• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : العقائد في القرآن .
                    • الموضوع : عدالة السماء حقيقة أم خيال .

عدالة السماء حقيقة أم خيال

سماحة السيد منير الخباز

{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}

محاور المحاضرة:

1) تحليل مفهوم العدل.

2) بيان أن التمايز بين الموجودات سر من أسرار العدالة الإلهية.

3) فلسفة ابتلاء الإنسان بالشرور والآفات.

1) تحليل مفهوم العدل:

للعدل مفهومان:

1/ إعطاء كل ذي حق حقه: سواء كان الحق ناشئًا من عمل تكويني أم كان ناشئًا من اعتبار قانوني.

مثال: عندما يأتي الانسان في المسجد أو في السوق ويستولي على مكان ويضع بضاعته فيه يصبح له الحق في ذلك المكان، وهذا يسمى حق السبق، جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله): "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلمٌ فهو أحق به"، ولا يجوز لأحد أن يزيحه عنه، أما من ناحية الاعتبار القانوني فذلك كنفقة الزوج على زوجته.

2/ إفاضة الوجود على الأشياء بحسب استعدادها:

هذا المعنى يختص بالله دون المعنى الأول؛ لأن العدل بالمعنى الأول يتوقف على وجود حق، وليس للمخلوق حقٌ على خالقه، فهو ملكٌ محضٌ لله، فإعطاء الله الصحة مثلاُ للمخلوق إنما هي نعمة منه سبحانه لا حق للمخلوق.

بعث الله إلى موسى: "يا موسى، اشكرني حق شكري"، قال: وكيف أشكرك حق شكرك وكلما وصلتُ إلى شكر علمتُ أنه نعمة منك؟ قال: "الآن شكرتني حق شكري حيث علمتَ أن ذلك مني".

فالعدل بين البشر هو بالمعنى الأول (إعطاء كل ذي حق حقه)، وأما العدل من الله فهو بالمعنى الثاني (إفاضة الوجود على الأشياء بحسب استعدادها)، ومن هنا تأتي أسئلة تنقدح نحو العدالة الإلهية، وهي:

1- لماذا خلقني الله؟! أليس هو غنيٌ عني؟! ولماذا خلق الكافر وهو يعلم أن مصيره النار؟! ولماذا خلق المحروم ليعيش محرومًا؟!

2- عندما خلقنا لماذا ميّزنا؟! لماذا خلق شخصًا شجاعًا وآخر جبانًا وهكذا؟! لماذا لم يخلقنا بنسق متساوٍ؟!

3- لماذا قدّر علينا الشرورَ والآفاتِ والمصائبَ؟! لماذا خلق لنا الزلازل والبراكين؟! لماذا جعلنا نعيش في شرورٍ وآفاتٍ ومصائبَ؟!

2) بيان أن التمايز بين الموجودات سر من أسرار العدالة الإلهية:

في هذا المحور نتعرض لسؤالين:

1- لماذا خلقني الله؟! أليس هو غنيٌ عني؟! ولماذا خلق الكافر وهو يعلم أن مصيره النار؟! ولماذا خلق المحروم ليعيش محرومًا؟!

جواب هذا السؤال من خلال قاعدتين فلسفيتين:

1. الفاعل الناقص مستكملٌ بغايته والفاعل الكامل غايته ظهور ذاته.

أنا عندما أشعر بالجهل وأتعلم فغايتي للتعلم هي رفع النقص وتكميل نفسي بالعلم.

عندما تأتي إلى إنسان كريم مثل حاتم الطائي وتسأله: لماذا تصرف كل هذه الأموال؟ فهو لا يجيبك بأنه يريد أن يكون إنسانًا كريمًا ولكن يقول: غايتي ظهور كمالي (وهو الكرم).

فالله هو الكمال المطلق، وهو ليس محتاجًا إلى الكون؛ لأنه كاملٌ، ولكن غايته من خلق الوجود كله هي ظهور كماله، ولذلك فهذا الوجود يسير إليه {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}، وهذا المضمون موجودٌ في بعض الروايات إن صحّت: "كنتُ كنزًا مخفيًا فأحببتُ أن أعْرَف فخلقتُ الخلقَ كي أعْرَف".

وعليه فالله خلق الكافر ليكون مظهرًا لكماله ولكن الكافر وقع في الكفر، وعلمه سبحانه بذلك ليس علة لوقوعه في الكفر، وهذا ما تجيب عليه القاعدة الثانية.

2. العلم ليس من سلسلة علل المعلوم.

مثال: أنا عندي ولدٌ، وأدخلته المدرسة، وأوفر له الأستاذ الكفْء، وأوفر له كل وسائل التعلم والمعرفة، وغرضي هو أن يكون ولدي كاملاً، ولكني أعلم أن هذا الولد سوف يختار الفشل وسوف يختار الإخفاق بإرادته، فهل أُلام على ذلك؟ لا، فإدخالي له المدرسة ليس ظلمًا له، وعلمي بحاله لم يوقعه في الفشل ولكن ذلك وقع بإرادته واختياره.

وعليه فالذي أوقع الكافر في الكفر هو إرادته واختياره وليس علم الله بذلك.

2- عندما خلقنا لماذا ميّزنا؟! لماذا خلق شخصًا شجاعًا وآخر جبانًا وهكذا؟! لماذا لم يخلقنا بنسق متساوٍ؟!

جواب هذا السؤال: التمييز غير التمايز، والظلم يحصل بالتمييز وليس بالتمايز، ومثال ذلك: أنت أستاذ في المدرسة وعندك طالبان، تارة تفضّل طالبًا على آخر بدون سبب، فهذا تمييزٌ، وهو ظلمٌ، وتارة تجري لهما امتحانًا وكلٌ يجيب بحسب جهده واستعداده، وبعد الامتحان أعطيتَ كل منهما درجة بمقدار إجاباته، فهذا تمايزٌ وليس تمييزًا، وهو ليس بظلم.

وعليه فتفاوت البشر في الصفات الذاتية اللازمة (فلان ابن فلان) إنما هو من باب التمايز وليس من باب التمييز، وشرح ذلك يأتي من خلال قاعدتين:

1. لكل موجود نظامٌ طوليٌ ونظامٌ عرضيٌ، ويعبر عنها بالسنخية بين العلة والمعلول.

مثالها: التفاحة جاءت من خلال ارتباطات: ارتباطها بعلتها، وهي النواة (نظام طولي)، وارتباطها بمادتها، وهي الماء والتربة (نظام عرضي)، فالتفاحة لا يمكن أن تتحقق بدون هذين النظامين، وارتباطها بهما يسمى بالسنخية.

إذن هذه التفاحة حصلت ولم تحصل برتقالة بسبب أن هذه النواة لا تولد إلا تفاحة، وحصلت هذه التفاحة بالذات بسبب العاملين الطولي والعرضي، فلو أبدلتَ هذه مكان هذه لم تكن هذه، مثل الأعداد.

نفرض مثلاً أبا طالب مؤمنَ قريش وُلِدَ إنسانًا أبيض اللون وكان شجاعًا وكريمًا ومن بني هاشم من ذرية عبد المطلب، ولكنه جاء في موقع معين بين عبد المطلب وعلي، وجاء في زمن محدد ومكان ونطفة محددة، والنطفة هي التي تحدد شخصية الإنسان.

فكل الأسئلة التي تقول: لماذا خلقني الله إنسانًا غبيًا؟! ولماذا ولماذا؟! إجابتها أنك جئتَ في ذلك الموقع الذي فرض عليك ذلك.

2. لماذا جئتُ أنا في ذلك الموقع؟

لدينا آية {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} ومعنى ذلك أن الله ليس له إرادات متعددة، بل له إرادة واحدة، ومثال ذلك: ماءٌ موضوعٌ على النار، فستجد أن هناك عدة أسباب ومسبّبات: النار سببٌ لوصول درجة حرارة الماء إلى المئة، ووصول درجة حرارة الماء إلى مئة سببٌ لتبخره، وتبخره سببٌ لكثافة الجو، فالله أراد هذه السلسلة كلها إرادة واحدة وليس لكل حلقة من السلسلة إرادة، وعليه فالله لم يرد أن يخلق أبا طالب وحده وأن يكون في هذا الموقع وإنما أراد السلسلة بكاملها، يأتي عبد المطلب، ثم أبو طالب، ثم علي.

3) فلسفة ابتلاء الإنسان بالشرور والآفات:

نجيب في هذا المحور عن السؤال الثالث، وهو:لماذا قدّر علينا الشرورَ والآفاتِ والمصائبَ؟! لماذا خلق لنا الزلازل والبراكين؟! لماذا جعلنا نعيش في شرورٍ وآفاتٍ ومصائبَ؟!

الجواب على هذا السؤال من وجهين:

1. كما يقول الفلاسفة: الشر أمرٌ نسبيٌ وليس أمرًا حقيقيًا.

والفلاسفة يقولون أن الله خيرٌ مطلقٌ ولا يصدر من الخير إلا الخير، ومن المستحيل أن يصدر منه الشر، {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} فكل شيء في الوجود خيرٌ، فمن أين جاء هذا الشر؟

مثال: الذبابة نعتبرها شرًا بينما هي طاقة، وهي في حد ذاتها خيرٌ، فهي تساهم في تلقيح بعض الأشجار، والشر أمرٌ نسبيٌ يأتي من عدم انسجامها مع خلايا جسم الإنسان، وأنت كما تنظر للذبابة على أنها شرٌ كذلك السمكة تنظر إليك على أنك شرٌ، فالشر أمرٌ نسبيٌ ناتجٌ عن عدم الانسجام.

2. أنت لماذا تنظر للشر وحده؟!

انظر إلى الشر كجزء من لوحة الوجود لكي يصبح خيرًا، فمثلاً: انظر إلى الحاجب والأنف معًا لتجد أن أحدهما يكمل الآخر، فالأنف يكتسب جماله بوجود الحاجب، ولكن إذا نظرتَ إلى الحاجب وأزلت الأنف فسيصبح قبيحًا.

فالشرور إذا نظرتَ إليها كأمر مستقل فستقول أنها شرورٌ، وأما إذا نظرتَ إليها كجزء من لوحة الوجود لوجدتَ أن كل موجود يكمل الآخر، فلولا الألم لما عرفنا اللذة.

وهنا نقطة تربوية:

كثيرٌ من الناس ينعى حظه، فمثلاً: تكون زوجة شخص سيئة فتسأله: لماذا زوجتك هكذا؟ يقول: حظي! وتجد في المقابل المرأة تُسْألُ: لماذا زوجك هكذا؟ تجيب: حظي ونصيبي! ولكن لا وجود لشيء اسمه حظ ونصيب، فهذه الأمور والإخفاقات كلها ترجع لعنصرين:

1/ عدم الدقة في السعي:{خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فأنت مطالَبٌ بالدقة في العمل والسعي.

2/ الابتلاء: فالإنسان قد يبتلى بغير اختياره، وهذا الابتلاء نعمة وليس نقمة، قال النبي (صلى الله عليه وآله): "إذا أحب اللهُ عبدًا غتّه بالبلاء غتًا" فالبلاء نعمة لأنه يصنع الإرادة، وكيف الإنسان يقاوم المعاصي إذا لم تكن عنده إرادة قوية؟!


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1558
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 08 / 23
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29