• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : العقائد في القرآن .
                    • الموضوع : المبدأ والمعاد .

المبدأ والمعاد

الشيخ أحمد عبدالله التماوي

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى شأنه وتقدس: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (1).

والكلام في أمرين:

الأول: إنَّا لله (المبدأ).

الثاني: وإنَّا إليه راجعون (المعاد).

فالأول: إنَّا لله.

يتحدث عن أن كل موجود فهو لله تعالى معلول له مرتبط به ومفتقر إليه ومحتاج في كل أمره وشؤونه من أول أمر خلقه إلى رجوعه إليه، فالموجود الممكن عين الربط والفقر والإحتياج إليه تعالى شأنه.

فإنَّا لله تعني أن كل الموجودات الممكنة هي واقعة تحت السيطرة القهارية والقيومية الإلهية.

فالله تعالى شأنه هو واجب الوجود بالذات وهو الوجود الثابت الحق الصِرف، والذي وجوده عين ذاته لا زائداً عليه فـ"هو الحي قبل كل حي والحي بعد كل حي ومنه وبه حياة كل حي، والحي الذي لم يرث الحياة من حي، والحي الذي لم يزل ولا يزال حيا، بلا كيف ولا أين، ولا كان في شئ، لم يتغير ولم يتبد ، ولا يزيد ولا ينقص" (2)، فهو {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (2) القائم بذاته المقوِّم لغيره.

وفي هذا يقول العارف رجب البرسي (ره): "فرد صمد بكل العبادات، قيوم أحد بأكمل الدلالات، رب وتر بالذات والصفات، معبود حق بسائر اللغات، لا تحكيه العبارات، ولا تحويه الإشارات، فذاته الأزلية الأبدية القيومية الرحمانية، المقدسة بالوحدة الحقيقية، المنزهة عن الكثرة الصورية، مبدأ لسائر الموجودات، ومنبع لسائر الكمالات، موصوفة بأكرم الصفات، مسلوب عن جمال كمالها النقائص والحاجات... .

حي قيوم، وجوده لذاته بذاته عن ذاته، لا لعلة تقومه فيكون ممكنا، ولا لسبب يتقدمه فيكون محدثا، ولا لكثرة تزاحمه فيكون للحوادث محلا، فهو المعبود الحق، والإله المطلق، أحدي الذات، وأحدي الصفات، أزلي اللاهوت، أبدي الملكوت، سرمدي العظمة، والجلال والجبروت، حي قيوم لا يموت" (3).

ومعنى كونه قيوماً أي قائماً بذاته أي أنه تعالى وجود مستقل لم يؤخذ الحياة من أحد وليس له علة أوجدته يصمد إليها بل هو علة العلل وإليه تنتهي سلسلة المعلولات فهو {اللهُ الصَّمَدُ} (4) الذي يصمد إليه كل موجود، ويفتقر إليه كل ممكن.

وتقويمه لغيره بمعنى أن كل موجود ممكن مرتبط به فلولا ارتباطه بالمبدأ المتعال لما وجد أصلاً، وحتى بعد الإيجاد فإنه محتاج ومفتقر في كل آنٍ آنٍ إلى مدده وفيضه "يا دائم الفضل على البرية يا باسط اليدين بالعطية يا صاحب المواهب السنية"(5)، فـ"الحمد لله الفاشي في الخلق أمره وحمده، الظاهر بالكرم مجده، الباسط بالجود يده، الذي لا تنقص خزائنه، ولا يزيده كثرة العطاء إلا كرما وجودا، إنه هو العزيز الوهاب"(6).

فعالم الإمكان بأسره كله قائم بالله تعالى فوجوده منه تعالى وبقاؤه منه.

وهذا يعني أن لا وجود مستقل غيره تعالى، وكل الموجودات هي معلولاته وهو العلة التامة المحيطة بمعلولها إحاطة قيومية {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا}(7).

فالحق تعالى شأنه هو الموجِد لكل موجود، وهو مفيض الوجود على الماهيات بعد أن كانت مستوية النسبة بين وجودها وعدمها، فله الفضل دائماً وأبداً على أن أخرجها من ظلمة الإستواء إلى نور الوجود.

مضافاً إلى أن حكومته الأسمائية والصفاتية جارية في كل شيئ فلا شيئ موجود إلا وهو داخل تحت هذه الحكومة التي لا يمكن الفرار منها، كيف لا و"هو المالك لما ملككم، والقادر لما عليه أقدركم" (8).

فإذن كل ممكن معلول وكل معلول محتاج ومفتقر وبطبيعة الحال فإن المفتَقَر إليه لابد وأن يكون غنياً بالذات صمداً يصمد إليه المحتاج فلو لم يكن كذلك فإما أن يدور أو يتسلسل، فيثبت أنه لابد وأن تنتهي سلسلة المعاليل إلى مبدأ متعال وهو واجب لوجود بالذات.

وعليه فإن كل ممكن وجود رابطي غير مستقل بنفسه في وجوده وبقائه ومثله ـ ولله المثل الأعلى ـ المعنى الحرفي الذي هو متقوم بطرفيه فحرف الجر (في) وإن كان يدل على معنى الظرفية إلا أن هذه الظرفية لا تظهر إلا باتصاله بطرفيه.

وبالجملة فإن كل موجود فهو ملك له تعالى ملكاً حقيقياً لا اعتبارياً.

الثاني: وإنَّا إليه راجعون.

وهذا يعني أن كل موجود ممكن لما كان بدؤه من المبدأ المتعال في السلسلة النزولية فإن مصيره إليه في السلسلة الصعودية إذ أن كل ما بالغير لابد وأن ينتهي إلى ما بالذات، فالرجوع إليه يعني الحكومة القهارية الإلهية التي تقهر كل موجود في أن يخرج عن إحاطته لها {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (9).

فالرجوع إليه تعالى حتم لا مرية فيه، فإن الحكمة الإلهية قاضية برجوع الكل إليه ليثاب المحسن ويعاقب المسيئ، فلولا الرجوع إليه لكان الوعد والوعيد بالجنة والنار، وإرسال الرسل مبشرين ومنذرين لغواً وعبثاً تعالى الله عن ذلك.

وقد ثبت أن الله تعالى حكيم، والحكيم لا يفعل لغواً وعبثاً، فالله لا يفعل لغواً وعبثاً.

ولأنه لما كانت دار الدنيا ضيقة عن إيصال حق المستحق ومعاقبة المسيئ، لأنها دار تزاحم لا لعجر في الفاعل فالله تام الفاعلية، وإنما القابل قاصر عن استيعاب هذه الفيوضات المقدسة ومنها ما ذكر، كان لابد من وجود عالم قابل لأن يكون فيه إيصال الحقوق على أتم وجه، وليس ذلك إلا اليوم الآخر {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (10).

فقول القائل: إنه ليس من الضروري وجود عالم آخر ـ المعاد ـ مرفوض عقلاً وشرعاً وذلك:

أولاً: لو لم يكن الرجوع إليه حتم واقع بالضرورة لكان ظالماً، والتالي باطل، فالمقدم مثله.

وبطلان التالي واضح من أنه قد ثبت أنه تعالى لا ظلم في ساحته المقدسة، وكيف يظلم وقد نهى عن الظلم، واعتبره أكبر الكبائر.

ولا يخفى أن الظالم انما يظلم لأنه مفتقر إلى الظلم، واللَّه غني عن كل شيء، وبهذا الأصل، وهو غنى اللَّه وعدم افتقاره إلى شيء نثبت عدله سبحانه {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (11).

وبطلان الملازمة ظاهر من أنه تعالى وعد المظلومين بإيصال حقوقهم وتوعد الظالمين بالعذاب الأليم، فلو لم يتحقق الرجوع إليه لكان خلفاً، والخلف كذب تعالى الله تعالى عن ذلك.

فلا معنى للإعتقاد بالتوحيد من غير الإعتقاد بالمعاد ويوم الجزاء، لأن النتيجة تعني نفي العدل الإلهي والحكمة الإلهية من الخلقة بل ونسبة العبثية واللغوية في فعله تعالى وتقدس مضافاً إلى نسبة الكذب إليه.

فعالم المادة عالم الغفلة والحجاب فالعباد لأنسهم بهذا المادة وانغمارهم في شهواتها وملذاتها أصبحوا في غفلة كبيرة حتى نسوا يوم رجوعهم إليه تعالى وتقدس {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} (12) فهذا هو الخسران الكبير، فيتجلى الحق المتعال في جبروته ومالكيته العظمى لمن نسي ذلك اليوم يوم العود الأعظم {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (13)، وعليه {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (14).

فهرس المصادر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)               (البقرة 156).

(2)               (مستدرك سفينة البحار، للنمازي ج2 ص483).

(3)              (مشارق أنوار اليقين للحافظ البرسي، ص12).

(4)              (سورة البقرة 255).

(5)               (سورة الإِخلَاص 2).

(6)              (المصباح للكفعمي ص647).

(7)              (مصباح المتهجد للطوسي ص578).

(8)              (سورة النساء 126).

(9)              (فقه الرضا لعلي بن بابويه القمي ص408).

(10)          (سورة القصص 88).

(11)          (سورة القصص 83).

(12)          (سورة الكهف 49).

(13)           (سورة فصلت 54).

(14)          (سورة غافر 16).

(15)           (سورة الكهف 110).

 

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2063
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 11 / 23
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29