطاب، ويدل ذلك على متكلم مشعور به. وكذا قوله تعالى في سورة الاعراف: (وقاسمهما اني لكما لمن الناصحين) والقسم إنما يكون من مقاسم مشعور به. وكذا قوله تعالى: (وناديهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما أن الشيطان لكما عدو مبين، كل ذلك يدل على أنه كان يترآى لهما وكانا يشاهدانه. ولو كان حالهما عليهما السلام مثل حالنا من عدم المشاهدة حين الوسوسة لجاز لهما أن يقولا: (ربنا اننا لم نشعر وخلناأن هذه الوساوس هي من أفكارنا من غير استشعار بحضوره، ولا قصد لمخالفة ما وصيتنا به من التحذير من وسوسته. وبالجملة فهما كانا يشاهدانه ويعرفانه، والانبياء وهم المعصومون بعصمة الله كذلك يعرفونه ويشاهدونه حين تعرضه بهم لو تعرض على ما وردت به الروايات في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ويحيى وايوب واسماعيل ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم هذا. وكذا ظاهر هذه الآيات كظاهر قوله تعالى: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة)

[ 132 ]

حيث ينبئ عن كونهما معه لعنه الله بحيال الشجرة في الجنة، فقد كان دخل الجنة وصاحبهما وغرهما بوسوسته، ولا محذور فيه إذ لم تكن الجنة جنة الخلد حتى لا يدخلها الشيطان، والدليل على ذلك خروجهم جميعا من هذه الجنه. وأما قوله تعالى خطابا لابليس: (فاهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فاخرج منها) الاعراف - 13، فيمكن أن يكون المراد به الخروج من الملائكة، أو الخروج من السماء من جهة كونها مقام قرب وتشريف. قوله تعالى: (وقلنا إهبطوا بعضكم لبعض عدو الآية)، ظاهر السياق أنه خطاب آدم وزوجته وإبليس وقد خص إبليس وحده بالخطاب في سورة الاعراف حيث قال: (فأهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها الاية)، فقوله تعالى: إهبطوا كالجمع بين الخطابين وحكاية عن قضاء قضى الله به العداوة بين إبليس لعنه الله وبين آدم وزوجته وذريتهما، وكذلك قضى به حيوتهم في الارض وموتهم فيها وبعثهم منها. وذرية آدم مع آدم في الحكم كما ربما يستشعر من ظاهر قوله: (فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون الآية) وكما سيأتي في قوله تعالى: (ولقد خلقناكم ثم صور ناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم الآية)، من سورة الاعراف. إن إسجاد الملائكة لآدم عليه السلام إنما كان من جهة أنه خليفة أرضي، فكان المسجود له آدم عليه السلام وحكم السجدة لجميع البشر، فكان إقامة آدم عليه السلام مقام المسجود له معنونا بعنوان الانموذج والنائب. وبالجملة يشبه أن تكون هذه القصة التي قصها الله تعالى من إسكان آدم وزوجته الجنة، ثم إهباطهما لاكل الشجرة كالمثل يمثل به ما كان الانسان فيه قبل نزوله إلى الدنيا من السعادة والكرامة بسكونة حظيره القدس، ومنزل الرفعة والقرب، ودار نعمة وسرور، وانس ونور، ورفقاء طاهرين، وإخلاء روحانيين، وجوار رب العالمين. ثم إنه يختار مكانه كل تعب وعناء ومكروه وألم بالميل إلى حيوة فانية، وجيفة

[ 133 ]

منتنة دانية، ثم إنه لو رجع بعد ذلك إلى ربه لاعاده إلى دار كرامته وسعادته ولو لم يرجع إليه وأخلد إلى الارض واتبع هواه فقد بدل نعمه الله كفرا واحل بنفسه دار البوار، جهنم يصليها وبئس القرار. قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه)، التلقي هو التلقن، وهو أخذ الكلام مع فهم وفقه وهذا التلقى كان هو الطريق المسهل لآدم عليه السلام توبته. ومن ذلك يظهر أن التوبة توبتان: توبه من الله تعالى وهي الرجوع إلى العبد بالرحمة، وتوبة من العبد وهي الرجوع إلى الله بالاستغفار والانقلاع من المعصية. وتوبة العبد، محفوفة بتوبتين: من الله تعالى، فان العبد لا يستغني عن ربه في حال من الاحوال، فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى وإعانته ورحمته حتى يتحقق منه التوبة، ثم تمس الحاجة إلى قبوله تعالى وعنايته ورحمته، فتوبة العبد إذا قبلت كانت بين توبتين من الله كما يدل عليه قوله تعالى: (ثم تاب عليهم ليتوبوا) التوبة - 119. وقراءة نصب آدم ورفع كلمات تناسب هذه النكتة، وإن كانت القراءة الاخرى (وهي قراءة رفع آدم ونصب كلمات) لا تنافيه ايضا. وأما أن هذه الكلمات ما هي ؟ فربما يحتمل انها هي ما يحكيه الله تعالى عنهما في سورة الاعراف بقوله: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) الاعراف - 23، إلا أن وقوع هذه الكلمات أعني قوله: (قالا ربنا ظلمنا الآية) قبل قوله: (قلنا إهبطوا) في سورة الاعراف ووقوع قوله (فتلقى آدم) الآية بعد قوله: (قلنا اهبطوا، في هذه السورة لا يساعد عليه. لكن هيهنا شئ: وهو أنك عرفت في صدر القصة أن الله تعالى حيث قال: (إني جاعل في الارض خليفة)، قالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك الآية) وهو تعالى لم يرد عليهم دعويهم على الخليفة الارضي بما رموه به ولم يجب عنه بشئ إلا أنه علم آدم الاسماء كلها. ولو لا أنه كان فيما صنعه تعالى من تعليم الاسماء ما يسد باب إعتراضهم ذلك لم

[ 134 ]

ينقطع كلامهم ولا تمت الحجة عليهم قطعا. ففي جملة ما علمه الله تعالى آدم من الاسماء أمر ينفع العاصي إذا عصى والمذنب إذا أذنب، فلعل تلقيه من ربه كان متعلقا بشئ من تلك الاسماء فافهم ذلك. وإعلم أن آدم عليه السلام وإن ظلم نفسه في القائها إلى شفا جرف الهلكة ومنشعب طريقي السعادة والشقاوة أعني الدنيا، فلو وقف في مهبطة فقد هلك، ولو رجع إلى سعادتة الاولى فقد أتعب نفسه وظلمها، فهو عليه السلام ظالم لنفسه على كل تقدير، إلا أنه عليه السلام هيأ لنفسه بنزوله درجة من السعادة ومنزلة من الكمال ما كان ينالها لو لم ينزل وكذلك ماكان ينالها لو نزل من غير خطيئة. فمتى كان يمكنه أن يشاهد ما لنفسه من الفقر والمذلة والمسكنة والحاجة والقصور وله في كل ما يصيبه من التعب والعناء والكد روح وراحة في حظيرة القدس وجوار رب العالمين، فلله تعالى صفات من عفو ومغفرة وتوبة وستر وفضل ورأفة ورحمة لا ينالها إلا المذنبون، وله في أيام الدهر نفحات يرتاح بها إلا المتعرضون. فهذه التوبة هي التي إستدعت تشريع الطريق الذي يتوقع سلوكه وتنظيف المنزل الذي يرجى سكونة، فورائها تشريع الدين وتقويم الملة. ويدل على ذلك ما تراه أن الله تعالى يكرر في كلامه تقدم التوبة على الايمان. قال تعالى: (فإستقم كما امرت ومن تاب معك) هود - 112، وقال: (وإني لغفار لمن تاب وآمن) طه - 82، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: قلنا إهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى. وهذا أول ما شرع من الدين لآدم عليه السلام وذريته، أوجز الدين كله في جملتين لا يزاد عليه شئ إلى يوم القيامة. وأنت إذا تدبرت هذه القصة (قصة الجنة) وخاصة ما وقع في سورة طه وجدت أن المستفاد منها أن جريان القصة أوجب قضائين منه تعالى في آدم وذريته، فأكل الشجرة أوجب حكمه تعالى وقضائه بالهبوط والاستقرار في الارض والحيوة

[ 135 ]

فيها تلك الحيوة الشقية التي حذرا منها حين نهيا عن إقتراب الشجرة هذا. وأن التوبة ثانيا: تعقب قضاء وحكما ثانيا منه تعالى بإكرام آدم وذريته بالهداية إلى العبودية فالمقضي أولا كان نفس الحيوة الارضية، ثم بالتوبة طيب الله تلك الحيوة بأن ركب عليها الهداية إلى العبودية، فتألفت الحيوة من حيوة أرضية، وحيوة سماوية. وهذا هو المستفاد من تكرار الامر بالهبوط في هذه السورة حيث قال تعالى: (وقلنا إهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين الآية) وقال تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى) الآية. وتوسيط التوبة بين الامرين بالهبوط مشعر بأن التوبة وقعت ولما ينفصلا من الجنة وإن لم يكونا أيضا فيها كاستقرار هما فيها قبل ذلك. يشعر بذلك أيضا قوله تعالى: (وناديهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة الآية) بعد ما قال لهما: لا تقربا هذه الشجرة فأتى بلفظة تلكما وهي إشارة إلى البعيد بعد ما أتى بلفظة هذه وهي إشارة إلى القريب وعبر بلفظة نادى وهي للبعيد بعد ما أتى بلفظة قال وهي للقريب فافهم. واعلم أن ظاهر قوله تعالى: (وقلنا إهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين الآية وقوله تعالى: (قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون الآية) أن نحوه هذه الحيوة بعد الهبوط تغاير نحوها في الجنة قبل الهبوط، وان هذه حيوة ممتزجة حقيقتها بحقيقة الارض ذات عناء وشقاء يلزمها أن يتكون الانسان في الارض ثم يعاد بالموت إليها ثم يخرج بالبعث منها. فالحيوة الارضية تغاير حيوة الجنة فحيوتها حيوة سماوية غير أرضية. ومن هنا يمكن أن يجزم أن جنة آدم كانت في السماء، وإن لم تكن جنة الآخرة جنة الخلد التي لا يخرج منها من دخل فيها. نعم: يبقي الكلام في معنى السماء ولعلنا سنوفق لاستيفاء البحث منه، إنشاء الله تعالى. بقى هنا شئ وهو القول في خطيئة آدم فنقول ظاهر الآيات في بادي النظر

[ 136 ]

وان كان تحقق المعصية والخطيئة منه عليه السلام كما قال تعالى: (فتكونا من الظالمين، وقال تعالى: وعصى آدم ربه فغوى الآية، وكما إعترف به فيما حكاه الله عنهما: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين الآية. لكن التدبر في آيات القصة والدقة في النهي الوارد عن أكل الشجرة يوجب القطع بأن النهي المذكور لم يكن نهيا مولويا وانما هو نهي إرشادي يراد به الارشاد والهداية إلى ما في مورد التكليف من الصلاح والخير لا البعث والارادة المولوية. ويدل على ذلك اولا: أنه تعالى فرع على النهى في هذه السورة وفي سورة الاعراف أنه ظلم حيث قال: (لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) ثم بدله في سورة طه من قوله: فتشقى مفرعا إياه على ترك الجنة. ومعنى الشقاء التعب ثم ذكر بعده كالتفسير له: (إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظما فيها ولا تضحى) الآيات. فأوضح أن المراد بالشقاء هو التعب الدنيوي، الذي تستتبعه هذه الحيوة الارضية من جوع وعطش وعراء وغير ذلك. فألتوقي من هذه الامور هو الموجب للنهي الكذائي لا جهة اخرى مولوية فالنهى إرشادي، ومخالفة النهى الارشادي لا توجب معصية مولوية، وتعديا عن طور العبودية وعلى هذا فالمراد بالظلم أيضا في ما ورد من الآيات ظلمهما على انفسهما في القائها في التعب والتهلكة دون الظلم المذموم في باب الربوبية والعبودية وهو ظاهر. وثانيا: أن التوبة، وهي الرجوع من العبد إذا استتبع القبول من جانب المولى أوجب كون الذنب كلا ذنب، والمعصية كأنها لم تصدر، فيعامل مع العاصي التائب معاملة المطيع المنقاد، وفي مورد فعله معاملة الامتثال والانقياد. ولو كان النهى عن أكل الشجرة مولويا وكانت التوبة توبة عن ذنب عبودي ورجوعا عن مخالفة نهى مولوي كان اللازم رجوعهما إلى الجنة مع انهما لم يرجعا. ومن هنا يعلم أن استتباع الاكل المنهى للخروج من الجنة كان إستتباعا

[ 137 ]

ضروريا تكوينيا، نظير إستتباع السم للقتل والنار للاحراق كما في وارد التكاليف الارشادية لا استتباعا من قبيل المجازاة المولوية في التكاليف المولوية، كدخول النار لتارك الصلوة، وإستحقاق الذم واستيجاب البعد في المخالفات العمومية الاجتماعية المولوية. وثالثا: أن قوله تعالى: (قلنا إهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، الآيات). وهو كلمة جامعة لجميع التشريعات التفصيلية التي أنزلها الله تعالى في هذه الدنيا من طرق ملائكته وكتبه ورسله، يحكى عن اول تشريع شرع للانسان في هذه الدنيا التي هي دنيا آدم وذريته، وقد وقع على ما يحكي الله تعالى بعد الامر الثاني بالهبوط ومن الواضح ان الامر بالهبوط أمر تكويني متأخر عن الكون في الجنة واقتراف الخطيئة، فلم يكن حين مخالفة النهي واقتراب الشجرة لا دين مشروع ولا تكليف مولوي فلم يتحقق عند ذلك ذنب عبودي، ولا معصية مولوية. ولا ينافي ذلك كون خطاب اسجدوا للملائكة ولابليس وهو قبل خطاب لا تقربا، خطابا مولويا لان المكلف غير المكلف. فإن قلت: إذا كان النهى نهيا إرشاديا لا نهيا مولويا فما معنى عده تعالى فعلهما ظلما وعصيانا وغواية. قلت: اما الظلم فقد مر أن المراد به ظلمهما لانفسهما في جنب الله تعالى، وأما العصيان فهو لغة عدم الانفعال أو الانفعال بصعوبة كما يقال: كسرته فإنكسر وكسرته فعصى، والعصيان وهو عدم الانفعال عن الامر أو النهى كما يتحقق في مورد التكاليف المولوية كذلك يتحقق في مورد الخطابات الارشادية. وأما تعين معنى المعصية في هذه الازمنة عندنا جماعة المسلمين في مخالفة مثل صل، أم صم، أو حج، أو لا تشرب الخمر، أو لا تزن ونحو ذلك فهو تعين بنحو الحقيقة الشرعية أو المتشرعة لا يضر بعموم المعنى بحسب اللغة والعرف العام هذا.

[ 138 ]

وأما الغواية فهو عدم إقتدا الانسان مثلا على حفظ المقصد وتدبير نفسه في معيشته بحيث يناسب المقصد ويلائمه. وواضح أنه يختلف بإختلاف الموارد من إرشاد ومولوية. فإن قلت: فما معنى التوبة حينئذ وقولهما: (وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ؟). قلت: التوبة كما مر هي الرجوع، والرجوع يختلف بحسب إختلاف موارده. فكما يجوز للعبد المتمرد عن أمر سيده وإرادته أن يتوب إليه، فيرد إليه مقامه الزائل من القرب عنده كذلك يجوز للمريض الذي نهاه الطبيب نهيا إرشاديا عن أكل شئ معين من الفواكه والمأكولات، وانما كان ذلك منه مراعاة لجانب سلامته وعافيته فلم ينته المريض عن نهيه فإقترفه فتضرر فأشرف على الهلاك. يجوز ان يتوب إلى الطبيب ليشير إليه بدواء يعيده إلى سابق حاله وعافيته، فيذكر له إن ذلك محتاج إلى تحمل التعب والمشقة العناء والرياضة خلال مدة حتى يعود إلى سلامة المزاج الاولية بل إلى اشرف منها وأحسن، هذا. وأما المغفرة والرحمة والخسران فالكلام فيها نظير الكلام في نظائر ها في إختلافها بحسب إختلاف مواردها، هذا.

(بحث روائي)

 في تفسير القمي عن أبيه رفعه قال: سئل الصادق عليه السلام عن جنة آدم أمن جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة ؟ فقال عليه السلام: كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبدا، قال عليه السلام: فلما أسكنه الله الجنة وأباحها له الا الشجرة، لانه خلق خلقة لا يبقى الا بالامر والنهى والغذاء واللباس والاكتنان والنكاح، ولا يدرك ما ينفعه مما يضره الا بالتوفيق، فجائه إبليس فقال له: إنكما ان أكلمتا من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين، وبقيتما في الجنة أبدا، وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة، وحلف

[ 139 ]

لهما أنه لهما ناصح كما قال الله عز وجل حكاية عنه: (ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة الا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما اني لكما لمن الناصحين فقبل آدم قوله فأكلا من الشجرة) فكانا كما حكى الله، فبدت لهما سوأتهما، وسقط عنهما ما ألبسهما الله من الجنة، وأقبلا يستتران من ورق الجنة، وناديهما ربهما: ألم انهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين، فقالا كما حكى الله عنهما: ربنا ظلمنا انفسنا وأن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين فقال الله لهما: إهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين، قال: أي يوم القيامة، قال: فهبط آدم على الصفا، وإنما سميت الصفا لان صفي الله أنزل عليها، ونزلت حواء على المروة وانما سميت المروة لان المرئة أنزلت عليها، فبقي آدم أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنة، فنزل عليه جبرئيل، فقال أليس خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته ؟ قال: بلى، وأمرك أن لا تأكل من الشجرة فعصيته ؟ قال آدم: إن ابليس حلف لي بالله كاذبا. اقول: وفي كون جنة آدم من جنان الدنيا روايات أخر من طريق أهل البيت وإن اتحد بعضها مع هذه الرواية في إبراهيم بن هاشم. والمراد بكونها من جنان الدنيا كونها برزخية في مقابل جنان الخلد، كما يشير إليه بعض فقرات الرواية كقوله: فهبط آدم على الصفا، وكقوله: ونزلت حواء على المروة، وكقوله: إن المراد بحين يوم القيامة فيكون المكث في البرزخ بعد الموت مكثا في الارض طبقا لما في آيات البعث من القرآن من عد المكث البرزخي مكثا في الارض كما يشير إليه قوله تعالى: (قال كم لبثتم في الارض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو انكم كنتم تعلمون) المؤمنون - 114، وقوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون، قال الذين اوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون) الروم - 56، على أن عدة من الروايات المنقولة عن اهل البيت تدل على أن الجنة كانت في السماء، وأنهما نزلا من السماء، على ان المستأنس بلسان الروايات لا يستوحش من كون الجنة المذكورة في السماء

[ 140 ]

والهبوط منها إلى الارض مع كونهما خلقا في الارض وعاشا فيها كما ورد في كون الجنة في السماء ووقوع سؤال القبر فيه وكونه روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار وغير ذلك وارجو أن يرتفع هذا الاشكال وما يشاكله من الاشكالات فيما سيأتي من البحث في السماء انشاء الله العزيز. وأما كيفية مجئ ابليس اليهما، وما إتخذه فيه من الوسيلة فالصحاح والمعتبرة من الروايات خالية عن بيانها. وفي بعض الاخبار ذكر الحية والطاووس عونين لابليس في إغوائه إياهما لكنها غير معتبرة، أضربنا عن ذكرها وكأنها من الاخبار الدخيلة، والقصة مأخوذه من التوراة وهاك لفظ التوراة في القصة بعينه: قال في الفصل الثاني من السفر الاول وهو سفر الخليقة: وإن الله خلق آدم ترابا من الارض، نفخ في انفه الحيات، فصار آدم نفسا ناطقا، وغرس الله جنانا في عدن شرقيا، وصير هناك آدم الذي خلقه، وأنبت الله من الارض كل شجرة، حسن منظرها وطيب مأكلها، وشجرة الحياة في وسط الجنان، وشجرة معرفة الخير والشر، وجعل نهرا يخرج من عدن ليسقى الجنان، ومن ثم يفترق فيصير أربعة أرؤس، إسم أحدها النيل، وهو المحيط بجميع بلد ذويلة الذي فيه الذهب، وذهب ذلك البلد جيد، ثم اللؤلؤ وحجارة البلور، وإسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع بلد الحبشة، وإسم النهر الثالث دجلة، وهو يسير في شرقي الموصل، واسم النهر الرابع هو الفرات، فأخذ الله آدم وأنزله في جنان عدن ليفلحه وليحفظه وأمر الله آدم قائلا: من جميع شجر الجنان جايز لك أن تأكل، ومن شجرة معرفة الخير والشر لا تأكل، فإنك في يوم أكلك منها تستحق أن تموت، وقال الله لا خير في بقاء آدم وحده، اصنع له عونا حذاه، فحشر الله من الارض جميع وحش الصحراء وطير السماء وأتى بها إلى آدم ليريه ما يسميها، فكل ما سمى آدم من نفس حية بإسم هو إسمه إلى الآن. فأسمي آدم أسماء لجميع البهائم وطير السماء وجميع وحش الصحراء ولم يجد آدم

[ 141 ]

عونا حذاه، فأوقع سباتا على آدم لئلا يحس فنام، فاستل إحدى أضلاعه وسد مكانها اللحم، وبنى الله الضلع التي أخذ إمرأة، فأتى بها إلى آدم، وقال آدم هذه المرة شاهدت عظما من عظامي، ولحما من لحمى، وينبغي أن تسمى إمرأة لانها من أمري أخذت، ولذلك يترك الرجل أباه وامه ويلزم زوجته، فيصيران كجسد واحد. وكانا جميعا عريانين آدم وزوجته ولا يحتشمان من ذلك. الفصل الثالث: والثعبان صار حكيما من جميع حيوان الصحراء الذي خلقه الله فقال للمرأة أيقينا قال الله لا تأكلا من جميع شجر الجنان ؟ قالت المرأة للثعبان من ثمر شجر الجنان نأكل، لكن من ثمر الشجرة التي في وسطه قال الله لا تأكلا منه، ولا تدنوا به كيلا تموتا، قال لهما لستما تموتان، ان الله عالم انكما في يوم أكلكما منه تنفتح عيونكما وتصيران كالملائكة عارفي الخير والشر بزيادة، فلما رأت المرأة أن الشجرة طيبة المأكل شهية المنظر، منى للعقل، أخذت من ثمرها فأكلت، وأعطت بعلها فأكل معها، فانفتحت عيونهما فعلما أنهما عريانان فخيطا من ورق التين ما صنعا منه مأزر، فسمعا صوت الله مارا في الجنان برفق في حركة النهار، فأستخبأ آدم وزوجته من قبل صوت الله خباء فيما بين شجر الجنان، فنادى الله آدم، وقال له مقررا: أين أنت ؟ قال: إني سمعت صوتك في الجنان فإتقيت إذ أنا عريان فإستخبأت، قال: من أخبرك إنك عريان ؟ أمن الشجرة التي نهيتك عن الاكل منها أكلت ؟ قال آدم المرأة التي جعلتها معي أعطتني من الشجرة فأكلت، قال الله للمرأة: ماذا صنعت ؟ قالت: الثعبان أغراني فأكلت قال الله للثعبان: إذ صنعت هذا بعلم فأنت ملعون من جميع البهائم وجميع وحش الصحراء وعلى صدرك تسلك وترابا تأكل طول أيام حياتك، واجعل عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، وهو يشدخ منك الرأس وأنت تلذعه في العقب، وقال للمرأة: لاكثرن مشقتك وحملك، وبمشقة تلدين الاولاد، وإلى بعلك يكون قيادك، وهو يتسلط عليك. وقال لآدم: إذ قبلت قول زوجتك فأكلت من الشجرة التي نهيتك قائلا لا تأكل منها ملعونة الارض بسببك بمشقة تأكل منها طول حياتك، وشوكا ودردرا تنبت لك، وتأكل عشب الصحراء، بعرق وجهك تأكل الطعام إلى حين رجوعك

[ 142 ]

إلى الارض التي أخذت منها لانك تراب وإلى التراب ترجع، وسمى آدم زوجته حواء لانها كانت ام كل حي ناطق، وصنع الله لآدم وزوجته ثياب بدن والبسهما، ثم قال الله، هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف معرفة الخير والشر، والآن فيجب أن يخرج من الجنان لئلا يمديده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيي إلى الدهر، فطرده الله من جنان عدن ليفلح الارض التي أخذ منها، ولما طرد آدم أسكن من شرقي جنان عدن الملائكة، ولمع سيف متقلب ليحفظوا طريق شجرة الحيواة. انتهى الفصل من (التوراة العربية المطبوعة سنة 1811 ميلادية)، وانت بتطبيق القصة من الطريقين أعني طريقي القرآن والتوراة ثم التأمل في الروايات الواردة من طريقي العامة و الخاصة تعثر بحقائق من الحال غير أنا اضربنا عن الغور في بيانها والبحث عنها لان الكتاب غير موضوع لذلك. واما دخول ابليس الجنة واغواره فيها وهي (أولا) مقام القرب والنزاهة واللطهارة وقد قال تعالى: (لا لغو فيها ولا تأثيم) الطور - 23، وهي (ثانيا) في السماء وقد قال تعالى خطابا لابليس حين إبائه عن السجدة لآدم: (فاخرج منها فإنك رجيم) الحجر - 34، وقال تعالى: (فاثبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها) الاعراف - 12. فالجواب عن الاول كما ربما يقال أن القرآن انما ما نفى من وقوع اللغو وتأثيم في الجنة عن جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون في الآخرة وجنة البرزخ التي يدخلونها بعد الموت والارتحال عن دار التكليف، وأما الجنة التي ادخل فيها آدم وزوجته ومذالك قبل إستقرار الانسان في دار التكليف وتوجه الامر والنهى فالقرآن لم ينطق فيه بشئ من ذلك، بل الامر بالعكس وناهيك في ذلك ما ذكر من وقوع عصيان آدم فيه على أن اللغو والتأثيم من الامور النسبة التي لا تتحقق الا بعد حلول الانسان الدنيا وتوجه الامر والنهى إليه وتلبسه بالتكليف. والجواب عن الثاني اولا: ان رجوع الضمير في قوله: فأخرج منها، وقوله: فاهبط منها إلى السماء غير ظاهر من الآية لعدم ذكر السماء في الكلام سابقا وعدم العهد بها، فمن الجائز أن يكون المراد الخروج من الملائكة والهبوط منها ببعض العنايات،

[ 143 ]

أو الخروج والهبوط من المنزلة والكرامة. وثانيا: أنه يجوز أن يكون الامر بالهبوط والخروج كناية عن النهى عن المقام هناك بين الملائكة، لا عن أصل الكون فيها بالعروج والمرور من غير مقام واستقرار كالملائكة، ويلوح إليه بل يشهد به ما ربما يظهر من الآيات من إستراق السمع وقد روي أن الشياطين كانوا يعرجون قبل عيسى إلى السماء السابعة فلما ولد عيسى منعوا من السماء الرابعة فما فوقها، ثم لما ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم منعوا من جميع السموات وخطفوا بالخطفة. وثالثا: أن كلامه تعالى خال عن دخول إبليس الجنة فلا مورد للاستشكال، وإنما ورد ما ورد من حديث الدخول في الروايات وهي آحاد غير متواترة مع إحتمال النقل بالمعنى من الراوي. واقصى ما يدل من كلامه تعالى على دخوله الجنة قوله تعالى حكاية عن ابليس (وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة الا ان تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) الاعراف - 19) حيث أتى بلفظة هذه وهي للاشارة من قريب، لكنها لو دلت هيهنا على القرب المكاني لدل في قوله تعالى: (ولا تقربا هذاه الشجرة فتكونا من الظالمين) الاعراف - 18، على مثله فيه تعالى. وفي العيون عن عبد السلام الهروي قال: قلت للرضا عليه السلام: يابن رسول الله أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ما كانت ؟ فقد إختلف الناس فيها فمنهم من يروي أنها الحنطة، ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد، فقال كل ذلك حق، قلت: فما معنى هذه الوجوه على إخلتلافها ؟ فقال: يا بن الصلت إن شجرة الجنة تحمل أنواعا، وكانت شجرة الحنطة وفيها عنب وليست كشجرة الدنيا، وان آدم لما أكرمه الله تعالى بإسجاد ملائكته له، وبإدخاله الجنة، قال: هل خلق الله بشرا أفضل مني ؟ فعلم الله عز وجل ما وقع في نفسه فناداه إرفع رأسك يا آدم وأنظر إلى ساق العرش، فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا لا إله إلا الله ومحمد رسول الله علي ابن أبي طالب أمير المؤمنين وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، فقال آدم: يا رب من هؤلاء ؟ فقال عز وجل يا آدم هؤلاء ذريتك،

[ 144 ]

وهم خير منك ومن جميع خلقي، ولولاهم ما خلقتك ولا تالجنه ولا النار ولا السماء ولا الارض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري، فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم فتسلط عليه الشيطان حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم فأخرجهما الله تعالى من جنتة واهبطهما من جواره إلى الارض. اقول: وقد ورد هذا لمعنى في عدة روايات بعضها أبسط من هذه الرواية وأطنب وبعضها أجمل وأوجز. وهذه الرواية كما ترى سلم عليه السلام فيها أن الشجرة كانت شجرة الحنطة وشجرة الحسد وإنهما أكلا من شجرة الحنطة ثمرتها وحسدا وتمنيا منزلة محمد وآله صلى الله عليه وآله وسلم، ومقتضى المعنى الاول أن الشجرة كانت أخفض شأنا من أن يميل إليها ويشتهيها أهل الجنة ومقتضى الثاني أنها كانت ارفع شأنا من أن ينالها آدم وزوجته كما في رواية اخرى إنها كانت شجرة علم محمد وآله. وبالجملة لهما معنيان مختلفان، لكنك بالرجوع إلى ما مر من أمر الميثاق تعرف أن المعنى واحد وان آدم عليه السلام أراد أن يجمع بين التمتع بالجنة وهو مقام القرب من الله وفيها الميثاق ان لا يتوجه إلى غيره تعالى وبين الشجرة المنهية التي فيها تعب التعلق بالدنيا فلم يتيسر له الجمع بينهما فهبط إلى الارض ونسي الميثاق فلم يجتمع له الامران وهو منزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم هداه الله بالاجتباء ونزعه بالتوبة من الدنيا، وألحقه بما كان نسيه من الميثاق فإفهم. وقوله عليه السلام: فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم فيه بيان أن المراد بالحسد تمنى منزلتهم دون الحسد الذي هو أحد الاخلاق الرذيلة. وبالبيان السابق يرتفع التنافي الذي يتراءى بين ما رواه في كمال الدين عن الثمالي عن ابي جعفر عليه السلام، قال: إن الله عز وجل عهد إلى آدم ان لا يقرب الشجرة فلما بلغ الوقت الذي في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها وذلك قول الله عز وجل: ولقد عهدنا إلى آدم فنسي ولم نجد له عزما، الحديث.

[ 145 ]

وبين ما رواه العياشي في تفسيره عن أحدهما وقد سئل كيف أخذ الله آدم بالنسيان، فقال: إنه لم ينس وكيف ينسى وهو يذكر ويقول له إبليس: ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين الحديث. والوجه فيه واضح. وفي أمالي الصدوق عن أبي الصلت الهروي، قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا عليه السلام: أهل المقالات من أهل الاسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات فلم يقم أحد حتى الزم حجته كأنه ألقم حجرا فقام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له: يا بن رسول الله أتقول بعصمة الانبياء ؟ قال: بلى، قال: فما تعمل بقول الله عز وجل: (وعصى آدم ربه فغوى ؟) إلى أن قال: فقال مولانا الرضا عليه السلام: ويحك يا علي إتق الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ولا تتأول كتاب الله عز وجل برأيك فإن الله عز وجل يقول: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) أما قوله عز وجل في آدم: (وعصى آدم ربه فغوى) فإن الله عز وجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده لم يخلقه للجنة، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الارض - لتتم مقادير أمر الله عز وجل فلما أهبط إلى الارض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عز وجل: (إن الله إصطفى آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين) الحديث. اقول: قوله: وكانت المعصية في الجنة الخ إشارة إلى ما قدمناه أن التكليف الدينى المولوي لم يكن مجعولا في الجنة بعد، وإنما موطنه الحيوة الارضية المقدرة لآدم عليه السلام بعد الهبوط إلى الارض، فالمعصية إنما كانت معصية لامر إرشادي غير مولوي فلا وجه لتعسف التإويل في الحديث على ما ارتكبه بعض. وفي العيون عن على بن محمد بن الجهم، قال: حضرت مجلس المأمون وعنده علي بن موسى فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أليس من قولك إن الانبياء معصومون ؟ فقال بلى، قال فما معنى قول الله تعالى: فعصى آدم ربه فغوى ؟ قال: إن الله تعالى قال لآدم: اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه

[ 146 ]

الشجرة وأشار لهما إلى شجرة الحنطة فتكونا من الظالمين، ولم يقل لهما: لا تأكلا من هذه الشجرة ولا مما كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة ولم يأكلا منها وإنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما وقال: ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة وإنما نها كما أن تقربا غيرها ولم ينهكما أن تأكلا منها إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ولم يكن آدم وحواء شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذبا فدلاهما بغرور فأكلا منها ثقة بيمينه بالله، وكان ذلك من آدم قبل النبوة ولم يكن ذلك بذنب كبير إستحق به دخول النار، وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الانبياء قبل نزول الوحي إليهم، فلما إجتباه الله وجعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة، قال الله عز وجل: (وعصى آدم ربه فغوى ثم إجتباه ربه فتاب عليه وهدى) وقال عز وجل: (إن الله إصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) الحديث. اقول: قال الصدوق رحمه الله بعد نقل الحديث على طوله: والحديث عجيب من طريق على بن محمد بن الجهم مع نصبه وبغضه وعداوته لاهل البيت عليهم السلام إنتهى. وما أعجبه منه إلا ما شاهده من إشتماله على تنزيه الانبياء من غير أن يمعن النظر في الاصول المأخوذة فيه، فما نقله من جوابه عليه السلام في آدم لا يوافق مذهب أئمة أهل البيت المستفيض عنهم من عصمة الانبياء من الصغاير والكبائر قبل النبوة وبعدها. على أن الجواب مشتمل على تقدير في قوله تعالى: (ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا) إلى مثل قولنا: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة وإنما نها كما عن غيرها وما نهاكما عن غيرها الا ان تكونا الخ. على ان قوله تعالى (ما نها كما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا) ملكين أو تكونا من الخالدين)، وقوله تعالى (قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى الآية)، يدل على ان إبليس إنما كان يحرضهما على الاكل من شخص الشجرة المنهية تطميعا في الخلود والملك الذي حجب عنه بالنهي، على ان الرجل أعني علي بن محمد بن الجهم قد أخذ الجواب الصحيح التام بنفسه في مجلس المأمون كما رويناه في الحديث السابق، فالرواية لا تخلو عن شئ وإن كان بعض

[ 147 ]

هذه الوجوه ممكن الاندفاع هذا. وروى الصدوق، عن الباقر عليه السلام عن آبائه عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: إنما كان لبث آدم وحواء في الجنة حتى أخرجا منها سبع ساعات من ايام الدنيا حتى أهبطهما الله في يومهما. وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان، قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام وأنا حاضر: كم لبث آدم وزوجته في الجنة حتى أخرجهما منها خطيئة ؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة ثم برء زوجته من أسفل أضلاعه ثم أسجد له ملائكته وأسكنه جنته من يومه ذلك، فو الله ما إستقر فيها إلا ست ساعات من يومه ذلك حتى عصى الله تعالى، فأخرجهما الله منهبعد غروب الشمس وصيرا بفناء الجنة حتى اصبحا فبدت لهما سوآتهما وناديهما ربهما: الم انهكما عن تلكما الشجرة فاستحيى آدم فخضع وقال: ربنا ظلمنا أنفسنا وإعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا، قال الله لهما إهبطا من سمواتي إلى الارض، فانه لا يجاورني في جنتي عاص ولا في سمواتي. اقول: ويمكن أن يستفاد ما يشتمل عليه الرواية من كيفية خروجهما وأنه كان أولا من الجنة إلى فنائها ومن فنائها إلى الارض من تكرر الامر بالهبوط في الآية مع كونه أمرا تكوينيا غير قابل التخلف، وكذا من تغيير السياق في قوله تعالى: (وقلنا: يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة، إلى أن قال: ولا تقربا هذه الشجرة الآية)، وقوله تعالى: وناديهما ربهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة، الآية، حيث عبر في الاول بالقول وبالاشارة القريبة وفي الثاني بالنداء والاشارة البعيدة، غير أن الرواية مشتملة على خلق حواء من أسفل اضلاع آدم كما إشتملت عليه التوراة، والروايات عن أئمة أهل البيت تكذبه كما سيجئ في البحث عن خلقة آدم، وان أمكن أن يحمل خلقها من فاضل طينة آدم مما يلي أضلاعه هذا، واما ساعات مكثه في الجنة، وأنها ستة أو سبعة فالامر فيها هين فانما هو تقريب. وفي الكافي: عن أحدهما عليه السلام في قوله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات، قال: لا إله إلا أنت، سبحانك اللهم وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي

[ 148 ]

وأنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت، سبحانك اللهم وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني وأنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فإرحمني وأنت خير الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم. اقول: وروى هذا المعنى الصدوق والعياشي والقمي وغيرهم، وعن طرق أهل السنة والجماعة أيضا ما يقرب من ذلك، وربما استفيد ذلك من ظاهر آيات القصة. وقال الكليني في الكافي: وفي رواية اخرى في قوله: فتلقى آدم من ربه كلمات قال: سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين. اقول: وروى هذا المعنى أيضا الصدوق والعياشي والقمي وغيرهم، وروي ما يقرب من ذلك من طرق اهل السنة والجماعة ايضا كما رواه في الدر المنثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء فقال: أسألك بحق محمد الا غفرت لي فأوحى الله إليه، ومن محمد ؟ قال: تبارك إسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه ليس احد عندك اعظم قدرا ممن جعلت إسمه مع اسمك فأوحى الله إليه يا آدم انه آخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك. اقول: وهذا المعنى وإن كان بعيدا عن ظاهر الآيات في بادي النظر لكن اشباع النظر والتدبر فيها ربما قرب ذلك تقريبا، إذ قوله: فتلقى آدم، يشتمل على معنى الاخذ مع الاستقبال، ففيه دلالة على اخذ آدم هذه الكلمات من ربه، ففيه علم سابق على التوبة، وقد كان عليه السلام تعلم من ربه الاسماء كلها إذ قال تعالى للملائكة: إني جاعل في الارض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ قال: اني اعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الاسماء كلها، فهذا العلم كان من شأنه إزاحة كل ظلم ومعصية لا محالة ودواء كل داء وإلا لم يتم الجواب عما أورده الملائكة ولا قامت الحجة عليهم لانه سبحانه لم يذكر قبال قولهم: يفسد فيها ويسفك الدماء شيئا ولم يقابلهم بشئ دون ان علم آدم الاسماء كلها ففيه اصلاح كل فاسد، وقد عرفت ما حقيقة هذه الاسماء، وانها موجودات عالية مغيبة في غيب

[ 149 ]

السموات والارض، ووسائط فيوضاته تعالى لما دونها، لا يتم كمال لمستكمل الا ببركاتها وقد ورد في بعض الاخبار أنه رأى اشباح اهل البيت وانوارهم حين علم الاسماء، وورد أنه رآها حين اخرج الله ذريته من ظهره، وورد ايضا انه رآها وهو في الجنة فراجع والله الهادي. وقد ابهم الله امر هذه الكلمات في قوله: فتلقى آدم من ربه كلمات الآية حيث نكرها، وورد في القرآن: إطلاق الكلمة على الموجود العيني صريحا في قوله: (بكلمة منه إسمه المسيح عيسى بن مريم) آل عمران - 40. وأما ما ذكره بعض المفسرين: ان الكلمات التي حكاها الله عنهما في سورة الاعراف بقوله: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) الآية، ففيه: أن التوبة كما يدل عليه الآيات في هذه السورة أعني سورة البقرة وقعت بعد الهبوط إلى الارض، قال تعالى: (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو) إلى أن قال: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه) الآيات وهذه الكلمات تكلم بها آدم وزوجته قبل الهبوط وهما في الجنة كما في سورة الاعراف، قال تعالى: (فناديهما ربهما ألم انهكما عن تلكما الشجرة) إلى ان قال: (قالا ربنا ظلمنا انفسنا) إلى أن قال: (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو) الآيات، بل الظاهر ان قولهما: ربنا ظلمنا انفسنا، تذلل منهما وخضوع قبال ندائه تعالى وإيذان بأن الامر إلى الله سبحانه كيف يشاء بعد الاعتراف بأن له الربوبية وأنهما ظالمان مشرفان على خطر الخسران. وفي تفسير القمي عن الصادق عليه السلام قال: ان موسى سأل ربه ان يجمع بينه وبين آدم، فجمع فقال له موسى: يا أبت ألم يخلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك الملائكة وأمرك أن لا تأكل من الشجرة ؟ فلم عصيته ؟ قال: يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي في التورية ؟ قال بثلثين الف سنة، قال: فقال: هو ذاك، قال الصادق عليه السلام فحجج آدم موسى. اقول: وروى ما يقرب من هذا المعنى العلامة السيوطي في الدر المنثور بعدة طرق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي العلل: عن الباقر عليه السلام: والله لقد خلق الله آدم للدنيا، وأسكنه الجنة

[ 150 ]

ليعصيه فيرده إلى ما خلقه له. اقول: وقد مرواية العياشي عن الصادق عليه السلام في خليل كان لآدم من الملائكة الحديث في هذا المعنى. وفي الاحتجاج: في احتجاج علي مع الشامي حين سأله: عن أكرم واد على وجه الارض، فقال عليه السلام: واد يقال له سرانديب سقط فيه آدم من السماء. اقول: وتقابلها روايات مستفيضة تدل على سقوطه في أرض مكة وقد مر بعضها ويمكن التوفيق بينها بإمكان نزوله أولا بسرانديب ثم هبوطه إلى أرض مكة وليس بنزولين عرضيين هذا. وفي الدر المنثور عن الطبراني وأبي الشيخ في العظمة وابن مردويه عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أرأيت آدم أنبيا كان ؟ قال: نعم كان نبيا رسولا، كلمه الله قبلا، قال له: يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة. اقول: وروى أهل السنة والجماعة قريبا من هذا المعنى بعدة طرق. يا بني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي اوف بعهدكم وإياي فارهبون - 40. وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون - 41. ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون - 42. وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة واركعوا مع الراكعين - 43. أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون - 44.

[ 151 ]

(بيان)

 أخذ سبحانه في معاتبة اليهود وذلك في طي نيف ومائة آية يذكر فيها نعمه التي أفاضها عليهم، وكراماته التي حباهم بها، وما قابلوها من الكفر والعصيان ونقض الميثاق والتمرد والجحود، يذكرهم بالاشارة إلى اثنتي عشرة قصة من قصصهم، كنجاتهم من آل فرعون بفرق البحر، وغرق فرعون وجنوده، ومواعدة الطور، واتخاذهم العجل من بعده وأمر موسى إياهم بقتل أنفسهم واقتراحهم من موسى أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ثم بعثهم الله تعالى، إلى آخر ما أشير إليه من قصصهم التي كلها مشحونة بألطاف إلهية وعنايات ربانية، ويذكرهم أيضا المواثيق التي أخذ منهم ثم نقضوها ونبذوها وراء ظهورهم، ويذكرهم أيضا معاصي ارتكبوها وجرائم اكتسبوها وآثاما كسبتها قلوبهم على نهي من كتابهم، وردع صريح من عقولهم، لقساوة قلوبهم، وشقاوة نفوسهم، وضلال سعيهم. قوله تعالى: وأوفوا بعهدي، أصل العهد الحفاظ، ومنه اشتقت معانيه كالعهد بمعنى الميثاق واليمين والوصية واللقاء والمنزل ونحو ذلك. قوله تعالى: فارهبوني، الرهبة الخوف، وتقابل الرغبة. قوله تعالى: ولا تكونوا أول كافر به، أي من بين أهل الكتاب، أو من بين قومكم ممن مضى وسيأتي فإن كفار مكة كانوا قد سبقوهم إلى الكفر به. واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين - 45. الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون - 46.

[ 152 ]

(بيان)

 قوله تعالى: واستعينوا بالصبر والصلوة، الاستعانة وهي طلب العون إنما يتم فيما لا يقوى الانسان عليه وحده من المهمات والنوازل، وإذ لا معين في الحقيقة إلا الله سبحانه فالعون على المهمات مقاومة الانسان لها بالثبات والاستقامة والاتصال به تعالى بالانصراف إليه، والاقبال عليه بنفسه، وهذا هو الصبر والصلوة، وهما أحسن سبب على ذلك، فالصبر يصغر كل عظيمة نازلة، وبالاقبال على الله والالتجاء إليه تستيقظ روح الايمان، وتتنبه: ان الانسان متك على ركن لا ينهدم، وسبب لا ينفصم. قوله تعالي: وانها لكبيرة إلا على الخاشعين، الضمير راجع إلى الصلوة، وأما إرجاعه إلى الاستعانة لتضمن قوله: استعينوا ذلك فينافيه ظاهرا قوله: إلا على الخاشعين، فإن الخشوع لا يلائم الصبر كثير ملائمة، والفرق بين الخشوع والخضوع مع أن في كليهما معنى التذلل والانكسار أن الخضوع مختص بالجوارح والخشوع بالقلب. قوله تعالي: الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم. هذا المورد، أعني مورد الاعتقاد بالآخرة على أنه مورد اليقين لا يفيد فيه الظن والحسبان الذي لا يمنع النقيض، قال تعالى: (وبالآخرة هم يوقنون) البقرة - 4، ويمكن أن يكون الوجه فيه الاخذ بتحقق الخشوع فان العلوم التدريجية الحصول من أسباب تدريجية تتدرج فيها النفس المدركة من تنبه وشك ثم ترجح أحد طرفي النقيض ثم انعدام الاحتمالات المخالفة شيئا فشيئا حتى يتم الادراك الجازم وهو العلم، وهذا النوع من العلم إذا تعلق بأمر هائل موجب لاضطراب النفس وقلقها وخشوعها إنما تبتدي الخشوع الذي معه من حين شروع الرجحان قبل حصول الادراك العلمي وتمامه، ففي وضع الظن موضع العلم إشارة إلى أن الانسان لا يتوقف على زيادة مؤنة على العلم إن تنبه بأن له ربا يمكن ان يلاقيه ويرجع إليه وذلك كقول الشاعر: فقلت لهم ظنوا بألفي مذحج. سراتهم في الفارسي المرد

[ 153 ]

وإنما يخوف العدو باليقين لا بالشك ولكنه أمرهم بالظن لان الظن يكفيهم في الانقلاع عن المخالفة، بلا حاجة إلى اليقين حتى يتكلف المهدد إلى ايجاد اليقين فيهم بالتفهيم من غير اعتناء منه بشأنهم، وعلى هذا فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى: (فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا) الكهف - 110، وهذا كله لو كان المراد باللقاء في قوله تعالى: ملاقوا ربهم، يوم البعث ولو كان المراد به ما سيأتي تصويره في سورة الاعراف إنشاء الله فلا محذور فيه أصلا.

(بحث روائي)

 في الكافي عن الصادق عليه السلام قال: كان علي إذا أهاله أمر فزع قام إلى الصلوة ثم تلا هذه الآية: واستعينوا بالصبر والصلوة. وفي الكافي أيضا: عنه عليه السلام في الآية، قال: الصبر الصيام، وقال: إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم. إن الله عز وجل يقول: واستعينوا بالصبر يعنى الصيام. اقول: وروى مضمون الحديثين العياشي في تفسيره. وتفسير الصبر بالصيام من باب المصداق والجري. وفي تفسير العياشي: عن أبي الحسن عليه السلام: في الآية قال: الصبر الصوم، إذا نزلت بالرجل الشدة أو النازلة فليصم، إن الله يقول: واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين. والخاشع الذليل في صلوته المقبل عليها، يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام. اقول: قد استفاد عليه السلام إستحباب الصوم والصلوة عند نزول الملمات والشدائد، وكذا التوسل بالنبي والولي عندها، وهو تأويل الصوم والصلوة برسول الله وأمير المؤمنين. وفي تفسير العياشي أيضا: عن علي عليه السلام: في قوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم الآية يقول: يوقنون أنهم مبعوثون، والظن منهم يقين.

[ 154 ]

اقول: ورواه الصدوق أيضا. وروى ابن شهر آشوب عن الباقر عليه السلام: أن الآية نازلة في علي وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر وأصحاب لهم. يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين - 47. واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولاهم ينصرون - 48.

(بيان)

 قوله تعالى: واتقوا يوما لا تجزى. الملك والسلطان الدنيوي بأنواعه وأقسامه وبجميع شؤونه، وقواه المقننة الحاكمة والمجرية مبتنية على حوائج الحيوة وغايتها رفع الحاجة حسب ما يساعد عليه العوامل الزمانية والمكانية، فربما بدل متاع من متاع أو نفع من نفع أو حكم من حكم من غير ميزان كلي يضبط الحكم ويجري ذلك في باب المجازاة أيضا فإن الجرم والجنايت عندهم يستتبع العقاب، وربما بدل الحاكم العقاب لغرض يستدعي منه ذلك كان يلح المحكوم الذي يرجى عقابه على القاضي ويسترحمه أو يرتشيه فينحرف في قضائه فيجزي أي يقضي فيه بخلاف الحق، أو يبعث المجرم شفيعا يتوسط بينه وبين الحاكم أو مجري الحكم أو يعطي عدلا وبدلا إذا كانت حاجة الحاكم المريد للعقاب إليه أزيد وأكثر من الحاجة إلى عقاب ذالك المجرم، أو يستنصر فومه فينصروه فيتخلص بذالك عن تبعة العقاب ونحو ذلك. تلك سنة جارية وعادة حيوة دنيوية يطرد فيها قانون الاسباب ويحكم فيها ناموس التأثير والتأثر المادي

[ 155 ]

الطبيعي، فيقدمون إلى آلهتم أنواع القرابين والهدايا للصفح عن جرائمهم أو الامداد في حوائجهم، أو يستشفعون بها، أو يفدون بشيئ عن جريمة أو يستنصرون بنفس أو سلاح حتى أنهم كانوا يدفنون مع الاموات أنواع الزخرف والزينة، ليكون معهم ما يتمتعون به في آخرتهم، ومن أنواع السلاح ما يدافعون به عن أنفسهم، وربما ألحدوا معه من الجواري من يستأنس بها، ومن الابطال من يستنصر به الميت، وتوجد اليوم في المتاحف بين آثار الارضية عتائق كثيرة من هذا القبيل، ويوجد عقائد متنوعة شبيهة بتلك العقائد بين الملل الاسلامية على اختلاف السنتهم والوانهم، بقيت بينهم بالتوارث، ربما تلونت لونا بعد لون، جيلا بعد جيل، وقد أبطل القرآن جميع هذه الآراء الواهية، والاقاويل الكاذبة، فقد قال عز من قائل: (والامر يومئذ لله، الانفطار - 19، وقال: (ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب) البقرة - 166، وقال: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعائكم الذين زعمتم انهم فيكم شركاء، لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) الانعام - 94، وقال: (هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) يونس - 30، إلى غير ذلك من الآيات التي بين فيها: أن الموطن خال عن الاسباب الدنيوية، وبمعزل عن الارتباطات الطبيعية، وهذا اصل يتفرع عليه بطلان كل واحد من تلك الاقاويل والاوهام على طريق الاجمال، ثم فصل القول في نفي واحد واحد منها وإبطاله فقال: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) البقرة - 48، وقال: (يوم لا بيع فيه، ولا خلة، ولا شفاعة) البقرة - 254، وقال: (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا) الدخان - 41، وقال (يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم) المؤمن - 33، وقال: (ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون) الصافات - 26، وقال: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعائنا عند الله قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض سبحانه وتعالى عما يشركون) يونس - 18، وقال: (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) المؤمن - 18، وقال: (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) الشعراء - 101، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة النافية لوقوع الشفاعة وتأثير الوسائط

[ 156 ]

والاسباب يوم القيامة هذا. ثم إن القرآن مع ذلك لا ينفي الشفاعة من أصلها، بل يثبتها بعض الاثبات. قال تعالى: (الله الذي خلق السموات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون) السجدة - 3، وقال تعالى: (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) الانعام - 51، وقال تعالى: (قل لله الشفاعة جميعا) الزمر - 44، وقال تعالى: (له ما في السموات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده الا باذنه، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) البقرة - 255، وقال تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة ايام ثم إستوى على العرش يدبر الام ر ما من شفيع الا من بعد اذنه) يونس - 3، وقال تعالى: (وقالوا إتخذ الله ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن إرتضى وهم من خشيته مشفقون) الانبياء - 28، وقال: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة الا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف - 86، وقال: (ولا يملكون الشفاعة الا من إتخذ عند الرحمن عهدا) مريم - 87، وقال تعالى: (يومئذ لا تنفع الشفاعة الا من أذن له الرحمن ورضي له قولا، يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) طه - 110، وقال تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) السبأ - 23، وقال تعالى: (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا الا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) النجم - 26، فهذه الآيات كما ترى بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عز اسمه كالآيات الثلاثة الاولى وبين ما يعممها لغيره تعالى باذنه وارتضائه ونحو ذلك، وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب، غير ان بعضها تثبتها بنحو الاصالة لله وحده من غير شريك، وبعضها تثبتها لغيره باذنه وارتضائه، وقد عرفت أن هناك آيات تنفيها فتكون النسبة بين هذه الآيات كالنسبة بين الآيات النافية لعلم الغيب عن غيره، واثباته له تعالى بالاختصاص ولغيره بارتضائه، قال تعالى: (قل لا يعلم من في السموات والارض الغيب) النحل - 65، وقال تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) الانعام - 59 وقال تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من إرتضى من رسول) الجن - 27، وكذلك الآيات الناطقة في التوفي والخلق والرزق والتأثير والحكم والملك وغير ذلك فانها

[ 157 ]

شائعة في اسلوب القرآن، حيث ينفي كل كمال عن غيره تعالى، ثم يثبته لنفسه، ثم يثبته لغيره باذنه ومشيته، فتفيد ان الموجودات غيره تعالى لا تملك ما تملك من هذه الكمالات بنفسها وإستقلالها، وإنما تملكها بتمليك الله لها إياها، حتى أن القرآن تثبت نوعا من المشية في ما حكم فيه وقضى عليه بقضاء حتم، كقوله تعالى: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والارض إلا ما شاء ربك، إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والارض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ) هود - 108، فقد علق الخلود بالمشية وخاصة في خلود الجنة مع حكمه بأن العطاء غير مجذوذ، اشعارا بأن قضائه تعالى بالخلود لا يخرج الامر من يده ولا يبطل سلطانه وملكه عز سلطانه كما يدل عليه قوله: (إن ربك فعال لما يريد) هود - 107، وبالجملة لا إعطاء هناك يخرج الامر من يده ويوجب له الفقر، ولا منع يضطره إلى حفظ ما منعه وإبطال سلطانه تعالى. من هنا يظهر أن الآيات النافية للشفاعة، إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة فإنما تنفيها عن غيره تعالى بمعنى الاستقلال في الملك، والآيات المثبتة تثبتها لله سبحانه بنحو الاصالة، ولغيره تعالى باذنه وتمليكه، فالشفاعة ثابتة لغيره تعالى باذنه فلننظر ما ذا يفيده كلامه في معنى الشفاعة ومتعلقها ؟ وفيمن تجري ؟ وممن تصح ؟ ومتى تتحقق ؟ وما نسبتها إلى العفو والمغفرة منه تعالى ؟ ونحو ذلك في أمور. (بيان)

 1 - ما هي الشفاعة ؟

 الشفاعة على ما نعرف من معناها إجمالا بالقريحة المكتسبة من الاجتماع والتعاون و (هي من الشفع مقابل الوتر كأن الشفيع ينضم إلى الوسيلة الناقصة التي مع المستشفع فيصير به زوجا بعد ما كان فردا فيقوى على نيل ما يريده، لو لم يكن يناله وحده لنقص وسيلته وضعفها وقصورها) من الامور التي نستعلمها لانجاح المقاصد، ونستعين بها على حوائج الحيوة، وجل الموارد التي نستعملها فيها اما مورد يقصد فيها جلب المنفعة والخير، وإما مورد يطلب فيها دفع المضرة والشر، لكن لا كل نفع وضرر،

[ 158 ]

فإنا لا نستشفع فيما يتضمنه الاسباب الطبيعية والحوادث الكونية من الخير والشر والنفع والضر، كالجوع، والعطش، والحر، والبرد، والصحة، والمرض، بل نتسبب فيها بالاسباب الطبيعية، ونتوسل إليها بوسائلها المناسبة لها كالاكل، والشرب، واللبس والاكتنان والمداواة، وانما نستشفع في الخيرات والشرور والمنافع والمضار التى تستدعيها أو تستتبعها أوضاع القوانين الاحكام التي وضعتها واعتبرتها وقررتها واجرتها حكومة الاجتماع بنحو الخصوص أو العموم، ففي دائرة المولوية والعبودية وعند كل حاكم ومحكوم، وأحكام من الامر والنهي إذا عمل بها وإمتثلها المكلف بها استتبع ذلك تبعة الثواب من مدح أو نفع، من جاه أو مال، وإذا خالفها وتمرد منها استتبع ذلك تبعة العقاب من ذم أو ضرر مادي، أو معنوي، فإذا أمر المولى أو نهي عبده، أو كل من هو تحت سيادته وحكومته بأمر أو نهى مثلا فامتثله كان له بذلك أجر كريم، وإن خالف كان له عقاب أو عذاب فهناك نوعان من الوضع والاعتبار، وضع الحكم ووضع تبعة الحكم، يتعين به تبعة الموافقة والمخالفة. وعلى هذا الاصل تدور جميع الحكومات العامة بين الملل والخاصة بين كل إنسان ومن دونه. فإذا أراد الانسان أن ينال كمالا وخيرا ماديا أو معنويا وليس عنده ما يستوجب ذلك بحسب ما يعينه الاجتماع، ويعرف به لياقتة، أو اراد ان يدفع عن نفسه شرا متوجها إليه من عقاب المخالفة وليس عنده ما يدفعه، أعني الامتثال والخروج عن عهدة التكليف، وبعبارة واضحة إذا أراد نيل ثواب من غير تهيئة أسبابه، أو التخلص من عقاب من غير إتيان التكليف المتوجة إليه فذلك مورد الشفاعة، وعنده تؤثر لكن لا مطلقا فإن من لا لياقة له بالنسبة الي التلبس بكمال، أو لا رابطة له تربطها إلى المشفوع عنده أصلا، كالعامي الامي الذي يريد تقلد مقام علمي، أو الجاحد الطاغي الذي لا يخضع لسيده أصلا لا تنفع عنده الشفاعة، فإنما الشفاعة متممة للسبب لا مستقلة في التأثير. ثم إن تأثير الشفيع عند الحاكم المشفوع عنده لا يكون تأثيرا جزافيا من غير سبب يوجب ذلك بل لا بد أن يوسط أمرا يؤثر في الحاكم، ويوجب نيل الثواب،

[ 159 ]

أو التخلص من العقاب، فالشفيع لا يطلب من المولى مثلا أن يبطل مولوية نفسه وعبودية عبده فلا يعاقبه، ولا يطلب منه أن يرفع اليد عن حكمه وتكليفه المجعول، أو ينسخه عموما أو في خصوص الواقعة فلا يعاقبه، ولا يطلب منه أن يبطل قانون المجازاة عموما أو خصوصا فلا يعاقب لذلك رأسا، أو في خصوص الواقعة، فلا نفوذ ولا تأثير للشفيع في مولوية وعبودية، ولا في حكم ولا في جزاء حكم، بل الشفيع بعد ما يسلم جميع الجهات الثلاث المذكورة إنما يتمسك: إما بصفات في المولى الحاكم توجب العفو والصفح كسؤدده، وكرمه، وسخائه، وشرافة محتده، وإما بصفات في العبد تستدعي الرأفة والحنان وتثير عوامل المغفرة كمذلته ومسكنته وحقارته وسوء حاله، وإما بصفات في نفسه أعني نفس الشفيع من قربه إلى المولى وكرامته وعلو منزلته عنده فيقول: ما أسألك إبطال مولويتك وعبوديته، ولا أن تبطل حكمك ولا أن تبطل الجزاء، بل أسألك الصفح عنه بأن لك سؤددا ورأفة وكرما لا تنتفع بعقابه ولا يضرك الصفح عن ذنبه أو بأنه جاهل حقير مسكين لا يعتني مثلك بشأنه ولا يهتم بأمره أو بأن لي عندك من المنزلة والكرامة ما يوجب إسعاف حاجتي في تخليصه والعفو عنه. ومن هنا يظهر للمتأمل أن الشفيع إنما يحكم بعض العوامل المربوطة بالمورد المؤثرة في رفع العقاب مثلا من صفات المشفوع عنده أو نحوها على العامل الآخر الذي هو سبب وجود الحكم وترتب العقاب على مخالفته، ونعني بالحكومة ان يخرج مورد الحكم عن كونه موردا بإدخاله في مورد حكم آخر، فلا يشمله الحكم الاول لعدم كونه من مصاديقه لا أن يشمله فيبطل حكمه بعد الشمول بالمضادة كإبطال الاسباب المتضادة في الطبيعة بعضها حكم بعض بالمعارضة والغلبة في التأثير، فحقيقة الشفاعة التوسط في إيصال نفع أو دفع شر بنحو الحكومة دون المضادة. ومن هنا يظهر أيضا أن الشفاعة من مصاديق السببية فهي توسيط السبب المتوسط القريب بين السبب الاول البعيد ومسببه، هذا ما يتحصل من تحليل معنى الشفاعة التي عندنا. ثم إن الله سبحانه يمكن أن يقع مورد النظر في السببية من جهتين:

[ 160 ]

إحداهما: أنه يبتدي منه التأثير، وينتهي إليه السببية، فهو المالك للخلق والايجاد على الاطلاق، وجميع العلل والاسباب امور متخللة متوسطة بينه وبين غيره لنشر رحمته التي لا تنفد ونعمته التي لا تحصى إلى خلقه وصنعه. والثانيه: أنه تعالى تفضل علينا بالدنو في حين علوه فشرع الدين ووضع فيه أحكاما من أوامر ونواهي وغير ذلك وتبعات من الثواب والعقاب في الدار الآخرة وأرسل رسلا مبشرين ومنذرين فبلغوه أحسن تبليغ وقامت بذلك الحجة وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته. أما من الجهة الاولى: وهي النظر إليه من جهة التكوين فإنطباق معنى الشفاعة على شأن الاسباب والعلل الوجودية المتوسطة واضح لا يخفى، فإنها تستفيد من صفاته العليا من الرحمة والخلق والاحياء والرزق وغير ذلك إيصال أنواع النعم والفضل إلى كل مفتقر محتاج من خلقه، وكلامه تعالى أيضا يحتمل ذلك، كقوله تعالى: (له ما في السموات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) البقرة - 255، وقوله (إن ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم إستوى على العرش يدبر الامر ما شفيع إلا من بعد إذنه) يونس - 3، فإن الشفاعة في مورد التكوين ليست إلا توسط العلل والا سباب بينه وبين مسبباتها في تدبير أمرها وتنظيم وجودها وبقائها فهذه شفاعة تكوينية. وأما من الجهة الثانية وهى النظر إليه من جهة التشريع فالذي ينبغي أن يقال: أن مفهوم الشفاعة على ما سبق من التحليل يصح صدقه في مورده ولا محذور في ذلك وعليه ينطبق قوله تعالى: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له) الرحمن ورضي له قولا) طه - 109، وقوله: (لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) السبأ - 23، وقوله (لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) النجم - 26، وقوله: (ولا يشفعون إلا لمن إرتضى) الانبياء - 28، وقوله: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة الا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف - 86، فإن الآيات كما ترى تثبت الشفاعة بمعنى الشافعية لعدة من عباده من الملائكة والناس من بعد الاذن والارتضاء، فهو تمليك ولله الملك وله الامر فلهم أن يتمسكوا برحمته وعفوه

[ 161 ]

ومغفرته وما أشبه ذلك من صفاته العليا لتشمل عبدا من عباده سائت حاله بالمعصية، وشملته بلية العقوبة، فيخرج عن كونه مصداقا للحكم الشامل، والجرم الع امل على ما عرفت أن تأثير الشفاعة بنحو الحكومة دون التضاد وهو القائل عز من قائل: (أؤلئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) الفرقان - 70، فله تعالى أن يبدل عملا من عمل كما أن له أن يجعل الموجود من العمل معدوما، قال تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) الفرقان - 23، وقال تعالى: (فأحبط أعمالهم) محمد - 10، وقال تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) النساء - 31، وقال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء - 48، والآية في غير مورد الايمان والتوبة قطعا فإن الايمان والتوبة يغفر بهما الشرك أيضا كسائر الذنوب وله تكثير القليل من العمل، قال تعالى: (أؤلئك يؤتون أجرهم مرتين) القصص - 65، وقال: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) الانعام - 160، وله سبحانه أن يجعل المعدوم من العمل موجودا، قال تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ كل أمرء بما كسب رهين) الطور - 21، وهذا هو اللحوق والالحاق وبالجملة فله تعالى أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. نعم إنما يفعل لمصلحة مقتضية، وعلة متوسطة ولتكن من جملتها شفاعة الشافعين من أنبيائه وأوليائه والمقربين من عباده من غير جزاف ولا ظلم. ومن هنا ظهر أن معنى الشفاعة بمعنى الشافعية، صادق بحسب الحقيقة في حقه تعالى فإن كلا من صفاته متوسطة بينه وبين خلقه في إفاضة الجود وبذل الوجود فهو الشفيع في الحقيقة على الاطلاق. قال تعالى: (قل لله الشفاعة جميعا) الزمر - 44، وقال تعالى: (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع) السجدة - 4، وقال تعالى: (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) الانعام - 51. وغيره تعالى لو كان شفيعا فإنما هو بإذنه وتمليكه. فقد ثبت بما مر صحة تحقق الشفاعة عنده تعالى في الجملة فيما لا يوجب محذورا لا يليق بساحة كبريائه تعالى.

[ 162 ]

2 - اشكالات الشفاعة

 قد عرفت: أن الشفاعة ثابتة في الجملة لا بالجملة، وستعرف أن الكتاب وكذلك السنة لا يثبتان أزيد من ذلك، بل التأمل في معناها وحده يقضي بذلك، فإن الشفاعة كما مر يرجع بحسب المعنى إلى التوسط في السببية والتأثير، ولا معنى للاطلاق في السببية والتأثير فلا السبب يكون سببا لكل مسبب من غير شرط ولا مسبب واحد يكون مسببا لكل سبب على الاطلاق فإن ذلك يؤدي إلى بطلان السببيه وهو باطل بالضرورة. ومن هنا اشتبه الامر على النافين للشفاعة حيث توهموها مطلقة من غير شرط فاستشكلوا فيها بامور وبنوا عليها بطلان هذه الحقيقة القرآنية من غير تدبر فيما يعطيه كلامه تعالى وهاك شطرا منها: الاشكال الاول: أن رفع العقاب عن المجرم يوم القيامة بعد ما أثبته الله تعالى بالوعيد إما أن يكون عدلا أو ظلما. فإن كان عدلا كان أصل الحكم المستتبع للعقاب ظلما لا يليق بساحته تعالى وتقدس، وإن كان ظلما كان شفاعة الانبياء مثلا سؤالا للظلم منه وهو جهل لا يجوز نسبته إليهم صلوات الله عليهم. والجواب عنه أولا: بالنقض فإنه منقوض بالاوامر الامتحانية فرفع الحكم الامتحاني ثانيا وإثباته أولا كلاهما من العدل: والحكمة فيها اختبار سريرة المكلف أو إظهار باطن أمره أو إخراج ما في قوته إلى الفعل، فيقال في مورد الشفاعة أيضا يمكن أن تكون النجاة مكتوبة لجميع المؤمنين، ثم يوضع الاحكام وما لمخالفتها من أنواع العقاب ليهلك الكافرون بكفرهم، وأما المؤمنون فيرتفع بالطاعة درجات المحسنين منهم ويبقى السميئون فينالون بالشفاعة النجاة المكتوبة لهم ولو بالنسبة إلى بعض أنواع العذاب أو أفراده مع مقاساة البعض الآخر كإحوال البرزخ وأهوال يوم القيامة، فيكون بذلك أصل وضع الحكم وعقابه أولا عدلا ورفع عقابه ثانيا عدلا. وثانيا: بالحل، فإن رفع العقاب أولا بواسطة الشفاعة إنما يغاير الحكم الاول فيما ذكر من العدل والظلم لو كان رفع العقاب بالشفاعة نقضا للحكم الاول أو نقضا للحكم باستتباع العقوبة وقد عرفت أنه ليس كذلك بل أثر الشفاعة بالحكومة لا

[ 163 ]

بالمضادة فيها إخراج المجرم عن كونه مصداقا لشمول العقاب بجعله مصداقا لشمول الرحمة من صفات اخرى له تعالى من رحمة وعفو ومغفرة، ومنها إفضاله للشافع بالاكرام والاعظام. الاشكال الثاني: أن سنة الله تعالى جرت على صون أفعاله من التخلف والاختلاف، فما قضى وحكم به يجريه على وتيرة واحدة من غير استثناء، وعلى هذا جرت سنة الاسباب، قال تعالى: (هذا صراط على مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من إتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين) الحجر - 43، وقال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم) الانعام - 153، وقال تعالى: (فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) الفاطر - 42، وتحقق الشفاعة موجب للاختلاف في الفعل فان رفع العقاب بالشفاعة عن جميع المجرمين في جميع جرائمهم موجب لنقض الفرض المحال، ولعب ينافي الحكمة قطعا، ورفعة عن بعض المجرمين أو في بعض جرائمهم وذنوبهم إختلاف في فعله تعالى وتغير وتبدل في سنته الجارية وطريقته الدائمة، إذ لا فرق بين المجرمين في أن كل واحد منهم مجرم ولا بين الذنوب في أن كلا منها ذنب وخروج عن زي العبودية فتخصيص بعضهم أو بعض من أعمالهم بالصفح والاغماض دون بعض بواسطة الشفاعة محال، وإنما تجري الشفاعة وما يشبهها في سنة هذه الحيوة من إبتناء الاعمال والافعال على الاهواء والاوهام التي ربما تقضي في الحق والباطل على السواء، وتجري عن الحكمة وعن الجهالة على نسق واحد. والجواب أنه لا ريب في أن صراطه تعالى مستقيم وسنته واحدة لكن هذه السنة الواحدة الغير المختلفة ليست قائمة على أصل صفة واحدة من صفاته تعالى كصفة التشريع والحكم مثلا حتى لا يتخلف حكم عن مورده ولا جزاء حكم عن محله قط بل هي قائمة على ما يستوجبه جميع صفاته المربوطة علت صفاته. توضيح ذلك: أن الله سبحانه هو الواهب المفيض لكل ما في الوجود من حيوة أو موت أو رزق أو نعمة أو غير ذلك. وهي أمور مختلفة لا ترتبط به سبحانه على السواء ولا لرابطة واحدة كيف كانت، فإن فيه بطلان الارتباط والسببية، فهو تعالى لا يشفي مريضا من غير سبب موجب ومصلحة مقتضية ولا يشفيه لانه الله المميت

[ 164 ]

المنتقم شديد البطش بل لانه الله الرؤوف الرحيم المنعم الشافي المعافي مثلا ولا يهلك جبارا مستكبرا من غير سبب، لانه رؤوف رحيم به، بل لانه الله المنتقم الشديد البطش القهار مثلا وهكذا. والقرآن بذلك ناطق فكل حادث من الحوادث بما يشتمل عليه من جهات الوجود يسند إليه من جهة صفة أو أكثر من صفاته العليا تتسبب إليه بالتلائم والايتلاف الواقع بينها والاقتضاء المستنتج من ذلك، وإن شئت قلت: كل أمر من الامور يرتبط به تعالى من جهة ما يتضمنه من المصالح والخيرات. إذا عرفت هذا علمت: أن استقامة صراطه وعدم تبدل سنته وعدم اختلاف فعله إنما هي بالنسبة إلى ما يفعله بجميع صفاته المربوطة لا بالنسبة إلى مقتضي صفة قاصره وإن شئت قلت: بالنسبة إلى ما يتحصل من الفعل والانفعال والكسر والانكسار الواقع بين الحكم والمصالح المرتبطة بالمورد لا بالنسبة إلى مقتضى مصلحة واحدة. فلو كان هناك سبب الحكم المجعول فقط لم يتغير ولم يختلف في بر ولا فاجر ولا مؤمن ولا كافر. لكن الاسباب كثيرة ربما استدعى توافق عدة منها غير ما يقتضيه بعضها فافهم ذلك. فوقوع الشفاعة وارتفاع العقاب - وذلك أثر عدة من الاسباب كالرحمة والمغفرة والحكم والقضاء وإعطاء كل ذي حق حقه والفصل في القضاء - لا يوجب اختلافا في السنة الجارية وضلالا في الصراط المستقيم. الاشكال الثالث: أن الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك أراد غيره حكم به أو لا فلا تتحقق الشفاعة إلا بترك إلارادة ونسخها لاجل الشفيع فأما الحاكم العادل فإنه لا يقبل الشفاعة إلا إذا تغير علمه بما كان أراده أو حكم به، كأن أخطأ ثم عرف الصواب ورأى أن المصلحة أو العمل في خلاف ما كان يريده أو حكم به وأما الحاكم المستبد الظالم فإنه يقبل شفاعة المقربين عنده في الشئ وهو عالم بأنه ظلم وأن العدل في خلافه ولكنه يفضل مصلحة إرتباطه بالشافع المقرب عنده على العدالة، وكل من النوعين محال على الله تعالى لان إرادته على حسب علمه وعلمه أزلي لا يتغير. والجواب أن ذلك منه تعالى ليس من تغير الارادة والعلم في شئ وانما التغير في المراد والمعلوم، فهو سبحانه يعلم أن الانسان الفلاني سيتحول عليه الحالات فيكون

[ 165 ]

في حين كذا على حال كذا لاقتران أسباب وشرائط خاصة فيريد فيه بإرادة، ثم يكون في حين آخر على حال آخر جديد يخالف الاول لاقتران أسباب وشرائط اخر فيريد فيه بارادة اخرى وكل يوم هو في شأن، وقد قال تعالى: (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) الرعد - 39، وقال (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) المائدة - 67، مثال ذلك: أنا نعلم أن الهواء ستغشاة الظلمة فلا يعمل أبصارنا والحاجة إليه قائمة ثم تنجلي الظلمة بانارة الشمس فتتعلق إرادتنا عند إقبال الليل بالاستضائة بالسراج وعند إنقضائه باطفائه والعلم والارادة غير متغيرتين وإنما تغير المعلوم والمراد، فخرجا عن كونهما منطبقا عليه للعلم والارادة، وليس كل علم ينطبق على كل معلوم، ولا كل إرادة تتعلق بكل مراد، نعم تغير العلم والارادة المستحيل عليه تعالى هو بطلان إنطباق العلم على المعلوم والارادة على المراد مع بقاء المعلوم والمراد على حالهما وهو الخطأ والفسخ، مثل أن ترى شبحا فتحكم بكونه إنسانا ثم يتبين انه فرس فيتبدل العلم، أو تريد أمرا لمصلحة ما ثم يظهر لك أن المصلحة في خلافه فتنفسخ إرادتك، وهذان غير جائزين في مورده تعالى، والشفاعة ورفع العقاب بها ليس من هذا القبيل كما عرفت. الاشكال الرابع: أن وعد الشفاعة منه تعالى أو تبليغها من الانبياء عليهم السلام مستلزم لتجري الناس على المعصية واغراء لهم على هتك محارم الله تعالى وهو مناف للغرض الوحيد من الدين من سوق الناس إلى العبودية والطلاعة فلا بد من تأويل ما يدل عليه من الكتاب والسنة بما لا يزاحم هذا الاصل البديهي. والجواب عنه، اولا: بالنقض بالآيات الدالة على شمول المغفرة وسعة الرحمة كقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء - 51، والآية - كما مر - في غير مورد التوبة بدليل إستثنائه الشرك المغفور بالتوبة. وثانيا: بالحل: فإن وعد الشفاعة أو تبليغها إنما يستلزم تجري الناس على المعصية وإغرائهم على التمرد والمخالفة بشرطين: احدهما: تعيين المجرم بنفسه ونعته أو تعيين الذنب الذي تقع فيه الشفاعة تعيينا لا يقع فيه لبس بنحو الانجاز من غير تعليق بشرط جائز.

[ 166 ]

وثانيهما: تأثير الشفاعة في جميع أنواع العقاب وأوقاته بأن تقلعه من أصله قلعا. فلو قيل: أن الطائفة الفلانية من الناس أو كل الناس لا يعاقبون على ما أجرموا ولا يؤاخذون فيما أذنبوا أبدا، أو قيل إن الذنب الفلاني لا عذاب عليه قط كان ذلك باطلا من القول ولعبا بالاحكام والتكاليف المتوجهة إلى المكلفين، وأما إذا أبهم الامر من حيث الشرطين فلم يعين أن الشفاعة في أي الذنوب وفي حق أي المذنبين أو ان العقاب المرفوع هو جميع العقوبات وفي جميع الاوقات والاحوال، فلا تعلم نفس هل تنال الشفاعة الموعودة أو لا فلا تتجرى على هتك محارم الله تعالى، غير أن ذلك توقظ قريحة رجائها فلا يوجب مشاهدة ما يشاهدها من ذنوبها وآثامها قنوطا من رحمة الله، ويأسا من روح الله، مضافا إلى قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) النساء - 31، فإن الآية تدل على رفع عقاب السيئات والمعاصي الصغيرة على تقدير اجتناب المعاصي الكبيرة فإذا جاز أن يقول الله سبحانه: إن إتقيتم الكبائر عفونا عن صغائركم، فليجز أن يقال: إن تحفظتم على إيمانكم حتى أتيتموني في يوم اللقاء بإيمان سليم قبلت فيكم شفاعة الشافعين، فإنما الشأن كل الشأن في حفظ الايمان والمعاصي تضعف الايمان وتقسي القلب وتجلب الشرك، وقد قال تعالى: (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) الاعراف - 98، وقال: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) المطففين - 14، وقال: (ثم كان عاقبة الذين اساءوا السوآى أن كذبوا بآيات الله) الروم - 10، وربما أوجب ذلك إنقلاعه عن المعاصي، وركوبه علصراط التقوى، وصيرورته من المحسنين، واستغنائه عن الشفاعة بهذا المعنى، وهذا من أعظم الفوائد، وكذا إذا عين المجرم المشفوع له أو الجرم المشفوع فيه لكن صرح بشموله على بعض جهات العذاب أو بعض أوقاته فلا يوجب تجري المجرمين قطعا. والقرآن لم ينطق في خصوص المجرمين وفي خصوص الذنب بالتعيين ولم ينطق في رفع العقاب إلا بالبعض كما سيجئ فلا اشكال أصلا. الاشكال الخامس: ان العقل لو دل فإنما يدل على إمكان وقوع الشفاعة لا على

[ 167 ]

فعلية وقوعها على أن أصل دلالته ممنوع، وأما النقل فما يتضمنه القرآن لا دلالة فيه على وقوعها فإن فيها آيات دالة على نفي الشفاعة مطلقا كقوله، (لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) البقرة - 254، واخرى ناطقة بنفي منفعة الشفاعة كقوله تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) المدثر - 48، وأخرى تفيد النفي بمثل قوله تعالى: (إلا باذنه) البقرة - 255 وقوله: (إلا من بعد إذنه) يونس - 3، وقوله تعالى: (إلا لمن إرتضي) الانبياء - 28، ومثل هذا الاستثناء أي الاستثناء بالاذن والمشية معهود في اسلوب القرآن في مقام النفي القطعي للاشعار بان ذلك باذنه ومشيته سبحانه كقوله تعالى: (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) الاعلى - 6، وقوله تعالى: (خالدين فيها ما دامت السموات والارض إلا ما شاء ربك) هود - 107، فليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة وأما السنة فما دلت عليه الروايات من الخصوصيات لا تعويل عليه، وأما المتيقن منها فلا يزيد على ما في الكتاب دلالة. والجواب: أما عن الآيات النافية للشفاعة فقد عرفت أنها لا تنفي مطلق الشفاعة بل الشفاعة بغير اذن الله وارتضائه، وإما عن الآيات النافية لمنفعة الشفاعة على زعم المستشكل فانها تثبت الشفاعة ولا تنفيه فان الآيات واقعة في سورة المدثر وانما تنفي الانتفاع عن طائفة خاصة من المجرمين لا عن جميعهم، ومع ذلك فالشفاعة مضافة لا مجردة مقطوعة عن الاضافة، ففرق بين أن يقول القائل: فلا تنفعهم الشفاعة وبين أن يقول: فلا تنفعهم شفاعة الشافعين فإن المصدر المضاف يشعر بوقوع الفعل في الخارج بخلاف المقطوع عن الاضافة، نص عليه الشيخ عبد القاهر في دلائل الاعجاز فقوله: شفاعة الشافعين يدل على ان شفاعة ما ستقع غير ان هؤلاء لا ينتفعون بها على ان الاتيان بصيغة الجمع في الشافعين يدل على ذلك أيضا كقوله: (كانت من الغابرين) وقوله: (وكان من الكافرين) وقوله: (وكان من الغاوين) وقوله: (لا ينال عهدي الظالمين) وأمثال ذلك، ولو لا ذلك لكان الاتيان بصيغة الجمع وله مدلول زائد على مدلول المفرد لغوا زائدا في الكلام فقوله: فما تنفعهم شفاعة الشافعين من الآيات المثبتة للشفاعة دون النافية. واما عن الآيات المشتملة على استثناء الاذن والارتضاء فدلالة قوله: (إلا باذنه)

[ 168 ]

وقوله: (إلا من بعد إذنه) على الوقوع وهو مصدر مضاف مما لا ينبغي أن ينكره عارف باساليب الكلام وكذا القول: بكون قوله: (الا بإذنه) وقوله: (إلا لمن إرتضى) بمعنى واحد وهو المشية مما لا ينبغ (الاصغاء إليه، على أن الاستثناء واقع في مورد الشفاعة بوجوه مختلفة كقوله: (إلا باذنه والا من بعد إذنه) وقوله: (الا لمن إرتضى)، وقوله: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) إلى غير ذلك، فهب: (إن الاذن والارتضاء واحد وهو المشية فهل يمكن التفوه بذلك في قوله: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون). فهل المراد بهذا الاستثناء استثناء المشية أيضا ؟ هذا وأمثاله من المساهلة في البيان مما لا يصح نسبته إلى كلام سوقي فكيف بالكلام البليغ ! وكيف بأبلغ الكلام ! وأما السنة فسيأتي الكلام في دلالتها على ما يحاذي دلالة الكتاب. الاشكال السادس: أن الآيات غير صريحة في رفع العقاب الثابت على المجرمين يوم القيامة بعد ثبوت الجرم ولزوم العقاب بل المراد بها شفاعة الانبياء بمعنى توسطهم بما هم أنبياء بين الناس وبين ربهم بأخذ الاحكام بالوحي وتبليغها الناس وهدايتهم وهذا المقدار كالبذر ينمو وينشأ منه ما يستقبله من الاقدار والاوصاف والاحوال فهم عليه السلام شفعاء المؤمنين في الدنيا وشفعائهم في الآخرة. والجواب: انه لا كلام في ان ذلك من مصاديق الشفاعة الا أن الشفاعة غير مقصورة فيه كما مر بيانه، ومن الدليل عليه قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء - 48، وقد مر بيان ان الآية في غير مورد الايمان والتوبة، والشفاعة التي قررها المستشكل في الانبياء انما هي بطريق الدعوة إلى الايمان والتوبة. الاشكال السابع: أن طريق العقل لا يوصل إلى تحقق الشفاعة، وما نطق به القرآن آيات متشابهة تنفيها تارة وتثبتها اخرى، وربما قيدتها وربما أطلقتها، والادب الديني الايمان بها، وإرجاع علمها إلى الله تعالى. والجواب عنه: أن المتشابهة من الآيات تصير بارجاعها إلى المحكمات محكمات مثلها، وهو امر ميسور لنا غير مضروب دونه الستر، كما سيجئ بيانه عند قوله

[ 169 ]

تعالى: (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) آل عمران - 7.

 3 - فيمن تجري الشفاعة ؟

 قد عرفت ان تعيين المشفوع لهم يوم القيامة لا يلائم التربية الدينية كل الملائمة الا أن يعرفوا بما لا يخلو عن شوب ابهام وعلى ذلك جرى بيان القرآن، قال تعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين) المدثر - 48، بين سبحانه فيها ان كل نفس مرهونة يوم القيامة بما كسبت من الذنوب) مأخوذه بما اسلفت من الخطايا إلا أصحاب اليمين فقد فكوا من الرهن واطلقوا واستقروا في الجنان، ثم ذكر انهم غير محجوبين عن المجرمين الذين هم مرهونون باعمالهم، مأخوذ عليهم في سقر، يتساءلون عنهم سلوكهم في النار، وهم يجيبون بالاشارة إلى عدة صفات ساقتهم إلى النار، فرع على هذه الصفات بأنه لم ينفعهم لذلك شفاعة الشافعين. ومقتضى هذا البيان كون أصحاب اليمين غير متصفين بهذه الصفات التي يدل الكلام على كونها هي المانعة عن شمول الشفاعة، وإذا كانوا غير متصفين بهذه الصفات المانعة عن شمول الشفاعة وقد فك الله تعالى نفوسهم عن رهانة الذنوب والآثام دون المجرمين المحرومين عن الشفاعة، المسلوكين في سقر، فهذا الفك والاخراج إنما هو بالشفاعة فأصحاب اليمين هم المشفعون بالشفاعة وفي الآيات تعريف اصحاب اليمين بإنتفاء الاوصاف المذكورة عنهم، بيان ذلك: أن الآيات واقعة في سورة المدثر وهي من السور النازلة بمكة في بدء البعثة كما ترشد إليه مضامين الآيات الواقعة فيها، ولم يشرع يومئذ الصلوة والزكوة بالكيفية الموجودة اليوم، فالمراد بالصلوة في قوله لم نك من المصلين التوجه إلى الله تعالى بالخضوع العبودي، وباطعام المسكين مطلق الانفاق على المحتاج في سبيل الله، دون الصلوة والزكوة المعهودتين في الشريعة الاسلامية والخوض هو الغور في ملاهي الحيوة وزخارف الدنيا الصارفة للانسان عن الاقبال على

[ 170 ]

الآخرة وذكر الحساب يوم الدين: أو التعمق في الطعن في آيات الله المذكرة ليوم الحساب المبشرة المنذرة، وبالتلبس بهذه الصفات الاربعة، وهي ترك الصلوة لله وترك الانفاق في سبيل الله والخوض وتكذيب يوم الدين ينهدم أركان الدين، وبالتلبس بها تقوم قاعدته على ساق فان الدين هو الاقتداء بالهداة الطاهرين بالاعراض عن الاخلاد إلى الارض والاقبال إلى يوم لقاء الله وهذان هما ترك الخوض وتصديق يوم الدين ولازم هذين عملا التوجه إلى الله بالعبودية، والسعي في رفع حوائج جامعة الحيوة وهذان هما الصلوة والانفاق في سبيل الله، فالدين يتقوم بحسب جهتي العلم والعمل بهذه الخصال الاربع، وتستلزم بقية الاركان كالتوحيد والنبوة إستلزاما هذا، فأصحاب اليمين هم الفائزون بالشفاعة، وهم المرضيون دينا وإعتقادا سواء كانت أعمالهم مرضية غير محتاجة إلى شفاعة يوم القيامة أو لم تكن، وهم المعنيون بالشفاعة، فالشفاعة للمذنبين من اصحاب اليمين، وقد قال تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) النساء - 31، فمن كان له ذنب باق إلى يوم القيامة فهو لا محالة من إهل الكبائر، إذ لو كان الذنب من الصغائر فقط لكان مكفرا عنه، فقد بان أن الشفاعة لاهل الكبائر من أصحاب اليمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنما شفاعتي لاهل الكبائر من امتي فاما المحسنون فما عليهم من سبيل، الحديث. ومن جهة اخرى إنما سمى هؤلاء بأصحاب اليمين في مقابل أصحاب الشمال وربما سموا أصحاب الميمنة في مقابل أصحاب المشئمة، وهو من الالفاظ التي اصطلح عليه القرآن مأخوذ من إيتاء الانسان يوم القيامة كتابه بيمينه أو بشماله، قال تعالى: (يوم ندعوا كل اناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) أسرى - 72، وسنبين في الآيه إن شاء الله تعالى أن المراد من إيتاء الكتاب باليمين إتباع الامام الحق، ومن إيتائه بالشمال إتباع إمام الضلال كما قال تعالى في فرعون: (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار) هود - 98، وبالجملة مرجع التسمية بأصحاب اليمين أيضا إلى إرتضاء الدين كما أن إليه مرجع التوصيف بالصفات الاربعة المذكورة هذا. ثم إنه تعالى قال في موضع آخر من كلامه: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)

[ 171 ]

الانبياء - 28، فأثبت الشفاعة على من إرتضي، وقد أطلق الارتضاء من غير تقييد بعمل ونحوه، كما فعلة في قوله: (إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) طه - 109، ففهمنا أن المراد به إرتضاء أنفسهم أي إرتضاء دينهم لا إرتضاء عملهم، فهذه الآية أيضا ترجع من حيث الافادة إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة ثم إنه تعالى قال (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) فهو يملك الشفاعة (أي المصدر المبني للمفعول) وليس كل مجرم بكافر محتوم له النار، بدليل قوله تعالى: (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيي ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فاؤلئك لهم الدرجات العلى) طه - 75، فمن لم يكن مؤمنا قد عمل صالحا فهو مجرم سواء كان لم يؤمن، أو كان قد آمن ولم يعمل صالحا، فمن المجرمين من كان على دين الحق لكنه لم يعمل صالحا وهو الذي قد اتخذ عند الله عهدا لقوله تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) يس 61 فقوله تعالى: (وأن اعبدوني) عهد بمعنى الامر وقوله تعالى: (هذا صراط مستقيم، عهد بمعنى الالتزام لاشتمال الصراط المستقيم على الهداية إلى السعادة والنجاة، فهؤلاء قوم من أهل الايمان يدخلون النار لسوء أعمالهم، ثم ينجون منها بالشفاعة، وإلى هذا المعنى يلوح قوله تعالى: (قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل اتخذتم عند الله عهدا) البقرة - 80، فهذه الآيات أيضا ترجع إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة، والجميع تدل على أن مورد الشفاعة أعني المشفوع لهم يوم القيمة هم الدائنون بدين الحق من أصحاب الكبائر، وهم الذين إرتضى الله دينهم.

 4 - من تقع منه الشفاعة ؟

 قد عرفت أن الشفاعة منها تكوينية، ومنها تشريعية، فأما الشفاعة التكوينية فجملة الاسباب الكونية شفعاء عند الله بما هم وسائط بينه وبين الاشياء. وأما الشفاعة التشريعية، وهي الواقعة في عالم التكليف والمجازات، فمنها ما يستدعي في الدنيا مغفرة من الله سبحانه أو قربا وزلفى: فهو شفيع متوسط بينه وبين عبده. ومنه

[ 172 ]

التوبة كما قال تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم) الزمر - 54، ويعم شموله لجميع المعاصي حتى الشرك. ومنه الايمان قال تعالى: (آمنوا برسوله، إلى قوله: (ويغفر لكم) الحديد - 28. ومنه كل عمل صالح. قال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم) المائدة - 9، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) المائدة - 35، والآيات فيه كثيرة، ومنه القرآن لقوله تعالى: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) المائدة - 16. ومنه كل ما له إرتباط بعمل صالح، والمساجد والامكنة المتبركة والايام الشريفة، ومنه الانبياء والرسل بإستغفارهم لاممهم. قال تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فإستغفروا الله وإستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) النساء - 64. ومنه الملائكة في إستغفارهم للمؤمنين، قال تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا) المؤمن - 7، وقال تعالى: (والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الارض ألا إن الله هو الغفور الرحيم) الشوري - 5، ومنه المؤمنون بإستغفارهم لانفسهم ولاخوانهم المؤمنين قال تعالى حكاية عنهم (وأعف عنا وإغفر لنا وارحمنا أنت مولينا) البقرة - 286 ومنها الشفيع يوم القيمة بالمعنى الذي عرفت فمنهم الانبياء. قال تعالى: (وقالوا إتخذ الله ولدا سبحانه بل عباد مكرمون) إلى أن قال: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) الانبياء - 29، فأن منهم عيسى بن مريم وهو نبي، وقال تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف - 86، والآيتان تدلان على جواز الشفاعة من الملائكة أيضا لانهم قالوا إنهم بنات الله سبحانه. ومنهم الملائكة. قال تعالى: (وكم من ملك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) النجم - 26، وقال تعالى: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) طه - 110، ومنهم الشهداء

[ 173 ]

لدلالة قوله تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف - 86، على تملكهم للشفاعة لشهادتهم بالحق، فكل شهيد فهو شفيع يملك الشهادة غير ان هذه الشهادة كما مر في سورة الفاتحة وسيأتي في قوله تعالى (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) البقرة - 143، شهادة الاعمال دون الشهادة بمعنى القتل في معركة القتال، ومن هنا يظهر أن المؤمنين أيضا من الشفعاء فإن الله عز وجل أخبر بلحوقهم بالشهداء يوم القيامة قال تعالى: (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم) الحديد - 19، كما سيجئ بيانه.

 5 - بماذا تتعلق الشفاعة ؟

 قد عرفت أن الشفاعة منها تكوينية تتعلق بكل سبب تكويني في عالم الاسباب ومنها شفاعة تشريعية متعلقة بالثواب والعقاب فمنها ما يتعلق بعقاب كل ذنب، الشرك فما دونه كشفاعة التوبة والايمان قبل يوم القيامة ومنها ما يتعلق بتبعات بعض الذنوب كبعض الاعمال الصالحة، وأما الشفاعة المتنازع فيها وهى شفاعة الانبياء وغيرهم يوم القيامة لرفع العقاب ممن إستحقه بالحساب، فقد عرفت في الامر الثالث ان متعلقها أهل المعاصي الكبيرة ممن يدين دين الحق وقد ارتضى الله دينه.

 6 - متى تنفع الشفاعة ؟

 ونعني بها أيضا الشفاعة الرافعة للعقاب، والذي يدل عليه قوله سبحانه: (كل نفس بما كسبت رهينة الا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر) المدثر - 42، فالآيات كما مر دالة على توصيف من تناله الشفاعة ومن يحرم منها غير أنها تدل على أن الشفاعة إما تنفع في الفك عن هذه الرهانة والاقامة والخلود في سجن النار، وأما ما يتقدم عليه من أهوال يوم القيامة وعظائمها فلا دليل على وقوع شفاعة فيها لو لم تدل الآية على انحصار الشفاعة في الخلاص من رهانة النار. واعلم أنه يمكن أن يستفاد من هذه الآيات وقوع هذا التساؤل بعد استقرار

[ 174 ]

أهل الجنة في الجنة واهل النار في النار وتعلق الشفاعة بجمع من المجرمين بإخراجهم من النار، وذلك لمكان قوله: (في جنات، الدال على الاستقرار وقوله: ما سلككم فإن السلوك هو الادخال لكن لا كل إدخال بل إدخال على سبيل النضد والجمع والنظم ففيه معنى الاستقرار وكذا قوله: فما تنفعهم، فإن ما لنفي الحال، فافهم ذلك. واما نشأة البرزخ وما يدل على حضور النبي عليه السلام والائمة عليهم السلام عند الموت وعند مسائلة القبر وإعانتهم إياه علي الشدائد كما سيأتي في قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به) النساء - 158، فليس من الشفاعة عند الله في شئ وإنما هو من سبيل التصرفات والحكومة الموهوبة لهم بإذن الله سبحانه، قال تعالى: (وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنه أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) إلى أن قال: (ونادى أصحاب الاعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغني عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون، أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا انتم تحزنون) الاعراف - 46، 48، 49، ومن هذا القبيل من وجه قوله تعالى: (يوم ندعوا كل اناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه) أسرى - 71، فوساطة الامام في الدعوة، وإيتاء الكتاب من قبيل الحكومة الموهوبة فإفهم. فتحصل أن المتحصل من أمر الشفاعة وقوعها في آخر موقف من مواقف يوم القيامة بإستيهاب المغفرة بالمنع عن دخول النار، أو إخراج بعض من كان داخلا فيها، بإتساع الرحمة أو ظهور الكرامة.

(بحث روائي)

 في أمالي الصدوق: عن الحسين بن خالد عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: إنما شفاعتي لاهل الكبائر من أمتي، فأما المحسنون منهم فما عليهم من سبيل، قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا عليه السلام يا بن رسول الله فما معنى قول الله عز وجل: (ولا يشفعون إلا لمن إرتضى) قال عليه

[ 175 ]

السلام: لا يشفعون إلا لمن إرتضى الله دينه. اقول: قوله صلى الله عيه وآله وسلم: إنما شفاعتي، هذا المعنى رواه الفريقان بطرق متعددة عنه صلى الله عليه وآله وسلم وقد مر إستفادة معناه من الآيات. وفي تفسير العياشي: عن سماعة بن مهران عن أبي ابراهيم عليه السلام: في قول الله: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا، قال: يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين عاما ويؤمر الشمس، فيركب على رؤوس العباد، ويلجمهم العرق، ويؤمر الارض لا تقبل من عرقهم شيئا فيأتون آدم فيستشفعون منه فيدلهم على نوح، ويدلهم نوح على إبراهيم، ويدلهم إبراهيم على موسى، ويدلهم موسى على عيسى، ويدلهم عيسى فيقول: عليكم بمحمد خاتم البشر فيقول محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أنا لها فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له: من هذا ؟ والله أعلم فيقول محمد، فيقال: افتحوا له فإذا فتح الباب استقبل ربه فخر ساجدا فلا رفع رأسه حتى يقال له: تكلم وسل تعط وإشفع تشفع فيرفع رأسه ويستقبل ربه فيخر ساجدا فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتى أنه ليشفع من قد أحرق بالنار فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الامم أوجه من محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو قول الله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا. أقول: وهذا المعنى مستفيض مروي بالاختصار والتفصيل بطرق متعددة من العامة والخاصة، وفيها دلالة على كون المقام المحمود في الآية هو مقام الشفاعة، ولا ينافي ذلك كون غيره صلى الله عليه وآله وسلم من الانبياء، وغيرهم جائز الشفاعة لامكان كون شفاعتهم فرعا لشفاعته فافتتاحها بيده صلى الله عليه وآله وسلم. وفي تفسير العياشي أيضا: عن أحدهما عليه السلام: في قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا، قال: هي الشفاعة. وفي تفسير العياشي أيضا: عن عبيد بن زرارة قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن المؤمن هل له شفاعة ؟ قال: نعم فقال له رجل من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ؟ قال: نعم إن للمؤمنين خطايا وذنوبا وما من أحد إلا يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ. قال: وسأله رجل عن قول رسول الله: أنا سيد ولد آدم ولا

[ 176 ]

فخر. قال: نعم. قال: يأخذ حلقة باب الجنة فيفتحها فيخر ساجدا فيقول الله: إرفع رأسك إشفع تشفع أطلب تعط فيرفع رأسه ثم يخر ساجدا فيقول الله: إرفع رأسك إشفع تشفع واطلب تعط ثم يرفع رأسه فيشفع فيشفع ويطلب فيعطى. وفي تفسير الفرات: عن محمد بن القاسم بن عبيد معنعنا عن بشر بن شريح البصري قال: قلت لمحمد بن علي عليه السلام، آية آية في كتاب الله أرجى ؟ قال: فما يقول فيها قومك ؟ قلت: يقولون: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله)، قال: لكنا أهل بيت لا نقول ذلك. قال: قلت: فأي شئ تقولون فيها ؟ قال: نقول: ولسوف يعطيك ربك فترضى، الشفاعة والله الشفاعة والله الشفاعة. أقول: أما كون قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا، الآية) مقام الشفاعة فربما ساعد عليه لفظ الآية أيضا مضافا إلى ما استفاض عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه مقام الشفاعة فإن قوله تعالى: أن يبعثك، يدل على أنه مقام سيناله يوم القيامة. وقوله محمودا مطلق فهو حمد غير مقيد يدل على وقوعه من جميع الناس من الاولين والآخرين، والحمد هو الثناء على الجميل الاختياري ففيه دلالة على وقوع فعل منه صلى الله عليه وآله وسلم ينتفع به ويستفيد منه الكل فيحمده عليه، ولذلك قال عليه السلام: في رواية عبيد بن زرارة السابقة وما من أحد إلا يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ الحديث. وسيجئ بيان هذا المعنى بوجه آخر وجيه. وأما كون قوله تعالى: ولسوف يعطيك ربك فترضى، أرجى آية في كتاب الله دون قوله تعالى: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا الآية، فإن النهي عن القنوط وإن تكرر ذكره في القرآن الشريف إلا أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم حكاية عن ابراهيم عليه السلام: قال: (ومن يقنط من رحمة الله إلا القوم الضالون) الحجر - 56، وقوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) يوسف - 87، ناظرتان إلى اليأس والقنوط من الرحمة التكوينية بشهادة المورد. وأما قوله تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة

[ 177 ]

الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم) الزمر - 54، إلى آخر الآيات فهو وإن كان نهيا عن القنوط من الرحمة التشريعية بقرينة قوله تعالى أسرفوا على أنفسهم الظاهر في كون القنوط في الآية قنوطا من جهة المعصية، وقد عمم سبحانه المغفرة للذنوب جميعا من غير استثناء، ولكنه تعالى ذيله بالامر بالتوبة والاسلام والعمل بالاتباع فدلت الآية على أن العبد المسرف على نفسه لا ينبغي له أن يقنط من روح الله ما دام يمكنه إختبار التوبة والاسلام والعمل الصالح. وبالجملة فهذه رحمة مقيدة أمر الله تعالى عباده بالتعلق بها، وليس رجاء الرحمة المقيدة كرجاء الرحمة العامة والاعطاء، والارضاء المطلقين الذين وعدهما الله لرسوله الذي جعله رحمة للعالمين ذلك الوعد يطيب نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضي الآية. توضيح ذلك: إن الآية في مقام الامتنان وفيها وعد يختص به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يعد الله سبحانه بمثله أحدا من خلقة قط، ولم يقيد الاعطاء بشئ فهو إعطاء مطلق وقد وعد الله ما يشابه ذلك فريقا من عباده في الجنة فقال تعالى: (لهم فيها ما يشاؤون عند ربهم) الشوري - 22، وقال تعالى: (لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد) ق - 35، فأفاد أن لهم هناك ما هو فوق مشيتهم، والمشية تتعلق بكل ما يخطر ببال الانسان من السعادة والخير، فهناك ما لا يخطر على قلب بشر كما قال تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) السجدة - 17، فإذا كان هذا قدر ما إعطاه الله على عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهو أمر فوق القدر كما عرفت ذلك فما يعطيه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم في مقام الامتنان أوسع من ذلك وأعظم فافهم. فهذا شأن إعطائه تعالى، وأما شأن رضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمن المعلوم أن هذا الرضا ليس هو الرضا بما قسم الله، الذي هو زميل لامر الله. فإن الله هو المالك الغني على الاطلاق وليس للعبد إلا الفقر والحاجة فينبغي أن يرضي بقليل ما يعطيه ربه وكثيره وينبغي أن يرضى بما قضاه الله في حقه، سره ذلك أو ساءه، فإذا كان هذا هكذا فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلم وأعمل، لا يريد إلا ما يريده الله في حقه، لكن هذا

[ 178 ]

الرضا حيث وضع في مقابل الاعطاء يفيد معنى آخر نظير إغناء الفقير بما يشكو فقده، وإرضاء الجائع بإشباعه فهو الارضاء بالاعطاء من غير تحديد، وهذا أيضا مما وعد الله ما يشابهه لفريق من عباده. قال عز من قائل: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أؤلئك هم خير البرية جزاءهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه) البينة - 8، وهذا أيضا لموقع الامتنان و الاختصاص يجب أن يكون أمرا فوق ما للمؤمنين وأوسع من ذلك، وقد قال تعالى: في حق رسوله: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة - 128، فصدق رأفته وكيف يرضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويطيب نفسه أن يتنعم بنعيم الجنة ويرتاض في رياضه وفريق من المؤمنين متغلغلون في دركات السعير، مسجونون تحت أطباق النار وهم معترفون لله بالربوبية، ولرسوله بالرسالة، ولما جاء به بالصدق، وإنما غلبت عليهم الجهالة، ولعب بهم الشيطان، فاقترفوا معاصي من غير عناد وإستكبار. والواحد منا إذا راجع ما أسلفه من عمره ونظر إلى ما قصر به في الاستكمال والارتقاء يلوم نفسه بالتفريط في سعيه وطلبه ثم يلتفت إلى جهالة الشباب ونقص التجارب فربما خمدت نار غضبه وانكسرت سورة ملامته لرحمة ناقصة أودعها الله فطرته، فما ظنك برحمة رب العالمين في موقف ليس فيه إلا جهالة إنسان ضعيف وكرامة النبي الرؤوف الرحيم ورحمة أرحم الراحمين. وقد رأى ما رأى من وبال أمره من لدن نشبت عليه أظفار المنية إلى آخر مواقف يوم القيامة ؟. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له الآية، عن أبي العباس المكبر قال: دخل مولى لامرأة علي بن الحسين يقال له: أبو أيمن فقال: يا أبا جعفر تغرون الناس وتقولون: شفاعة محمد، شفاعة محمد، فغضب أبو جعفر حتى تربد وجهه، ثم قال: (ويحك يا أبا أيمن أغرك أن عف بطنك وفرجك ؟ أما لو قد رأيت أفزاع القيمة لقد احتجت إلى شفاعة محمد، ويلك فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار ؟ قال: ما من أحد من الاولين والآخرين إلا وهو محتاج إلى شفاعة محمد صلى الله عليه عليه وآله وسلم يوم القيامة، ثم قال أبو جعفر: إن لرسول الله الشفاعة في امته، ولنا شفاعة في شيعتنا، ولشيعتنا شفاعة في أهاليهم، ثم قال: وإن المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر، وإن المؤمن ليشفع لخادمه ويقول: يا رب حق خدمتي كان يقيني الحرو البرد.

[ 179 ]

أقول: قوله عليه السلام: ما من أحد من الاولين والآخرين إلا وهو محتاج إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظاهره ان هذه الشفاعة العامة غير التي ذكرها بقوله: ويلك فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار، وقد مر نظير هذا المعني في رواية العياشي عن عبيد بن زرارة عن الصادق عليه السلام. وفي هذا المعنى روايات أخر روتها العامة والخاصة، ويدل عليه قوله تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف - 86، حيث يفيد أن الملاك في الشفاعة هو الشهادة، فالشهداء هم الشفعاء المالكون للشفاعة، وسيأتي أن شاء الله في قوله تعالى (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) البقرة - 143، أن الانبياء شهداء وأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم شهيد عليهم، فهو صلى الله عليه وآله وسلم شهيد الشهداء فهو شفيع الشفعاء ولو لا شهادة الشهداء لما قام للقيامة أساس. وفي تفسير القمي أيضا: في قوله تعالى ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له قال عليه السلام: لا يشفع أحد من أنبياء الله ورسله حتى يأذن الله له إلا رسول الله فإن الله أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة، والشفاعة له وللائمة من ولده ثم من بعد ذلك للانبياء. وفي الخصال: عن علي عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاثة يشفعون إلى الله عز وجل فيشفعون: الانبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء. اقول: الظاهر أن المراد بالشهداء، شهداء معركة القتال كما هو المعروف في لسان الائمة في الاخبار لا شهداء الاعمال كما هو مصطلح القرآن. وفي الخصال في حديث الاربعمائة: وقال عليه السلام: لنا شفاعة ولاهل مودتنا شفاعة. أقول وهناك روايات كثيرة في شفاعة سيدة النساء فاطمة عليه السلام وشفاعة ذريتها غير الائمة وشفاعة المؤمنين حتى السقط منهم. ففي الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تناكحوا تناسلوا فإني أباهي بكم الامم يوم القيامة ولو بالسقط يقوم محبنطئا على باب الجنة فيقال له: أدخل فيقول: لا حتى يدخل أبواي الحديث. وفي الخصال: عن أبي عبد الله عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام قال: إن للجنة

[ 180 ]

ثمانية أبواب، باب يدخل منه النبيون والصديقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا، فلا ازال واقفا على الصراط أدعو واقول: رب سلم شيعتي و محبي وأنصاري ومن تولاني في دار الدنيا فإذا النداء من بطنان العرش، قد اجيبت دعوتك، وشفعت في شيعتك، ويشفع كل رجل من شيعتي ومن تولاني ونصرني وحارب من عاداني بفعل أو قول في سبعين ألفا من جيرانه وأقربائه، وباب يدخل منه ساير المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله ولم يكن في قلبه مقدار ذرة من بغضنا أهل البيت وفي الكافي: عن حفص المؤذن عن أبي عبد الله عليه السلام في رسالته إلى أصحابه قال عليه السلام: واعلموا أنه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك من سره أن ينفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه. وفي تفسير الفرات: باسناده عن الصادق صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال جابر لابي جعفر عليه السلام: جعلت فداك يا بن رسول الله حدثني بحديث في جدتك فاطمة وساق الحديث يذكر فيه شفاعة فاطمة يوم القيامة إلى أن قال: قال أبو جعفر عليه السلام: فو الله لا يبقى في الناس إلا شاك أو كافر أو منافق، فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال الله تعالى فما لنا من شافعين لا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين، قال أبو جعفر عليه السلام: هيهات هيهات منعوا ما طلبوا ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون. اقول: تمسكه عليه السلام بقوله تعالى: فما لنا من شافعين يدل على إستشعار دلالة الآيات على وقوع الشفاعة وقد تمسك بها النافون للشفاعة على نفيها وقد إتضح مما قدمناه في قوله تعالى: فما تنفعهم شفاعة الشافعين وجه دلالتها عليها في الجملة، فلو كان المراد مجرد النفي لكان حق الكلام أن يقال: فما لنا من شفيع ولا صديق حميم، فالاتيان في حيز النفي بصيغة الجمع يدل على وقوع شفاعة من جماعة وعدم نفعها في حقهم، مضافا إلى ان قوله تعالى: فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين بعد قوله: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم المسوق للتحسر تمن واقع في حيز التحسر ومن المعلوم أن التمني في حيز التحسر انما يكون بما يتضمن ما فقده ويشتمل على ما تحسر

[ 181 ]

عليه فيكون معنى قولهم: فلو أن لنا كرة، معناه يا ليتنا نرد فنكون من المؤمنين حتى ننال الشفاعة من الشافعين كما نالها المؤمنون، فالآية من الآيات الدالة على وقوع الشفاعة. وفي التوحيد: عن الكاظم عن أبيه عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما شفاعتي لاهل الكبائر من امتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل، قيل: يا بن رسول الله كيف تكون الشفاعة لاهل الكبائر والله تعالى يقول: ولا يشفعون إلا لمن إرتضى ومن إرتكب الكبيرة لا يكون مرتضى ؟ فقال عليه السلام: ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا سائه ذلك وندم عليه، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كفي بالندم توبه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم من سرته حسنة وسائته سيئة فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب له الشفاعة وكان ظالما والله تعالى ذكره يقول: ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع، فقيل له: يا بن رسول الله وكيف لا يكون مؤمنا من لا يندم على ذنب يرتكبه فقال: ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أن سيعاقب عليه إلا ندم على ما ارتكب، ومتى ندم كان تائبا مستحقا للشفاعة، ومتى لم يندم عليها كان مصرا والمصر لا يغفر له، لانه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب، ولو كان مؤمنا بالعقوبة لندم وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الاصرار، وأما قول الله عز وجل: ولا يشفعون الا لمن ارتضى فإنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه، والدين الاقرار بالجزاء على الحسنات والسيئات، فمن ارتضى دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة. اقول: قوله عليه السلام وكان ظالما، فيه تعريف الظالم يوم القيامة واشارة إلى ما عرفه به القرآن حيث يقول: فاذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون) الاعراف - 44 و 45، وهو الذي لا يعتقد بيوم المجازاة فلا يتأسف على فوت أوامر الله تعالى ولا يسوئه إقتحام محارمه إما بجحد جميع المعارف الحقة والتعاليم الدينية وإما بالاستهانة لامرها وعدم الاعتناء بالجزاء والدين يوم الجزاء والدين فيكون قوله به إستهزائا بأمره وتكذيبا له، وقوله عليه السلام: فتكون تائبا مستحقا للشفاعة، أي راجعا إلى الله ذا دين

[ 182 ]

مرضي مستحقا للشفاعة، وأما التوبة المصطلحة فهي بنفسها شفيعة منجية، وقوله عليه السلام: وقد قال النبي لا كبيرة مع الاستغفار، الخ تمسكه عليه السلام به من جهة أن الاصرار وهو عدم الانقباض بالذنب والندم عليه يخرج الذنب عن شأنه الذي له إلى شأن آخر وهو تكذيب المعاد والظلم بآيات الله فلا يغفر لان الذنب إنما يغفر إما بتوبة أو بشفاعة متوقفة على دين مرضي ولا توبة هناك ولا دين مرضيا. ونظير هذا المعنى واقع في رواية العلل عن أبي إسحق الليثي قال: قلت لابي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام: يا بن رسول الله أخبرني عن المؤمن المستبصر إذا بلغ في المعرفة وكمل هل يزني ؟ قال: اللهم لا، قلت: فيلوط ؟ قال اللهم لا، قلت فيسرق ؟ قال لا، قلت: فيشرب الخمر ؟ قال لا، قلت: فيأتي ؟ بكبيرة من هذه الكبائر أو فاحشة من هذه الفواحش ؟ قال: لا، قلت: فيذنب ذنبا ؟ قال: نعم وهو مؤمن مذنب مسلم، قلت: ما معنى مسلم ؟ قال: المسلم لا يلزمه ولا يصر عليه الحديث. وفي الخصال: بأسانيد عن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا كان يوم القيامة تجلى الله عز وجل لعبده المؤمن فيوقفه على ذنوبه ذنبا ذنبا ثم يغفر الله له لا يطلع الله له ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ويستر عليه أن يقف عليه أحد، ثم يقول لسيئأته كوني حسنات. وعن صحيح مسلم مرفوعا إلى أبى ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يؤتي بالرجل يوم القيامة فيقال: أعرضوا عليه صغار ذنوبه ونحوا عنه كبارها فيقال: عملت يوم كذا وكذا وكذا وهو مقر لا ينكر وهو مشفق من الكبائر فيقال: اعطوه مكان كل سيئة حسنة فيقول: ان لي ذنوبا ما أراها هيهنا، قال: ولقد رايت رسول الله ضحك حتى بدت نواجذه. وفي الامالي: عن الصادق عليه السلام: إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمتة. اقول: والروايات الثلاث الاخيرة من المطلقات والاخبار الدالة على وقوع

[ 183 ]

شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة من طرق أئمة أهل البيت وكذا من طرق أهل السنة والجماعة بالغة حد التواتر، وهي من حيث المجموع إنما تدل على معنى واحد وهو الشفاعة على المذنبين من أهل الايمان إما بالتخليص من دخول النار وإما بالاخراج منها بعد الدخول فيها، والمتيقن منها عدم خلود المذنبين من أهل الايمان في النار وقد عرفت أن القرآن أيضا لا يدل على أزيد من ذلك.

(بحث فلسفي)

 البراهين العقلية وإن قصرت عن إعطاء التفاصيل الواردة كتابا وسنة في المعاد لعدم نيلها المقدمات المتوسطة في الاستنتاج على ما ذكره الشيخ إبن سينا لكنها تنال ما يستقبله الانسان من كمالاته العقلية والمثالية في صراطي السعادة والشقاوة بعد مفارقة نفسه بدنه من جهة التجرد العقلي والمثالي الناهض عليهما البرهان. فالانسان في بادئ أمره يحصل له من كل فعل يفعله هيئة نفسانيه وحال من احوال السعادة والشقاوة، ونعني بالسعادة ما هو خير له من حيث أنه إنسان، وبالشقاوة ما يقابل ذلك، ثم تصير تلك الاحوال بتكررها ملكة راسخة، ثم يتحصل منها صورة سعيدة أو شقية للنفس تكون مبدئا لهيئأت وصور نفسانية، فإن كانت سعيدة فأثارها وجودية ملائمة للصورة الجديدة، وللنفس التي هي بمنزلة المادة القابلة لها، وان كانت شقية فأثارها أمور عدمية ترجع بالتحليل إلى الفقدان والشر، فالنفس السعيدة تلتذ بآثارها بما هي انسان، وتلتذ بها بما هي انسان سعيد بالفعل، والنفس الشقية وان كانت آثارها مستأنسة لها وملائمة بما أنها مبدأ لها لكنها تتألم بها بما انها انسان، هذا بالنسبة إلى النفوس الكاملة في جانب السعادة والشقاوة، أعني الانسان السعيد ذاتا والصالح عملا والانسان الشقى ذاتا والطالح عملا، واما الناقصة في سعادتها وشقاوتها فالانسان السعيد ذاتا الشقى فعلا بمعنى ان يكون ذاته ذات صورة سعيدة بالاعتقاد الحق الثابت غير ان في نفسه هيآت شقية ردية من الذنوب والاثام إكتسبتها حين تعلقها بالبدن الدنيوي وارتضاعها من ثدي الاختيار، فهي امور قسرية غير ملائمة لذاتة، وقد اقيم البرهان على أن القسر لا يدوم، فهذه النفس سترزق التطهر منها في برزخ أو

[ 184 ]

قيمة على حسب قوة رسوخها في النفس، وكذلك الامر فيما للنفس الشقية من الهيآت العارضة السعيدة فانها ستسلب عنها وتزول سريعا أو بطيئا، واما النفس التي لم تتم لها فعلية السعادة والشقاوة في الحيوة الدنيا حتى فارقت البدن مستضعفة ناقصة فهي من المرجئين لامر الله عز وجل، فهذا ما يقتضيه البراهين في المجازاة بالثواب والعقاب المقتضية لكونها من لوازم الاعمال ونتائجها، لوجوب رجوع الروابط الوضعية الاعتبارية بالآخرة إلى روابط حقيقية وجودية هذا. ثم ان البراهين قائمة على أن الكمال الوجودي مختلف بحسب مراتب الكمال والنقص والشدة والضعف وهو التشكيك خاصة في النور المجرد فلهذه النفوس مراتب مختلفة في القرب والبعد من مبدأ الكمال ومنتهاه في سيرها الارتقائي وعودها إلى ما بدأت منها وهي بعضها فوق بعض، وهذه شأن العلل الفاعلية (بمعنى ما به) ووسائط الفيض، فلبعض النفوس وهي النفوس التامة الكاملة كنفوس الانبياء عليهم السلام وخاصة من هو في أرقي درجات الكمال والفعلية وساطة في زوال الهيئات الشقية الردية القسرية من نفوس الضعفاء، ومن دونهم من السعداء إذا لزمتها قسرا، وهذه هي الشفاعة الخاصة بأصحاب الذنوب.

(بحث اجتماعي)

 الذي تعطيه اصول الاجتماع ان المجتمع الانساني لا يقدر على حفظ حياته وادامة وجوده الا بقوانين موضوعة معتبرة بينهم، لها النظارة في حاله، الحكومة في أعمال الافراد وشؤونهم، تنشأ عن فطرة المجتمع وغريزه الافراد المجتمعين بحسب الشرائط الموجودة، فتسير بهدايتها جميع طبقات الاجتماع كل على حسب ما يلائم شأنه ويناسب موقعه فيسير المجتمع بذلك سيرا حثيثا ويتولد بتألف أطرافه وتفاعل متفرقاته العدل الاجتماعي وهي موضوعة على مصالح ومنافع مادية يحتاج إليها إرتقاء الاجتماع المادي، وعلى كمالات معنوية كالاخلاق الحسنة الفاضلة التي يدعو إليها صلاح الاجتماع كالصدق في القول والوفاء بالعهد والنصح وغير ذلك، وحيث كانت القوانين والاحكام وضعية غير حقيقية احتاجت إلى تتميم تأثيرها، بوضع أحكام مقررة اخرى في المجازاة لتكون

[ 185 ]

هي الحافظة لحماها عن تعدي الافراد المتهوسين وتساهل آخرين، ولذلك كلما قويت حكومة (أي حكومة كانت) على إجراء مقررات الجزاء لم يتوقف المجتمع في سيره ولا ضل سائره عن طريقه ومقصده، وكلما ضعفت اشتد الهرج والمرج في داخله وانحرف عن مسيره فمن التعاليم اللازمة تثبيتها في الاجتماع تلقين أمر الجزاء، وإيجاد الايمان به في نفوس الافراد، ومن الواجب الاحتراز من أن يدخل في نفوسهم رجاء التخلص عن حكم الجزاء، وتبعة المخالفة والعصيان، بشفاعة أو رشوة أو بشئ من الحيل والدسائس المهلكة، ولذلك نقموا على الديانة المسيحية ما وقع فيها أن المسيح فدى الناس في معاصيهم بصلبه، فالناس يتكلون عليه في تخليصهم من يد القضاء يوم القيامة ويكون الدين إذ ذاك هادما للانسانية، مؤخرا للمدنية، راجعا بالانسان القهقرى كما قيل. وان الاحصاء يدل من أن المتدينين أكثر كذبا وأبعد من العدل من غيرهم وليس ذلك إلا انهم يتكلون بحقية دينهم، وإدخار الشفاعة في حقهم ليوم القيامة، فلا يبالون ما يعملون بخلاف غيرهم، فإنهم خلوا وغرائزهم وفطرهم ولم يبطل حكمها بما بطل به في المتدينين فحكمت بقبح التخلف عما يخالف حكم الانسانية والمدنية الفاضله. وبذلك عول جمع من الباحثين في تأويل ما ورد في خصوص الشفاعة في الاسلام وقد نطق به الكتاب وتواترت عليه السنة. ولعمري لا الاسلام تثبت الشفاعة بالمعنى الذي فسروها به، ولا الشفاعة التي تثبتها تؤثر الاثر الذي زعموه لها، فمن الواجب أن يحصل الباحث في المعارف الدينية وتطبيق ما شرعه الاسلام على هيكل الاجتماع الصالح والمدنية الفاضلة تمام ما رامه الاسلام من الاصول والقوانين المنطبقة على الاجتماع كيفية ذلك التطبيق، ثم يحصل ما هي الشفاعة الموعودة وما هو محلها وموقعها بين المعارف التي جاء بها. فيعلم اولا: أن الذي يثبته القرآن من الشفاعة هو ان المؤمنين لا يخلدون في النار يوم القيامة بشرط أن يلاقوا ربهم بالايمان المرضي والدين الحق فهو وعد وعده القرآن مشروطا ثم نطق بأن الايمان من حيث بقائه على خطر عظيم من جهة الذنوب ولاسيما الكبائر ولا سيما الادمان منها والامرار فيها، فهو شفا جرف الهلاك الدائم،

[ 186 ]

وبذلك يتحصل رجاء النجاة وخوف الهلاك، ويسلك نفس المؤمن بين الخوف والرجاء فيعبد ربه رغبة ورهبة، ويسير في حيوته سيرا معتدلا غير منحرف لا إلى خمود القنوط، ولا إلى كسل الوثوق. وثانيا: أن الاسلام قد وضع من القوانين الاجتماعية من مادياتها ومعنوياتها ما يستوعب جميع الحركات والسكنات الفردية والاجتماعية، ثم إعتبر لكل مادة من موادها ما هو المناسب له من التبعة والجزاء من دية وحد وتعزير إلى أن ينتهي إلى تحريم مزايا الاجتماع واللوم والذم والتقبيح، ثم تحفظ على ذلك بعد تحكيم حكومة أولياء الامر، بتسليط الكل على الكل بالامر بالمعروف والنهى عن المنكر ثم أحيى ذلك بنفخ روح الدعوة الدينية المضمنة بالانذار والتبشير بالعقاب والثواب في الآخرة، وبنى أساس تربيتة بتلقين معارف المبدا والمعاد على هذا الترتيب. فهذا ما يرومه الاسلام بتعليمه، جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصدقه التجارب الواقع في عهده وعهد من يليه حتى اثبت به أيدي الولاة في السلطنة الاموية ومن شايعهم في استبدادهم ولعبهم بأحكام الدين وابطالهم الحدود والسياسات الدينية حتى آل الامر إلى ما آل إليه اليوم وارتفعت أعلام الحرية وظهرت المدنية الغربية ولم يبق من الدين بين المسلمين إلا كصبابة في إناء فهذا الضعف البين في سياسة الدين وارتجاع المسلمين القهقرى هو الموجب لتنزلهم في الفضائل والفواضل وانحطاطهم في الاخلاق والآداب الشريفة وإنغمارهم في الملاهي والشهوات وخوضهم في الفواحش والمنكرات، هو الذي أجراهم على انتهاك كل حرمة وإقتراف كل ما يستشنعه حتى غير المنتحل بالدين لا ما يتخيله المعترض من إستناد الفساد إلى بعض المعارف الدينية التي لا غاية لها وفيها إلا سعادة الانسان في آجله وعاجله والله المعين، والاحصاء الذي ذكروها إنما وقع على جمعية المتدينين وليس عليهم قيم ولا حافظ قوي وعلى جمعية غير المنتحلين، والتعليم والتربية الاجتماعيان قيمان عليهم حافظان لصلاحهم الاجتماعي فلا يفيد فيما أراده شيئا وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب

[ 187 ]

يذبحون أبناءكم ويستحيون نسائكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم - 49. وإذ فرقنا بكم البحر فانجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون - 50. وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون - 51. ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون - 52. وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون - 53. وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم - 54. وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون - 55. ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون - 56. وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوي كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون - 57. وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين - 58. فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فانزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون - 59. وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا

[ 188 ]

أضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه إثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الارض مفسدين - 60. وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال اتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سئلتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون - 61.

(بيان)

 قوله تعالى: و يستحيون نسائكم، أي يتركونهن احياء للخدمة من غير أن يقتلوهن كالابناء فالاستحياء طلب الحيوة ويمكن أن يكون المعنى ويفعلون ما يوجب زوال حيائهن من المنكرات، ومعنى يسومونكم يولونكم. قوله تعالى: وإذ فرقنا بكم الفرق مقابل الجمع كالفصل والوصل، والفرق في البحر الشق والباء للسببية ألملابسة أي فرقنا لانجائكم البحر أو لملابستكم دخول البحر. قوله تعالى: وإذ واعدنا موسى اربعين ليلة وقص تعالى القصة في سورة الاعراف بقوله: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة) الاعراف - 142، فعد المواعدة فيها أربعين ليلة إما للتغليب أو لانه كانت العشرة الاخيرة بمواعدة أخرى فالاربعون مجموع المواعدتين كما وردت به الرواية.

[ 189 ]

قوله تعالى: فتوبوا إلى بارئكم البارئ من الاسماء الحسنى كما قال تعالى: (هو الله الخالق البارئ المصور له الاسماء الحسنى) الحشر - 24، وقع في ثلاث مواضع من كلامه تعالى: اثنان منها في هذه الآية ولعله خص بالذكر هيهنا من بين الاسماء الملائمة معناه للمورد لانه قريب المعنى من الخالق والموجد، من برء يبرء برائا إذا فصل لانه يفصل الخلق من العدم أو الانسان من الارض، فكأنه تعالى يقول: هذه التوبة وقتلكم أنفسكم وإن كان أشق ما يكون من الاوامر لكن الله الذي أمركم بهذا الفناء والزوال بالقتل هو الذي برئكم فالذي أحب وجودكم وهو خير لكم هو يحب الآن حلول القتل عليكم فهو خير لكم وكيف لا يحب خيركم وقد برئكم، فاختيار لفظ البارئ باضافته إليهم في قوله: إلى بارئكم، وقوله عند بارئكم للاشعار بالاختصاص لاثارة المحبة. قوله تعالى: ذلكم خير لكم عند بارئكم ظاهر الآية وما تقدمها أن هذه الخطابات وما وقع فيها من عد أنواع تعدياتهم ومعاصيهم إنما نسبت إلى الكل مع كونها صادرة عن البعض لكونهم جامعة ذات قومية واحدة يرضى بعضهم بفعل بعض، وينسب فعل بعضهم إلى آخرين. لمكان الوحدة الموجودة فيهم، فما كل بنى اسرائيل عبدوا العجل، ولا كلهم قتلوا الانبياء إلى غير ذلك من معاصيهم وعلى هذا فقوله تعالى: فاقتلوا أنفسكم، إنما يعني به قتل البعض وهم الذين عبدوا العجل كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل، وقوله تعالى: ذلكم خير لكم عند بارئكم تتمة الحكاية من قول موسى كما هو الظاهر، وقوله تعالى: فتاب عليكم يدل على نزول التوبة وقبولها، وقد وردت الرواية أن التوبة نزلت ولما يقتل جميع المجرمين منهم. ومن هنا يظهر أن الامر كان أمرا إمتحانيا نظير ما وقع في قصة رؤيا إبراهيم عليه السلام وذبح اسماعيل (يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) لصافات - 105، فقد ذكر موسى عليه السلام فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم، وأمضى الله سبحانه قوله عليه السلام وجعل قتل البعض قتلا للكل وأنزل التوبة بقوله: فتاب عليكم

[ 190 ]

قوله تعالى: رجزا من السماء، الرجز العذاب. قوله تعالى: ولا تعثوا، العيث والعثى أشد الفساد. قوله تعالى: وقثائها وفومها، القثاء الخيار والفوم الثوم أو الحنطة. قوله تعالى: وبائوا بغضب، أي رجعوا. قوله تعالى: ذلك بأنهم كانوا يكفرون، تعليل لما تقدمه. قوله تعالى: ذلك بما عصوا، تعليل للتعليل فعصيانهم ومداومتهم للاعتداء هو الموجب لكفرهم بالآيات وقتلهم الانبياء كما قال تعالى: (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوآى أن كذبوا بأيات الله وكانوا بها يستهزئون) الروم - 10، وفي التعليل بالمعصية وجه سيأتي في البحث الآتي

(بحث روائي)

في تفسير العياشي: في قوله تعالى: وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان في العلم والتقدير ثلاثين ليلة ثم بدا منه فزاد عشرا فتم ميقات ربه الاول والآخر أربعين ليلة. اقول: والرواية تؤيد ما مر أن الاربعين مجموع المواعدتين. وفي الدر المنثور: عن علي عليه السلام: في قوله تعالى: وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم الآية، قال: قالوا لموسى: ما توبتنا ؟ قال: يقتل بعضكم بعضا فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وإبنه والله لا يبالى من قتل حتى قتل منهم سبعون الفا فأوحى الله إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم وقد غفر لمن قتل وتيب على من بقى. وفي تفسير القمي: قال عليه السلام: أن موسى لما خرج إلى الميقات ورجع إلى قومه وقد عبدوا العجل قال لهم موسى: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فأقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فقالوا له: كيف نقتل

[ 191 ]

أنفسنا فقال لهم موسى: أغدوا كل واحد منكم إلى بيت المقدس ومعه سكين أو حديدة أو سيف فإذا صعدت أنا منبر بني اسرائيل فكونوا أنتم ملتثمين لا يعرف أحد صاحبه فأقتلوا بعضكم بعضا، فاجتمعوا سبعين ألف رجل ممن كان عبدوا العجل إلى بيت المقدس فلما صلى بهم موسى وصعد المنبر أقبل بعضهم يقتل بعضا حتى نزل جبرائيل فقال: قل لهم: يا موسى إرفعوا القتل فقد تاب الله لكم، فقتل منهم عشرة آلاف وأنزل الله: ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم اقول: والرواية كما ترى تدل على كون قوله تعالى: ذلكم خير لكم عند بارئكم مقولا لموسى ومقولا له سبحانه فيكون إمضائا لكلمة قالها موسى وكشفا عن كونها تامة على خلاف ما يلوح من الظاهر من كونها ناقصة فإن الظاهر يعطي أن موسى جعل قتل الجميع خيرا لهم عند بارئهم، وقد قتل منهم البعض دون الجميع فجعل سبحانه، ما وقع من القتل هو الخير الذي ذكره موسى عليه السلام كما مر. وفي تفسير القمي أيضا: في قوله تعالى: وظللنا عليكم الغمام الآية أن بني اسرائيل لما عبر موسى بهم البحر نزلوا في مفازة فقالوا: يا موسى أهلكتنا وقتلتنا وأخرجتنا من العمران إلى مفازة لا ظل، ولا شجر، ولا ماء. وكانت تجئ بالنهار غمامة تظلهم من الشمس وينزل عليهم بالليل المن فيقع على النبات والشجر والحجر فيأكلونه وبالعشي يأتيهم طائر مشوي يقع على موائدهم فإذا أكلوا وشربوا طار ومر وكان مع موسى حجر يضعه وسط العسكر ثم يضر به بعصاه فتنفجر منها إثنتا عشرة عينا كما حكى الله فيذهب إلى كل سبط في رحله وكانوا اثنى عشر سبطا وفي الكافي: في قوله تعالى: وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: إن الله أعز وأمنع من أن يظلم أو ينسب نفسه إلى الظلم ولكنه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته، ثم أنزل الله بذلك قرآنا على نبيه فقال: وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. قال الراوي قلت، هذا تنزيل، قال: نعم. اقول: وروى ما يقرب منه أيضا عن الباقر عليه السلام وقوله عليه السلام أمنع من

[ 192 ]

أن يظلم بالبناء للمفعول تفسير لقوله تعالى: وما ظلمونا، وقوله: أو ينسب نفسه إلى الظلم بالبناء للفاعل: وقوله: ولكنه خلطنا بنفسه أي خلطنا معاشر الانبياء والاوصياء والائمة بنفسه، وقوله: قلت: هذا تنزيل قال: نعم وجهه أن النفي في هذه الموارد وأمثالها إنما يصح فيما يصح فيه الاثبات أو يتوهم صحته، فلا يقال للجدار، أنه لا يبصر أو لا يظلم إلا لنكتة وهو سبحانه أجل من أن يسلم في كلامه توهم الظلم عليه، أو جاز وقوعه عليه فالنكتة في هذا النفي الخلط المذكور لان العظماء يتكلمون عن خدمهم وأعوانهم. وفي تفسير العياشي: في قوله تعالى: ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله الآية عن الصادق عليه السلام أنه قرأ هذه الآية: ذلك بأنهم كانوا يكفرون بأيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون فقال: والله ما ضربوهم بأيديهم ولا قتلوهم بأسيافهم ولكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها فقتلوا فكان قتلا واعتداء ومصيبة. اقول: وفي الكافي عنه عليه السلام مثله وكأنه عليه السلام استفاد ذلك من قوله تعالى: ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون فإن القتل وخاصة قتل الانبياء والكفر بآيات الله لا يعلل بالعصيان بل الامر بالعكس على ما يوجبه الشدة والاهمية لكن العصيان بمعنى عدم الكتمان والتحفظ مما يصح التعليل المذكور به. إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون - 62.

(بيان)

 تكرار الايمان ثانيا وهو الاتصاف بحقيقتة كما يعطيه السياق يفيد أن المراد

[ 193 ]

بالذين آمنوا في صدر الآية هم المتصفون بالايمان ظاهرا المتسمون بهذا الاسم فيكون محصل المعنى أن الاسماء والتسمي بها مثل المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين لا يوجب عند الله تعالى أجرا ولا أمنا من العذاب كقولهم: لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وإنما ملاك الامر وسبب الكرامة والسعادة حقيقة الايمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، ولذلك لم يقل من آمن منهم بإرجاع الضمير إلى الموصول اللازم في الصلة لئلا يكون تقريرا للفائدة في التسمي على ما يعطيه النظم كما لا يخفى وهذا مما تكررت فيه آيات القرآن أن السعادة والكرامة تدور مدار العبودية، فلا إسم من هذه الاسماء ينفع لمتسميه شيئا، ولا وصف من أوصاف الكمال يبقى لصاحبه وينجيه إلا مع لزوم العبودية، الانبياء ومن دونهم فيه سواء، فقد قال تعالى في أنبيائه بعد ما وصفهم بكل وصف جميل: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) الانعام - 88، وقال تعالى في أصحاب نبيه ومن آمن معه مع ما ذكر من عظم شأنهم وعلو قدرهم: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) الفتح - 29، فأتى بكلمة منهم وقال في غيرهم ممن اوتي آيات الله تعالى: (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الارض وإتبع هواه) الاعراف - 176، إلى غير ذلك من الآيات الناصة على أن الكرامة بالحقيقة دون الظاهر.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور: عن سلمان الفارسي قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن اهل دين كنت معهم، فذكر من صلاتهم وعبادتهم فنزلت: (إن الذين آمنوا والذين هادوا) الآية. اقول: وروي أيضا نزول الآية في أصحاب سلمان بعدة طرق أخرى. وفي المعاني: عن ابن فضال قال: قلت للرضا عليه السلام لم سمي النصاري نصارى قال: لانهم كانوا من قرية اسمها ناصرة من بلاد الشام نزلتها مريم وعيسى بعد رجوعهما من مصر.

[ 194 ]

اقول: وفي الرواية بحث سنتعرض له في قصص عيسى عليه السلام من سورة آل عمران انشاء الله. وفي الرواية ان اليهود سموا باليهود لانهم من ولد يهودا بن يعقوب. وفي تفسير القمي: قال: قال عليه السلام: الصابئون قوم لا مجوس ولا يهود ولا نصارى ولا مسلمون وهم يعبدون النجوم والكواكب. اقول: وهي الوثنية، غير أن عبادة الاصنام غير مقصورة عليهم بل الذي يخصهم عبادة أصنام الكواكب.

(بحث تاريخي)

 ذكر أبو ريحان البيروني في الآثار الباقية ما لفظه: واول المذكورين منهم يعني المتنبئين يوذاسف وقد ظهر عند مضي سنة من ملك طهمورث بأرض الهند وأتي بالكتابة الفارسية، ودعا إلى ملة الصابئين فأتبعه خلق كثير، وكانت الملوك البيشدادية وبعض الكيانية ممن كان يستوطن بلخ يعظمون النيرين والكواكب وكليات العناصر ويقدسونها إلى وقت ظهور زرادشت عند مضي ثلاثين سنة من ملك بشتاسف، وبقايا اؤلئك الصابئين بحران ينسبون إلى موضعهم، فيقال لهم: الحرانية وقد قيل: انها نسبة إلى هادان بن ترخ اخى ابراهيم عليه السلام وانه كان من بين رؤسائهم اوغلهم في الدين واشدهم تمسكا به، وحكى عنه ابن سنكلا النصراني في كتابه الذي قصد فيه نقض نحلتهم، فحشاه بالكذب والاباطيل، انهم يقولون ان ابراهيم عليه السلام انما خرج عن جملتهم لانه خرج في قلفته برص وأن من كان به ذلك فهو نجس لا يخالطونه فقطع قلفته بذلك السبب يعني اختتن، ودخل إلى بيت من بيوت الاصنام فسمع صوتا من صنم يقول له: يا ابراهيم خرجت من عندنا بعيب واحد، وجئتنا بعيبين، أخرج ولا تعاود المجئ الينا فحمله الغيظ على أن جعلها جذاذا، وخرج من جملتهم ثم انه ندم بعد ما فعله، وأراد ذبح ابنه لكوكب المشتري على عادتهم في ذبح اولادهم، زعم فلما علم كوكب المشتري صدق توبته فداه بكبش.

[ 195 ]

وحكى عبد المسيح بن اسحاق الكندي عنهم في جوابه عن كتاب عبد الله بن اسماعيل الهاشمي، انهم يعرفون بذبح الناس ولكن ذلك لا يمكنهم اليوم جهرا ونحن لا نعلم منهم الا انهم اناس يوحدون الله، وينزهونه عن القبائح، ويصفونه بالسلب لا الايجاب كقولهم: لا يحد، ولا يرى، ولا يظلم، ولا يجور ويسمونه بالاسماء الحسنى مجازا، إذ ليس عندهم صفة بالحقيقة، وينسبون التدبير إلى الفلك وأجرامه، ويقولون بحياتها نطقها وسمعها وبصرها، ويعظمون الانوار، ومن آثارهم القبة التي فوق محراب عند المقصورة من جامع دمشق، وكان مصلاهم، كان اليونانيون والروم على دينهم، ثم صارت في أيدي اليهود، فعملوها كنيستهم، ثم تغلب عليها النصارى، فصيروها بيعة إلى أن جاء الاسلام وأهله فأتخذوها مسجدا، وكانت لهم هياكل واصنام بأسماء الشمس معلومة الاشكال كما ذكرها أبو معشر البلخي في كتابه في بيوت العبادات، مثل هيكل بعلبك كان لصنم الشمس، وقران فانها منسوبة إلى القمر، وبنائها على صورته كالطيلسان، وبقربها قرية تسمى سلمسين، واسمها القديم صنم سين، أي صنم القمر، وقرية اخرى تسمى ترع عوز أي باب الزهرة ويذكرون أن الكعبة واصنامها كانت لهم، وعبدتها كانوا من جملتهم، وان اللات كان باسم زحل، والعزى باسم الزهرة ولهم أنبياء كثيرة اكثرهم فلاسفة يونان كهرمس المصري واغاذيمون وواليس وفيثاغورث وباباسوار جد افلاطون من جهة امه وامثالهم، ومنهم من حرم عليه السمك خوفا أن يكون رغاوة والفرخ لانه ابدا محموم، والثوم لانه مصدع محرق للدم أو المني الذي منه قوام العالم، والباقلاء لانه يغلظ الذهن ويفسده، وأنه في أول الامر إنما نبت في جمجمة إنسان، ولهم ثلاث صلوات مكتوبات. أولها: عند طلوع الشمس ثماني ركعات. والثانية: عند زوال الشمس عن وسط السماء خمس ركعات، وفي كل ركعة من صلاتهم ثلاث سجدات، ويتنفلون بصلاة في الساعة الثانية من النهار، واخرى في التاسعة من النهار. والثالثة: في الساعة الثالثة من الليل، ويصلون على طهر ووضوء، ويغتسلون من الجنابة ولا يختتنون إذ لم يؤمروا بذلك زعموا واكثر احكامهم في المناكح والحدود مثل احكام المسلمين، وفي التنجس عند مس الموتى، وأمثال ذلك شبيهة بالتورية، ولهم

[ 196 ]

قرابين متعلقة بالكواكب واصنامها وهياكلها، وذبائح يتولاها كهنتهم وفاتنوهم، ويستخرجون من ذلك علم ما عسى يكون المقرب وجواب ما يسأل عنه، وقد يسمى هرمس بإدريس الذي ذكر في التوراة أخنوخ، وبعضهم زعم أن يوذاسف هو هرمس. وقد قيل: إن هؤلاء الحرانية ليسوا هم الصابئة بالحقيقة، بل هم المسمون في الكتب بالحنفاء والوثنية، فإن الصابئة هم الذين تخلفوا ببابل من جملة الاسباط الناهضة في ايام كورش وايام ارطحشست إلى بيت المقدس، ومالوا إلى شرائع المجوس فصبوا إلى دين بختنصر، فذهبوا مذهبا ممتزجا من المجوسية واليهودية، كالسامرة بالشام، وقد توجد اكثرهم بواسط وسواد العراق بناحية جعفر والجامدة ونهرى الصلة منتمين إلى انوش بن شيث، ومخالفين للحرانية، عائبين مذاهبهم، لا يوافقونهم الا في أشياء قليلة، حتى انهم يتوجهون في الصلاة إلى جهة القطب الشمالي والحرانية إلى الجنوبي، وزعم بعض أهل الكتاب أنه كان لمتوشلخ ابن غير ملك يسمى صابي، وأن الصابئة سموا به، وكان الناس قبل ظهور الشرائع وخروج يوذاسف شمينين سكان الجانب الشرقي من الارض وكانوا عبدة اوثان، وبقاياهم الآن بالهند والصين والتغزغز ويسميهم أهل خراسان شمنان، وآثارهم وبهاراتهم وأصنامهم وفرخاراتهم ظاهرة في ثغور خراسان المتصلة بالهند، ويقولون: بقدم الدهر، وتناسخ الارواح وهوي الفلك في خلا غير متناه، ولذلك يتحرك على استدارة فإن الشئ المستدير إذا أزيل ينزل مع دوران، زعموا ومنهم من أقر بحدوث العالم، وزعم أن مدته ألف الف سنة إنتهى موضع الحاجة. أقول: وما نسبه إلى بعض من تفسير الصائبة بالمذهب الممتزج من المجوسية واليهودية مع أشياء من الحرانية هو الاوفق بما في الآية فإن ظاهر السياق أن التعداد لاهل الملة. إذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة وأذكروا ما فيه لعلكم تتقون - 63. ثم توليتم

[ 197 ]

من بعد ذلك فلو لا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين - 64. ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فلنا لهم كونوا قردة خاسئين - 65. فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين - 66. وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا اتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين - 67. قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون - 68. قالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين - 69. قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إنشاء الله لمهتدون - 70. قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقى الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون - 71. وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون - 72. فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون - 73. ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الآنهار وأن منها لما

[ 198 ]

يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون - 74.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21330175

  • التاريخ : 28/03/2024 - 08:53

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net